عبدالرحيم الخصار - تمهّل أيها الموت

تمهَّلْ أيها الموت قليلا
إذا أخذتني اليوم إلى مغاراتِكَ التي لا ضوءَ فيها
فمن سيصحو غدًا
ليحيّي أشجار الأكالبتوس الشائخة؟
من سيربّتُ على الأغصانِ
ويُرهِفُ السَّمعَ
لِيُصغيَ إلى أنينِ جذورها؟
أنا حارسُ هذه الغابةِ أيّها الموت
والفأسُ التي في يدي
لا لِتُدْميَ جذعَ شجرة
بل لتفتكَ بفؤوس الحطّابين.
حين يتغزّلُ الآخرون بِحَبيباتهم
أتغزلُ أنا بشجرة.
تمهل أيها الموت قليلا
إذا أخذتَني اليوم إلى مغاراتك التي لا ضوء فيها
فمن سيصحو غدا
ليرْقُبَ الصباح من نافذته
يقلّبَ الشاي من كأس إلى كأس
يتعقَّبَ دبيب أوهامه
ويفتشَ في هواء الغرفة عن كلمة؟
منذ أن خطفني ذلك الضوءُ القديم
وأنا أجلس إلى مكتبي الذي من خشب
بأنفاسِ دلاي لاما
يجثو سادرا
على مصطبةٍ من حجرٍ في باحةِ المعبد.
أحلامي أكبرُ من مجرَّة
وعمري أقصرُ من ذوبانِ غيمةٍ في سماء.
ذَبُلتْ عينايَ ولم تَرَيَا شيئا
تعبت أذنايَ ولم تسمعا شيئا
يدايَ ضاعتا في الظّلام
وأطرافي تنمَّلتْ في طرقٍ لا تُفضي إلى شيء.
حدستُ الطريقَ ثم ضللتُها
وها أنا أقلّبُ الانتظارَ
على نارٍ أَضْرَمَها الحنين
وأَخْمَدَها المطر.
تمهل أيها الموت قليلا
إذا أخذتني اليوم إلى مغاراتك التي لا ضوء فيها
فمن سيصحو غدا
لِيذرعَ مُروجَ هذه القرية الخاملة
ويدعو طيورَها التي وَجَمتْ
إلى الغِناء؟
تركتُ النهارَ لآخرينَ
بينما وضعتُ اللّيلَ في خرَجٍ من جِلد
وهرعتُ به إلى الغرفِ النائية.
حين ينامُ الألمُ على أَسِرَّةِ المشافي
وتخلُدُ الجدرانُ إلى صمتها
حين تهدأُ الذئابُ في وِجَاراتها
أصحو أنا كراهبٍ يوجعُهُ ذنبٌ قديمٌ
وأسهرُ أعذّبُ الكلماتِ وتعذّبني.
تمهل أيها الموت قليلا
إذا أخذتني اليوم إلى مغاراتك التي لا ضوء فيها
فمن سيصحو غدا
ليسقيَ الهيلَ الذي ينبتُ
على قبورِ الشعراء؟
من سَيَسْهَرُ لأجْلِهم؟
من سينفُضُ الغبارَ عن قصائدهم؟
من سينادِمُ انتظارَهم الطويلَ
ويُؤنسُ الوحدةَ التي تتسلّقُ الجدران؟
تمهل أيها الموت قليلا
إذا أخذتني اليوم إلى مغاراتك التي لا ضوء فيها
فمن سيصحو غدا
ليشبِكَ يديه بيدي طفله الوحيد
ويتناوبا معًا على الغناء
والصراخِ والصَّفير؟
من سيُجْلِسُهُ أمامه قُبالةَ مقودِ السيارة
ويطوفُ بِه الدروبَ خلسةً
عن أمّهِ التي تخاف عليه من لسعاتِ الأيّام؟
من سيبتسم له إذا ما رقصَ على المكتبِ
وزرعَ الفوضى في بهوِ البيتِ


عبدالرحيم الخصار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى