مارا أحمد - جيفارا..

كانت من عشاق جيفارا الطبيب اليساري الثائر؛ الذي ينشد الحرية للإنسان رجلا كان أم امرأة، مزارعا كان أم ملكا.

نظرت إلى صورته الملصقة على الجدار الأزرق؛ راقت لها ملامحه ونظرته التي تواري أسفلها الأرق والغضب والثورة، بل الإحساس بالمسؤولية، وأمل في الغد أن يأتي حاملا معه بروتوكولات الحرية والعدل.

ألقى عليها تحية المساء، أجابت عليه بوجه مبتسم؛ مرحبة؛ تدعوه بها إلى مواصلة الحديث، فلا شك أن جمله التي يركبها تروق لمسامعها وقلبها.

توالت الأحاديث، وباقات من الأشعار؛ تحمل شعارات؛ جميعها تصرخ بصوت الثورة، تحمل راية الإنسان؛ صارت صورته مصاحبة لها في طريقها إلى العمل والسوق والمقهى؛ حيث لقاء الأصحاب، كانت حاضرة بجسدها، مسافرة مع صورته محلقة بالآفاق إلى الغد.

تسرع الخطى إيابا إلى البيت في لهفة إلى رسالاته العاشقة، المسطورة شعرا والتي تتشبع عطرا بعبق عرقه الثائر، وجسده الذي لا يعرف الماء؛ لانشغاله في تحطيم القيد الدامي حول رقبة الوطن.

لم تشمئز منه ولم تأنف، بل كانت تعطر أناملها بأن تغمسها في خيالها السابح في صورته؛ وكأنها تطهر روحها من سلبية أغرقت فيها مع أمة لا ترفع رأسها إلا حين تشاهد رقصا أو تستمع إلى أغنية وطنية؛ استعاضوا بها عن الحرب دون الشرف.

إلى أن حضر يوم ضاقت بصبرها واشتياقها إليه، طلبت منه أن يرسل لها صورته، فهي تتحدث مع صورة جيفارا، ومن حقها أن تتعرف على من سلب عقلها ومن أغرقها في الشعر وجعلها ترسم وشما على ذراعها يحمل صورته.

يتردد في تلبية طلبها متذرعا بمركزه وخطورة وضعه الثوري، ليستجيب لها بعد إلحاح ومثابرة منها، ويحدد معها موعدا للقاء، فهو سيحضر زائرا لبلدها.

يحين موعد اللقاء، تنتظره بالمطار، بعد أن حمل معه زهرة صفراء لكي تتعرف عليه، فهو اللقاء الأول على أرض الحقيقة بعد عدة شهور من لقاءات على الشاشة الزرقاء.

تراه قادما وعيناه تتفحص في الوقوف باحثا عنها، هي كما صورتها التي كانت غلافا لصفحتها، أما هو فكان رجلا غريبا عنها، كان رجلا تعدى الأربعين بقليل، ممسكا بسيجارته، نحيلا،

بأسنان دفنها الدخان تحت لون أسود، بلون فحم المحارق، لفمه رائحة كريهة؛ أدركت أنها رائحة الخمر الذي تجرعها على الطائرة.

جلسا بأحد الكافيهات بأرض المطار، وهي صامتة تتأمل هذا الغريب المغتصب لصورة حبيبها،

حاولت أن ترحب به بأن ترسم بسمة ترحيب كاذبة على وجهها، لكنها كانت مصطنعة بما يكفي لأن يفهم ما بداخلها من رفض، ولكنها أقنعت نفسها في حوار بينها وبين نفسها صامت، بأن تمنحه فرصة أن يعرفها بنفسه؛ فربما يكون كما خلقته بداخلها.

- من أنت؟

- هل هو سؤال تعنينه أم سؤال ينم عن رفض؟

- لا ترجمة لسؤالي، إلا أنني أريد أن أعرف إلى الرجل الذي أمامي ومن جاء إلى بلدي ليلقاني.

- أنا من عشق صورتك وروحك، أنا من جمع أحلامه في حقيبة وحضر بكل ثروته إليك، بكل مشاعري وأحلامي واشتياقي.

- وما الشرف في أن تجن بي عشقا؟

- حبي لك هو الشرف في كامل وجوده.

استرسلت: من أنت بالنسبة للنساء ووطنك المسروق؟ -

- عشت بينهن مستأجرا لأرحامهن في سوق كبير للنساء وأندية الليل، فما أمتع أن نحيا في أحضانكن!

- وأشعارك عن الفارس الغاضب الملثم، المدجج بالرفض، وقيم غزلتها في قصائدك؛ لتنصر الحرية؟

- أنا ثائر صوتا وخطابة، أما الثورة فلها جندها وجيشها، نحن نكتب ونُشعِر، نُلهب الحماس في أرواحهم والغضب في أجسادهم؛ لينهضوا، ليموتوا فداء الوطن، فنحن سيفنا القلم، بارودنا الكلام، كل له دوره، فأنا أثمن من أن أضحي بعمري وهناك من ينوب عني.

قامت من جلستها؛ التي أوجعت جسدها، وتململت زهقا من حواره، نهضت منصرفة دون تحية أو حتى وعد بلقاء.

نظرت إلى صورة جيفارا الموشومة على ذراعها مبتسمة، احتضنت ذراعها وجيفارا،

عادت لأرض الواقع لتلغي حساباته من على الشاشة الزرقاء ومزقت رسالاته المنمقة المصطنعة المخبئة لنفاقه، بللتها في الماء وصبتها لتسقي به الزهور المقيمة بشرفتها.

رنّ كثيرا على رقمها، وكان من اللائق أن ترد؛ فلقد اعتادت أن تكون حازمة وقراراتها قاطعة.

- هذا الرقم تغيّر كما تغيرت حقيقتك، فأنت لم تكن إلا شخصا مغايرا لمن أحببت، أنا لست أنثى من سوق النساء.

سأخرج لألحق بالمتشبثين بالبندقية التي بارودها رصاص ...

ولتعد أنت إلى سوق الكلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى