أ. د. عادل الأسطة - توفيق زيّاد.. ملف (1........7)

1 - حراسة الذاكرة : في ذكرى الشاعر توفيق زياد

تمر في الخامس من تموز ذكرى رحيل الشاعر توفيق زياد ، وغالبا ما لا يحتفل بها الفلسطينيون والعرب احتفالهم بذكرى غسان كنفاني . في ذكرى الثاني تكتب المقالات وقد تعقد الندوات وفي ذكرى الأول قد يكتب مقال أو مقالان أو ينشر خبر وقليلا ما تقام ندوة . وإن أردت أن أتذكر ما قمت به شخصيا في ذكرى رحيل الاثنين فإنني أعزز ما سبق . كتبت مقالات كثيرة في ذكرى غسان وشاركت في غير ندوة وقليلا ما كتبت في ذكرى وفاة توفيق ، والشيء نفسه يصلح لأن يقال عن ذكرى وفاة محمود درويش وسميح القاسم وعبد اللطيف عقل الذين تمر ذكرى رحيلهم في شهر آب . كل عام أكتب عن الأول وألتفت إلى الثاني والثالث كل بضعة أعوام ، ولا يقتصر هذا علي ، ففي ذكرى درويش تدبج المقالات ويعاد نشرها وقليلا ما يكتب عن القاسم ونادرا ما يتذكر عقل .
ما سبق حثني على التفكير في الأسباب : أتعود إلى جانب أدبي أم إلى فعل الاستشهاد أم إلى العلاقات الشخصية أم إلى الجهة السياسية التي تقف وراء كل واحد من هؤلاء أم إلى تقارب ذكرى كنفاني وزياد وتقارب ذكرى الثلاثة المذكورين أم أن المحتفين يرون أن احتفاءهم بواحد يعني احتفاءهم أيضا بالآخرين وأن ما ما يقومون به هو أقرب إلى فرض الكفاية ؟
عندما كتب درويش قصيدته " سنة أخرى فقط " لاحظ أنه تحول إلى شاعر رثاء فأراد أن يكتب قصيدة رثاء واحدة فقط . لقد أدرك أيضا أن الرثاء تعب من الضحايا ، وقد أخذ على شعره بعد مغادرته الأرض المحتلة أنه غدا شاعر رثاء لكثرة قصائده في الموضوع . وأنا شخصيا صرت ألاحظ أن كثيرا من كتاباتي صارت تحفل برحيل الرموز ، ما دفع مرة قارئا إلى التعبير عن ضجره ، فهي مقالات تلوك في أسماء محددة .
وأعود إلى السبب الذي يكمن وراء كتابتي عن كنفاني ودرويش أكثر من كتابتي عن زياد والقاسم وعقل وجبرا وفدوى وغيرهم وأرده إلى قوة تأثير نصوصهما في شخصيا وإلى ثرائها المعرفي وتفرغهما للأدب الذي صار مع القضية الفلسطينية قضيتهما الأدبية والحياتية والإنسانية ، ففي القضية الوطنية تتشابه علاقة الأسماء المذكورة بها وتتقارب وقد يكون بعض المذكورين أولى السياسة أكثر بكثير من الأدب ، بل إن الأمر كذلك .
حين نقارن اهتمام كنفاني بالأدب وتنوع إنتاجه فيه باهتمام زياد نلحظ ما سبق ، وحين نقارن عطاء درويش الشعري بعطاء زياد الشعري نلحظ أيضا ما سبق . كتب كنفاني القصة القصيرة والرواية والمسرحية والدراسة والمقالة وكثرت نصوصه في هذه الأجناس ، وقلت نتاجات زياد في القصة القصيرة أو المقالة الأدبية والدراسات وإن أصدر عدة دواوين شعرية ، ثم إنه انقطع عن كتابة الشعر لسنوات طويلة لتفرغه للعمل السياسي في الحزب ورئيسا لبلدية الناصرة .
كل ما سبق حقيقة ولكن تبقى هناك القيمة الأدبية وتفاوتها بينه وبين كنفاني وهذا ما جعلني أفكر مليا في طبيعة أشعار زياد . حقا إنني أنجزت عن مجموعته القصصية الفولكلورية " حال الدنيا "( ١٩٧٤ ) دراسة مطولة إلا أن ما كتبته عن أشعاره قليل جدا قياسا بما أنجزته عن أشعار درويش .
مرة كتبت مقالا عنوانه " توفيق زياد ناقدا " أتيت فيه على موقفه من مجموعتي درويش " أوراق الزيتون " و " عاشق من فلسطين " ورأيت أن ما كتبه يمثل خلاصة رأيه في الشعر وينطبق على أشعاره التي تبدو فنيا قصيدة واحدة تختلف مناسباتها وأنها - أي أشعاره - لا تدفع المرء إلى الكتابة المتعددة المتنوعة عنها ، وأنني إذا ما أردت أن أكتب عنها مرارا فسوف أكرر الكتابة .
يكتب زياد ، حين يتناول تعدد مدلولي الأب والقمر في المجموعتين ، ما يعزز الرأي السابق . كان درويش يستخدم الدال الواحد لغير مدلول ، فدال الأب ودال القمر لم يردا في المجموعة اللاحقة بالمعنى نفسه الذي وردا فيه في المجموعة السابقة ، وهذا ما لم يعجب زياد فخاطب درويش مقدما له النصائح الآتية :
" خلك على أبيك الأول يا محمود ! إنه حقيقي أكثر "
و :
" أنصحه أن لا يظلم القمر هذا الظلم الصارخ بل أن سلوكه معه . لا تحط عقلك في عقله يا محمود ! فهو طول عمره جميل ولا مقل له " ( أنظر مقالتي " توفيق زياد ناقدا: في الذكرى الثالثة لوفاة الشاعر " ( ١٩٩٧ ) في الأيام الفلسطينية ) .
كما لو أن نصائح زياد لدرويش تطلب منه ألا يتطور وأن يستخدم المفردة الواحدة استخداما يقتصر على معناها القاموسي ، وهذا ما لم يرق لاحقا لدرويش فكتب عن تجربته في الأرض المحتلة وعن موقفه من اللغة الشعرية " المهم أن القيمة الاستعمالية للغة يجب أن تتمرد باستمرار ، وإلا سيصبح الشعراء متشابهين " وأنه لو ظل يكتب على غرار قصائد " أوراق الزيتون " لكتب ديوانا واحدا مكررا ولما تطور شعريا " هل أن أكون صدى مكررا لما كنت ؟ هل أحافظ على الصورة القديمة ، أم أبحث عن لغة جديدة وقصيدة جديدة ؟" و " طالبني النقد الماركسي الرسمي بالعودة إلى ماضي ، وأي ماض كان لي ؟ وليس سوى كتاب واحد . عند كل ديوان أجد نقادا يطالبونني بالعودة إلى ديوان مضى ... " .
هل عرف السبب الذي من أجله احتفل بأسماء أكثر من أخرى ؟
كتب زياد القصيدة الواضحة التي تحتمل قراءة واحدة ، وكانت مجمل أشعاره كما لو أنها قصيدة واحدة ولم يكن يرى الشعر أكثر من تعبير عن موقف سياسي أو حزبي أو وطني ولم يكن ليهتم بسؤال مكانته شاعرا في خريطة الشعر الفلسطيني أو العربي أو العالمي ، ولم تكن أسئلة اللغة لتعنيه كثيرا ، ثم إنه مال إلى السياسة وانشغل بها عن الشعر ، و ... و .... والموضوع قابل للنقاش . .
الاقتباسات :
١ - أقوال توقيق زياد من مقالته التي أدرجها نبيه القاسم في كتابه " دراسات في الأدب المحلي " .
٢ - أقوال محمود درويش من مقابلتين أجريتا معه ونشرت واحدة في مجلة " الشعراء " تحت عنوان " المختلف الحقيقي " أجراها معه حسين البرغوثي وآخرون والثانية نشرت في مجلة " مشارف " أجراها معه عباس بيضون .
٣ - من مقالي " توفيق زياد ناقدا " ونشر في جريدة " الأيام الفلسطينية " ١٩٩٧ .
الثلاثاء والأربعاء
٢٨ و ٢٩ حزيران ٢٠٢٢ .
مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية في ٣ تموز ٢٠٢٢ .

عادل الاسطة

***

2- العناوين والنهايات القصصية في مجموعة توفيق زيّاد "حال الدنيا"

ملخص:

يتناول الدارس، في هذه الورقة، العناوين والنهايات القصصية في مجموعة توفيق زياد القصصية " حال الدنيا " التي صدرت في العام 1974. وهما جانبان لم يركز عليهما الذين درسوا القصص ، ولم يلتفتوا إليهما. هنا يحاول الدارس أن يرينا الصلة بين القصص وعناوينها ونهاياتها.


Abstract

The researcher study, in this paper, the titles and the ends of Tawfik Zayyad short stories “ Hal ad-dunya” wish was published 1974.

The critique wish was written about this collection have no attention to these two sides.

Hier try the student to show us the relation ship between the short stories and their titles and their ends.







العناوين والنهايات القصصية في مجموعة
توفيق زيّاد " حال الدنيا "
عادل الأسطة
I- العناوين:
يجدر في أثناء قراءة دلالات العنوان الرئيس والعناوين الفرعية في " حال الدنيا " الالتفات إلى أن الدراسات النقدية النظرية والتطبيقية لدلالة العنوان، بل وللنص المحيط بعامة، لم تكن شائعة ومعروفة، شيوعها وانتشارها في زمننا الحالي. ومن يلق نظرة على ما أنجز من دراسات نقدية لنصوص الأدب الفلسطيني، حتى نهاية الثمانينيات من ق20، حيث بدأ الالتفات إلى النص الموازي نظرياً وتطبيقياً، يلحظ هذا بوضوح. فقليلة، بل قليلة جداً، هي المراجعات النقدية التي أتى أصحابها فيها على دال العنوان( ).
ويمكن القول أيضاً أن زيّاداً نفسه لم يكن ملماً إلماماً نظرياً وتطبيقياً بهذا الجانب. لكن هذا لا يعني أنه لم يكن يفكر في عناوين لقصصه وقصائده، بل وفي شكل لوحة الغلاف. إن الناظر في غلاف " حال الدنيا "، في طبعتها الثانية التي صدرت بعد وفاة المؤلف، حين يقارنها بغلاف الطبعة الأولى، وهو الغلاف نفسه، مع تغير في الألوان فقط، يلحظ صورة رجل بلباس شعبية / فولكلورية، وهذا يتناسب مع العنوان الثانوي للمجموعة: قصص فولكلورية. ويدل هذا على أن ثمة تفكيراً في اختيار رسم ما يتناسب والعنوان أولاً، ويتناسب ومحتوى القصص ثانياً. إن القصة الأولى التي تتمحور حول شيخ القرية وخياطها، وتفصيل جبة جديدة كل عيد للشيخ يتناسب ولوحة الغلاف.
ولعل عدم إلمام زيّاد كثيراً بالمصطلحات النقدية النظرية الحديثة يبدو أفضل ما يبدو في بعض مراجعاته التي أنجزها لبعض المجموعات الشعرية الصادرة، مثل مراجعته لمجموعة محمود درويش الشعرية " عاشق من فلسطين " ( 1966) ( ).
ويذهب دارسو العنوان( ) إلى أنه يشكل رأس النص، وأنه أحياناً يعد بمثابة الموجه الرئيس للنص، فيما جسد النص يعد النواة، وأما الخاتمة فهي نتيجة النص ونهايته. ويعلن العنوان، كما يقول هؤلاء الدارسون، عن مقصدية المبدع ونواياه ومراميه الأيديولوجية. إنه مرجع يتضمن بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته( ).
وعلينا، ونحن ندرس العنوان، أن نميز بين عناوين كلاسيكية وأخرى حديثة، إذ لاحظ الدارسـون أن العنوان الحديث يختلف عن العنوان التقليدي. وقد أتى على هذه الفوارق شعيب حليفي في دراسة تعد من الدراسات التأسيسية في الأدب العربي لاستراتيجية العنوان( ).
كان العنوان الكلاسيكي قضية تتم الإجابة عنها، فيما العنوان في المحكي الحديث هو علاقة تواصلية " فإذا كان الانسجام في الفكر الكلاسيكي يعني عدم الخروج عن النص، أي تحجيم سلطة التأويل وتقليص الاستعارة بوجهها الأكثر غرابة، فإن العنوان الروائي الحديث يكسر هذا الانسجام فنياً، فلم يعد يعبر بالضرورة عن الحدث أو الشخوص، بقدر ما صار يشكل عصياناً على النص( ). وهكذا فإن علاقة العنوان بالنص لم تعد، كما هو حال العنوان الكلاسيكي، علاقة سؤال – جواب، بقدر ما صارت علاقة سؤال ممتد من العنوان إلى النص، ولم يعد العنوان الحديث هو المعنى الوحيد الذي يحدده النص، بل إن النص يساهم في خلق مرايا ومعان متعددة للعنوان.
ولكن زيّاداً كتب قصصاً فولكلورية، أي شعبية وأرى أنه لم يخرج عن العنوان الكلاسيكي ومواصفاته، فعنوان قصصه يجمل القصة ويلخصها، وهو عنوان لا يحتمل تأويلات عديدة، إلا نادراً جداً. إنه عنوان واضح يقول الشيء مباشرة، مثل قصة زياد نفسها، القصة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. ولننظر في العناوين، وهي:
- حال الدنيا.
- الشاهدان والمئذنة.
- الناموس.
- وجه البقرة الميتة.
- محمود لا ينسحب.
- كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر.
- عباس الصياد وديك الحجل.
- النحلة الملحدة.
- حكاية عن الحياة والموت.
- هكذا نحن.
- أختي أجمل مني.
- أبو حنيك وعبد القهوة.
- عن الباشوات والبكوات والحمير.

إنها عناوين يجد المرء فيها انزياحاً لغوياً، أو باستخدام مصطلحاتنا النقدية البلاغية، قلما يجد المرء فيها استعارة أو مجازاً والعنوان الوحيد الذي فيه جانب اسـتعاري هو عنوان " النحلة الملحدة "( ) ففيه لجأ زياد إلى استبدال مفردة بأخرى. واستخدام المفردة استخداماً مجازياً. وهذا الانزياح اللغوي بان أيضاً في القصة نفسها، فالقصة لا تخلو من رمز شفيف سرعان ما يكتشفه قارئها، بخاصة الذي عاش في سبعينيات القرن العشرين، أو الذي يلم بما جرى في تلك الفترة، وما قبلها بقليل، في العالم. ومثل هذا العنوان عنوان قصة " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر؟ ".
وقبل أن أخوض في عناوين القصص، يجدر أن أتوقف أمام العنوان الذي اختاره الكاتب عنواناً للمجموعة كلها، وهو " حال الدنيا ".
وكما يلاحظ فإنه عنوان القصة الأولى، وأرى أن القاص كان موفقاً في اختيار هذا العنوان، دون غيره من بقية العناوين، بل وكان موفقاً في ترتيبه، حين أدرج هذه القصة في بداية المجموعة التي تبدأ وتنتهي به أيضاً. ونحن لا نقرأ عن حال الدنيا، كما يظهر في القصة الأولى، وإنما نقرأ عن حالها كما تبدي في المجموعة كلها، فكل قصة من قصص المجموعة تبرز لنا جانباً من جوانب هذه الدنيا، وهكذا فإذا كان العنوان عنوان القصة الأولى، فإنه أيضاً يمكن أن يكون عنواناً رئيساً لكل عنوان من القصص، فكل قصة تعكس جانباً من حال الدنيا.
وثمة أسئلة يثيرها المرء، قبل أن يلج إلى عالم القصص. وهذه الأسئلة قد يجد لها إجابة، حين ينظر في حال الدنيا في زمنه. وحال الدنيا في زمنه، قد يكون مطابقاً لحال الدنيا في الزمن الذي عاش فيه الكاتب، أو في الزمن الذي تجري فيه أحداث القصص، وقد يكون مختلفاً. وإذا ما كـان حال الدنيا في زمن الكاتب وفي زمن جريان الأحداث مشابهاً لحال الدنيا زمن قراءة النص، فإن القارئ، يخرج بنتيجة هي: إن ما تقوله القصص هو ما يقوله الواقع، وإذا ما كان حالها في زمنه مختلفاً، فإنه سيقرأ عن دنيا أخرى، عن عالم آخر. وهنا قد يصل إلى نتيجة أن حال الدنيا في الواقع غير حال الدنيا في القصص، وأن هذا الاختلاف قد يكون سببه أن القصص غير الواقع، أو أن الزمن المعيش، زمن القراءة، غير الزمن السابق، الزمن القصصي، أو زمن الكتابة.
وبما أن القصص فولكلورية – أي تراثية – فإنها تنتمي إلى الماضي، إلى الشعب أيضاً. وهكذا فإننا لسنا أمام زمنين مختلفين وحسب، وإنما سنجد أنفسنا أمام عالمين، بخاصة إذا كنا نعيش في واقع مغاير للواقع الذي يبرز في القصص الفولكلورية، وهذا ما يبدو لنا نحن، قراء هذه القصص، في بداية القرن الحادي والعشرين. إن أكثر قصص المجموعة تنتمي إلى عوالم أخرى مَضَى عليها زمن وأزمنة، وكثير مما يرد في القصص ما عاد موجوداً في زماننا نحن. إننا نقرأ قصصاً تنتمي إلى عالم لا يمت إلى عالمنا بصلة كبيرة. نقرأ هنا عن الأتراك وزوال حكمهم في فلسطين، بل ونقرأ عن الحاكم الجزار، ونقرأ عن بداية الانتداب البريطاني، ونقرأ أيضاً عن ثورات قاومت أمريكا في ستينيات القرن العشرين..
مكونات العناوين:
تحت مكونات العنوان يكتب شعيب حليفي في دراسته عن العنوان الرئيس والعنوان الفرعي( )، وعن خاصتي الغموض والحذف، وتحت هاتين يكتب عن تركيب العنوان، وهذا يتحدد في خمسة أنماط هي: الجملة الاسمية، الظروف، النعوت والصفات، النمط الجملي والنمط التعجبي. ويرى أيضاً أن هناك مكونات أخرى تنظر للعنوان نظرة متحررة وفاعلة وهي خمسة: المكون الفاعل، الزمني، الفضائي، الشيئي، والمكون الحدثي، والأحداث إما متحركة أو جامدة.
وعنوان المجموعة الرئيس هو " حال الدنيا " وأما عنوانها الفرعي فهو " قصص فولكلورية "، وهكذا يخبرنا زيّاد أننا سنقرأ قصصاً، وتحديداً قصصاً فولكلورية، وبذلك يقصي منذ البدء أي تأويل آخر يمكن أن نستحضره. فلو قرأنا العنوان الرئيس فقط، لربما ذهب بنا الخيال مذاهب شتى، وأوّلنا العنوان تأويلات عديدة أقصاها العنوان الفرعي. وكما ذكرت، ابتداء، فإن الإقصاء للتأويلات الأخرى يشمل العناوين الداخلية، عناوين القصص. إننا منذ اللحظة الأولى لولوجنا أي نص ندرك أنه قصة فولكلورية، بما تعنيه هذه المفردة التي تحدد الجنس الأدبي لقصص زيّاد.
وإذا ما توفقنا أمام خاصتي الغموض والحذف، أمكننا القول إن الخاصية الأولى شبه معدومة، فليس ثمة غموض في العناوين، وإذا ما كان الغموض موجوداً فإن النص سرعان ما يزيله، لأنه – أي النص يشكل إجابة وتوضيحاً. وتبقى خاصية الحذف.
إن إلقاء نظرة على عناوين القصص يظهر أنها غالباً ما تكون غير مكتملة. إننا أمام جمل أو شبه جمل أو مفردات، هي خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف. تبدو العناوين ذات المكون الجملي في " محمود لا ينسحب " و " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر " و " أختي أجمل مني "، وتبدو العناوين التي تشكل شبه جملة في القصص " حال الدنيا " و " وجه البقرة الميتة " و " عباس الصياد وديك الحجل و " حكاية عن الحياة والموت " و " أبو حنيك وعيد القهوة " و " عن الباشوات والبكوات والحمير "، أما العناوين التي تتكون من مفردة فهي " الناموس " و " الشاهدان والمئذنة " و " النحلة الملحدة. في الأولى نحن أمام مفردة واحدة، وفي الثانية نحن أمام مفردة عطفت عليها مفردة أخرى، وفي الثالثة أمام مفردة موصوفة.
ويمكن أن نقرأ أية قصة من هذه القصص على النحو التالي:
هذه قصة حال الدنيا أو حال الدنيا القصة الأولى من مجموعة قصص توفيق زياد، وهكذا دواليك. وقد يكون العنوان بهذا خبراً لمبتدأ محذوف، أو انه يكون مبتدأ خبره محذوف.
وإذا ما نظرنا في المكون لاحظنا المكون الفاعل حاضراً: محمود وعباس والنحلة وأختي وأبو حنيك وعبد القهوة والباشوات والبكوات والحمير. كما نلاحظ المكون المكاني حاضراً أيضاً: الدنيا والناموس والمئذنة. وأما المكون الشيئي فيبرر في: الشاهدان والبقرة الميتة والقهوة.
العنوان وصلته بالنص: قراءة في بعض العناوين:
سأتوقف أمام بعض العناوين، لا كلها، لملاحظة صلة العنوان بالنص، وطبيعتها.
القصة التي حملت المجموعة عنوانها، كما ذكرت، هي القصة الأولى، وقد أشرت إلى أن اختيارها عنواناً للمجموعة كان اختياراً موفقاً، وبينت سبب ذلك. ولا يقول العنوان هنا شيئاً عن حال الدنيا. ثمة حذف يمكن أن يقدره كل على ما هو عليه: حال الدنيا مائل، حال الدنيا سيء، حال الدنيا جيد، حال الدنيا يسر، حال الدنيا لا يسر…. وهكذا. لكن القصة، بعد الانتهاء من قراءتها، تعزز حالة من هذه وتقصي الحالات الأخرى.
لكان جسد القصة هو بقية العنوان الذي يبدو، من خلال قراءته، منعزلاً عن النص، عنواناً ناقصاً، عنواناً يثير تساؤلاً وتأتي الإجابة على السؤال من خلال القصة. وفي النهاية يدرك القارئ أن حال الدنيا، في نظر بعض شخصيات القصة، مائل ولا يبعث على السرور. يعاتب الشيخ الخياط الذي استغرقته خياطة الجبة ثلاثة أشهر، ويذكره بأن الله خلق الدنيا في ستة أيام، فيجيبه الخياط:
" – خلقها..؟ تقول خلقها في ستة أيام .. ؟! لقد عجقها عجقاً .. انظر حالك في المرآة يا سيدنا؟ قال في زهو، ثم أضاف في استخفاف ومرارة - " انظر .. حال .. الدنيا "( ).
وهكذا تكون هذه الأسطر جواب السؤال الذي يُثار في أثناء قراءة العنوان. النهاية هنا كأنما هي خبر المبتدأ المحذوف. وهناك قصص أخرى في المجموعة تكون نهايتها جواب السؤال الذي يُثار في البداية، أو تكون توضيح المقصود بالعنوان، ومنها قصة " هكذا نحن ". إننا لا نعثر على توضيح لهذه العبارة إلا في نهاية القصة، وتحديداً حين يقول أبو الميناء مخاطباً الحاكم البريطاني، موضحاً حال أهل حيفا تحت الحكمين التركي والبريطاني:
" – وهكذا نحن يا سيدي .. في العهد الماضي مركوبون وفي عهدكم مركوبون "( ).
إن ما حذف من العنوان هو الكلام التالي كما ورد في العنوان. وهو كلام وقع في نهاية القصة، لا في بدايتها، أو في وسطها.
هنا يمكن أن نقف أمام قصة " الشاهدان والمئذنة. وما من شك في أن خيال القارئ، وهو يقرأ العنوان، يختلف من قارئ إلى أخر، فالمؤمن الذي يصلي ويصوم ويسبح يرى في العنوان غير ما يراه غير المسلم، ممن لا يعرف – جزئيات الدين الإسلامي وطقوسه. قد ينصرف الذهن إلى أن الشاهدين هما رجلان يشهدان على شيء حدث قرب مئذنة، وقد ينصرف الذهن، لمن يمتلك مسـبحة، إلى الشاهدين فيها وإلى المئذنة فيها أيضاً. وتعزز القصةُ الأخيرَ. يخفي الكاتب من المسبحة التي يهديها للحاكم الشاهدين والمئذنة فيها، ويطلب من الشيخ الذي يريد الإيقاع به أن يحضرهما وليس الأمر سهلاً. وهكذا ينفي جسد النص ما ذهبت إليه مخيلة الشخص الأول.
هنا يمكن أن نقف أمام عنوان القصة التالية " الناموس ". والناموس في المعجم هو صاحب سر الرجل، والذي يطلعه دون غيره على باطن أمره، والناموس جبريل، والناموس الوصي، والناموس القانون والشريعة، والناموس الحاذق، والناموس بيت الصائد يستتر فيه عن العين، والناموس بيت الراهب، والناموس مأوى الأسد( ).
والذي يبحث عن معنى هذه المفردة، قبل أن يقرأ القصة، ينصرف ذهنه إلى هذه كلها، فهل يعقل أن تكون القصة تأتي على هذه كلها؟
إن قراءة القصة تعزز واحداً من هذه المعاني، وتقصي المعاني الأخرى مثل " أختي أجمل مني " و " أبو حنيك وعبد القهوة ".
وحين نحدد المعنى، وهو القانون والشريعة، نحدده أيضاً ببيئة معينة في زمن معين، فالقانون والشريعة يتغيران.
اعتماداً على مقولة " رفيق الخيال خيال " يسلم صاحب الفرس فرسه للسلوقي، مع أنه يعرف مسبقاً أنه سيسرقها. إنه لا يريد أن يخالف الناموس:
" أنا .. أنا أسلمتك ظهر " أم الريح " بسبب هذا أيضاً…. خسرت أم الريح وربحت شهامتي. لن يقول الناس أنني خنت ما تعارفوا عليه، بل سيقولون أنني صنتهم، وخنت نواميسهم، في أحلك اللحظات "( ).
وحين يعيد السلوكي الفرس لصاحبها، يخاطبه: " وأنت .. لا تحسب أنني أعدتها إكراماً من، بل إكراماً لنفس الناموس الذي خنته أنت "( ).
هكذا يتحدد قصد المؤلف في نهاية القصة التي تعود إلى مفردة العنوان، وإذا كانت هذه المفردة غير محددة في العنوان، فإنها تحدد في الأسطر السابقة، في نهاية القصة.
وحين ننظر في بعض العناوين نجد أنها تجمع الشيء وضده، ولا يتضح هذان إلا من خلال النص. في حين أن هناك عناوين تعلن شيئاً وتقصي شيئاً أخر لا نعرف عنه إلا من خلال المتن. يجمع عنوان " عباس الصياد وديك الحجل " بين الشيء ونقيضه. عباس الصياد شريف في صيده، وديك الحجل هو رمز للجاسوس الذي يسقط بني جنسه. يجمع العنوان بينهما، لَكنْ عباس يقتل الديك. وتجمع قصته " حكاية عن الحياة والموت " ما بين الحياة والموت، والحكاية كلها تتمحور حول هذه الثنائية الضدية، ولكنها تنتهي بانتصار الحياة على الموت، وربما لهذا آثر الكاتب أن تكون لفظة الحياة قبل لفظة الموت. ويجمع عنوان قصة " أختي أجمل مني " بين المتكلمة وأختها، لكن القصة تخلو من حضور الأخت. إن حضورها حضور وهمي القصد منه اختبار مشاعر الرجل. ويجمع عنوان " أبو حنيك وعبد القهوة " بين كلوب باشا والعبد الذي يوزع القهوة، ولكن القصة تنتهي بقتل الأول الثاني، لأن الأخير لا يرغب في وجود الأول. الأول مستعمر والثاني، مع أنه عبد، إلا أنه يسلك سلوك الأحرار، مثله مثل عنترة بن شداد، وخلافاً له يكون سادة القبائل الذين يفترض أن يكونوا أحراراً، لكنهم يسلكون سلوك الخاضعين العبيد. ولا يختلف عنوان قصة " عن الباشوات والبكوات والحمير ". إنه يجمع بين هؤلاء، فيم تجمع القصة بين الباشوات والبغال، والبكوات الحمير، ثم تقص عن بكوات كثر لا يوجد في البلاد حمير على عددهم ليركبوها. يقترن الباشا بالبغل، والبيك بالحمار، وكان يفترض أن يكون العنوان عن الباشوات والبغال، والبكوات والحمير، ثم أسقط لفظ الحمير، وبدلاً من أن يكتب " والبكوات الذين لا حمير لهم " أسقط لفظه البكوات واستبدلها بلفظه الحمير.
أما القصص التي تعلن في عناوينها جانباً من محتواها، وتغفل جانباً أخر، فهي " وجه البقرة الميتة " و " النحلة الملحدة ". يعلن العنوان في الأولى عن البقرة التي لها حضور في القصة، بل هي أساسها، ويغفل عن ذكر الحمار الذي يحضر أيضاً في المتن ليكون فداءً للبقرة. تموت البقرة ويبقى الحمار، وكان يفترض أن يذكر الحمار في العنوان، فحمار حي خير من أسد ميت، لكن البقرة هي الأهم لصاحبها الذي لم يتردد في التضحية في الحمار لأجل أن تبقى على قيد الحياة، لكن … وخلافاً لهذه القصة يعطي القاص في " النحلة الملحدة " الأهمية للنحلة، ولا يعطيها للزنبور إنه منحاز لها، لا للزنبور، ولهذا أبرزها، مع أن القصة تقوم على ثنائية النحلة/ الزنبور. الثورة الاستعمار. وبما أن الثورات، زمن كتابة القصة، كانت تحقق انتصارات وكانت ثورات بارزة، فقد أعطاها القاص الأولوية.
وإذا كان ثمة من ملاحظات حول العناوين فيمكن القول أن قسماً منها يبدو مباشراً وتقريرياً ويلخص مضمون القصة " حكاية عن الموت والحياة " و" أختي أجمل مني " و " أبو حنيك وعبد القهوة "، وهذا هو القسم الأكبر، في حين أن قصصاً قليلة تبدو ذات دلالة رمزية " النحلة الملحدة. وأما القصص التي تثير سؤالاً تكون القصة إجابة عنه فهي قليلة، وأبرزها قصة " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر؟ " العنوان هنا سؤال، ونعرف الإجابة من خلال قراءة القصة، ولكن الإجابة هذه ليست نهائية، ففي حين يترك القاص الحمار يكتب للدجاجة والبقرة رسائل يفصح فيها عن طريق المجد الذي سار فيه، حتى غدا شيخاً للعسكر، نجد القاص ينهي القصة حول ما كتبه الحمار، مشيراً إلى أن هناك فارقاً بين ما كتبه الحمار، وما يراه هو – أي القاص – الذي يستبعد أن يكون شيخ العسكر حماراً. إنه – أي القاص – يقص قصته بناءً على الرسائل التي كتبها الحمار.
" ولذلك فإذا كتب أن فيما نقوله أي خطأ أو تجن فالحق عليه وحده..
وعلى فطنة – لم يكتب هو أن شيخ العسكر أصبح حماراً، وإنما كتب أنه هو الحمار.. أصبح شيخاً للعسكر، وفي هذا، كما ترون، فارق كبير "( ).

II- النهايات القصصية
في الكتابة عن النهايات في " حال الدنيا "( ) لا بد من مراعاة أمرين اثنين؛ أولهما ما الذي تعنيه النهاية في النص الأدبي فنياً، وثانيهما انتماء الكاتب لمدرسة أدبية معينة أو فكر معين، ورؤية هذه المدرسة وذاك الفكر للعالم. هذا يعني أن نعرف المدرسة الأدبية التي انتمى إليها زياد والفكر الذي اعتنقه، وعلينا فوق هذا كله أن نتوقف أمام اللحظة التاريخية التي أنجز فيها زياد قصصه، وما كانت عليه الأوضاع السياسية في حينه في العالم.
وفيما يخص الأمر الأول – أي ما تعنيه النهاية في النص الأدبي فنياً – يمكن القول إن الدارسين قسموا النص الأدبي إلى ثلاثة عناصر: العنوان والجسد والخاتمة، ورأوا في العنصر الثالث – أي الخاتمة – " نتيجة النص ونهايته، وهي تعود على بدء النص "( ).
هنا ننتقل إلى الأمر الثاني. لقد انتمى زياد إلى الحزب الشيوعي الذي يعتنق الماركسية اللينينية، وكتب أدباً موجهاً للشعب، بل إنه اهتم بأدب الشعب أساساً، ودعا أصحاب هذا الفكر إلى تبني الواقعية الاشتراكية التي تقوم أساساً على ركائز أهمها: حزبية الأدب والأديب وشعبية الفن. وكانت هذه المدرسة شائعة ومزدهرة في اللحظة التي أنجز فيها زياد قصصه. يومها كان العالم منقسماً إلى قطبين: الرأسمالية والاشتراكية، وكانت الأخيرة في مجدها، وكانت أفكارها منتشرة في كثير من بقاع الأرض، بل وكان انتشارها يزداد ويتسع. ومن يتابع الأدبيات العربية التي كانت تصدر، في حينه، ومن يتابع أيضاً المدارس الأدبية التي كان بعض الأدباء يكتبون من وحيها، يلحظ أن كثيراً من منتجي تلك الأدبيات أو مترجميها، وأن كثيراً ممن كانوا يكتبون من وحي هذه المدرسة الأدبية أو تلك، كانوا من أنصار الواقعية الاشتراكية. إن كتاباً مثل " معنى الواقعية المعاصرة " لـ ( جورج لوكاش )، أو مثل " ضرورة الفن " أو الاشتراكية والفن " لـ ( آرنست فيشر )، إن كتبا مثل هذه نقلت إلى العربية وشاع أمرها بين قراء العربية، وبخاصة بين الذين انتموا إلى الفكر اليساري( ). وهي كتب أتى أصحابها على الفارق بين الواقعية النقدية التي شاعت في أوروبا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والواقعية الاشتراكية التي سطع نجمها مع انتشار ثورة ( أكتوبر ) في العام 1917. وثمة في كتاب " معنى الواقعية المعاصرة " إتيان على أهم الفوارق بين المدرستين( )، ومنها النهايات، فإذا كانت هذه في الواقعية النقدية ذات نزعة تشاؤمية، وهو ما يبدو في قصة مثل " مدام بوفاري " لـ ( فلوبير )، حيث تنتهي بانتحار ايما، فإنها في الواقعية الاشــتراكية ذات نزعة تفاؤلية، وهو ما يبدو في قصص كتاب مثل ( مكسيم جوركي ) صاحب رواية " الأم " التي تنتهي بانتصار الشعب وتمجيد أبنائه. وربما يتذكر المرء هنا أسطر ( برتولد بريخت ) المعروفة التي أوردها ( آرنسـت فيشر ) في كتابه " الاشتراكية والفن " وهو يتحدث عن الواقعية الاشتراكية".
" إذا كنت لا تزال على قيد الحياة فلا تقل أبداً أبداً إن ما هو أكيد ليس أكيداً
فلن تبقى الأشياء على ما هي عليه
و .. ما كان مستحيلاً يصبح واقعياً قبل أن تغرب شمس اليوم"( ).

وكان الاشتراكيون هؤلاء – أعني ( فيشر ) و ( لوكاتش ) – يميزون بين نهاية تفاؤلية ساذجة تلصق بالقصة، وأخرى تبدو مقنعة، ويبدو مؤلفها مؤمناً بأن النهايات السعيدة لا بد وأن تتحقق، وإن في زمن لاحق. لقد كانت لديهم رؤية تاريخية للصراع ترى العالم في تحولاته التي لا تسير أبداً في خط صاعدٍ دائماً. فقد تكون هناك انتكاسة هنا، وقد تكون هزيمة هناك، ولكن الطبقة العاملة لا بد أن تنتصر ذات يوم، ليسود العالم قدر من العدالة والحرية.
يكتب ( فيشر ) في كتابه المذكور:
" إن الواقعية الاشتراكية – أو بالأحرى الفن الاشتراكي – تتطلع إلى المستقبل فهي لا تكتفي بالنظر إلى ما يسبق لحظة محددة من لحظات التاريخ بل تمد بصرها أيضاً إلى ما سيعقبها "( )، واعتماداً على مقولات ( يوهانز بتشر ) يرى أن مفهوم الواقعية الاشتراكية موجود في كثير من الكتابات التي ظهرت قبل مولدها كنظرية محددة. إن ( بتشر ) يرى نظرة واقعية اشتراكية في أبيات ( شيللر ):
انهض بجسارة بجناحين
وحلق فوق عصرك
ودع المستقبل يشرق
ولو بضوء خافت .. في مرآتك( )
بل ويراها أيضاً في أبيات ( بريخت ):
الأحلام و " إذا " الذهبية
تستحلف البحر الموعود
بحر القمح الناضج
أيها الزارع قل عن الحصاد
الذي سوف تجمعه غدا
إنه ملكك منذ اليوم( ).
وهذا ما تجسد بوضوح في أشعار شعراء المقاومة الفلسطينية، ومنهم توفيق زياد. فعلى الرغم من هزيمة العرب المذلة في حرب العام 1967، إلا أن هؤلاء لم يروا فيها كارثة أبدية، وهؤلاء، ربما أكثر من غيرهم، كانوا ينطلقون من منطلق ماركسي، وكانوا قرأوا الكتاب اليساريين جيداً، وتركت كتابات هؤلاء أثراً عليهم. ولكي يدلل المرء على هذا، فما عليه إلا أن يقرأ أشعارهم وأشعار غيرهم من الشعراء العرب التي كتبت عقب الهزيمة. ففي الوقت الذي حفلت فيه قصائدهم بنزعة تفاؤلية، غلب على قصائد زملائهم العرب نزعة تشاؤمية تمثلت في احتقار الذات والتلذذ بجلدها، وهو ما بدا في أشعار نزار قباني ومظفر النواب.
يمكن هنا إيراد بعض مقاطع من أشعار زياد نفسه تظهر أنه، على الرغم من الهزيمة، لم يفقد الأمل في المستقبل، كتب بعد الهزيمة:
كبوة هذي وكم
يحدث أن يكبو الهمام
إنها للخلف خطوة
من أجل عشر للأمام "( )
وكتب مخاطباً الإسرائيليين:
" لا تقولوا لي: انتصرنا ..
إن هذا النصر شر من هزيمة
نحن لا ننظر للسطح، ولكنا
نرى عمق الجريمة
لا تقولوا لي: انتصرنا ..
إننا نعرفها هذي الشطارة
إننا نعرفه الحاوي الذي
يعطي الإشارة
إنه سيدكم – يلهث
في النزع الأخير
إننا نسحبه – من أنفه – سحبا
إلى القبر الحقير "( ).
وربما يجدر قراءة قصة " النحلة الملحدة "( )، على ضوء هذه القصيدة، و " النحلة الملحدة " قصة لا تخلو من دلالات رمزية، وفيها أيضاً إشارة إلى حرب حزيران التي أوحت للشاعر بكتابة القصيدة السابق ذكرها.
على ضوء هذا الكلام السابق يمكن أن ننظر في نهايات القصص هذه. ويفضل أن نستعرضها ابتداءً.
تنتهي القصة الأولى " حال الدنيا "، بانتصار من يعملون في الحياة على من لديهم قناعات متوارثة يؤمنون بها، ويرون أنها مضرب مثل لأنها هي الصح عينه. الشيخ الذي يقول للخياط إن الله خلق الدنيا في ستة أيام، وبالتالي يُعير الخياط، يرد عليه الخياط بأن حال الدنيا التي خلقت في ستة أيام ليس على ما يرام، خلافاً لحال الجبة التي خاطها، وبدت آية في الجمال والإتقان، حتى أنها لإتقان صنعتها جعلت الشيخ يصمت ويتراجع عما فكر فيه في اللحظة الأخيرة من اعتداء على الخياط الذي وفى بوعده في اللحظة الأخيرة، وأنجز جبة متقنة.
وتنتهي القصة الثانية " الشاهدان والمئذنة " بانتصار الكاتب على الشيخ. يريد الثاني أن يوقع بالأول، حين يحرض الحاكم قليل العقل على الكتاب، ولكن الكاتب يوظف ذكاءه فيوقع الشيخ في ورطة، ولا يخلصه منها إلا هو. الشيخ هنا يقص ولا يقول الحقيقة. إنه يلجأ إلى الخيال، ويوظف المعتقدات الدينية للإيقاع بالكاتب. إنه يزعم أن جبرائيل يأتي إليه ليلاً، وهو الذي يوحي له بكذا وكذا، وهو الذي يأخذه إلى مكة، وإلى أماكن أخرى، ولكنه في النهاية، حين يوقع به الكاتب، يقول:
[ " نسيت أن أقول يا مولاي إن سيدنا جبرائيل حلفني أن أقول لمولانا إنه يوصيه خيراً بكاتبه المخلص ويطلب أن يعلي مراتبه … "
وصمت الشيخ من جديد، ولكن نحنحة ثانية من الكاتب جعلته يردف من جديد:
- "ونسيت أن أقول أيضاً إن سيدنا جبرائيل قال لي أن هذه هي آخر مرة يأتي فيها إلي … "
كان الشيخ ينطق بكلماته هذه بصعوبة وكأنه يبلع سكيناً. أما الكاتب فكان يبتسم منتصراً ( )].
هنا نلحظ انتصار الكاتب واضحاً.
وتنتهي القصة الثالثة " الناموس " بعودة الحق إلى صاحبه. السلوقي اللص الذي يريد سرقة الفرس " أم الريح " ينجح في ذلك من خلال الحيلة، ولكن ذكاء صاحب الفرس، حين ينادي السلوقي باسمه، وهنا يُفاجأ هذا، يجعل السلوقي يعيد الفرس إلى صاحبها، وإن أكد للأخير أنه سيسرقها، ولكن بما لا يتنافى وأخلاق الصعاليك الذين ينتمي إليهم.

القصة الرابعة " وجه البقرة الميتة " ومثلها القصة الثانية عشرة " أبو حنيك وعبد القهوة " تنتهيان بمأساة. في الأولى تموت البقرة التي اشتراها صاحبها ليعيش من حلبها وحرثها، وفي الثانية يقتل أبو حنيك عبد القهوة ويطلب من الحاضرين أن يرموا جثته للكلاب. تموت بقرة عبد الله أبو سعدة لأنها مريضة، ولم تُعالج لدى بيطري، وربما لأنها كهلة، ولا تجدي معالجتها من خلال الشعوذة، كما لا تحقق الدعوات رغبة صاحبها الذي يطلب من الله أن يأخذ الحمار بدلاً منها. هنا بطريقة ما ينتصر زياد للعلم، ولا يشجع اللجوء إلى الشعوذة أو إلى الغيبيات. ويقتل أبو حنيك الإنجليزي ( كلوب باشا ) العبد الذي يسقي الآخرين القهوة، لأنه يرفض الاســتعمار ويتمنى، لو كان يملك ســلاحاً ساحقاً، إبادته. ويجوز أن نقول أيضاً. إنه على الرغم من قتل أبو حنيك عبد القهوة، إلا أنه في سلوكه هذا يعبر عن أزمته التاريخية، أزمته التي انتهت، بعد سنوات، على أرض الواقع بهزيمته، وعودته إلى بلاده. وإن لم تكن القصة قالت هذا، فقد قاله الواقع، وهو ما سيقوله زياد في القصة الثامنة؛ قصة النحلة الملحدة ".

في القصة الخامسة " محمود لا ينسحب "، ومثلها القصة العاشرة " هكذا نحن "، نحن أمام نموذجين شجاعين، وأمام مسؤولين يمثلان الجبن أو الاستعمار. محمود ابن الطبقة العاملة يدخل الجندية، ويرقى إلى ضابط، ولكن قبل تقليده الرتبة يجري له مسؤولون امتحاناً، يسألونه فيه أسئلة عديدة ليعرفوا كيف يتصرف في المعركة.
يسأله قائد الفرقة ماذا سيفعل مع رجاله إن كان يحمي جسراً وهاجمه العدو، ويجيبه محمود: أقاوم، ويسأله القائد: وإذا كان العدو أكثر عدداً فماذا تفعل؟ ويكون الجواب: أقاوم. ويسأله القائد: وماذا لو قتل رجالك وبقيت وحدك، فيجيبه: أقاوم. ويواصل القائد الأسئلة:ولكن لنفترض أنه لا فائدة من المقاومة. وأن العدو سيحتل الجسر حتماً، وعلى جثتك. فماذا تفعل؟ ويكون جواب محمود: أقاوم يا حضرة العقيد !! ( ).
وهنا يثور القائد، ويرسب محموداً في الامتحان، وهنا يعقب السارد منهياً القصة بالتالي:
" ويبدو أن محمود شعر بإهانة عميقة فنبر في غضب هذه المرة: - " ساقط .. ساقط لكن محمود ما ينسحب " قال ذلك وهو يستدير ويغادر المكان "( ).

لا تختلف القصة العاشرة " هكذا نحن "، في نهايتها، عن هذه. بشير الحيفاوي العامل في الميناء شخص محبوب من العمال الذين يطيعونه لشجاعته. يُدعي هذا من الحاكم الإنجليزي الذي حلّ محل الحاكم العثماني، مع وجهاء حيفا، ليســألهم الحاكم عن رأيهم في

الإنجليز، ويكون رأيه مخالفاً لرأي الوجهاء والمخاتير، فإذا كان هؤلاء يمالئون الحاكم أياً كان، فإنه هو يقول الحقيقة ولا يخشى من العواقب. وهكذا يُسمع الحاكم الإنجليزي كلاماً مغايراً لما سمعه هذا من الآخرين – " وهكذا نحن يا سيدي .. في العهد الماضي مركوبون وفي عهدكم مركوبون " قال ذلك وهو يلم بعضه وينهض يغادر المكان "( ).
وكما نلاحظ، تنتهي القصتان بإسماع المسؤول كلاماً لا يحب سماعه. وما دام هناك من يقول ما لا يعجب القائد أو الحاكم، فمعنى ذلك أن الأمور قد تصح، وقد يأتي يوم تتكاثر فيه هذه الأصوات لينتصر الحق. وأنّ ما كان مستحيلاً قد يصبح واقعاً قبل أن تغرب شمس اليوم.
وتنتهي القصة السابعة " عباس الصياد وديك الحجل " بقتل الديك. عباس صياد شريف لا يلجأ إلى الخدعة، ولا يفوقه في الصيد أحد، وتحدث المفاجأة عندما ينافسه صياد آخر يلجأ إلى الحيلة، ويحقق ما لا يحققه عباس. يربي الصياد ديكاً ليستدرج به الديكة من بني جنسه، وهكذا يحقق الصياد الثاني إنجازه في الصيد، وحين يكتشف عباس السبب يطلق النار على ديك الحجل أمام صاحبه الذي سأله لماذا فعلت هذا؟ ويكون الجواب:
" هذا جاسوس .. يجر على بني جنسه .. جاسوس .. "
وينهي الراوي القصة بالفقرة التالية:
" ولم يَبْدُ على ديك الحجل .. السمين حقاً، والجميل حقاً، أي ألم وهو يســقط مضرجاً بدمه. كان يموت بهدوء، وهو ما زال يبتسم نفس ابتسامته البلهاء،.. النذلة.. وكأنه يستجدي "( ).
ولا تخلو القصة من دلالة رمزية. إن المغزى منها واضح. كل جاسوس يعمل لحساب آخرين من غير بني جنسه، ويؤذي بني جنسه يستحق القتل. إن نهاية القصة هنا، على الرغم من أنه القتل، هي انتصار للحياة. ثمة صيد شريف، وثمة صيد غير شريف، وينتصر القاص للأول.
هنا أتوقف أمام القصة الثامنة " النحلة الملحدة " التي أتيت على ذكر عنوانها من قبل، وتحديداً حين استشهدت ببعض أشعار زياد. القصة ذات دلالات رمزية لا يستعصي فك مغاليقها على القارئ الذي واكب ما جرى في العالم في أوساط القرن الماضي وحتى اقترابه من النهاية. والنحلة الملحدة هي ثورات العالم الثالث التي تؤلم " سام الأخير " رمز أمريكا، إنها في نظر هذا / هذه نحلة تافهة بنت تافهة، كما يرد على لسان الراوي ساخراً:
" كيف تجرأت نحلة تافهة بنت تافهة أن تفعل هكذا بالمبعوث الخاص لسلطان سلاطين زمانه، سام الأخير! فعلاً .. إن الأمر لا يطاق! لا يطاق "( ).
وهذان السطران هما سطر القصة أو بيت القصيد كما يقولون.
تؤذي هذه النحلة الملحدة القوي سام الأخير – العام سام -، وليست وحدها هي التي تؤذيه، فثمة نحلة أخرى كانت آذت كباراً من قبل. النحلة المصرية، عام 1956، آذت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، والنحلة الفيتنامية آذت أمريكا، بمساعدة الدببة الحمر – أي الاتحاد السوفيتي في حينه. وكان يغمر أمريكا شعور من الكبرياء، بأنها تصنع التاريخ وتغير الحقائق القديمة بحقائق جديدة.

تنتهي القصة بالفقرة التالية:
" ملحق.
وصلنا الملحق التالي: عاد الزنبور إياه في يوم من أيام الخامس من حزيران ففقد ذاكرته ثانية. تناول حفنة من أقراص فقدان الذاكرة تلك وفعل السبعة وذمتها من جديد. وتقول الأوساط العالمة ببواطن الأمور إن مفعول تلك الأقراص قد قارب الانتهاء وبدأ الزنبور يحس بالهوة التي يقف على حافتها.
وطبعاً، سـنوافيكم بملحق آخر نطلعكم فيه على نتائج فقدان ذاك الزنبور لذاكرته ثانية.
نسخة طبق الأصل "( ).
هنا نلحظ ثمة تفاؤلاً لدى زياد، فعلى الرغم من انتصار الزنبور / أمريكا / إسرائيل إلاّ أنه بدأ يحس بالهوة التي يقف عليها. أليس زياد هو القائل:
" أي أم أورثتكم – يا ترى
نصف القنال
أي أم أورثتكم ضفة الأردن
سيناء وهاتيك الجبال
إن من يسلب حقاً بالقتال
كيف يحمي حقه يوماً
إذا
الميزان..
مال .. ؟؟( )

أما قصته " حكاية عن الموت والحياة "، فعدا أنها تمجيد واضح للحياة، من خلال العامل الذي يمجد العمل ويفكر بالحياة ويحبها ويقدم عليها/ حتى في اللحظة التي يلتف فيها حبل المشنقة على رقبته، عدا هذا فإنها تنتهي لصالح الحياة ضد الموت.
يصحو الرجل مبكراً، ويذهب إلى عمله، ويقابله في الطريق الحاكم الذي يقرر قتل من يراه في هذا اليوم من العام لأنه يوم شؤم له. وهكذا يسوقه إلى حبل المشنقة، وحين تبصره زوجته لا تسأل عن مصيره قدر ما تسأله عن مصروف يومها، حيث غادر ولم يترك لها النقود. وحين ينصب له حبل المشنقة يضحك، فيسأله الحاكم عن سبب ضحكه. وقبل أن يجيب يقول للحاكم إنه ذو لسان سليط، ومع ذلك يوافق الحاكم على الإصغاء له، لمعرفة سبب الضحك:
" لقد ضحكت يا مولاي لأنني فكرت فيك وفي امرأتي ناقصة العقل وفي نفسي فوجدت أنك أسخف الثلاثة .." ( ).
ويبرر كلامه:
" أما أنت يا مولاي، فقد نهضت قبل الفجر تبحث عن الموت لغيرك. صدفت رجلاً مبكراً في طلب الرزق، فما فكرت إلاّ في شنقه، دون ذنب جناه. وأما زوجتي ………. وأما أنا فقد وقفت وحبل المشنقة حول عنقي، انتظرت الموت. وبينما أنا أتملى من الطبيعة أودعها، انفتحت نافذة في ذلك البيت المقابل، ووقع بصري على بدن فتاة، نهضت من فراشها للتو. فنسيت وقفتي أمام الموت ورحت أفكر في الحياة، وفي ذلك البدن الشهي "( ).
ويترك الحاكم العامل، ويواصل العامل طريقه نحو عمله، وتنتهي القصة بالأسطر التالية:
" بقي أن نقول إن البلدة استقبلت مع شروق شمس ذاك اليوم مرسوماً موقعاً من قبل الحاكم، يقلب فيه يوم شؤمه السنوي إلى عيد عام للمدينة "( ).
ثمة بث لروح التفاؤل في القصة يعود إلى ذكاء العامل، وللذكاء حضور كبير في قلب سواد الواقع إلى بياض. الكاتب في " الشاهدان والمئذنة " كما لاحظنا ذكي، وذكاؤه أنقذه من ورطة. والحمار في " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر " ذكي – مع أنه دموي – ولذا مر عبر الحدود. ويبرز الذكاء من جديد في قصة " أختي أجمل مني " التي تضحك فيها الفتاة الذكية على الشاب الذي يعشق الجمال فقط.
يفصح الشاب للفتاة عن حبه لها، مع أنه رآها لأول مرة. وتريد أن تختبره، فتخبره أن أختها أجمل منها، وأنها ستمر من هنا، فيتركها لينتظر أختها التي لا تمر. وتنتهي القصة بالفقرة التالية:
" – يا حلوة .. !! أختك ما مرت من هنا ..
- ليس لي أخت
- لقد كذبت علي إذاً .. ؟
- نعم.
- ولكن لماذا ..؟
- أردت أن أعرف إذا كنت تحبيني أنا حقاً..
- قالت ذلك وهي تواصل طريقها، دون أن تنظر إليه .. ( )
وأما القصة الأخيرة " عن الباشوات والبكوات والحمير " فتنتهي بضحك السلطان، وضحك وزرائه. ركب الباشوات البغال والبكوات الحمير، ولكن ظل جمع غفير من البكوات لم يجدوا حميراً يركبونها، فجاءوا مشياً. وكان يفترض أن يكون العنوان " عن الباشوات والبكوات والبكوات الذين لا حمير لهم "، ولكن المؤلف جعله " عن الباشوات والبكوات والحمير ". دولة يصح فيها قول ابن رشيق القيرواني:
مما يزهدني في أرض أندلس ألفاظ معتمد فيـهـا ومعتضد
ألفاظ مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً هيأة الأسد
تنتهي القصة بالفقرة التالية:
" – هؤلاء بكوات يا مولانا، ولكننا لم نجد في البلاد حميراً على عددهم..
واحتاج السلطان إلى هنيهة حتى يلتقط كلام وزيره، ثم فقس في الضحك. وظل يضحك ويضحك، حتى انقلب على قفاه وهو يرقص رجليه في الهواء من شدة الضحك. ولم يملك وزراؤه إلا أن يصنعوا مثله .." ( ).

الخلاصة:
تبدو النهايات في " حال الدنيا " نهايات تعزز نزعة التفاؤل، على الرغم من أن بعض القصص تنتهي بالمأساة. وليس هذا بغريب، فزياد، كما لاحظنا، كان يعيش في زمن انتشرت فيه مدرسة أدبية عززت نزعة التفاؤل، وهي مدرسة الواقعية الاشتراكية، ولم يكن الوحيد الذي يفعل ذلك، فمجايلوه من الشعراء، مثل محمود درويش وسميح القاسم، لم يتخلوا عن هذه النزعة حتى في لحظة هزيمة الأمة العربية في العالم 1967، وكانوا في حينه يدركون أن الهزيمة لا ينبغي أن تولد حساً تشاؤمياً، فحركة التاريخ تقول إن النصر في النهاية هو لقوى الخير، حتى لو عاشت الشعوب لحظات تراجع. حقاً إن " حال الدنيا " لا يسرّ، ولكن هناك نحلة ملحدة كانت تضايق الزنبور، وحقاً إن هناك حاكماً يريد القتل، ولكن هناك عاملاً يحب الحياة، ويتراجع الأول أمام الثاني، ويحول يوم الشؤم إلى يوم عيد، كما جعل العمال من الأول من أيار يوم عيد عالمي.

المصادر والمراجع / الهوامش:



هوامش:

(1) الدراسات التنظيرية للنص الموازي شاعت، هنا في فلسطين، في نهاية تسعينيات القرن 20، وربما كانت دراسة شعيب حليفي المنشورة في الكرمل ( قبرص ) ع46/1992، مدخلاً للتعامل مع العناوين. وكانت المجلة، في حينه، تصل إلى عدد محدود من الدارسين، ومن الذين قرأوا الدراسة وكتبوا من وحيها على الخليلي، إذ نشر مقالاً، ذات يوم، في جريدة القدس، أعاد نشره في كتابه " مرايا السخرية " (1996) الصادر عن دار الفاروق في نابلس. وستعمم الدراسة من خلال تدريسها في قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية، مع دراسة جميل حمداوي " السيموطيقا والعنونة "(1997). وبوحي من هاتين الدراستين، ودراسات أخرى، أنجز بعض طلبة جامعة النجاح رسائل ماجستير في موضوع النص الموازي، وأهم هذه الرسائل رسالة الطالب فرج المالكي " النص الموازي في الرواية الفلسطينية "(2002).

وأما الدراسات التطبيقية، قبل شيوع دراسة شعيب حليفي، فكانت عابرة، وأبرز من التفت إلى العنوان، في بعض دراساته، الناقد نبيه القاسم، حين تناول بعض أعمال إميل حبيبي. انظر مثلاً مقالته " لكع بن لكع: وثيقة اعتراف ودفاع وإدانة .. وإضاءة للمستقبل " في كتاب دراسات في الأدب الفلسطيني "من تحرير نبيه القاسم، عكا، منشورات دار الأسوار، د.ت. ص95 وما بعدها.
(2) انظر المقالة في كتاب " دراسات في الأدب الفلسطيني " ( مرجع سابق ) ص141. وحول المقالة هذه انظر: عادل الأسطة، توفيق زياد ناقداً، جريدة الأيام، رام الله/ 3/7/1997.
(3) انظر: جميل حمداوي، ص108.
(4) السابق، ص 109.
(5) انظر مجلة " الكرمل " ( قبرص ) ع 46، 1992. ص89.
(6) السابق، ص 90.
(7) زياد، حال الدنيا، ص77.
(8) شعيب حليفي، الكرمل، 1992. ص90 وما بعدها.
(9) زياد، حال الدنيا، ص12.
(10) السابق، ص 111.
(11) انظر مفردة الناموس في المعجم الوسيط.
(12) زياد، حال الدنيا، ص12.
(13) السابق، ص 32.
(14) السابق، ص 68.
(15) توفيق زياد، حال الدنيا، عكا، 1994. ط2.
(16) جميل حمداوي، السـيموطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، الكويت، مجلد 25، ع3 ( يناير ومارس ) 1997، ص 108.
(17) نقل كتاب لوكاتش إلى العربية دكتور أمين العيوطي، وصدر عن دار المعارف بمصر سنة 1971. وترجم كتاب فيشر أسعد حليم، وصدر عن دار القلم ببيروت سنة 1973.
(18) جورج لوكاتش، معنى الواقعية المعاصرة، انظر ص 162 وما بعدها.
(19) أرنست فيشر، الاشتراكية والفن، ص 186.
(20) السابق، ص180.
(21) السابق، ص181.
(22) السابق، ص181.
(23) توفيق زياد، سجناء الحرية وقصائد ممنوعة أخرى، عكا، 1994، ط2، ص 40.
(24) السابق، ص32.
(25) زياد، حال الدنيا، ص77 وما بعدها.
(26) السابق، ص23.
(27) السابق، ص55.
(28) السابق، ص56.
(29) السابق، ص111.
(30) السابق، ص76.
(31) السابق، ص82.
(32) السابق، ص88.
(33) زياد، سجناء الحرية، ص35.
(34) زياد، حال الدنيا، ص97.
(35) السابق، ص98.
(36) السابق، ص99.
(37) السابق، ص118.
(38) السابق، ص134

***

3- المعنى والمغزى في قصص "حال الدنيا" لتوفيق زياد

يثير الدارس، وهو يقرأ مجموعة "حال الدنيا" )1975( لتوفيق زياد، السؤال التالي: هل كان الكاتب يرمي الى أبعد مما يقوله المعنى؟
لنعد، ابتداءً، الى كتابه "صور من الأدب الشعبي"، ولنر الأسباب التي دفعته الى الاهتمام بهذا الادب، يقر زياد صراحة انه قام بجمع هذا اللون من الأدب خوفاً عليه من الضياع، عدا انه يمثل قمة من القمم الأدبية. وقد قام زياد باعادة صياغته بلغة عربية سليمة فصيحة ما أمكن. وان لم تكن قصص "حال الدنيا" كلها جمعاً من أفواه الناس، في القرى وفي المدن، فهناك قصص تبدو من تأليف زياد نفسه، مثل قصة "النملة الملحدة"، هذه التي لا تخلو من رمز شفيف يفصح عن نفسه بنفسه. انها ذات مغزى واضح هو ما يكشف عنه بعدها الرمزي الذي ارتبط بزمن كتابة القصة وما كانت عليه الاوضاع في حينه، وربما لا يفهمها جيداً الا من عاش تلك اللحظة الزمنية، او من عاد الى الاوضاع السياسية السائدة في حينه، وقرأ القصة مقترنة بها. وأرى ان قارئاً يعيش الآن، ولم يع جيداً ما كانت عليه الاوضاع ما بين 1945 1990 لن يفهم القصة كما يفهمها شخص كان يعيش في تلك المرحلة وشاهداً عليها.
واذا ما عاد المرء الى نقد زياد، وهو قليل، يلحظ انه ما كان من الادباء الذين يميلون الى استخدام الدال الواحد للتعبير عن مدلولات متعددة، فهو مثلاً تناول اشعار محمود درويش، وكتب عن دال القمر فيها. ولما كان درويش يستخدم هذا الدال لمدلولات مختلفة لم يدركها زياد جيداً، طلب منه - أي طلب زياد من درويش- الا يظلم القمر ويحمله اكثر مما يحتمل، ولم يستسغ المدلولات غير القاموسية لهذه المفردة.
واذا ما عاد المرء ايضاً الى المدرسة الادبية التي صبغت كتابات زياد وأثرت عليها، وهي الواقعية الاشتراكية، ادرك ان الوضوح وعدم التعقيد سمة اساسية من سمات أدب زياد، شعراً ونثراً، وان مدلول داله لا يتعدى، غالباً، ما يقوله الدال، وان لاحظ المرء ان ثمة رمزاً شفيفاً، احياناً، يبدو من خلال بعض نصوصه، كما في قصة "النملة الملحدة". ولا يعني هذا ان زياداً لم يكن يعرف المجاز والاستعارة وضروب البلاغة الاخرى. انه يعرفها بالتأكيد، ولكنه لم يكن يميل الى الغموض، وحتى تشبيهاته واستعاراته، في اشعاره، كانت تفصح عن نفسها بنفسها.
ولا ينفي ما سبق ان تقرأ نصوص زياد، من كتاب آخرين، في زمن آخر، قراءات يذهب اصحابها الى ان القصة او القصيدة لا تخلو من مغزى، ولا يعقل ان يرمي زياد فقط الى ما يقوله المعنى. ويمكن ان نأخذ بهذا انطلاقاً من مقولات نظرية التلقي التي ترى ان العلاقة غدت بين النص والقارئ، لا بين المؤلف والنص.. هنا طبعاً يمكن ان يبحث القارئ عن المغزى في النصوص، ويمكن ان يؤولها تأويلات كثيرة، فعنوان ما، مثل "كيف اصبح الحمار شيخاً للعسكر" يمكن ان تدرج تحته المدلولات/ التأويلات التالية:
- كيف اصبح الاستاذ (س) عميداً للكلية (ص)؟
- كيف أصبح الرئيس (ق) رئيس الدولة (ك)؟
- كيف اصبح رئيس الجامعة (ع) رئيساً لها؟
- كيف اصبح الملك (ن) ملكاً للمملكة (ل)؟
- كيف اصبح (ج) عميداً للبحث العلمي في الجامعة (ح)؟
وهكذا دواليك.
هنا يصبح دال العنوان ودال القصة ضرباً من الثورية، اذا قصد القارئ ذلك. ثمة معنى قريب غير مقصود، وثمة معنى بعيد مقصود، ويعتمد الامر في النهاية على اطراف اخرى غير النص نفسه، يعتمد على كاتب النص، وعلى قارئه، وعلى من يتكلم به وعلى سامعه وما فهمه منه. الدال ثابت والمدلول متحرك، يقول البنيويون وقصة زياد هي نفسها، يوم كتبها ويوم نقرأها الآن. واذا كانت العلاقة، زمن كتابتها، بين زياد ونصه، فانه الآن غدا في عالم آخر ولم يبق الا نصه وقارئه، والاخير يتغير بمرور الزمان، وربما فهم القصة كما يقول ظاهرها وربما فهمها من باب التورية. ولو كان زياد على قيد الحياة لسألناه عن قصده من وراء كتابة القصة في حينه، وعنده سيكون الخبر اليقين. ربما يفصح عن قصده وربما يقول لنا بيت المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر القوم جراها ويختصم
ولكننا نتساءل: اذا كان زياد يرمي ابعد مما تقول القصة "كيف اصبح الحمار شيخاً للعسكر" فمن هو الحمار؟ هل هو الحاكم العربي الذي جاء الى سدة الحكم عبر الدبابة والمؤامرة والخداع؟
لقد هاجم زياد حكاماً عرباً كثيرين وذكرهم بأسمائهم، عدا انه لم يعش في العالم العربي حتى يكتب قصة ذات مغزى، ذات دلالة رمزية، كما فعل وهو يكتب عن دولة اسرائيل التي كان يقيم فيها، وهو ما بدا في قصة "النملة الملحدة"، فهل المقصود بالحمار دولة اسرائيل؟
وهنا يمكن ان نفيد مما تقوله المناهج النقدية، ثمة مناهج تركز على الوصف في اثناء تناول نص أدبي، مثل البنيوية، وثمة مناهج اخرى يبحث اصحابها عما وراء الكلمات، لانهم يرون ان النص قابل للتفسير وللتأويل، مثل التفكيكية والتأويلية، فهل علينا ان نلزم ناقداً ما بمنهج واحد؟
ولو افترضنا اننا قرأنا نقدين لقصة واحدة، لناقدين مختلفين، احدهما يصف ظاهر النص، وثانيهما يؤول النص ويبحث عن مراميه. هل نقول النقد الاول ليس نقداً والثاني هو النقد ولكن ماذا لو أوّل النص غير ناقد.. تأويلات مختلفة، ولم يكتفيا بما يقوله ظاهر النص؟.. ترى أي التأويلات نقبل وايها نرفض، وهناك نظريات نقدية ترى ان قراءة نص واحد من قارئين مختلفين تؤدي الى قراءتين مختلفتين، بل انها تذهب الى ما هو ابعد من ذلك، وترى ان قراءة نص واحد من قارئ واحد في زمنين مختلفين تؤدي الى قراءتين مختلفتين.
ثم ماذا لو اختلف موقف صاحب النص بعد كتابته؟ لو كان رمى زمن كتابة النص الى قصد ما، ثم غدا هذا القصد يسبب له مشاكل وتخلى عنه، وقال انني لم أرم الى كذا وكذا، ولم يكن، من قبل، اوضح مرماه. هناك ادباء كثيرون كانوا، ذات نهار، يؤمنون بفكر ما ويكتبون انطلاقاً منه، ثم تخلوا عن افكارهم. وستسبب قراءة نصوصهم، اعتماداً على فكرهم السابق، لهم العديد من الاشكالات. ألا نرى ان أدباءً كثيرين تخلوا عن نصوصهم الأولى؟
وليس هناك من شك في ان مسؤولية الدارس هي توضيح هذا كله وتفسيره وتقديمه للقارئ، ولكن ماذا بشأن كاتب لم يقل الكثير حول نصوصه؟
اعترف اميل حبيبي، بأيام قليلة قبل موته، بأنه حين كتب "المتشائل" كان يكتب عن نفسه. ترى هل كان اميل سيعترف بهذا، حين انجز نصه في العام 4791، لا شك انه لو فعل لاثار حوله ضجة كبيرة ونقاشاً يدخل، يومها، في باب المحرمات، لأن السؤال الخطير الذي كان سيثار هو: هل كان لاميل حبيبي صلة بالمخابرات الاسرائيلية؟

2005-01-25
عادل الاسطة

***

4- توفيق زياد قاصاً: السخرية والضحك في " حال الدنيا "

عرفنا توفيق زياد ( 1929-1994 ) شاعراً من شعراء المقاومة، وعرفناه سياسياً وقائداً جماهيرياً من خلال عضويته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي ( راكاح )، ومن خلال رئاسته بلدية الناصرة لسنوات طويلة. وعرفه دارسو الأدب الشعبي واحداً من المهتمين بهذا الأدب الذي عملوا على تجميعه ونشره، وأحياناً على إعادة صياغته. وقليلون هم الذين عرفوه كاتب قصة قصيرة، وما يدل على هذا أن دارسي فن القصة لم يدرسوه قاصاً، وأن الذين أشرفوا على إصدار مجموعات قصصية لكتاب فلسطينيين، إلا ما ندر، أدرجوا اسمه ضمن قائمة كتاب القصة أو اختاروا له قصة ضمن المختارات.
وعدا القصص القصيرة التي نشرها زياد في " الاتحاد " و " الجديد " صحيفة الحزب الشيوعي ومجلته، فقد أصدر في حياته مجموعة " حال الدنيا " ( 1974 )، وهي مجموعة تضم ثلاث عشرة قصة، أسماها زياد قصصاً فولكلورية. وزياد لم يؤلف هذه القصص، وإنما جمعها وأعاد صياغتها وقارن بين روايات رواتها. هذا ما نخمنه اعتماداً على ما كتبه تحت عنوان " لننقذ أدبنا الشعبي من الضياع ".
وقد التفت إلى هذه المجموعة الشاعر على الخليلي وهو يدرس النكتة العربية، وكتب عنها في كتابه الذي عنوانه " النكتة العربية " ( 1979 )، ودرس السخرية فيها، وأظن أن دراسة علي ليست أكثر من لفت نظر إلى هذا الجانب فيها، وأظنه لو أراد دراستها بتفصيل لكتب عنها صفحات كثيرة، ولخصّ قصصاً أخرى لم يأت عليها.
والتفت إلى هذه المجموعة، في فترة متأخرة، الناقد نبيه القاسم، ورأى في زياد قاصاً ذكياً، وقد أتى عليها في كتابه " مراودة النص: دراسات في الأدب الفلسطيني "، وهو كتاب صدر في السنوات الأخيرة ( 2001 ).
ولعل من أهم ما يميز هذه المجموعة هو حس الفكاهة والدعابة والسخرية. وأظن أن الدارسين، في هذا الجانب، لم يعطوا هذه القصص حقها. إنها في هذا الجانب لا تقل كثيراً عن رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل: التي صدرت في العام نفسه الذي صدرت فيه " حال الدنيا " - أي في عام 1974.
وربما يتذكر المرء وهو يقرأ عناوين قصص زياد بعض عناوين المتشائل، فمن هو الذي قرأ النصين ولا يربط بين عنوان قصة " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر " وعنوان فرعي في المتشائل هو " سعيد يعلن أن حياته في إسرائيل كانت فضلة حمار ". وربما أيضاً يتذكر المرء قصة أخرى لزياد هي قصته " عن الباشوات والبكوات والحمير ". ثمة ربط بين البشر والدواب.
وقد لا يكون التشابه بين الكاتبين غريباً، فعدا أنهما من جيل واحد، وعدا أنهما انتميا إلى حزب واحد، وعدا أنهما أقاما في مدينة واحدة، وعدا أنهما تعرضا للاضطهاد القومي، عدا هذا كله تشربا ثقافة واحدة وتغذيا بنصوص فكرية واحدة. قرأ كل منهما التراث العربي القديم، ودرس كل منهما الفكر الماركسي. وكان ما ينشر على صفحات " الاتحاد " و " الجديد " مكوناً من مكونات ثقافة كل منهما. وإذا ما تذكرنا ما يقوله أدباء الأرض المحتلة عن مصدر ثقافتهم في الخمسينيات والستينات من ق20، لا نبعد عن الصواب فيما ذهبنا إليه. ذكر الشاعر سميح القاسم في مقابلة أجرتها معه الفضائية الفلسطينية، وأعادت بثها في 20/4/2004 أن المثقفين في تلك الأيام إذا ما حصلوا على كتاب جديد، جاءهم من العالم العربي، قاموا بنسخه وتوزيعه فيما بينهم.
لماذا درست رواية إميل حبيبي واستقبلت استقبالاً واسعاً في فلسطين وفي العالم العربي وترجمت إلى العديد من اللغات العالمية مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والعبرية، ولم تدرس مجموعة زياد " حال الدنيا "، ولم تستقبل استقبالاً واسعاً، وظلت طبعاتها، قياساً إلى طبعات المتشائل، محدودة؟ ولماذا لم تترجم إلى اللغات التي ترجمت إليها المتشائل؟ ربما تحتاج الإجابة عن هذين السؤالين إلى مساءلة الدارسين والمترجمين ‍‍!! وربما يعود السبب إلى أن إميل حبيبي عرف قاصاً وروائياً، في حين أن زياد عرف شاعراً أولاً، قبل أن يعرف قاصاً.
في " حال الدنيا " جوانب عديدة تستحق أن تدرس، أبرزها صلتها بالأدب العربي والتاريخ العربي والثقافة الإسلامية، وهي في هذا الجانب لا تختلف عن " المتشائل ". ثمة نصوص اعتمد عليها الكاتبان دخلت في نسيج كتابتهما، وشكلت جزءاً منها. وهكذا تداخلت نصوصهما مع نصوص آخرين. ومن الجوانب التي تستحق أن تدرس أيضاً هي شكل القصة في " حال الدنيا " وصلتها بشكل الحكاية. هنا يختلف زياد عن حبيبي، فإذا كان الأخير جرد من ذاته ذاتاً أخرى، وأخذ يكتب إليها رسائل، وكانت روايته مجموعة رسائل كتبها سعيد أبو النحس إلى الضمير في " إلي "، فإن زياد، وهو يقص، لا يجرد من ذاته ذاتاً أخرى يحكي لها، وإنما كان يفترض باستمرار –، بخاصة راويه، - جمهوراً يصغي إليه. يبحث الراوي عن مستمع، ولا بد من أن يكون هذا المستمع جمهوراً، لا فرداً، ولهذا نجد الأنا والنحن الراوية تخاطب الأنتم الذين يصغون. وربما لا يعجب المرء لحضور هذه الصيغ، فالقصص فولكلورية، وهي قصص أخذها من أبناء الشعب شفاها وصاغها كتابة. إنها قصص غير بعيدة عن الحكاية، هذه التي تُروى شفاهاً، ويكون فيها، دائماً، طرفان، الذي يقص والذين يصغون. ويبدو أن هذا الأسلوب، أسلوب الحكاية، ظل حاضراً في القصص. فكيف إذا كان الكاتب أديباً شعبياً مهتماً بالأدب الشعبي ويوجه أَدَبَهُ للشعب. ومن الجوانب الأخرى التي تستحق أيضاً دراسة جانب الفكاهة والدعابة والسخرية. حقاً إنّ علي الخليلي أتى على هذا الجانب، ولكني أظن أنه لم يوفه حقه. لقد فسر الخليلي سبب لجوء، القاص إلى هذا الجانب، وأتى على طبيعة زياد وانتمائه، والتشكل الاجتماعي لنسيج المجتمع الفلسطيني، ولكنه اكتفى بثلاثة نماذج، دون أن يخوض كثيراً في قصص أخرى، أو دون أن ينظر، بالتفصيل، في أشكال السخرية في المجموعة. ولعلني هنا أضيف قليلاً إلى ما كتبه الخليلي، ولعل دارساً آخر يضيف إلينا معاً، ويتعمق أكثر مما تعمقنا.

بعض جوانب الفكاهة والدعابة والسخرية:
تحضر الفكاهة والدعابة والسخرية في أدبنا الفلسطيني في نصوص كتاب وشعراء معروفين، وتحضر أيضاً في أدبنا الشعبي الذي تدرج هذه القصص ضمنه، وقد فعل زياد هذا حين نعت قصصه، على الغلاف، بأنها قصص ( فولكلورية ): " حال الدنيا: مجموعة قصص فولكلورية ". وربما يكون هذا هو السبب الذي جعل كثيرين من دارسي القصة ومن المشرفين على إعداد مختارات منها، يستبعدون زياد من عالم القصة، وهم يدرسون القصة القصيرة ويعدونها جنساً أدبياً له ملامحه وخصائصه، وتحديداً القصة المكتوبة بالفصيحة.
تحضر الفكاهة والدعابة والسخرية في نصوص إبراهيم طوقان وفي أعمال إميل حبيبي وكتاباته النثرية. وفي فترة لاحقة كتب نصوصاً ساخرة كلٌّ من محمد علي طه وسلمان ناطور ومحمود درويش وسميح القاسم ورسمي أبو علي، وفي الفترة الأخيرة، فترة الانتفاضة، محمود شقير الذي بدت مجموعته الأخيرة (2004) التي نشر أكثرها على صفحات الكرمل والأيام، قبل أن يجمعها في كتاب، انقلاباً في كتاباته القصصية القصيرة، حيث يحق لنا أن تقول إنه في منحاه الكتابي اتخذ اتجاهاً آخر مختلفاً كلياً عما يكتب.
ولا يخلو الأدب الشعبي من دعابة. ويلحظ هذا من قرأ الأدب الشعبي أو من أصغى إليه في الأفراح التي كانت تقام. إن حواريات الزجالين حول البيضاء والسمراء والفلاحة والمدنية تبعث على الضحك لما فيها من دعابة قلما توجد منها الأدب الفصيح.
ولا تخلو قصص زياد " حال الدنيا " من دعابة وسخرية وتهكم تبعث على الضحك. إنها مبثوثة في أكثر القصص، وقد اتخذت أشكالاً عديدة. تبدو الشخصية، من خلال سلوكها، باعثة على الضحك أو مدعاة للسخرية. وتبدو طريقة نطق الشخصيات ولغتها أحياناً باعثة لذلك، ويمكن قول الشيء نفسه، أحياناً، عن طريقة السرد. ويختار زياد أحياناً كائنات حية، مثل الدجاجة والبقرة والحمار، لتكون أبطالاً ويحاكي سلوكها سلوك البشر الذين يريد أن يسخر القاص منهم. وغالباً ما ينعت هؤلاء بنعوت تعبر عن سخرية وتدعو إلى الضحك، فالحمار ذكي، والضابط يعجب من ذكائه - أي الحمار - ، ولذكائه يغدو شيخ العسكر أيضاً كما سنرى.
تطالع القارئ في قصه " حال الدنيا " شخصيات تميل إلى الفكاهة. يداعب خياط القرية الشيخ الذي يفصل، كل عيد، جبة جديدة ويتلكأ الخياط في إنجازها، ويكاد الشيخ، لهذا، يخرج عن طوره، ويفكر في الاعتداء على الخياط الذي يفاجئ الشيخ بإنجاز الجبة في اللحظة الأخيرة. والخياط، في القصة، ماهر وإنسان صادق، يتميز بالأمانة والنخوة و " كان خفيف الروح والظل بشكل نادر " ولذا تقبلّه أهلُ القرية على علاّته. بل وتقبله الشيخ في النهاية، وذلك على الرغم مما قاله له الخياط، وهو يقارن بين إنجازه الجبة، وخلق الدنيا في ستة أيام. حين يقول الشيخ للخياط إن الله – سبحانه وتعالى – خلق الدنيا في ستة أيام، يجيبه الخياط قائلاً: انظر إلى حال الدنيا كيف هي. ولنقرأ الفقرة التالية:
" سبحانه وتعالى، الذي لك اعتراضات على إرادته في الخلق .. خلق الدنيا وما عليها في ستة أيام، وأما أنت " وأضاف بنبرة قصد أن يستصغر بها شأن الخياط بالنسبة لخالقه – " أنت .. تلا .. ته .. أشهر .. على جبة ..؟ ".
وانفجر الخياط في موجة شديدة من الضحك:
" خلقها " تقول خلقها في ستة أيام ..؟! لقد عجقها عجقاً .. انظر حالك في المرآة يا سيدنا " قال في زهو، ثم أضاف في استخفاف ومرارة - " وانظر.. حال .. الدنيا "(ص14).
وطريقة نطق الشيخ والخياط - وطريقة نقل زيّاد لها في القصة تبدو مختلفة عن بقية أسطر القصة - توضح أن كلا منهما يسخر من الآخر ويتهكم عليه. بل إن استبدال الخياط مفردة عجق بمفردة خلق على قدر كبير من السخرية من حال الدنيا. وتبدو السخرية أيضاً من خلال المقارنة التي تبعث قدراً من المفارقة. حال الدنيا التي خلقها الله لا تسر، فيما حال الجبة التي أنجزها الخياط تبعث على السرور.
يمكن أن نتوقف أمام قصة " عن الباشوات والبكوات والحمير ". وأول ما يبعث على الضحك والسخرية العنوان نفسه الذي يجمع ما بين الباشا والبيك والحمار، ووضع هؤلاء في سلة واحدة.
وإذا ما انتقلنا إلى القصة لاحظنا الراوي يسخر من مجلس السلطان، فالوزراء حين يُسألون من سلطانهم عن عدد الباشوات والبكوات في الدولة لا يعرفون، وربما يذكرنا هذا بالمثل " مثل تنابلة السلطان ".
وحين يريد السلطان معرفة عدد هؤلاء يقترح أن يركب الباشوات البغال والبكوات الحمير، وأن يمروا، من ثم، من أمام شرفة السلطان حتى يحصيهم المسئولون، وهذا ما تم. ولكن السلطان يفاجأ بأعداد غفيرة تسير على أقدامها، وحين يسأل وزراءه عن هؤلاء يكون الجواب: أنهم بكوات يا مولانا. ولكننا لم نجد في البلاد حميراً على عددهم ".
وحين يصغي السلطان إلى الإجابة يحتاج إلى هنيهة حتى يلتقط كلام وزيره ثم " فقس في الضحك. وظل يضحك ويضحك، حتى انقلب على قفاه، وهو يرقص رجليه في الهواء من شدة الضحك. ولم يملك وزراؤه إلا أن يصنعوا مثله " ( ص 134 ).
هنا يضحك السلطان على ما في دولته من تضخم. وربما ما يبعث على الضحك هنا أيضاً، غير الحكاية نفسها، وغير اقتران الباشوات بالبغال والبكوات بالحمير، ربما ما يبعث على الضحك استخدام الراوي بعض المفردات التي تبعث أيضاً على الضحك، مثل مفردة فقس. وكان بإمكان زياد أن يستبدلها بغيرها، إلاّ أنه أراد أن يستخدمها بالذات ليزيد مقدار الضحك، وليضاعفه لدى المتلقي.
غير بعيد عن هذه القصة قصة " كيف أصبح الحمار شيخاً للعسكر ". وهي قصة ربما تذكر بقصة كليلة ودمنة يختصرها المثل: البلد الذي يربط الفأر فيه أبا الحصيني ويحله من وثاقه لا جلوس فيه.
يقرر الدجاجة والبقرة والحمار الرحيل إلى بلد آخر غير الذي يقيمون فيه، لأن الحياة في بلدهم لم تعد تُطاق. وهم يريدون الرحيل إلى بلد أكثر رقياً وتقدماً. وتتسلم الدجاجة والبقرة في المزرعة التي أقامت فيها رسائل من الحمار الذي يواصل طريقه نحو المجد، بعد أن التحق بالعسكرية التي لم يخلق إلا لها ولم تخلق إلا له. كأن الحمار، كما يقول السارد، مثل الحاكم الذي قال فيه الشاعر:
أتته الخلافة منقادة إلـيـه تجرر أذيالهــــا
فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها

هنا نلحظ السارد / الراوي يقرن بين الحمار وبين الحاكم. وفي ذلك سخرية ما بعدها سخرية.
يخبر الحمار الدجاجة والبقرة، في رسالته الأولى، أنه وضع قدمه على الشبر الأول من طريق المجد، وفي الثانية أنه خطا خطوات عديدة في تلك الطريق، وفي الرابعة أنه أبدع مناهج عسكرية جديدة، وحصل على أوسمة كثيرة، وقد ذيل هذه الرسالة باعتذار لأنه كتبها بالدم، بعد أن فرغت قنينة الحبر وكان بجانبه ضابط أسير من الأعداء. وفي الرسالة السادسة يكتب أنه أصبح " شيخ العسكر.
وهنا تقرر الدجاجة والبقرة العودة إلى بلدهما، فالدنيا آخر وقت. ينتهي المقطع الخامس / الأخير من القصة على النحو التالي:
" مؤخرة: أما أن الحمار أصبح شيخاً للعسكر أم لم يصبح، فهذا ما لا نستطيع أن نجزم به لا نحن ولا البقرة والدجاجة. الواقع أنه الذي كتب ذلك في رسالته السادسة. أما من ناحيتنا فنحن نستبعد أن يكون شيخ العسكر حماراً، ونحن لا نقول ذلك، وإنما نقص حكايتنا بناءً على الرسائل التي كتبها هو للبقرة والدجاجة.
ولذلك فإذا كتب إن فيما نقوله أي خطأ أو تَجَنٍ فالحق عليه وحده. وعلى فطنة - لم يكتب هو أن شيخ العسكر أصبح حماراً، وإنما كتب أنه هو الحمار .. أصبح شيخاً للعسكر، وفي هذا، كما ترون، فارق كبير "( ص68 ).
وكما لاحظنا فإن أول ما يبعث على السخرية والضحك هو العنوان نفسه، ولكن هناك أشياء أخرى تبعث على الضحك، منها استبدال مفردات بأخرى، يعرف نقاد القصة أنها تتكون حين تكون قصة تقليدية من بداية ووسط ونهاية، وقد يطلق على النهاية الخاتمة، وزياد هنا لم يفعل هذا، لقد استبدل مفردة مؤخرة بمفردة نهاية. وهذه اللفظة تبعث على الضحك لدى قارئها، ولمفردة مؤخرة مدلولات عديدة. إنها ذات حمولات ساخرة ذات مغزى، فهناك، عندنا، من يتحدث عن مؤخرة ثقافية، وهناك من يردد: طيز بتفكر وعقل بشخ، وهناك مؤخرة الجيش ومقدمته، وهناك مؤخرة الإنسان أيضاً.
أما السخرية فتكمن في أن يغدو الحمارُ شيخاً للعسكر، لا أن يغدو شيخ العسكر حماراً. ربما يستسيغ المرء أن يغدو شيخ العسكر حماراً، ولكنه قد لا يستسيغ أن يغدو الحمار شيخاً للعسكر. وربما ما يحتاج إلى دراسة خاصة، في أثناء قراءة هذه المجموعة، الصورة التي رسمها زياد للحاكم. يبدو هذا في قصة " الشاهدان والمئذنة " تافهاً وسخيفاً ومتسلطاً، ويبدو في قصة " حكاية عن الحياة والموت " غبياً ذا عقل ساذج. وهنا نتوقف أمام قصة " هكذا نحن ".
تجري أحداث هذه القصة في أثناء بداية حكم بريطانيا فلسطين. يجمع الحاكم البريطاني وجوه أهل حيفا، ويطلب منهم أن يفصحوا عن رأيهم في الحكم الجديد واختلافه عن الحكم العثماني الذي ولي. ويمدح هؤلاء بريطانيا ويذمون الأتراك. ويلحظ الحاكم أن بعض الحاضرين آثر الصمت، فيطلب من بشير الحيفاوي الملقب بأبي الميناء، أن يتكلم. ولم يكن هذا مثل بقية الوجهاء الذين يمدحون الحاكم الحالي.
لا يبدي أبو الميناء رأيه مباشرة، ولكنه يقص على الحاكم والحضور قصة جرت في أحراش حيفا ملخصها أن امرأة يحضر لديها فتيان وفتيات حتى يمارسوا الحب معاً. ويأتي، ذات يوم، فتيان آخرون لممارسة الحب مع الفتيات، وهنا تنشأ معركة بين الجهتين، وحين تصرخ بعض الفتيات تخاطبهم المرأة قائلة:
" اخرسي أنت وإياها. فخار يكسر بعضه.. إنهم يقتتلون عليكن .. وأنتن تولولن. ما يهمكن إذا تغلب هؤلاء أو هؤلاء! على كل الحالين .. أنتم من حصة الغالب .. ".
ويضيف أبو الميناء إلى ما قالته المرأة:
" وهكذا نحن يا ســيدي .. في العهد الماضي مركوبون وفي عهدكم مركوبون .. " ( ص 111 ) ويغادر المكان.
وكما يلاحظ فثمة سخرية من وجهاء المدينة الذين يمالئون الحاكم، وثمة سخرية أيضاً من الانتداب.
على أن هذه القصة لا تخلو من قصة أخرى ساخرة. في الأيام الأخيرة للحكم العثماني يعتدي جندي عثماني على العمال فيوسعه أبو الميناء ضرباً، وحين يأتي الجنود لمساعدته ينالون حظهم أيضاً من الضرب. ويعلم الضابط بما ألم بجنوده ويذهب إلى الميناء، وحين يصغي إلى العمال يشتمون الدولة العلية، لم يفعل شيئاً، بل إنه أوجد مبرراً لضرب جنوده. لقد نزل إلى الميناء وجمع العمال، ووسط ابتساماتهم الساخرة أعلن أن الحق على التركي ولولا ذلك لشنق العمال كلهم "(105).
وما قاله ليس سوى رد فعل العاجز الضعيف. ثمة سخرية واضحة من هذه الشخصية التي تدرك أنها غير قادرة على فعل شيء، وحتى تنقذ نفسها من المهانة تلوم ذاتها أو من يدور في فلكها.
ولعل عبارة أبي الميناء " وهكذا نحن يا سيدي .. في العهد الماضي مركوبون وفي عهدكم مركوبون " عبارة تبعث على الضحك لدى القارئ. وهذا سرعان ما يفقس في الضحك كما فَقَسَ السلطان من الضحك وهو يرى البكوات أكثر من الحمير.
وكما ذكرت لا تبدو السخرية من خلال الشخصية وحسب، أو من خلال المفارقة في السلوك، وإنما تبدو أيضاً من خلال طريقة القص، ومن خلال استبدال شخصيات البشر بالحيوانات التي تنعت بما ينعت به البشر. نقرأ في قصة " حال الدنيا ".
" وحسب الاتفاق حضر سيدنا بعد شهر لاستلام الجبة. ولكن تحسبه كان في محله. استلمه الخياط الإبليس، بعينين تومضان في مكر, وهات يا أهلا وسهلاً .. ويا حلاوة ذقنك يا سيدنا .. وضحكة من هنا .. ونكتة من هناك .. وتمليس ذقن سيدنا المحناة .. وقبلة على رأسه .......
وبين تهديدات سيدنا وكلماته الواقفة أقسم الخياط بذقنه - ذقن سيدنا - أو بعدمها، أن سيبر بوعده هذه المرة. ولكن ما لنا ولطول السيرة .. بدأت المرجحة ... " (ص11).
ولعل من يصغي إلى الراوي، وهو يقص، لا يمسك نفسه من الضحك. ثمة ما يبعث على الضحك في طريقة القص وما يصاحبها من حركات، وثمة ما يبعث على الضحك أيضاً من خلال اللغة المستخدمة. وفي القصة نفسها نقرأ عن الشيخ نفسه الذي يلفظ لقب أبي ذر على النحو التالي " أبو در " أو " أبو زر "، ونقرأ تعقيب الراوي على طريقة النطق " أبو در هذا أو أبو زر - على حد سواء هو أقوى الشياطين " ( ص8 ). وهو تعقيب لا يخلو من سخرية.

الخلاصة:
السخرية والتهكم والضحك ملامح بارزة في هذه المجموعة التي لم يلتفت إليها الدارسون قدر التفاتهم إلى رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "(1974). ولعلّ هذه المقالة تعيد الاعتبار إلى " حال الدنيا " وتلفت الأنظار إليها، لعلها تُنصفها كما أنصفت مقالاتٌ ودراسات عديدة رواية حبيبي.

الجمعة 23/4/2004
د. عادل الأسطة

***

5- توفيق زياد والانحياز التام للشعب :

أخفقت أمس في نهاية مداخلتي في المكتبة الوطنية في سردا في رام الله حين تحدثت عن انحياز المرحوم توفيق زياد للشعب ، فقد أتيت على ديوان " عمان في أيلول " ولم أوصل الفكرة جيدا .
يبدو أن الورقة التي وصلتني لأنهي المداخلة بسبب انتهاء الوقت المحدد هي السبب .
أردت أن أقول إن الشاعر انحاز لشعبه الفلسطيني في أحداث أيلول انحيازا شجاعا دون أن يفكر في ربح أو خسارة ولم أقل هذا .
لعلني أوجز المداخلة في مقال الأحد القادم لدفاتر الأيام الفلسطينية .
أمس سألت أم الأمين ؛ زوجة الشاعر ، إن كان أبو الأمين يميل في حياته إلى السخرية والدعابة ، فأجابت :
- أووه .. بالتأكيد .
كانت هذه المعلومة تنقصني أنا الذي لم ألتق بالشاعر لكي أؤكد ما سأذهب إليه وهو :
وحدة المؤلف ونصه .
جل من لا يرتبك !
كان الاحتفال بمناسبة الذكرى التاسعة والعشرين لرحيل الشاعر وتكريم عائلته .
أمس حين عرض علي الصديق معتز السيد أن يقلني معه مساء إلى نابلس تذكرت المرحوم المحامي عدنان أبو ليلى يوم أقلني معه في أثناء العودة من الناصرة في حفل تأبين الشاعر توفيق زياد يوم الأربعين في العام ١٩٩٤ . ليلتها أنفقت الليلة الأولى الوحيدة في معتقل / معسكر جيش إسرائيلي لسفري إلى الناصرة تسللا دون تصريح .

صباح الخير
خربشات عادل الأسطة
٢٤ / ٧ / ٢٠٢٣ .

***

6- " توفيق زياد
محمود لا ينسحب ... الشعب الفلسطيني لا ينسحب :

صحونا في هذا الصباح على أنباء عن استشهاد ثلاثة شبان فلسطينيين في نابلس . حتى اللحظة ما زال هناك غموض فلم تشهر سماعات الجوامع في المدينة الخبر .
يخيل إلي أن لسان حال هؤلاء الشباب هو لسان محمود في قصة توفيق زياد الفولكلورية " محمود لا ينسحب " .
كان محمود شجاعا وذا ملامح رجولية منذ طفولته ، عمل حدادا إلى جانب أبيه ، ثم فضل الجندية ، ففيها يحقق ذاته .
ينجز محمود في الجندية ويصبح راميا ماهرا ويستحق الترقية ، وعندما تجتمع لجنة من الضباط لمنحه الرتبة توجه إليه العديد من الأسئلة لترى موقفه منها ولترقيه عن جدارة :
" - إذا كنت تحمي مع عدد من رجالك جسرا من الجسور وهاجمك العدو ، فماذا تفعل ؟
- أقاوم يا حضرة العقيد .. !؟
- حسنا .. وإذا كان العدو أكثر عددا ، فماذا تفعل ؟
- أقاوم يا حضرة العقيد .!
- ولكن لو افترضنا لا سمح الله أن كل الجنود الذين معك قتلوا ، وبقيت وحدك ، وتكاثر العدو عليك ، فماذا تفعل ؟
- أقاوم يا حضرة العقيد !
- ولكن لنفترض أنه لا فائدة من المقاومة ، وأن العدو سيحتل الجسر حتما وعلى جثتك ، فماذا تفعل ؟
- أقاوم يا حضرة العقيد ؟!
- أقاوم .. أقاوم .. هذا غير محتمل .. أنت ساقط ، ولا يمكن أن ترقى إلى ضابط .. في هذه الحالة عليك أن تنسحب ..
ويبدو أن محمود شعر بإهانة عميقة فنبر في غضب هذه المرة :
- ساقط .. ساقط .. لكن محمود ما بنسحب .
قال ذلك وهو يستدير ويغادر المكان " .
كان الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي تمر ذكرى استشهاده ال ٧٥ هذا الشهر ، كان قال :
شعب تمرس بالصعاب
فلم تنل منه الصعاب .
ما أشبه الواقع بالقصة الفولكلورية .
هل يمكن نعت توفيق زياد بأنه كاتب الشعب الفلسطيني ؟
هل في هذه الكتابة تورية ؟
لست أدري !!
صباح الخير
خربشات عادل الاسطة
٢٥ / ٧ / ٢٠٢٣ .

***

7- توفيق زياد : وحدة المؤلف وأدبه :

أعدت في الأسبوعين الأخيرين قراءة أعمال توفيق زياد الأدبية لألقي مداخلة في الذكرى ٢٩ لرحيله وتكريم عائلته بهذه المناسبة .
أثارت لدي إعادة القراءة أسئلة عديدة مثل :
- هل قام أحد دارسي شعره بدراسة إحصائية لمفردة " الشعب " ؟ وهل حاول أن يقدم لنا تفسيرا لهذا التكرار ؟ وهل قدم لنا أوصاف هذا الشعب التي أسبغها الشاعر عليه ؟ وهل وردت المفردة دائما بمدلولها الإيجابي أم أنه أحيانا كان يسخر منها ؟ وهل استخدمها في ديوانه الأخير " أنا من هذي المدينة " أم استبدل بها لفظة أخرى ؟
إن كان دارس ما ، أجاب عن الأسئلة فإن كتابتي هذه لا أهمية لها ولا فائدة منها سوى التذكير بها ، وإن لم يثرها أي دارس من قبل فهي تفتح بابا جديدا لدراسة شعر الشاعر .
ولأنني أردت أن أتحدث عن مجموعته القصصية الفولكلورية " حال الدنيا " التي كتبت شخصيا عنها مطولا ، فقد ربطتها بشعره وحياته وخلصت إلى أن زياد يمكن أن يدرس وأدبه اعتمادا على المنهج الوضعي الذي يربط بين المؤلف ونصه انطلاقا من مقولة " وحدة المؤلف ونصه " وعدم الفصل بينهما ، آخذا بمقولة ( هيوبوليت تين ) : " كما تكون الشجرة يكون ثمرها " ، فلا يمكن لنبتة الباذنجان أن تثمر إجاصا .
وعموما يمكن إيجاز خصائص مجموعة " حال الدنيا " بالآتي :
الميل إلى الفكاهة والسخرية والدعابة ، والبساطة والوضوح وسهولة الفهم ، والتوجه إلى الشعب والانحياز إليه والتغني بمآثره وبطولاته وتضحياته والانتقاص من المستعمرين الظالمين ، أتراكا كانوا أم إنجليزا أم إقطاعيين أو أفندية .
هذه الخصائص دفعتني لأن أنظر في شخصية زياد نفسه . ولأنني لم ألتق به فلم أكن متأكدا إن كان في حياته ميالا إلى الدعابة والمرح والسخرية والفكاهة ، وأما موقفه السياسي وانحيازه للشعب ودفاعه عنه فلا يخفى على أحد .
ما إن التقيت ، في الحفل ، بزوجته أم الأمين ، بحضور القائمين على الحفل ، حتى سألتها عن خصاله إن كان منها الميل إلى الدعابة والسخرية والفكاهة والمرح ، فأجابت :
- أووه ... بالتأكيد .
ولقد شجعتني إجابتها على الذهاب إلى ما أردت الذهاب إليه ، وهو عدم الفصل بين زياد وأدبه ، وعزز هذا لدي الآتي :
انحياز الكاتب إلى شعبه في حياته وشعره ، والسخرية من المستعمر والمحتل والإقطاعيين والمالكين ، وشجاعته وجرأته في التعبير عن مواقفه ، وتوقفت أمام الآتي :
- إن كتابته الأدب الشعبي ، تغنيا ببطولات الشعب وانحيازه إليه ، عبر عنها أيضا في شعره ، إذ أن دال الشعب تكرر فيه تكرارا لافتا ، فلم يقل في مجموعة " أشد على أيديكم " عن أربعين مرة في ٣٧ قصيدة ، وإنه ظل يتكرر في مجموعاته اللاحقة ، وإن استبدل دال ناس بدال الشعب في مجموعته الأخيرة " أنا من هذي المدينة "، ربما بسبب الأحداث التي شهدتها أوروبا الشرقية في تلك الأيام ، وإنه دافع عن الشعوب وتغنى بثوراتها ووقف إلى جانبها ، ولم يسخر من هذا الدال إلا حين يستعمله اليهود زاعمين أنهم " شعب الله المختار " .
- إن النماذج الشعبية التي كتب عنها في شعره " سرحان والماسورة " ، وفي قصصه " حال الدنيا " و " محمود لا ينسحب " و " هكذا نحن " و " عن الباشوات والباكوات والحمير " تعبر روحها عن روحه وسلوكها عن سلوكه .
تبدو روح الخياط في " حال الدنيا " روحا مرحة تميل إلى الدعابة والفكاهة والمزاح . إنه يداعب الشيخ ويمازحه فيؤخر مواعيد تسليم الجبة حتى يكاد الشيخ يفقد أعصابه .
وتبدو الرجولة على محمود " في محمود لا ينسحب " منذ طفولته وتغلب عليه روح المسؤولية وحين ينضم إلى الجندية يكون جنديا موضع فخر فيتقرر ترقيته إلى رتبة ضابط ، ويجرى له امتحان يصر فيه على مواقفه المتمثلة بالشجاعة وروح التضحية والمقاومة حتى الرمق الأخير ، رافضا الانسحاب ، حتى لو ققد حياته .
ويبدو أبو الميناء في " هكذا نحن " فلسطينيا لا ينافق ولا يداهن ولا يتملق ، فحين يطلب الحاكم البريطاني رأيه في حكم الإنجليز ، إزاء حكم الأتراك ، يقص عليه قصة العبرة منها أننا مركوبون في زمنهم ومركوبون في زمنكم ، ويترك الحاكم والمنافقين مغادرا الاجتماع . إنه شجاع والشجاعة في اتخاذ الموقف هي ما بدا في مواقف زياد نفسه في الكنيست وفي موقفه من أحداث أيلول ١٩٧٠ ، حين انحاز لشعبه الفلسطيني .
أما القصة الأخيرة فروح السخرية فيها أوضح ما تكون . تتضخم أعداد الباشوات والباكوات في الدولة حتى لتصعب معرفة أعدادهم للحاكم نفسه ، ولكي يعرف فإنه يطلب من وزيره أن يحضر الباشوات على البغال والباكوات على الحمير ، ويفاجأ الحاكم أن هناك أعدادا كثيرة من البشر لا يركبون البغال والحمير ، فيسأل وزيره عنهم ، ويفقس من الضحك حين يعرف أن عددهم أكبر من عدد الحمير في دولته .
تغنى زياد في شعره بالشعب الفلسطيني والشعوب العربية والعالمية المظلومة واهتم بالأدب الشعبي وكتب القصص الفولكلورية وظل حتى أيامه الأخيرة مخلصا لشعبه يدافع عنه ، ما يجعلني مطمئنا حين أذهب إلى أن ثمة وحدة بينه وبين أدبه ؛ أدبه يعبر قناعاته وحياته وممارساته تجسيد لتلك القناعات ، ولعل قول الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود :
" شعب تمرس بالصعاب فلم تنل منه الصعاب " ينطبق أيضا على توفيق زياد .
الاثنين والخميس ٢٤ و ٢٧ / ٧ / ٢٠٢٣ .
عادل الاسطة
Adel Osta
( مقال الأحد ٣٠ / ٧ / ٢٠٢٣ في جريدة الأيام الفلسطينية )

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى