حيدر الناصري - جَنَائِنيّ في مُتنزِّهات ويلز

في حديقة (ويلز) النباتيّة الوطنيّة، وتحديدا في دفيئة بيت النخيل، تسمّر قصيّ البصريّ الوافد من إحدى قرى الفاو، وبيده منشار جنزيريّ، أمام نخلة وصل سعفها إلى ملامسة زجاج السقف، لكنّها لم تصل بعد إلى مجدها المطلق!

اعتمر خوذة الوقاية، وتحزّم بعدّة التسلّق، بعدها لبس قفّازين خشنين وباعد بين ساقي السلّم، وهمّ يرتقي السلّم ليقطع من طولها؛ كونها أصبحت تهديدا للدفيئة، فأعاد هذا المشهد في نفس قصيّ مواقف أليمة مرّ بها قبل سنوات بعيدة جدّا لا يعرف عددها، حين وقف مذهولا لا يحرّك ساكنا أمام مجزرة النخيل في بستان جدّه، بعد أن طال قصفُ مدفعيّة العدوّ قرى الفاو، وتكرّر المشهد ثانيا، يوم جرّف الجيش البساتين بحجّة تمرّد مُلّاكها على الحكومة، وتكرّر ثالثا، بعد أن خرّب المالكون ما تبقّى من البساتين؛ لتكون صالحة لبناء المساكن. كلّ هذه المشاهد هزّت روح قصيّ، لتتساقط عليه الجراحات والآلام والأسى:

"إنه لأمر مخيف أن أقطع جزءا من هذه النخلة الرائعة، قلبي ينفطر".

ثمّة هاتف خفيّ يلحّ في داخله، لكنّه يخاف أن يسأل النخلة:

"لِمَ أنتِ هنا؟!"؛ فتخزه النخلة بجوابها الحادّ: "هنا حيوات تمّ خداعها"



حياة قصيّ، أشبه بحياة هذه النخلة المتشبّثة بتربة غريبة تجهلها، فما عسى أن يفعل مشارف على الغرق غير التعلّق بأي لوح وإن كان هزيلا.



هذا البيت المشيّد من الحديد المطاوع الأبيض والزجاج الخفيف والخشب عجيب أمره؛ في داخله مَن نسي جذوره، ونسي سماء كانت تحرص على تعديل مزاجه. كيف لهذا البيت أن يوهم سكّانه وينسيهم ترابهم وحنينهم إلى موئلهم ويروّض اغترابهم، ما سرّه!، مكان، لا تشبه أجواءه حفلات التنكّر؛ فالنخيل والأشجار والأزهار والزنابق والأوركيدات والصبّار والبامبو والسرخس، كلّها ترتدي جلودها ووجوهها الحقيقيّة، لكن في المكان المخادع!

يرفع قصيّ رأسه نحو الأعلى، وبكلّ سهولة ودون تردّد يحكم ويبوح لنفسه:

"هذه الشمس، المتلألئة المتدفّقة من خلال السقوف الزجاجيّة للدفيئة هي شمسٌ غريبة، وهذا الدفءُ دفءٌ مصطنع، باهت، لا روح فيه"

هذا الائتلاف المجدول بأيادٍ قاسية محيّر هنا، يجثم على روح قصيّ كحجر خشن ثقيل، يحبس أنفاسه ويعاظم عليه أساه؛ فهو غريب، يتنقّل منذ سنوات بين متنزّهات إمارة (ويلز)، (وليز) التي تعني: الغرباء، فتنتهي به الحال في آخر المطاف إلى هذا البيت الزجاجيّ بسقفه المسنّم، الذي يتراءى من بعيد كلّ صباح كأنه حدبة جمل لألاءة، يحمي القاطنين تحته من سموات الإمارة الرماديّة الملبّدة بالسحب والغيوم، لينضمّ وتكتمل قيامة غربته مع باقي الأغراب من الأشجار والنخيل والنباتات والأزهار المنهوبة من كلّ أراضي العالم.

في تلك الليلة العصيبة، فرّ قصيّ من الدفيئة، كطير أخطأته رصاصة بندقية حاذقة، لكنّ صوتها المدوّي تخزّن في قلبه رغم هشاشته. رمى المنشار دون مبالاة في مخزن أغراض البستنة، وأكمل مسيره على الممشى الممهّد بالحصى إلى بيت الجنائنيّين الملاصق لجدار الحديقة الوطنيّة الصخريّ، وهو يحدّث نفسه:

"ياللحظ التعس؛ أوّل مهمّة أكلّف بها قطع رأس نخلة في عزّ جمالها وشموخها وهيبتها، هذه المهمّة تليق بمجرّف بليد غليظ القلب، لا بجنائنيّ مثلي"...

أطفأ أنوار حجرته، وألقى بنفسه على السرير، حتى أنه نسي أن يخلع بدلته النديّة برذاذ الماء الراشح من رشّاشات المواسير، والمشبّع قماشها بخليط شائه من روائح الأوراق والزهور والثمار، وروائح الأرواث المجلوبة من إسطبلات الخيول الملكيّة وزرائب الأبقار في (باكنغهام).

الدخول في صومعة النوم، كان مهمّة شاقّة لديه، وكلّ محاولاته في دوزنة روحه المضطربة الهائجة فشلت؛ ما مآل النخلة؟، سيحزّ غيره رأسها بكلّ برود، ما مآل تمرّده وتقاعسه عن تنفيذ الأمر؟، سيطردونه دون أي تردّد، ما مآل سقف بيت الزجاج المهدّد بالكسر؟، سينجو بكلّ تأكيد بدل النخلة، كلّ هذه الأسئلة والأجوبة دارت فوق رأسه كأجنحة مروحة السقف، تنفث في روحه هواءها الملتهب الخانق.



بعد أيّام قليلة، اخمترت طينة أفكاره، و بزغت منها فكرة كان يحسب أنها ماتت واندرست منذ استقرراه في الإمارة، تاركا خلفه أرضه الصغيرة الجرداء العصيّة على الحياة... ألقى بنظرة مثقلة بالأسى على جذع النخلة المسجّى خارج الدفيئة، وعلى الموجودين داخل الدفيئة نظرةَ الوداع الأخيرة وغادر، حاملا على كتفه الأيمن، حقيبة جلد صغيرة في داخلها حفنة من نوى النخل، هي آخر ما تبقّى منها في خزائن بنك البذور الخاصة بالحديقة الوطنيّة.

المسافة بين المملكة المتّحدة والبصرة (4090كم)، كلّ هذه الأراضي الشاسعة بثلوجها الكثيفة، وصخورها القاسية، وبحارها المالحة، ومفازاتها وسباخهها، زرعها قصيّ بالأحلام والأمنيات الآمال، وسقاها بماء الرجاء والحظّ... العودة إلى أرضه وانتشالها من فكوك الموت، أشبه بمَن يرمى حجرًا صغيرًا في بئر عميقة معتمة لا قرارة لها، ويظلّ يرهف السمع منتظرا ردّ الحجر بأنه لامس برودة المياه...

في الأخير، ردّت الأرض جوابها على قصيّ بعد محاولات كثيرة فاشلة؛ بزغت صِغار النخل، ووصلت حدّ أن تتزيّن جدائلها بالتمور العسليّة، لكن البلاغ الذي وصله من الشرطة، أحرق كيانه وأحاله إلى رماد، بأن يخلي المكان؛ كون فرق التنقيب، عثرت على حقل نفط كبير، تطفو فوقه أطلال قريته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى