كاظم مجبل الخطيب - العدالة.. قصة قصيرة (2-2)

حين وصولها العاصمة لم تفكر بالذهاب الى منزلها الذي اشترتهُ في مكان ٍ راقي وبتوكيل الى اختها المتبقية لها من عائلتها لان محمود كان بانتظارها وهي هنا من اجلهِ وهو ربما تغيرت ملامحهُ والشيب رسم لهُ هالةً من الوقار ولكن بين خصلاتهِ هموم من العوز والفاقة وخذلان الاقربين وندرة الاصدقاء وسط قلب متعب مرهق تعرّض للازمات والنوبات مع تعاظم الغدة الدرقية السامة وعيون ارهقت بالماء الابيض تعاونها النظارات عند القراءة والكتابة .لم يكن لدى محمود منهج وطموح لامتلاك المال وهو يعتبرهُ وسيلة لتمشية امور حياتهِ وليس غايةً يسعى اليها جاهداً وقاصداً رغم ان الكثير من معارفهِ تبدلت دنياهم حين اقبلت عليهم فربما لم تلتفت دنياهُ اليهِ وما اقبلت وربما هو لم يشأ الذهاب اليها .

الآن هو مع ماجدة وكأنها هي دنياهُ الحقيقية التي لم يكتم حبها يوما ً وان ْ هي كتمت حبهُ ولم تذعهُ في مجتمعٍ شرقيّ محافظ ٍ ويبدو ان مجتمع الغرب اتاح لها فرصة العمر لتكشف سرّها الدفين وهو السبب المباشر لانفصالها عن زوجها بعد اطلاعهِ على اتصالاتها وحواراتها الليلية المطولة مع محمود وهي في بلاد الغربة وبعد توصلها الى قناعات كبيرة بعدم الاستمرار بخداع الرجل فقلبها وروحها مشغولة بغيرهِ ،وما استطاع زوجها ان يمحو تاريخها وماضيها ،كما ان الاموال ما استطاعت ان تمنحها الحب الذي افتقدتهُ في غفلةٍ من الزمن لان محمود لم يكن مؤهلاً للفوز بها بسبب فقرهِ.

هما يجلسان الان وبينهما قدحا الشاي ولكنهما هذه المرة ساخنان كحديثهما :

-ماجدة سنترك الحديث عن الماضي فهو يؤلمنا

-اكيد محمود فالمستقبل سنصنعهُ بأرادتنا وكما قلتَ لي فأن العام الحادي بعد الخمسين يعدلُ عشرة اعوام من عمرنا الذي مضى

-ههههههههه،امازلتِ تذكرينها ؟قلتها قبل عامين ؟

-طبعاً اذكرها لانكَ جعلتَ منها ثقافةً اشعتها بين القراء ولاقت قبولاً كبيراً

-لم يبقَ امامنا غير تتويج صبرنا بأقامة زواجنا في مملكة حبنا الخالد

-كل التحضيرات مهيئة ولا ينقصنا سوى الانتقال الى بيت الزوجية

-انتظريني فقط بضعة ايام لتهيئة نفسي ،وعليَّ تقديم طلب اجازة للدائرة ،كما عليَّ ترتيب اوضاعي مع العائلة

-خذ وقتكَ وانا ساشتري بعض الحاجيات

محمود لم يعلم سرّهُ احدٌ غير ابنتهِ الكبرى آمال وكثيرا ما كانت قريبة من اوجاعهِ وحتى بمكنونات قصائدهِ فهي قارئتهُ الاولى والى حدٍّ كبير عارفة بحالهِ منذ اتّخذها صديقة لهُ .آمال حصلت على بكالوريوس الرياضيات وابوها ايضا مطّلعٌ على خفاياها ،ظلّ الامر سرّاً طي الكتمان لكنهُ حدّثها ذات ليلةٍ :

-آمال

-نعم بابا

-هي هنا في بغداد

-من ماجدة؟

-نعم ولابدَّ لي ان اعيش حياتي بعد موتي طويلاً

-تتزوجها اذن

-انتِ هنا وسنقول اني في ايفاد عملٍ الى لبنان

-كن بخير بابا ،اعتنِ بنفسكَ

هناك في دار ماجدة امتلأ المكان حباً وعشقاً وشعراً باجتماع الزوجين ،حتى النسائم تعطرت بشذا حبهما والسماء ترقبُ حفل عرسٍ تصفّقُ لهُ الملائكة ،الارض من تحتهما اثمرت رطباً بطعم علاقتهما العظيمة ،عندما حلَّ المساء في ليلة ٍ قمريةٍ تراقصت النجوم ابتهاجا بالفرح القادم ،فأعظم الحب ان يتوّجهُ جسدان طاهران يعلنانهُ بأذان مدوٍّ لأداء صلاتهِ في حضرة ملكوت السماء .التقت شفتاهما والرضاب امتزج بينهما وتداخلت انفاسهما حدّ التماهي ولكن القبلة لم تستطع خلع اردية الخجل وهي الترجمة الاولى للغة الحب فبقيَ الجسدان ظامئين دون فناء احدهما بالاخر .حاول محمود استرجاع قوتهِ ونشاطهِ فأذا هو يزداد بروداً وتراجعاً وماجدة يتّقدُ فيها الشوق والحرارة والاندفاع .

لم تتفاجأ ماجدة بما وجدتهُ لدى محمود فقالت :

-لا عليكَ هي الدهشة ُ والذهول وربما الخجل والحياء فأنت تنظر لجسد المرأة كياناً مقدّساً اليس كذلك؟

-نعم هو هكذا بالنسبة لي

-انتظر ساعة اخرى وستجمع افكارك لتهيئة نشاطكَ المعتاد وربما افضل مما كنت عليهِ

-اكيد ……….اكيد

الحياة التي عاشتها ماجدة في مدن الغرب جعلتها مطّلعةً على تفاصيل كثيرة تخصّ العلاقات الزوجية دون حرج في سماعها او قراءتها ولاغرابة ان تحمل معها ما يسعد هذه العلاقة من وسائل المنشطات والمقويات لتمنح الرجل الفاعلية والقوة ليعيش متعة مع من يحب وهي تعيشها ايضاً .

بعد انقضاء ساعة من ليلة عرسهما تقوم ماجدة بعمل قدحين من الشاي فتضع في قدح محمود قرصاً منشطاً يعمل بعد مرور ربع ساعة من تناولهِ ،ما فعلتهُ دون علمٍ منهُ بقصد توفير السعادة لهُ دون ان تشعرهُ بالفشل امامها وتمسّ رجولتهَ ،بعد نصف ساعة يذهبان الى مخدعهما ومحمود باعصاب متوهجة ومتلهفة واعضاء ساخنة اشتعلت الدماء فيهاولا تحتمل الانتظار ليلتقي الجسدان فيتحولان الى كيان ملتهبٍ فتروى ماجدة اطهر ماءٍ من فرات محمود ولكن هذا النهر توقف تدفّقهُ بعد برهة ليصير صحراء بعد خلوّهِ من نبض الحياة ليعلن موت محمود بين احضان حبيبتهِ المقدسة فلم تعد تسمع نبضات قلبهِ بعد ان فارق الحياة .

مات محمود وسط شعور ماجدة بالتجنّي عليهِ بذنبٍ لا يغتفر بانها هي التي قتلتهُ ولا يشفع لها ما تبرّرهُ لنفسها بانها ارادت لهُ الحياة التي يتمنّاها وتتمنّاها ،فلولا ذلك القرص المشؤوم لما فقدت محمود وانْ كانت امام الاخرين بريئة فهي امام نفسها قاتلة مع سبق الاصرار وليس بمقدور احدٍ ان يجد لها عذراً لجريمتها ما دام ضميرها يؤنّبها ليل نهار ،وحتى لو اذاعت سرّها فلا خلاص لها من عذاباتها ،ثمّ ما قيمة وجودها وبقائها بغير محمود وهو دنياها التي حلمت بها وضحّت من اجلها ،فبرحيلهِ لا معنى لوجودها .

ولكي تريح محمود وتريح نفسها تباشر في احدى الليالي وبعد مرور ايام على موتهِ بأطلاق النار على نفسها معتقدةً انّ بموتها تتحقّق العدالة .



كاظم مجبل الخطيب – الحلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى