طيبة فاهم ابراهيم - مناجاتي وربي...

في قلبي سيماء تدلّ عليّ لا يخطئها بصر من يحببنني ، هي أوّل ما يبدو منّي ويبرز من ملامحي، تلخّص دهراً من العشق الالهي والتهجّد والدموع والخشوع والعبادة والتوبة والاستغفار والمجاهدة ومحاسبة النفس، لقد بقيت الصلاة قرّةَ عيني وغايةَ مهجتي، فيها جلاء قلبي وصفاء روحي وسكينة نفسي. ظل قلبي معلَّقاً باللّه لا يغفو عنه طرفة عينٍ ولا يطيق فراقَه، وكان مهيَّئاً دائماً لاستقبال فيضه النوراني. كانت تحملني ريحُ العشق الالهي إلى ذراه العالية، أستشرفُ منها عالم الملكوت أوقات أكتنزها من بطن الزمن، يكتنفني فيها إحساسٌ غامرٌ لا يصفه بيان، وينعقد دونه اللسان، وتتمرّد فيه الكلمات على الشفاه...
لقد حاولتُ عبثاً أن أخترق هذا النور الساطع الذي يفجّر كلّ شيء، أو أن أكون جزءاً منه، أو ذرّة من هذا اللُّجَيْن الذي يتلألأ كأنّه كوكب درّي. بحيرات من البلور الصافي تملأ الأفق المفتوح، ناعمةً تكاد من ذراها تترقرق نهراً مشعشعة بالنور، مرايا لا يرى المرء فيها وجهه فحسب ، بل يرى الأكوان والأزمان، ومواكب العصور والدهور.
توقفتُ عن الكتابة حينما ربتت امي على كتفي، وهي تسال : ما بال دمعك يكاد يترقرق على خديك مثل طفلة بريئة؟ ، طمأنتها ان لاشي، فكل امرأة تكاد تبكي وهي تتذكر صويحباتها، او موقفا مؤلما لطفل او منظرا محزنا، ربتت على كتفي وقالت لي : لا بأس يا بنيتي، الدمع قوة للمرأة لانه عنوان للرحمه، وفي العطف والرحمة تكمن عظمتها وقدرتها على صنع الحياة ..
باشرت اتمم كتابتي : لقد وقع علي ظلم يا ربي العظيم، الظلم وقد كتبت على نفسك ان تنصف المظلوم، كتبت على نفسك الرحمة
وها أنذا أحرم بعد شهور من العناء من المشاركة في دورة لطالما اجهدت نفسي للمشاركة فيها، كنت آمل ان اقف في هذه الساحة اللألاءة لأدهش الجميع بلعبي وثمرة جهودي، واذا بي اقف مبهوتة يملؤني شعورٌ طاغ بالحسرة والأسى، لأنّي لست اتقرب لاحد بغير لعبي ومهارتي، فاحفر لنفسي موضعا حقيقيا في عالم البطولة والمجد.
ولا غرو، فلربما كان من شأن ذلك الجمال الروحي الخالص، ذلك المشهد الملكوتي السرمدي أن يورثني عُقلةً في اللسان يقف أمامها العارفون مكتوفي الأيدي،
إنّ كثيراً من الأمور التي قد تخطر على قلوب البشر يتعذّر وصفها. فكيف بأمرٍ لا سبيل إلى خطوره على القلب، ولا هو من عالمه، وتتجلّى لي في لحظات الإشراق بهاء نورك لتنصرني بما لم يقم ببالِ أحد، فمن رام التعبير عن قدرتك فقد رام مستحيلاً..
إنّ ذلك كلّه كان استغرق منّي لحظات قليلة، ثم عادت حواسي، فصحوت من حالي تلك التي تكون في شبيهة بالمنام . ولاح لي العالم المحسوس كأنّه مرآة صدئة قد ران عليها الخَبَث. لقد اخترق قلبي الان هذا الجمالُ الإلهي الذي كنتُ أشاهده، وأعادني إلى الفطرة التي خلقني اللَّه عليها، وولج بي إلى الطبيعة البكر من خلال أفق مفتوح على عالم الملكوت ، بكلِّ ما فيه من خشوعٍ ودموعٍ وتبتلٍ واستغراق القلب بذكر اللَّه وإفراغه من كل ما سواه، كنت أحدثه وحده سبحانه، لم اسمع رنين هاتفي من صويحباتي، لم آبه لمن طرقن الباب من صديقات شقيقتي وجاراتي وهن قاصدات لامي، كنت وهبت نفسي، فكري، روحي، عمري كله لله وحده وانا اناجيه مناجاة التي ظلمت دون داع، ولم يبق لها غير الطريق السالك اللَّه تعالى وحده...
صليت ركعتين وسجدت له، يا لضعفي أمامه ويا لرهبتي منه، طرق مسامعي وهواجسي صوت ينبعث من داخلي، أن كفاك حزنا، فالطريق طويل وانت لم تزلي عند ريحانة شبابك، تزدادين قوة وتزدانين خبرة، ومن فاته اليوم أمر فلسوف يفوز به غدا..
احسست بالاختناق من الجدران والستائر التي تتلفع بين طياتها المباهج، قررت ترك الدار والتوجه للنادي، شعرت بهاتف من داخلي يناديني ان دعي العزلة، اي نعم اني في النهاية انسانة تحزن وتفرح، تثور وتهدا، تبكي وتضحك، تعتزل وتلجأ للوحدة، لكنني لابد ان أعود الى الحياة، فهي لا تقف على حادث ولا تتكور على ظلم.
ما ان دخلت النادي، حتى تأبطت ذراعي صديقتي اللاعبة ايمان، وقالت لي وهي تمزح : طيوب، تستحقين الخنق حقا، عندها فترت شفتاي عن بسمة وسألتها عن السبب فأجابت : المدرب اقام الدنيا ولم يقعدها، وهاتفك الجوال مغلق منذ يومين وانت غائبة، وللتو كنت ساتجه نحو دارك، فهلا أخبرتنا ما حدا بك؟؟
اجبتها ان لا شي، مجرد مرض عابر ثم اصطحبتها من يديها واتجهنا صوب المدرب عرفان الذي ما أن رآني حتى تهللت أساريره وكاد ان يطير فرحا، اطمأن علي ثم بادرني بالقول: - انت فارسة النادي ولن ينقذ الموقف سواك
-اي موقف استاذنا؟
-قلت لك انت الفارسة، ولن يلوي الحديد سوى الحديد
-لم افهم
-قدمت الى بغداد الملاكمة والمصارعة نازدار، تلك التي تسمى جبل الشمال، ورفضت جميع الملاكمات لقاءها، فلا يقف أمامها سواك انت طيوب، انها ليست ممن يرمي المدرب المنشفة انقاذا للاعبة من لكماتك المذيبة، انها من صنف آخر
-نعم فهمت، لها اربع أياد وستة أقدام
-وتتخذين الامر طرافة؟ هي لاعبة خطرة
-واقعا يا استاذي ان كلمة خطرة نستخدمها كثيرا دون معنى، هي امراة مثلي، لاعبة مثلي، لن تقتلني بلكماتها ولن استنجد باحد عند مواجهتها، وان معي من سيأخذ بيدي للنصر..
-تقصدين الجمهور؟ صديقاتك؟؟
-كلا، الله وحده خالقي وخالقك وخالق الكون كله...
دهش المدرب من كلماتي، وحين اتجهت صوب اجهزة التمارين، لاحقتني صديقتي ايمان التي اكدت قول مدربي، وان الامر صعب لان النزال سوف يجري يوم غد، واللاعبة على عجل من أمرها، فهي تريد ان تصرع بطلات بغداد لتسافر لبطولة خارجية.
لم ابدِ اي اهتمام للحدث، واخبرت صاحبتي اني مستعدة للعب هذه الساعة، ولا تخيفني نازدار ولو احضرت شقيقاتها معها لملاكمتي...
ضحكنا وتناسيت احزاني وبدات اذوب في الحديد واهرول واجري التمارين والمدرب يشجعني حتى طلب مني الكف عن اي جهد، واخذ قسط من الراحة استعدادا ليوم الغد.
حين حل الصباح، كنت فرحة حد الغبطة، فأنا بحاجة الى نصر جديد اعزز به انتصاراتي، لم ازل احتفظ ببطولة العراق، فأية بطلة تلك التي تريد انتزاعه مني بيسر؟
ارتقيت الحلبه ووقفت خصمتي نازدار قبالتي، كانت طويلة وتتفوق علي وزنا بعض الشيء، نظراتها كانها ترسل شواظا من نار، ووجهها مكفهر، اقتربت مني ولم تتفوه بغير كلمة واحدة : ساحطمك..
تبسمت وابتدا النزال بعد ان نبهها الحكم بضرورة ضبط الاعصاب، اما انا فكنت اتعامل معها ببرود، لكنه برود جبل الثلج الذي يهشم السفن لو ارتطمت به.
وجهت نحو فكي ضربة تجنبتها، وأخرى مؤلمة تحملتها، وبتّ احاول سحب اللعب نحو الحبال لغاية في نفسي، همست بالقول :
يا معين، ووجهت نحو فكها لكمة مستقيمة فلم اجدها أمامي، نظرت بانتباه صوبها، واذا بها ومن قوة اللكمة قد ارتمت خارج الحبال مغمى عليها تماما، عد لها الحكم، الا ان مدربها والسيدة المرافقة لها رفضوا ان تنهض وتكمل المباراة، فبطلتهم قُذفت من الحبال نحو الارض، ولا يمكن ان تتم مباراة بعد هذه اللكمة.
حين رفع الحكم يدي للفوز، همس اني وجهت لها زلزالا وليست لكمة، وحين هبطت من الحلبة طوقتني صديقاتي وتلقيت منهن عشرات القبل تهنئة بالفوز، واشار لي المدرب ان انتظر، فاخذتني صويحباتي وهن يقمن بترويح الهواء لي، وجلب اقداح الماء والعصائر تعويضا للجهد..
قدم نحوي المدرب وهو شبه باك من الفرح، واخبرني اني قد احتفظت بلقب بطلة العراق، وسوف أكون بديلة للخاسرة في المشاركة بالبطولة العالمية... يالرحمة الله ويا لعظمته وجلاله، كل شي جرى بسرعة الضوء وانا جزعة يائس مبغضة للحياة.
عدت لداري وسجدت لله شكرا وقد عانقتني امي وشقيقتي، لقد كانت روحي بحبّ اللَّه سكرى، وبتنسّمِ نفحاته نشوى. وكلّ غايتي إنما كانت أن يتحقق وجودي في الوصول إلى اللَّه وأن أحظى برضاه . فلا حق ولا خير ولا جمال. كلاّ، ولا محبوب إلاّ اللّه، وكل ما عداه سبحانه أثر من أثاره، وعطر من طيب جوده، وذرّة من خزائن قدرته، ولمعة من أنوار حضرته.
تاهت العقول في بحار جلاله، وحارت الأذهان في لألاء جماله. احتجب عن الأبصار وهو الظاهر في وضوح آثاره، وتجلّى للأفهام وهو الباطن في خفايا حكمته وأسرار كماله. وإنْ مِنْ شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده يلهج بذكره.

قصة للبطلة طيبة فاهم ابراهيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى