إبراهيم محمد عامر - الخاتم..

خديجة يتيمة في العشرين، تدرس في سنتها الأخيرة بالجامعة، وتعمل في محل لبيع الاكسسوارات تساهم براتبها منه في مصاريف البيت إلى جانب معاش أبيها الميت، كل يوم بعد أن تنتهي من محاضراتها في الجامعة بالجيزة، تركب الأتوبيس للحاق بعملها في المحل الواقع بشارع قصر النيل.
تدخل وهي تلهث من التعب، تستلم المفتاح من صاحب المحل، رجل في الأربعين يملك أكثر من محل في المنطقة المشهورة، ويختار هذا المحل ليقيم فيه طول النهار، ويعتز به كونه كما يردد كثيرا: فاتحة خير عليه وعلى أولاده.
يودعها بعد أن يسألها إذا كانت تحتاج شيئا، تشكره هامسة دون أن تنظر له، يستقل "الموتوسيكل" الذي يركنه أمام البوابة، يذهب ليطمئن على سير العمل في بقية المحلات.
تجلس لحظات تستريح فيها من تعب الطريق ثم تقوم تنظف البضاعة المعروضة، تعيد تنظيم طريقة عرضها، تقف حينا، تعود للجلوس حينا، تطلب من أحد العمال في المحلات المجاورة أن يشتري لها الغداء، بين الوقت والآخر يزور المحل زبائن فتقف لتعرض بضاعتها وتبيع ما يختارونه منها ثم تضع النقود في الدرج وتعود لتتأمل الطريق والناس.
ليست على حظ من الجمال الذي تمتاز به من هن في مثل سنها، بل أن نصيبها منه قليل فهي سمراء طويلة نحيلة للغاية جاحظة العينين ذات وجه طويل ينبئ عن حدة المزاج والغضب، ولولا أن أباها كان صديقا لصاحب المحل لما وافق على تشغيلها، كان يطلب منها دائما أن تبتسم في وجه الزبائن فالابتسامة والقبول أساس كل بائع شاطر، توعده أن تفعل ذلك، تبتسم بالفعل في وجه كل زبون غير أنها تحس بابتسامتها لا تخرج رائقة كما يتمنى صاحب المحل فتحمد الله أنه لا يجلس معها في المحل كثيرا.
وحدث أن جلست ذات يوم بعد الغروب داخل المحل حين جاءت شابة مع رفيقها يتفحصان الاكسسوارات في الفاترينة.
قامت إلى الزبونين، ابتسمت لهما ابتسامتها المضطربة، قالت الفتاة:
- من فضلك، أريد هذا الخاتم؟
بهتت للحظة ثم ابتسمت لها وقالت:
- ذوقك ممتاز.
ومضت تردد للشابة الجمل التي اعتادت تردديها للزبائن مثل: أن الخاتم ورد المحل حديثا وانه بالفعل جميل المظهر وسيليق جدا على إصبعها، لكن كان الحزن يملأ قلبها فهذا الخاتم بالتحديد لاقى إعجابها منذ احضره صاحب المحل أول الأسبوع وقررت أن تشتريه أول الشهر الجديد بعد أن تقبض راتبها منه، اخبرته بذلك لكنه طلب منها أن تعرضه في الفاترينة، وألا تحجبه عن الزبائن.
تناولته الشابة وهي تبتسم بدورها، ارتدته، هتفت لحبيبها:
- أنظر، إنه جميلا جدا.
ابتسم الشاب ابتسامة عذبة، رفع أصبعها إلى شفتيه، قبله أمام مرآي خديجة التي وجدت في نفسها غيرة من الفتاة.
سألها:
- كم ثمنه؟
لم تجب، ظلت تنظر إلى الفتاة لحظة وقد تدلت يد الشاب اليسرى على كتفها وامسكت بكفه في حنان، والخاتم يلمع في إصبعها.
كان ثمن الخاتم مائة وخمسين جنيها، لكنها قالت بعين مبرقة:
- مائتان جنيها.
نظر الشاب في حسرة إليها، بهت وجه الفتاة أيضا، كان ثمن الخاتم أغلى مما توقعا سويا!
قالت الفتاة في حزن:
- إلا يمكن للسعر أن ينزل قليلا؟
وجدت نفسها ترد في قسوة:
- لا.
انتبهت لحدتها في الرد فاستدركت:
- مكسبنا عشرين جنيها فقط لا يمكن لسعره أن ينزل ولو قرشا واحدا.
بدا على وجه الحبيبين التعاسة، مدت الفتاة يدها لتخلع من أصبعها الخاتم الذي حلا في عينين خديجة أكثر واكثر، وأحست بالشماتة نحو الفتاة التي وجدت لها حبيبا يشتري لها ما تريد، بينما هي – لحظها التعس – غارقة في الكآبة والوحدة طوال الوقت.
تدخل الشاب وقال:
- لا.. لا تخلعي الخاتم.
ثم نظر إلى خديجة وقال:
- أوافق على السعر.
اعترضت الفتاة:
- يمكننا توفير ثمنه لشيء آخر.
وضع يده على رأسها، قربها منه، وقال:
- لا شيء أهم من سعادتك.
كاد قلب خديجة أن يطق من الغل، مدت يدها في قسوة لتأخذ ثمن الخاتم من الشاب، عدته أمامهما، سمعته يقول لفتاته:
- هل أنت سعيدة؟
ردت بصوت فرح:
- سعادتي أكبر بوجودك في حياتي.
مضيا من أمامها، بينما اتجهت نحو المكتب لتضع النقود في الدرج بخطوات بطيئة بها كثير من التردد.
وفجأة!
التفتت للخلف وتوجهت نحو باب المحل، وهتفت على الشاب والفتاة بصوت عال، رجعا في دهشة، وجدت نفسها تقول:
- اعذراني، كنت قد نسيت، يمكنني أن أمنحكما تخفيضا كونكما من زبائن المحل لأول مرة، يمكنكما أخذ الخاتم بسعر مائة جنيها فقط!
تهلل وجه الفتاة والشاب.
عادت للمكتب تأخذ من درجه المبلغ الباقي، دفعته إلى الشاب الذي قال لها:
- أشكرك.
بينما قالت الفتاة ضاحكة:
- يمكننا الآن أن نذهب للسينما.
ضحك هو أيضا فرحا وهتف:
- بالطبع.
تأملتهما وهما يبتعدان متعانقين فرحين، ثم عادت لتضع من جيبها الخمسين جنيها الباقية من ثمن الخاتم في الدرج، قبل أن تعود وتجلس تعد الساعات الطوال حتى تغلق المحل، وتعود إلى بيتها في وحشة الليل وحدها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى