سمير لوبه - يوم قابلت نجلاء فتحي

ما أن دقت الساعة السادسة صباحا حتى هرعت أسرع في أداء طقوسي اليومية استعدادا للذهاب للعمل . فقد وصلني بالأمس إخطار بالندب في إحدى مدارس قرى ضواحي مدينتي الساحلية ، ولزاما علي أن أسرع كي أتمكن من الوصول مع بداية اليوم ؛ ركبت إلى محطة مصر، وهناك لم أستغرق سوى دقائق حتى عثرت على الميكروباص الخاص بهذه القرية . مضت دقائق حتى بدأ التحرك ، وعلى الطريق الدائري يدلف بنا السائق بعد نهاية الكوبري ليستلم طريقا ضيقة يعلو جانبيها ركام ردم من مخلفات أبنية مهدمة ينبت من خلاله البوص . تعج الطريق بكلاب ضالة منها الأجرب ومنها من سلم من الجرب ، وإذ فجأة تطرق فتحات أنفي بعنف وبغير استئذان رائحة نتن لا تطاق . ألتفت حولي ؛ فترصد عيني لافتة مكتوب عليها ( مصنع السماد العضوي) ؛ توالت الدعوات على لساني أن يسرع السائق حتى تختفي تلك الروائح النتنة ، ولما انقضت الدقائق بدأت الرائحة تخف فاستلم السائق طريقا مزدوجة بالكاد تستوعب سيارتين متقابلتين إن سهوت وأسندت ذراعك على حافة النافذة تصدمها السيارة المقابلة . عن يمين الطريق أرض زراعية وعن يسارها مصرف ، ومن محاسن تلك الطريق أنك تداوم فيها على نطق الشهادة ، وفي نهايتها تدلف السيارة بنا إلى طريق تتسع قليلا على جانبيها حقول تليها خرابات ثم بيوت تحتها مقاهي ومحلات من كل صنف . قد حفر أوسطها من أجل تركيب مواسير الغاز بغية تطوير القرية ، ولكنهم بعد أن ردموها تجاهلوا رصفها مما يجعل أحشاءك لا تستقر في مكانها لاهتزازات الميكروباص، وعندما وصلت غادرت الميكروباص أتحسس جسدي لأتأكد أن كل أعضائي في مكانها مستقرة ، وعلى يمين الطريق مصرف متاخم لسور المدرسة التي انتدبت لها لسد العجز في المعلمين بعد توقف التعيين لسنوات طويلة والزيادة السكانية التي أدت إلى كثافة التلاميذ . في حين تقل أعداد المدرسين كل عام ، ومن الباب دخلت لأحضر الطابور الذي به حوالي ثلاثة آلاف طالب وما لا يتعدى العشرين معلما بين مدرس وإداري ، وانصرفنا للفصول للعمل - بنى ومناول - تتنقل من فصل لفصل كل حصة لسد العجز، ويضرب جرس الفسحة فلم أغادر الطابق العلوي الذي كنت فيه ؛ مخافة أن يسقط تلميذ ، وفي الفناء يلهو الثلاثة آلاف فيعلو الغبار؛ يحجب الرؤية فترى التلاميذ كأنهم أشباح بين الضباب ، وإذا بعيني تسقط على تلميذ يضع كيس شيبسي فارغ في كفه ويمسك بفأر ميت من ذيله يطارد به أقرانه . بح صوتي وأنا أناديه لأنهاه عن ذلك فمن يسمعني ؟ هرولت لأسفل فإذا بالسيرك الذي نصبه قد انفض وذاب في طوفان التلاميذ ، وكانت عن يساري الحنفيات التي لا تزيد عن عشر حنفيات لا أكثر لهذا الجيش العرمرم من التلاميذ ، وقد أخذ بعضهم يثقب زجاجته البلاستيكية ليستخدمها كمدفع مياه في وجه أقرانه. بينما يفتح بعضهم أغطية زجاجاتهم ليرش بالماء من يرشه. انتهى وقت الفسحة بحمد الله دون حوادث ، وعلى السلالم تصعد التلاميذ منهكين فمنهم من يلوك طعامه ببطء ، ومنهم من يلتهم بقية كيس الشيبسي بنهم وشراهة ، ويمسح فمه بكفه أو كم قميصه ، وفي الفصول هذه المرة رائحة مصنع السماد العضوي تعود مضاعفة ، وسرعان ما أدركت السر ؛ فأغلب التلاميذ ينزعون أحذيتهم مكتفين بالجوارب التي امتزج عرق القدم فيها بماء الحنفيات مع ارتفاع الحرارة فإذا بي قد عدت لأشم رائحة مصنع السماد العضوي ، وفي نهاية اليوم نصطف جميعا لضمان خروج التلاميذ في سلام فقابلت معلمة خائرة القوى فقلت لها :
- تخيلي . أول يوم لي في الندب واشتغلت أربع حصص متتالية في نفس الفصل .
فأجابتني بصوت بح بالكاد تبينته :
- يا بختك . فصل واحد . أنا قضيت اليوم مع فصلين . أشرح هنا شوية وأجري على الفصل الثاني أشرح شوية . مش باين عليا ؟
فإذا بتلميذ صغير ينزل السلالم بالجورب دون حذاء . على ما يبدو أنه ممن خلعوا حذاءهم من بعد الفسحة ، وقد نساه في الفصل عند الانصراف ؛ فناديت مشرف اليوم لأنبهه ، وقد كان واقفا يتابع انصراف التلاميذ وفوقه بانر كبير فيه صورة العالم المصري أحمد زويل مكتوب تحت الصورة « رسالتنا صناعة جيل قادر على التفكير والإبداع » .
أما عن نجلاء فتحي فهو اسم المعلمة التي كانت تشرح لفصلين في آن واحد .

سمير لوبه
من المجموعة القصصية ليه يا بنفسج




تعليقات

أعلى