حمزة بلحاج صالح - في فقهنا السياسي ومقولات الأكثرية والأغلبية وإرادة الأمة والحاكمية الإلهية

يتأرجح فقهنا و فكرنا السياسي بين مقولات تراثية بعضها متجاوز و أخرى من التجارب الغربية لها سياقها و تعتبر نشازا بالنسبة لسياقنا الحضاري

فليس كل ما عندنا في تراثنا مقدس و وحي و لا كل ما عند غيرنا غير قابل للنقد و التقويم و مرفوض جملة و تفصيلا

عندما نتناول بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالحكم والسياسة (الإمامة والسياسة) ينبغي أن لا نقيسها بأحد العقول في تقابل ضدي وهما العقل التراثي والعقل الغربي

أو بالتبسيط والإختزال والإنطباعية والتبعيض والقفز على السياقات وتصنيم الموروث أو تراث الاخر وتقديس الإجتهاد البشري ورفعه إلى درجة الوحي

إن موضوع الشورى يرتبط بقضايا عديدة وبدراسة لميكانيزماتها وكيفية إشتغالها في النموذج التطبيقي التاريخي الإسلامي البشري من بداية ميلاده إلى إخفاقاته إلى تحوله إلى حكم وراثي...الخ

و هو يرتبط أيضا بما دون وشاع في تراثنا على قلته وضعفه وندرته وقلة جودته مما نجده في الفكر السياسي الإسلامي وما سمي بالسياسة الشرعية

فقد تغلب ما يسمي بفقه العبادات على الفقه السياسي والدستوري والإداري الذي بقي باهتا أو شبه معدوم أو لم يصلنا

و من ثمة ضرورة إنفتاح العقل القياسي حتى يستقيم قياسه ومقارنته وتحيينه على التجارب الإنسانية رغم تعثراتها وانزلاقاتها بما لها وما عليها بخصوص التجربة الديمقراطية والديمقراطية التشاركية ودور البرلمانات والمجالس المنتخبة والنقابات وصهاريج الافكارو الجمعيات والمنظمات غير الحكومية وقارتي الاعلام والمعلوماتية والمجتمع المدني ودوره...الخ

فهي لا تتوقف على مراجعة لالياتها وأسسها ونقائصها وعوراتها وأعني التجربة الديمقراطية

عنوان نفكر في ونفكر ب عنوان يشمل كل مفاصل الحياة بل التفكير في اللامفكر فيه وبه أيضا بات موضوع نقاش وهي مقولة يتسرع بعض الناس في حكمهم على من يذكرها وتصنيفه أركونيا أو مستلبا بالمفهوم السلبي وهذا من أفعال العقل التصنيفي للأسف الذي يعيق عن التقدم. والمقولة تتعدى أركون انظر مثلا كلود لوفور وغيره

نفكر الاسلام نفكر العالم نفكر الحداثة نفكر السياسة نفكر الإلحاد نفكر العقل نفكر ظاهرة الخيانة والجين والايطيقا والموت والحياة نفكر التربية نفكرالعالم الإسلامي والعربي والغربي وأوروبا ..الخ..بل نفكر كل شيء

...penser ..penser le monde ..penser l'avenir ..penser l'europe ..penser l'islam ..penser soi méme ..penser l'autre

و نحن للأسف كل شيء مقدس يسترجع من غير تفكير ونقد وتحليل ومراجعة

على العقل العربي الاسلامي أن يكتشف الاخر ويقيس تلك الفوارق الكبرى التي توقظ وتصدم العقل العربي والاسلامي الذي يتحدث عن الشورى بصورة فضفاضة وهلامية في مخابىء التراث دون إلتفاتة إلى المنجز الغربي المختلف

يجر تراثا فيه من المفاسد بلغة الفقه كما فيه من المحاسن التي يقدر حسنها في سياق معين ومحدد

ينبغي أن نتلمس ونبحث بعمق وذكاء ووافر إطلاع على الذات و الاخر في كل ما يرتبط بموضوع الشورى والأكثرية من تراث وصلنا

مع إنحسار مقولات إرادة الأمة و الأمة مصدر السلطات واتساع مقولة الله مصدر السلطات والتي تختصر في فهوم البعض في إرادة الله و الحاكمية الإلهية موضوعان مثيران للقلق قلقا لا يحسمه ببساطة هكذا للأسف إلا من كان بلغة القدامى عارية على الدين والفقه والتراث ومنجز الإنسانية في حين يهجر هذه الثغرة المجددون المقتدرون من النخب القليلة وهي ثغرة متروكة عارية

لا يقرأ التراث من سمة وصفة كينونته المزايدات وبنيته النفسية نزاعة للإنغلاق والحسم المتعجل البسيط السطحي ومن كان عقله مشفرا يتقبح على الناس تكفيرا وتفسيقا وتتفيها ويجزم ويحسم في وثوقية ويقين مفتخرا بذلك طاردا ورافضا كل شك وتردد وسؤال

ولا يقرأ التراث من لم يفهموا التراث بإستنارة أو الذين إختزلوه وتعاطوا معه بعقل إنطباعي قياسي فقهي يقفز على السياقات التاريخية او عقل هجين ملفق بعنوان التثاقف

ويفرض علينا إستهلاك ما انتهت صلاحيته في سياق محدد ويلومنا بما ليس من مقولة الديني بل من مقولة فهم الديني والمطلق وهو دنيوي محايث خالص يمكن مراجعته أو تركه

ومن خلال مبدأ الحاكمية الإلهية الذي إنزلقت فهوم الناس إليه ننزلق نحو فهوم كهنوتية تمنح مبررات لمن يتهمون الإسلام بالثيوقراطية ويشرع للدولة الثيوقراطية بامتياز مختصرا الاسلام في ايات الحكم وعلى رأسها من لم يحكم بما انزل الله .. قرآن

إن الأكثرية والأغلبية ليست مشكلة صواب وخطأ أو مشكلة الحقيقة بل قيمة أساسية تطبع الأداء السياسي الدنيوي وتحميه من الإستبداد والتفرد بالحكم باسم الدين أو التاريخ أو العلم ولا يجب أن نتعدى هذا الإعتبار

إن إحترام مبدأ الأكثرية يصون حماة الثوابت اليوم وغيرهم ويطمئن العالم والناس أيضا ويرفع عن تيار الأصالة والدين تهمة أنهم يستخدمون الديمقراطية لينقلبوا عليها ويمارسوا بعدئذ مقولاتهم التراثية التي يؤمنون بها لبسط تفردهم واستبدادهم

كما أن موضوع احترام الأكثرية يعلم الناس كيف أن للمدرسة دور هام وللجامعة دور مهم وللمؤسسات التثقيفية والدينية دور لا يقلل من قيمته في بناء الوعي الجمعي وصناعة العقل والسلوك الحر والمستقل والإرتقاء بالكسب والفهم والوعي

و يجعل المجتمع يتقن ويحسن اختيار ممثليه الذين يشكلون هيئة الشورى عبر اللجان التقنية أولا التي تفحص الاراء عبر الخبرة ثم الهيئة العامة ثانية بحيث تتقلص احتمالات الخطأ والرأي الفاسد بما يمنع التفرد بالرأي والإستبداد تحت أي مبرر كان

ينبغي التمييز بين الرأي التقني العلمي الدقيق المتعلق بعلوم المخابر وهندسة الطرقات والراي العلمي الإسلامي والإنساني وغيرهما.. الخ وبين الشأن المتعلق بالحكم وإدارته والشأن العام

بل بات من مقتضيات الديمقراطية الصحيحة والياتها وأذرعها ما يسمى بالتنمية المستدامة او الدائمة وكذلك من بين اليات وأدوات اشتغالها العمل الجواري او المقاربة الجوارية التي تحولت الى هرف أي ثرثرة على المنابر للأسف وشعارات فضفاضة تنمق خطاب الباحثين والسياسيين والحكام عندنا وهي تقليد عملي في الحكامة والحكم عند غيرنا ومنها استشارة الناس عامة حول الخيارات الممكنة في كل ما يتعلق بالمشاريع الهامة التي تخدمهم وتمثل أولوياتهم

و هو شكل من الاقتراب من الناس واشراكهم في القرار وهذا من الاجراءات التي اضيفت لترافق الممارسة الديمقراطية او التشاركية حتى تتقلص الهوة بينهم وبين الناس والمجتمعات لعزوفهم عن السياسي وهذا موضوع اخر

عند إستجماع هذه الشروط يمكن ربما الجهر بأن رأي الأكثرية البرلمانية التي تعكس حقا إرادة الاكثرية إن إفترضنا فساده هو أهم من رأي صالح أتى به فرد متفرد لا نراه إلا يشق الطريق نحو الإستبداد

لا مكان للرأي الفردي ولو صدر عن كبير علماء القوم في نظرهم ومن شيوخهم وكبار المختصين فهو رأي مكانه الكتب وحلقات النقاش ومخابر البحث والجامعات تعود إليه النخب ويعتمد عليه في المؤسسات المعنية ويعبر من خلال قنوات التفكير والتخطيط وصناعة المشاريع من أحزاب وجمعيات وكل من يتنافسون في معركة التمثيل النزيهة أو تلك المخولة لتمثيل الشعب ونخبه والتكفل بالمهمة التشريعية والمنبثقة حقا عن إرادة الشعب الفعلية

أما الذين لم يتمكنوا من الوعي بالسياق وأهميته ويفكرون خارج التاريخ تفكيرا أسطوريا فعليهم أن يدركوا بأن المعرفة كما يقول جورج غورفيتش لها أطر إجتماعية - معرفية وكما يقول غيره لها زمن ثقافي ولحظة ثقافية

كثير من الفكر التراثي القديم هو إجتهاد مرتبط بالسياق لا يعلو فوق النقد العلمي المفكك لبطاناته السياسية والايديولوجية محررا لدلالاته في السياق متجاوزا إياه لضرورات اللحظة الراهنة

فلا نمكث مكاننا نستدعي اليات قديمة توفر اليوم ما هو أفضل منها بل علينا أن نشجبها ونستوعبها في إطار رؤية جديدة تمنحها محمولا أخلاقيا ومقاصديا وحضاريا مناسبا ومحينا أو نتجاوزها كلا أو بعضا

لم يعد اليوم يجدي نفعا اللجوء إلى مقولات أهل الحل والربط والإستمرار في النقاش حول هل الشورى ملزمة أم معلمة وهل رأي الأكثرية أم رأي الأقلية وهل دولة الإسلام تقوم على الحاكمية الإلهية وهل مقولة الأمة مصدر السلطات تنافي قيم الإسلام ومقاصده الكبرى ومقولة الديمقراطية كالية أو ميكانيزم وتقنية مجردة من علمانيتها الصلبة المعادية للدين هي خطر بليغ على الأمة الإسلامية أو هي كفر بواح

لم يعد ممكنا الإنزياح بنقاشات قديمة غير مجدية اليوم نفعا بدل تطوير فقه سياسي جاد وعميق وراهني قائم على طرح عميق وقوي يستوعب التجارب الإنسانية ويتجاوزها نحو بديل قوي يغري العالم والإنسانية

نعم لأننا مطالبون بحكم عالمية الرسالة أن نخاطب الناس لعلهم يغنوننا عن ذوينا الذين ينقلون لنا تراثا بشريا تتجلى لا راهنيته وتخلف مقولاته عن اللحظة الراهنة لا يتوقفون عن تكرار مقولة لا يصلح اخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وكم في هذه المقولة من مخابىء للجهل المقدس

إن الأكثرية والأقلية مقولتان ترتبطان بموضوعات كثيرة رئيسة لابد أن نعود إليها وكذلك أيضا مقولة طبيعة الدولة والحكم في الإسلام ومقولات الجبر والإختيار والحق ومدى سلطان الدولة في تقييده (عنوان لمبحث أصولي تقليدي علمي صاحبه فتحي الدريني) لكن بتوسع وطرح مختلف مغاير يشمل كل قضايا الحق والعنف الرمزي واحتكار الدولة للعنف ومقولة مجتمع اللادولة على نحو ما ذهب إليه بيار كلاستر وهي حالة أوغلنا فيها بل يضاف إليها مجتمع اللامجتمع . ..الخ

إن الأكثرية والأقلية ليست مهمة العقل الانطباعي التأملي اللاعلمي الذي يفتش فقط في التراث عن حلول لواقعه أو في الغرب وحده عن حلول لراهننا ولحظتنا

فليس هذا من مقتضيات الاستخلاف الحضاري بمفهومه الإسلامي - الكوني

ذلك أن العقل الانطباعي التأملي عقل سطحي تبعيضي ينتزع الواقعة التاريخية من سياقها ويمنحها القدسية ويريد أن يجعلها من ملهمات عقله وهو يهربها تهريبا من فضاء إشكالي لأمة قد خلت ويحتثها من سياقها

هل تراني أقفز على كل التراث كلا أبدا بل أمنحه وظيفته وحجمه الحقيقي الذي لا يحوله إلى مطلق إلهي بل إلى مرتكز خبراتي بشري في فهم النص للاستئناس والقراءة والتحليل والنقد والتجاوز والأخذ منه بيقظة والترك منه بفهم رفيع وتبرير وعلم متنوع ووافر



إن العقل التجزيئي والتبعيضي والانطباعي والتأملي والتراثي والاغترابي وغيرها كلها استلابات بالمعنى السلبي والهييمني لا تسعفنا اليوم



**

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى