سمير لوبه - عربة الحنطور

على كورنيشِ البحرِ ينظر " عادل " إلى الأفقِ ؛ ربَّما يلمحُ بصيصاً من نورٍ، تتراكمُ السحبُ ، تتزاحمُ الذكرياتُ في مخيلته ، وإذْ فجأةً يخترقُ أسماعه إيقاعُ مقادم حِصانٍ يتهادى في رشاقةٍ يجرُّ عربةَ حنطورِ قادم نحوه في تلك الساعةِ المتأخرةِ م- ن الليلِ ، تحدثه نفسه :
• ربَّما النزهةُ بالحنطورِ هي ما أحتاجُه في تلك الأمسيةِ الباردةِ .
يشيرُ عادل للسائق تتوقفُ العربةُ ، وما أن جلس حتى انتابه شعورٌ تأنسُ له روحه وكأنَّه قدْ عاد به الزمن للماضي الجميلِ ، معطفٌ ذو أكتافٍ عاليةٍ يحوي داخلَه جسداً نحيلاً لرجلٍ تلفُّ رأسَه عمامةٌ ، يستديرُ إليَّ متسائلا :
• إلي أين يا باشا ؟
• كما أنت على الكورنيش
ينكفئ السائق إلى عربتِه لا تبدو عليه من علاماتِ الحياةِ سوى هزاتٍ خفيفةٍ ناجمةً عن هِزةِ العربةِ ، يحلقُ عادل بخياله في الزمنِ الجميلِ ، فإذا بجلبةٍ تجذبُه بعنفٍ من طياتِ الخيالِ ؛ صبيٌ يافعٌ تنشقُ عنه الأرضُ قادمٌ من الظلامِ ، يتشبثُ بالعربةِ ، يجلسُ إلى جوارِ الرجلِ ؛ يتهامسان ينتبهُ الصبي لعادل ، يرمقُه بعينين زائغتين تعلوهما الريبةُ ، يهمسُ للسائق فيستديرَ بأناةٍ لعادل تبرقُ عيناه الجاحظتان ؛ ينتاب عادل الارتيابُ ويشعرُ أنَّ تدبيرٌ ما يتمُّ بينهما ؛ يرهف السمع ؛ ربَّما فسر كلامهما ، يتبادرُ إلى مسامعه بضعةُ ألفاظٍ متفرقةٍ " ... قد نبهتُك.. خذ حذرَك ..." .
يقفزُ الصبي من العربة يبتلعُه الظلامُ ، لكنَّ ضحكاتَه تتطايرُ إلى الفضاءِ المظلمِ يهزُّ صداها رأس عادل ؛ يتملكُه القلقُ ، وفجأةً تلمسُ كفه كفاً بارداً بجواره ، يشعرُ بأنفاسٍ حارةٍ على خده ، يحاولُ أن يقهرَ خوفه، و بصوتٍ متهدجٍ :
• هنا من فضلِك
• حاضر
يصل عادل لمنزله يبيتُ ليلته لا يستطيعُ أن ينسى ما حدث ، يحاول أن يلقيه بعيداً ليطويَه النسيانُ ، ولكنَّه يأبى إلَّا العودةَ ليقتحمَ تفكيره الذي يلحُّ عليه إلحاحاً أن يعرفَ سر السائق والصبي ، وفي الليلةِ التاليةِ وكانت الأمطار قدْ توقفت لتوِها في حين تشتدُ الرياحُ ، يذهب عادل إلى موقفِ عرباتِ الحنطورِ ؛ ربَّما وجدهما ، يخلو الموقفُ من أي أثرٍ للحياةِ ؛ الصمتُ يطبقُ على المكانِ ، عرباتُ الحنطورِ مصطفةً الواحدةَ تلو الأخرى ، يمشي بجوارها على مَهلٍ ؛ يبحث عن الرجلِ ، فإذا بوقعِ أقدامٍ خلفه ، يديرُ رأسه فلا يجدُ سوى فراغ ، وما أن اعتدل حتى التصق وجهِه بالصبي نفسه تلمع عيناه المتحجرتين في وجهه ؛ ترتسمُ على وجهِه ابتسامةٌ قلقةٌ تشعرُ عادل بعدم الارتياح .. يبادرُه
• حنطور يا أستاذ ؟
باضطرابٍ يجيب عادل :
• نعمْ
• تفضلْ
وما أن انطلقت بهما العربة حتى حكى له عادل ما حدث بالأمسِ ، وسأله عن السائق الذي ركب معه ، ووصفه له ، يستديرُ الصبي اليافع إليه وقد عقد ما بينَ حاجبيه تبدو على وجهِه علاماتُ الدهشةِ :
• فعلاً تلك الصفاتُ تنطبقُ تماماً على والدي ، لكنَّه قد مات في عربتِه أثرَ حادثِ تصادمٍ منذ عدةِ أعوامٍ ، أما عن الأمسِ فقدْ عدت لبيتي مبكراً ، ولم أعملْ في تلك الليلةِ التي تتحدثُ عنها ، ربَّما اختلط عليك الأمرُ .
• ربَّما
يُدهش عادل ما يسمعه ، يحدث نفسه
• مع من ركبت بالأمسِ إذنْ ؟! ربَّما يُخَيلُ إليَّ أو اختلط عليَّ صورةُ الصبي ؟!
فجأةً تسقطُ على كفه قطرةُ دماءٍ ، وما أن تيقن منها حتى اختفت ، يشعرُ عادل بذات الأنفاسٍ الحارةٍ على خده ، و سقطت قطرةُ دمٍ أخرى على كفه ثم اختفت ؛ يرتعدُ جسده يتملكُه الرعبُ ؛ يهم بالنزولِ ، وبصوتٍ مرتعشٍ :
• من فضلِك قف هُنا
يسير عادل قليلاً ، يلتفت خلفه مراراً ، فيلمح عربةَ الحنطورِ وقد غابت في الأفقِ .. تمرُّ الأيامُ لا يستطيعُ تجاوزَ تلك اللحظاتِ المريعةِ ، ليجد نفسه وقد ساقته أقدامه ذاتَ ليلةٍ إلى موقفِ عرباتِ الحنطورِ ، فإذا به خالياً من العرباتِ إلَّا من حطام عربةٍ على الرصيف يعلوها غبارُ السنين والإهمالِ ، لم يرها من قبلِ ، يركنُ إليها رجلٌ بائسٌ يفترشُ الأرضَ في ثيابٍ رثةٍ ، يقتربُ منه فإذا به الرجلِ نفسِه الذي ركب معه أول مرة ، وقد بدت واضحةً عليه شيخوخةُ الجسدِ والروحِ ، يحاولُ التحدثَ إليه فيجدُه زاهلاً عن الواقعِ يرمقُه بنظراتٍ حزينةٍ ، يعرفُ منه بالكادِ أنَّه صاحبُ ذلك الحطام ، ينصرفُ عادل في حيرةٍ من أمره ، وإذْ فجأةً يخترقُ مسامعه إيقاعُ مقادم حِصانٍ يتهادى في رشاقةٍ ، يجرُّ عربةَ حنطورٍ قادمةً نحوه يتوجه لسائقها متسائلاً عن ذلك الصبي اليافعِ الذي ركب معه ، تبدو على السائق علاماتُ الاستغرابِ ، ينظرُ إلى العربةِ المحطمةِ بشفقةٍ يخالطُها الحزنُ مجيباً :
• تلك عربةُ والدِه ، فقد مات الصبي منذ عدةِ أعوامٍ في العربةِ أثرَ حادثٍ مريعٍ ، ولم يتحملْ والدُه الذي وجدناه بعدها بأيامٍ ميتاً بجوارِ حطامِ عربةِ الحنطورِ .
يستدير عادل مندهشاً ، فلا يرى سوى الحطام .

سمير لوبه
من المجموعة القصصية كواليس




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى