حسن مظفر الرزو - الجنون قراءة أولية لدلالته في المجتمع الإسلامي

1. مقدمة:
ينطوي استخدام مصطلح الجنون لدى غير المتخصصين على قدر من الخلط والغموض. فيتساوى عند العامة هذا الاصطلاح مع جملة من الأمراض العقلية، وهو خطأ شائع، لأن الجنون كلمة أشد عموماً وينضوي تحتها جملة من الحالات التي تنحرف عن المألوف في اتجاه مرضي أو غير مقبول من قبل المجتمع.
على أن هذا الموقف من الجنون لا يتصف بدقة موضوعية، لأن الحكم يستند إلى تعريف الحالة السوية، بينما لازالت هذه التعريفات نسبية وترتبط بعوامل متداخلة كالزمن، والحضارة، والثقافة.
كذلك فإن دراسة الجنون خلال حقبة زمنية ما، تعكس جوانب هامة من الحياة الثقافية والاجتماعية لمجتمع ما، وموقف المجتمع متباين من هذه الظاهرة التي استأثرت باهتمام الإنسان منذ بداية التأريخ، وحركت في مخيلته سلسلة من الأفكار والفرضيات لتفسيرها.
ومن أجل أن ندرس هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي فقد حاولنا أن نوجز السيرة التاريخية لهذا الاصطلاح عبر حقبة زمنية امتدت على بعد زمني يصل إلى عشرة قرون من التأريخ الإسلامي. وقد عمدنا إلى تقسيم هذه الفترة إلى ثلاث حقب تجمع شتات أحداثها الاصطلاحات السائدة حول ماهية الجنون ، وموقف المجتمع منه ، وقد أثمر هذا الأمر عن انجلاء صورة واضحة المعالم لهذه الظاهرة ، مع بروز تطور واضح في دلالة الاصطلاحات عبر هذه الحقب انعكست بدورها على الموقف الذي تبناه المجتمع منه.
إن سلامة المورد الذي بدأت به الشريعة الإسلامية في عهد رسول الله (ص) قد أقصت عن المجتمع الإسلامي الكثير من الأمراض النفسية التي تنشب عن عدم توافق المرء مع مجتمعه فاقتصر اصطلاح الجنون على مساحة محدودة شملت المرضى العقليين الذين قد ابتلوا بهذا المرض. بالمقابل ومع تقادم الزمن وبعد الأحداث عن نقطة الشروع في العهد المحمدي بدأت الأمراض النفسية تتسلل إلى مجرى الحياة اليومية، فظهرت جملة من أعراض عدم التوافق والتنابذ بين المرء ومجتمعه فزادت مساحة المعاني الاصطلاحية للجنون، فدخلت تحت رايته زمر جديدة في كل حقبة، فتعددت الحالات التي بات المجتمع يطلق عليها هذه الصفة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولم يقتصر الجنون على المرضى العقليين ولكنه شمل طبقات جديدة ومتنوعة.
2. الجنون في ميداني اللغة والاصطلاح:
اشتقت كلمة الجنون من الفعل الثلاثي " جنن " والذي يحمل بين طياته أكثر من معنى لغوي واصطلاحي فقولك : جن الشيء ، يجنه ، جناً : أي ستره ، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك ، وسمي " الجن " بهذا الاسم لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار . ويقال : جن الليل، وجنونه ، وجنانه ، عندما يشار إلى شدة ظلمته وأدلهمامه لأن اختلاط ظلامه قد ستر ما فيه عن الأبصار([1]) ، قال الله تعالى ( فلما جنّ الليل رأى كوكباً ) ـ الآية([2]).
والجنن ـ بالفتح ـ هو القبر لستره الميت ، ويطلق على الكفن لنفس المعنى ، والجنين يطلق على الولد في البطن لأنه مستور([3]).
ويطلق الجنون على كل أمر يدل على المكاثرة ، وعظم الأمر ، بحيث يثير عجب ناظره. قال الفراء : جنت الأرض ، ومررت على أرض هادرة متجننة ، وهي الأرض التي تهال من عشبها لذهابه كل مذهب . ويقال : جنون الطير ، للإشارة إلى كثرة ترنمه في طيرانه ، وجن الذباب إذا كثر صوته([4]).
إن المحمول الأول من الاشتقاقات اللغوية للجنون ـ والذي يؤول بمعناه إلى الاستتار ـ يشير بوضوح إلى حقيقة الجنون الذي هو ستر العقل ، وزوال بعض آثاره فيحدث الخلل في السلوك وينحرف عن حدود دائرة رجحانه . أما المحمول الثاني فيشير إلى بعض محمولات الجنون والتي تتأرجح بين إثارة العجب من مظاهر السلوك المستغرب لمن يعاني من آفة الجنون ، وبين التطرف الذي يتسم به سلوك البعض بحيث يجعلهم في قائمة المجانين؟.
أما الجنون لدى علماء الأصول فهو عبارة عن آفة في الدماغ تبعث صاحبه على الإقدام على ما يضاد مقتضى العقل ، أو أنه اختلال بحيث يمنع من جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل([5]). وقد قسم الفقهاء والأصوليون الجنون بميزان الشريعة إلى قسمين هما:
الأول : جنون أصلي :
ويطلق عليه أيضاً الجنون المستمر ، أو المطبق ، أو المغلوب . ويكون الجنون موجوداً في هذه الحالة بأصل خلقة الإنسان ، مستوعباً جميع أوقات المريض ، دون أن تتخلله نوبة انقطاع . وقد حد له الفقهاء حداً يرتبط بفترة استيعابه لوقت المريض ، فإذا استمر شهراً دون انقطاع أو صحوة تعيد المريض إلى دائرة العقلاء اعتبر صاحبه مصاباً بآفة الجنون المستمر([6]).
الثاني : جنون عارض :
ويطلق عليه أيضاً الجنون المتقطع ، وهو أن يولد الإنسان بعقل متكامل ، بيد أنه قد يلاقي ظروفاً خاصة ، أو تطرأ عليه آفة فتؤدي إلى زوال عقله لفترة تتخللها إفاقة وعودة إلى دائرة العقل . ويتأرجح صاحب هذه الآفة بين أوقات إفاقة ثابتة ، أو متفاوتة بحسب حالته([7]).
أما الطب العقلي ـ في عصرنا الراهن ـ فقد ذهب إلى أكثر من مذهب في تفسير الجنون ، فهناك النموذج الطبي الذي ينظر إليه تماماً كغيره من الأمراض العضوية ، لذا فهو في معياره ناجم عن اضطراب في وظيفة أو بنية الدماغ، شأنه شأن الأمراض الأخرى التي تنشأ عن اضطراب مماثل في عضو أو جزء من أجزاء الجسم.
أما علماء النفس فيعتبرون المرض النفسي والمرض العقلي مظهران من مظاهر اضطراب الشخصية البشرية، وسوء توافقها مع المجتمع كنتيجة لوجود صراعات داخلية وتصدع في العلاقات الشخصية ([8]).
لم تغب عن أذهان المسلمين وجود مراتب متعددة تغيب خلالها بعض خصائص العقل وتستتر، لدى البعض، فتورثهم خللاً في السلوك، لذا تعددت لديهم الأسماء التي تطلق على المجانين من هذا النوع، فمنها:
1. الأحمق : والفعل منه: حمق ، يحمق ، حمقاً ، وحماقة . قال الشاعر:
فعاقل فطن أعيت مذاهبه = وجاهل حمق تراه مرزوقاً
2. الأخرق : وهو الذي لا يحسن التقدير والتدبير.
3. الرقيع أو المرقعان ، وهو الأحمق الذي يتمزق عليه رأيه وعقله . قال الشاعر :
وما الناس إلا وعاة العلوم = وسائرهم غنم في قطيع
وإنا بلينا ببله حميــــر = ومحنة دهر رقيع رقيع
4. الممسوس : وهو الذي تخبطه الجن أو الشيطان من المس، ومنه قوله عزوجل
( كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ـ الآية([9]).
5. المخبل أو المختبل ، ويقال رجل مخبل ، ومخبول . قال الأعشى :
فكلنا مغرم يهذي بصاحبه = ناء ودان ومخبول ومختبل
6. المهوس ، والاسم الهوس وهو ضرب من الجنون.
7. الهائم ، وهو ذاهب العقل.
8. الأبله ، والفعل منه بله وبلاهة، فهو أبله.
كذلك أطلق العرب صفة الجنون مجازاً على كثير ممن يعاني اضطراباً في سلوكه لسبب ما، مثل المتصابي، والسكران، وكانت العرب تسمي الشباب شعبة من الجنون.
3. الجنون في عهد رسول الله (ص) :
منذ أن صدع رسول الله (ص بدعوة المشركين إلى عبادة الله تعالى وهجر الأصنام فقد أتهمه قومه بالجنون ، وقد نزلت أكثر من آية في القرآن الكريم ترد على ادعاءاتهم الباطلة. قال الله تعالى في كتابه العزيز ( ويقولون إنه لمجنون ) ([10]) ، وورد في آية أخرى بمعرض الرد عليه ( وما صاحبكم بمجنون ) ([11]). كان السبب الأساسي لاتهامه بالجنون، (ص) ، أنه دعاهم إلى دين يسفه دين أجدادهم ويخالف ما ألفوا عليه آباءهم، فناصبوه العداء ولم يجدوا سوى أن يتهموه بالجنون لكي لا تحدثهم أنفسهم الأمارة بالسوء باتباعه.
جعل رسول الله (ص) العقل مناطاً للتكليف، واعتبر غيابه عارضاً يخلخل أهلية المسلم في أدائه للعبادات والمعاملات في المجتمع الإسلامي. وقد أرسى هذا الأمر من خلاله حديثه الشريف عن علي كرم الله وجهه عن النبي (ص) قال : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل([12]) )، وفي رواية أخرى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ( وعن المبتلى حتى يبرأ([13]) )، وفي رواية أخرى عن الإمام علي كرم الله وجهه ( عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق([14]) ).
وقد جعل الرسول (ص) أمر إفاقة المجنون من مرضه متروكاً لمشيئة الباري عز وجل ولم يوصده أمام أبواب الرحمة الإلهية من رأفته بأمته (ص) . من أجل هذا بات الجنون في ميزان السنة النبوية من النوع الذي قد تتوفر له فرصة عودة العقل وزوال البلوى.
ويلاحظ المتتبع لأخبار المصطفى (ص) وجود أكثر من خبر عمن ابتلي بالجنون بيد أنه قد أفاق من غيبته ببركة دعوة مستجابة أو رقية بسورة من سور القرآن الكريم منها الحديث الذي رواه خارجة بن الصلت التميمي عن عمه : ( أنه أتى النبي (ص) فأسلم ثم أقبل راجعاً من عنده، فمر على قوم عندهم رجل مجنون موثق بالحديد، فقال أهله : إنا حدثنا أن صاحبكم هذا قد جاء بخير فهل عندكم شيء تداوونه فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ فأعطوني مائة شاة، فأتيت رسول الله (ص) فأخبرته، فقال 🙁 هل إلا هذا . وقال مسدد في موضع آخر : هل قلت غير هذا ؟ قلت : لا. قال : خذها فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق ) ([15]).
لقد بقي الجنون في عهده (ص) كحالة عارضة قابلة للشفاء، ولم يوحي الرسول الكريم لصحابته بأن المجنون قد أوصدت أبواب عقله ، وغاب وعيه عن العالم الخارجي بطريق مسدود لا رجعة فيه، بل جعل طريق الأمل مفتوحاً على مصراعيه أمام إفاقته وعودته إلى دائرة العقلاء ، ولو لفترة محدودة بفضل كرم الباريء عز وجل ورحمته التي وسعت كل شيء.
4. الجنون في القرون الثلاثة الفاضلة :
استمد عهد الخلفاء المهديين من أنوار النبوة أحكامه واستمر في سيره الحثيث على الهدي النبوي الشريف. وقد عولج الجنون بنفس المنهج من حيث كونه علة تؤثر على أهلية الفرد المسلم الذي قد ابتلي به ، واعتبر في أكثر من موقف سببا يناط به إسقاط التكليف ورفع الحرج.
ومن الروايات التي حفظتها لنا دواوين السنة النبوية ما نقل عن ترجمان القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم ، فمر بها علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال : ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم. قال فقال: ارجعوا بها . ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى . قال: فما بال هذه ترجم ؟ قال : لا شيء قال : فأرسلها. قال : فأرسلها. قال: فجعل يكبر ) ([16]). وفي رواية أخرى (أتي عمر بامرأة قد فجرت فأمر برجمها، فمر علي رضي الله عنه فأخذها فخلى سبيلها، فأخبر عمر فقال: ادعوا لي علياً، فجاء علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين لقد علمت أن رسول الله (ص) قال: رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المعتوه حتى يبرأ، وإن هذه معتوهة بني فلان، لعل الذي أتاها أتاها وهي في بلائها. قال فقال عمر: لا أدري، فقال علي رضي الله عنه : وأنا لا أدري) ([17]).
قال العلماء : قوله ( لعل الذي أتاها ) : أي زنا بها ( وهي في بلائها ): أي في جنونها ( فقال عمر لا أدري ): أي إتيانه في حالة جنونها ( فقال علي رضي الله عنه وأنا لا أدري ): أي إتيانه في حالة عدم جنونها ولعل المرأة المجنونة لم يصاحبها الجنون دائماً بل أصابها مرة وتفيق مرة، فلذا قال عمر رضي الله عنه لا أدري إتيانه في حالة جنونها فأجاب عنه علي رضي الله عنه وأنا لا أدري في حالة إتيانه عدم جنونها . يبدو واضحاً بأن الإمامين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما قد درءا الحد عن هذه المرأة التي ابتليت بجنون عارض لعدم توفر قرينة لديهم على ارتكابها الفاحشة في فترة زوال عقلها أم صحوتها على أساس مبدأ درء الحدود بالشبهات.
بقي الجنون في بداية عهد الخلفاء الراشدين ولحين بدء عهد الأمويين مقتصراً على الجنون الأصلي والعارض، إلا أن الأحداث التي تسارعت في تلك الفترة بين طرفي نقيض، وقف فيها على الطرف الأول الصحابة وتابعيهم الذين ينادون بالزهد وهجر الملذات التي جاء بها الملك الجديد، وعلى الطرف الثاني أنصار الأموال التي تدفقت نتيجة لكثرة الفتوح وما جلبت معها من أبواب الفتن الدنيوية وملاذها.
في خضم هذه المتغيرات التي كانت تعصف بالمجتمع الإسلامي ترعرعت حركة زهدية على يد أتباع الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه جعلت من المقابر والجبانات ملاذاً لها من عصف الفتن التي كانت تدور رحاها في المدن والأمصار.
لقد أفرزت هذه الحقبة ظهور تعريف جديد للجنون ارتبط بتعريف ماهية العقل في ميزان الشريعة الإسلامية التي جعلت أفعال التقوى، والشكر ، والإيمان، والإنابة، والتوكل ، والتذكر، من أفعال العقل الكامل الذي يأتمر بأوامر القرآن الكريم وينتهي بنواهيه وزواجره. لذا كانت الآيات القرآنية الكريمة تدعو أصحاب العقول والألباب إلى التزام طريق العقل الفطري لكي يصلوا إلى طريق طاعة الباريء عز وجل والأنس بقربه.
من أجل هذا فليس بمستغرب أن يوصم الرجل بالجنون إذا خالف فطرة العقل السليم ولم يسر على درب الهداية ، والتقوى ، والصلاح. وقد نقل حديث عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: بينما رسول الله (ص) في أصحابه إذ مر به رجل فقال بعض القوم: هذا مجنون . فقال رسول الله ( هذا رجل مصاب، إنما المجنون المقيم على معصية الله عز وجل ) ([18]).
وقد مر صلة ابن أشيم بقوم قد اجتمعوا على رجل مقيد فقال: من هذا؟ قالوا: مجنون. فقال: لا تقولوا مثل هذا، إنما المجنون مثلي ومثلكم، نعمر الدنيا ، ونخرب الآخرة([19]).
إذن لم يعد الجنون مقصوراً في هذه الحقبة على من غاب عقله دون رجعة أو لبرهة من الزمن ثم أفاق، بل أضحى يطلق مجازاً على من انغمس في الدنيا وملذاتها وترك وراءه الآخرة دون أن يلتفت إلى الخطاب الشرعي.
بالمقابل تطورت ظاهرة العزلة في المقابر والجبانات، وظهر على ساحة الحدث زمرة من الزهاد والمنقطعين فيها عن المجتمع بسبب الترف الذي يعيش الناس فيه، متجهين بسهام نقدهم اللاذع لما يحدث فيه، فأطلق عليهم لقب " عقلاء المجانين " لسببين :
( الأول ) : عدم تكيفهم مع المجتمع الجديد الذي ابتعد سيره عن المجتمع الإسلامي في عهد النبوة وعهد الخلفاء الراشدين المهديين.
( الثاني ) : أنه يعيشون نوبات من الصحوة والغيبة فيتحدثون فيهما بالحكمة والموعظة التي تتم عن عقل راجح، وحصافة رأي، وحكمة صقلتها الحياة. وهذا ما لا يتوقع من مجنون لم تكتمل قواه العقلية، ولم يستطع أن يتكيف مع العالم الخارجي بالشكل الذي يمكن أن يقيم جسوراً للتفاهم مع ما يدور فيه؟.
ولعل من أكثر عقلاء المجانين شهرة " أبو وهيب بهلول ابن عمرو ابن المغيرة " الذي عاصر هارون الرشيد، وكثرت الأخبار المنقولة عنه في كتب التأريخ والسير. قال محمد ابن إسماعيل ابن أبي فديك : رأيت بهلولاً في بعض المقابر قد دلى رجله في قبر وهو يلعب بالتراب. فقلت له: ما تصنع ههنا ؟. قال : أجالس أقواماً لا يؤذونني، وإن غبت عنهم لا يغتابونني . فقلت : قد غلا السعر فهل تدعو الله فيكشف ؟ فقال : والله ما أبالي ولو حبة بدينار، إن الله قد أخذ علينا أن نعبده كما أمرنا ، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا([20]).
يظهر جلياً من هذا الحوار رجاحة عقل بهلول المجنون وحصافته ، مع تبريره بحجة مقبولة لهجرانه بنيان البلدة واستبدالها بالمقابر لكي يكون بعيداً عن المعاصي وأذية الأخوان ، بيد أن الأمر لا ينتهي عند هذه النقطة لأن بهلولاً لا يلبث أن يهرول مسرعاً فيتصرف ويسلك سلوك الصبيان والمعتوهين، أو يعبث بعصاه كمن اعتلى فرساً شاهراً سيفه على الأعداء فيجعلنا نقف ساهمين لا ندري بأية حضيرة نلحقه ؟.
أما أبو الحسن سليمان ابن بدر المجنون فقد سئل يوماً : أجننت ؟ قال : أما عن غفلة فنعم ، وعن المعرفة فلا. قيل : كيف حالك مع المولى ؟. قال : ما جفوته مذ عرفته . قيل : ومذ كم عرفته ؟ قال : مذ جعل اسمي في المجانين([21]) !.
إذن يبدو بأن حدود العقل والجنون قد تبدلت لدى هؤلاء القوم الذين أطلق عليهم لقب
" عقلاء المجانين " لأن الجنون لم يعد يستر لديهم العقل من صحوته بل يستر عنهم الدنيا وملذاتها ، وما تجر عليهم من ويلات تنشب عن معاقرة المعاصي والغفلة عن ذكر الله تعالى . لذا فالمجنون مستور عن الدنيا قريب من الله ـ بمعيارهم واصطلاحهم المجازي ـ أما العقلاء فهم ليسوا سوى مجانين يتهمون العقلاء الأصحاء ( وهم قلة ) بهذه الآفة.
من أجل هذا نجد شقران المجنون يصدع بالقول في الناس المزدحمين عليه ـ وهم ينظرون إليه نظرة العقلاء إلى معتوه ـ قائلاً : يا أيها الناس الدنيا دار خراب ، وأخرب فيها قلب من يعمرها ، والآخرة دار عمران ، وأعمر منها قلب من يطلبها([22]).
لقد التف حول راية عقلاء المجانين زمر من الزهاد والمنقطعين عن الدنيا ولذاتها الفانية ، تظاهروا بالجنون لكي يسلموا من المجتمع الذي كان الترف قد بدأ ينخر في جسده ، فضمنوا الأمن من مناصبتهم العداء ، وانشغالهم بمجابهة مجتمعهم وهم قليل لا شوكة لهم . ولم تخل ساحتهم من نسوة تبنت نفس الموقف ، فعرفت منهن ريحانة الأبلية([23])، وآسية البغدادية([24])، وحيونة الأهوازية([25])، وسلمونة العبادانية([26]). تفرغت هؤلاء النسوة للعبادة وقيام الليل ، واتخذن من المقابر والجبانات مساكن لهن بعيداً عن المدن والأمصار التي كانت تعج بملاذ الدنيا وترفها.
نقل عن عقلاء المجانين جملة من الأشعار الزهدية التي تتم عن شعور مرهف ، وهم في حالة من السمو الروحي ، اقتطفنا من رياضها مناجاة سعيد المجنون للباريء عز وجل مستسقياً بعد أن انقطع الغيث :
أيا من كلما نودي أجابـــا = ومن بجلاله ينشيء السحابا
ويا من كلم الصديق موسـى = كلاما ثم ألهمه الجوابـــا
ويا من رد يوسف بعد ضـر = على من كان ينتحب انتحابـا
ويا من خص أحمد باصطفاء = وأعطاه الرسالة والكتابــا
ثم قال : اسقنا ، فسقوا …
وقالت ريحانة الأبلية ـ المجنونة :
أنت أنسي ومنيتي وسروري = قد أبى القلب أن يحب سواكا
يا عزيزي وهمتي ومـرادي = طال شوقي متى يكون لقاكـا
ليس سؤالي من الجنان نعيماً = غير أني أريدها لأراكـــا
وقد انصهر عقلاء المجانين تدريجياً ، في الفترة اللاحقة ، في طبقات الصوفية ، بحيث لم نعد نجد لهم ذكراً في الفترة التي تلت القرون الثلاثة الفاضلة، وكان هذا الأمر إيذاناً بظهور طبقة جديدة من المجانين في العصور التالية.
5. الجنون في القرن الخامس وحتى القرن العاشر الهجري :
امتازت هذه الحقبة الزمنية ببزوغ مفاهيم واصطلاحات جديدة أفرزتها الطرق الصوفية التي بدأت تنتشر على رقعة العالم الإسلامي الفسيحة، فقد أرسى التصوف أركانه وبدأت اصطلاحات القوم تأخذ مكانها الفاعل في الحياة الثقافية للمسلم في تلك الفترة.
كانت علوم الصوفية ـ بمعيارهم ـ علوم أحوال ، والأحوال مواريث الأعمال ، ولا يرث الأحوال لديهم إلا من صحح الأعمال. وقد وجد الصوفية في طريقهم لنيل الأحوال تجارب روحية جديدة بدأت تحقق تغييراً في كثير من الأحاسيس الوجدانية، وبعضها بات ينعكس على السلوك، فظهر على قائمة اصطلاحاتهم : السكر ، والغيبة ، والشطح ، والجذب ، التي تجعل السلوك بعيداً عن الحالات السوية وفق منظور الطب أو المجتمع.
وإذا كان البيمارستان قد أنشيء منذ زمن عبد الملك ابن مروان لاستقبال المجانين ، ورعايتهم ، وعلاجهم ، فإننا نلاحظ بأن هذه الفترة قد شهدت مرحلة جديدة في تأريخ الجنون تمثلت في ظهور طبقة جديدة عرف أصحابها " بالمجاذيب " الذين أرسوا اصطلاحا جديداً في ميدان الجنون !.
وقد وضع الصوفية تعريفاً للمجذوب ينص على أنه من جلبه الحق إلى حضرته ، وأولاه ما شاء من المواهب ، بلا كلفة ، ولا مجاهدة ، ولا رياضة([27]). وتبدأ دورة المجذوب بالوجد وهو ما صادف من رؤية معنى من أحوال الآخرة ، أو كشف حالة بين العبد وبين الله عز وجل ، فتضطرب الجوارح طرباً أو حزناً، فمنهم من يبكي ، ومنهم من يصيح ، ومنهم من يمزق ثيابه !. ثم تأتي الغلبة إذا تلاحق الوجد ، فيغيب المرء عن التمييز ، وهناك السكر عندما يستولي الحال على المرء ، فيغيب عن تمييز الأشياء دون أن يغيب عنها مع سقوط التمييز بين ما يؤلمه وما يلذه ، ويختلط الأمر ، فلا ترتيب في الأفعال ، وينزع عذار التهذيب في الأقوال ، ويسير المجذوب كمثل من سلك به طريق مشدود العين ، لا يرى موضع قدمه ، ولا يدري أين يذهب ؟. وأخيراً تأتي الصحوة ويعود كل شيء كما كان في بداياته.
قد يكون الجذب مؤقتاً ، يحدث بين الفينة والأخرى بحسب حال المجذوب ، والعوارض التي تمر به . وهناك مجذوب قد غاب في مشاهدة الحق سبحانه وتعالى ، فهو سارح في بحورها دائماً ، إلا أن الله قد قطع عقله عن ذاته لحكمة أرادها([28])، فلا صحوة له.
إذن أصبح الجنون يمتلك بعداً روحياً ، ولم يعد كما كان في السابق ، مرضاً يبتلى به المرء المسلم ، أو يستتر به عن الدنيا كما هو الحال مع عقلاء المجانين. فأضحى المجذوب الصاحي يكافيء الجنون العارض ، بينما يكافيء المجذوب المطلق المجنون الأصلي في موازين الأطباء العقليين.
ويلاحظ الذي يطالع كتب التراجم والسير وجود زمرة كبيرة من المجذوبين في هذه الفترة ، نقلت فيها أخبارهم ، وما دار بينهم وبين الآخرين من مناقشات في ميادين عدة.
وقد أزداد عدد المجاذيب في القرنين التاسع والعاشر ، حيث حفل كتب طبقات الصوفية بأخبارهم ، فمنهم محمد الحضري المجذوب الصاحي ( توفي سنة 907 هـ ) ([29])، ومحمد بهاء الدين المجذوب ( توفي سنة 922 هـ ) ([30])، ومحمد المغربي ( توفي سنة 1001هـ)([31])، وقد أورد أسماء الكثير منهم م جملة من أخبارهم الشعراني في طبقاته لا يتسع المقام لذكرهم.
إن دراسة ما نقل عنهم من أقوال بميزان نقدي يظهر بأن المجاذيب في بداياتهم ولغاية بدايات القرن التاسع الهجري كانوا يتكلمون بكلام تقبله العقول، ويسلكون سلوكاً لا يبتعد عن السلوك الذي يرتضيه الشرع الإسلامي . نذكر منهم على سبيل المثال محمد الحضري المجذوب الصاحي الذي كانت تتناوب عليه الجذبات ، فيصحو تارة ويتكلم في غرائب العلوم والمعارف ، ويستغرق تارة أخرى فيتكلم كلاماً دقيقا عن أهل السماء والأرض.
بالمقابل حفلت كتب التراجم بأخبار عن مجاذيب آخرين ينطقون بكلام لا تستسيغه العقول ، أو يسلكون سلوكاً لا يستطيع المرء أن يجد له تفسيراً مقبولاً . نذكر من هؤلاء أبو عزيزة المغربي ( توفي سنة 1010 هـ ) الذي غلب عليه الجذب والاستغراق ، فكان يأخذ صحن الجامع الأزهر بوثبة واحدة ، وكان يقيم صارخاً ، شاخصاً اليوم والليلة([32]) ؟. وهناك خليل المجذوب ( توفي سنة 1070 هـ ) الذي كان يسير عاريا ويطوف في بلده طوال النهار وهو يصيح([33]) . أما عبد الرحمن المجذوب ( توفي عام 944 هـ ) فقد كان مقطوع الذكر قطعه بنفسه أوائل جذبه ، وكان يجلس على الرمل صيفاً وشتاء ، وكان يتكلم ثلاثة أشهر ، ويصمت ثلاثة أشهر([34]) ، ثم يخبرنا الشعراني عن الشريف المجذوب الذي كان يأكل في نهار رمضان ، ويقول : أنا معتوق أعتقني ربي([35]) !.
ولم نجد في كتب التأريخ والطبقات ، بعد هذه الفترة ، ذكرا لطبقة جديدة من المجانين ، فبقي المجاذيب حتى وقتنا هذا يهيمنون على المساحة التي يشغلها المجانين الذين ينظر إليهم عامة الناس دون أن يصدروا حكماً نهائياً بصددهم ، أما العاملين في ميدان الطب العقلي فيضعونهم ـ دون تردد ـ في دائرة المرضى العقليين أو النفسيين ، ويعتبرون الأحوال التي يذكرها الصوفية في مصنفاتهم بأنها أعراض لأمراض عصبية كالصرع ، والذهان ، والعصاب ، والوساوس المرضية ليس إلا.


6. المراجع :
1. الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز ، لسيدي أحمد ابن المبارك ، 1407 هـ ، دار أسامة ، بيروت .
2. التعرف لمذهب أهل التصوف ، لأبي بكر محمد الكلاباذي ، تحقيق محمد أمين النواوي ، الطبعة الثانية، 1400 هـ ، مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة .
3. جامع الأصول في كرامات الأولياء ، للكمشخانوي ، نسخة خطية ، مكتبة جامعة الموصل.
4. جامع كرامات الأولياء ، ليوسف ابن إسماعيل النبهاني ، الطبعة الأولى ، 1381 هـ ، تحقيق ومراجعة إبراهيم عطوة عوض ، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة.
5. الحجر وأحكامه في الشريعة الإسلامية ، لعز الدين بحر العلوم ، الطبعة الأولى ، 1400 هـ ، دار الزهراء ، بيروت .
6. الطبقات الكبرى ، لأبي المواهب عبد الوهاب ابن أحمد الشعراني ، الطبعة الأولى ، 1373 هـ ، شركة مكتبة مصطفى البابي ، القاهرة .
7. عقلاء المجانين ، لأبي القاسم الحسن ابن محمد ابن حبيب ، تحقيق الدكتور عمر الأسعد ، الطبعة الأولى ، 1407 هـ ، دار النفائس ، بيروت .
8. لسان العرب المحيط ، للعلامة ابن منظور الأفريقي ، إعداد وتصنيف يوسف خياط ، بدون تأريخ ، دار لسان العرب ، بيروت .
9. مدخل إلى الأسس النفسية والسيكولوجية للسلوك ، للدكتور عباس محمود عوض ، الطبعة الأولى ، 1980 ، دار المعرفة الجامعية ، بيروت .
10. المقاصد النووية السبعة ، لأبي زكريا يحيى ابن النواوي ، تحقيق حازم ناظم فاضل ، الطبعة الأولى ، 1416 هـ ، بيروت .
11. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، للدكتور علي سامي النشار ، الطبعة السابعة ، 1978 ، دار المعارف ، مصر.
([1]) لسان العرب 1 : 515.
([2]) سورة الأنعام : 76.
([3]) لسان العرب 1 : 516.
([4]) نفس المرجع 1 : 518.
([5]) الحجر : 262 ، التقرير والتحبير 2 : 173.
([6]) المغني 10 : 169 ، بدائع الصنائع 7 : 67 ، الأم 6 : 4 ، التقرير والتحبير 2 : 173.
([7]) كشف الأسرار 4 : 264 ، المغني 10 : 169 ، بدائع الصنائع 7 : 67.
([8]) مدخل إلى الأسس النفسية : 285 .
([9]) سورة البقرة : 275.
([10]) سورة القلم : 51.
([11]) سورة التكوير : 22.
([12]) مسند الإمام أحمد : 24242.
([13]) سنن أبي داؤد : 1576.
([14]) جامع الإمام الترمذي : 1188.
([15]) سنن أبي داؤد : 3824.
([16]) سنن أبي داؤد : 4284.
([17]) مسند الإمام أحمد : 1330.
([18]) نقل هذا الحديث صاحب كتاب عقلاء المجانين ولم يتوفر لدينا دليل ملموس على صحة مورده، لذا فقد اعتمدناه في مقام الاستئناس ليس إلا ـ راجع عقلاء المجانين : 29.
([19]) عقلاء المجانين : 37.
([20]) نفس المرجع : 139.
([21]) نفس المرجع : 162.
([22]) نفس المرجع : 245.
([23]) صفوة الصفوة 4 : 57.
([24]) عقلاء المجانين : 285.
([25]) نفس المرجع : 286.
([26]) نفس المرجع : 291.
([27]) المقاصد النووية السبعة : 8.
([28]) الإبريز : 521.
([29]) جامع كرامات الأولياء 1 : 286.
([30]) نفس المرجع 1 : 294.
([31]) نفس المرجع 1 : 324.
([32]) نفس المرجع 1 : 466.
([33]) نفس المرجع 2 : 62.
([34]) الطبقات الكبرى 2 : 141.
([35]) نفس المرجع 2 : 149.


حسن مظفر الرزو
كلية الحدباء الجامعة ـ الموصل ـ العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى