سمير لوبه - دموع القنديل..

في البيتِ الحزينِ . يجلسُ على الأرضِ واضعًا راحتيه على فخذيه. يطوحُ رأسَه يمنة ويسرة مبتسمًا . تعلو ضحكتُه عاليةً كلَّما سمع صوتَ القطارِ الذي يمرُّ من المحطةِ التي يطلُّ عليها بيتُهم . تنظرُ إليه أمُه في أسى ؛ فلمْ يعدْ الآنَ ذلك الجسدُ الصغيرُ الذي كانت تحملُه . صار اليومَ رجلاً لكن لا تتعدى سنواتُ عقلِه أصابعَ الكفِ الواحدةِ ، تنكفئ عليه أمُه تحتضنُه وهي تبكي ؛ فهي تدركُ أن مصيرَه مظلمٌ من دونِها ؛ فمثلُه ينبذُه الأهلُ ، والأقاربُ . ليس له أصدقاءُ أو جيرانُ يحملون همَّه ؛ لنْ يرحمَه مجتمعٌ الكلُ فيه مشغولٌ بحالِه ، ولا يعنيه الآخرُ . فكم حاولت وبشتى الطرقِ أن تخرجه من البئرِ المبهمةِ لكنْ دونَ جدوى . يضعُ أصبعَه في فمِه. تسرعُ تقدمُ له الطعامَ فهو يفعلُ ذلك كلَّما جاع.
- انظرْ لتلك الصورةِ هذه أنا ، وهذا أنت تجلسُ على فخذي ، وهذا أبوك ، ويقفُ لجوارِه أخوك.
ينظرُ للصورةِ ؛ يقطبُ بينَ حاجبيه . يصمتُ . يطيحُ بالطعامِ . يبكي . يعلو صراخُه . تأخذُ رأسَه في صدرِها ، وتربتُ على ظهرِه حتى يهدأ . تنتابُه رعدةٌ ؛ تأتيه بغطاءٍ تضعُ رأسَه في حجرِها. تمسحُ على رأسِه حتى ينامَ . تتعلقُ عيناها الباكيةُ بالصورةِ ؛ تتذكرُ ذلكَ اليومَ المشؤومَ الذي فقدت فيه الزوجَ ، والابنَ الأكبرَ في حادثةِ سير ؛ فغاب العائلُ الوحيدُ لها ، ولابنها الصغيرُ الذي لا يكبرُ . صار هذا الابنُ قنديلاً يبددُ ظلمةَ وحشتِها . لكن من لهذا المسكينِ إن رحلت لبارئها . تمدُّ يدَها تتناولُ دواءَ قلبِها الذي أسقمته سنواتُ الحزنِ المريرةِ . تزيدُ من أسقامِه شدةُ القلقِ على المصيرِ المظلمِ لهذا المسكينِ.
وذاتَ يومٍ يهزُّ رأسَه بشدةٍ رغبةً في الجلوسِ أمامَ البيتِ ليشاهدَ القطارَ كما اعتاد . تسرعُ الأمُ تلبسُه ملابسَ نظيفةً ، وتجلسُه على كرسي أمامَ البابِ.
تنهمكُ الأمُ في أعمالِ البيتِ ينتابُها وخزٌ في قلبِها . في الخارجِ يضعُ أصبعَه في فمِه يبكي يعلو صراخُه لا تجيبه الأمُ . يدخلُ البيتَ ليجدَها طريحةَ الأرضِ . يهزُّها فلا تجيبُ ؛ أخذ يكسرُ كلَ شيءٍ أمامَه . يجري حافيًا إلى رصيفِ المحطةِ ، ويجلسُ واضعًا أصبعَه في فمِه. يهزُّ رأسَه يمنة ويسرة . يتوقفُ القطارُ تركبُ الناسُ . يتبعُهم . يمضي القطارُ مسرعًا. يسيرُ بينَ العرباتِ ؛ يبحثُ عن وجهِ أمِه دونَ جدوى . يفترشُ أرضيةَ العربةِ واضعًا أصبعَه في فمِه ؛ يغطُ في نومٍ عميقٍ . فإذا بقدمٍ تهوي في بطنِه توقظه مفزوعًا ؛ مجموعةٌ من الصبيةِ المشردين في ظلامٍ وصمتٍ مطبقٍ يسألونه عن اسمِه
- مَا .. مَا
وبموسِي حادٍ يشرطُ أحدُهم خدَه ، ويتركونه ، وقد خضبت دماؤه ملابسَه التي لطخها الترابُ . ظلَّ في القطارِ تمتزجُ دموعُه بدمائه . يبزغُ النهارُ يمتلئ القطارُ بالبشرِ ينفرون منه ؛ لا يطيقون رائحتَه . يهزُّ رأسَه يمنة ويسرة . يضعُ أصبعَه في فمِه. تناولُه إحداهن ما يأكلُه فيلتهمُه التهامًا ، وتمضي به الحالُ في رحلاتِ القطارِ تلتقطُه المحطاتُ بالأيامِ . يعودُ للقطاراتِ على ذاتِ الحالِ ، وتنقضي الشهورُ ببردِها ، وحرِها حتى صار كمًا باليًا رَثًا ؛ تزكمُ الأنوفَ رائحتُه ، وذاتَ يومٍ بينَما يتوقفُ القطارُ في إحدى المحطاتِ ، يظهرُ له رجلٌ ضخمٌ متجهمُ الوجهِ يسألُه أن يدفعَ قيمةَ تذكرةِ الركوبِ
- مَا .. مَا
وبقلبٍ متحجرٍ يزجُ به خارجَ القطارِ إلى رصيفِ المحطةِ ، وينطلقُ القطارُ فيجلسُ على أرضيةِ المحطةِ ، وفجأةً تلتقطُ عيناه بيتَهم ، يضعُ أصبعَه في فمِه ينادي :
- مَا .. مَا
يصلُ إلى بابِ بيتِهم المهجورِ ، يدفعُ البابَ تقابلُه الصورةُ المعلقةُ على الحائطِ . يجلسُ أمامَها يهزُّ رأسَه يمنة ويسرة واضعًا أصبعَه في فمِه تسيلُ دموعُه
- مَا .. مَا
تتوقفُ الرأسُ عن الاهتزازِ. يتمددُ الجسدُ المرهقُ على الأرضيةِ .

سمير لوبه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى