عبدالرزاق الربيعي - قوارب التنّين وطريق (الباطنة)

قبل سنوات، أتيحت لي فرصة زيارة شنغهاي، وتوافقت الزيارة مع عيد رسمي في الصين اسمه عيد (سباق قوارب التنّين) وهو عيد يحتفل به الصينيّون سنويا إحياء لذكرى شاعر اسمه (تشيوي يوان) عاش خلال عصر الممالك المتحاربة ( عام 475 ــ عام 221 قبل الميلاد) ومات منتحرا في نهر ميلو في إقليم هونان قبل ألفي عام، بعد أن خذله قومه حين نبّههم لخطر يقوم به عدوّ متربّص بهم، فلم يصدّقوه، مثلما جرى لزرقاء اليمامة، المشهورة بحدّة بصرها، فحذّرت قومها من الجموع القادمة المتخفية تحت الأشجار، لكنهم لم يأخذوا كلامها على محمل الجدّ، حتى وقع المحذور، وإذا كانت زرقاء اليمامة قد لقيت حتفها بعد أن قلع الأعداء عينيها، فالشاعر (تشيوي يوان )لم يستسلم لمثل هذا المصير، فألقى جسده في النهر، وشعر قومه بالذنب، فأرادوا انقاذ جثّته من حيوانات البحر المفترسة، فصنعوا طعاما يتألّف من الرزّ، والسكر، وحبات كشمش توضع بورق الخيزران، وتلفّ بالخيوط، وهذا الطعام صار تقليدا شعبيّا، وعيدا يمارس الصينيّون خلاله طقوسا، تتجسّد في عرض المحلات لتلك الأكلة الشعبيّة، التي يطلق عليها اسم طعام ( تسونغ تسي )، إلى جانب أعداد كثيرة من بيض البط المصبوغ بالأسود، كما تقوم بتعليق بالونات على شكل مكعّبات، وبعد أن صارت الحكاية على بعد ألفي عام من وقوعها،لم يعد المحتفلون يرمون تلك الوجبة بالنهر، بل ياكلونها، وهذا يعني أنهم حافظوا على أصل الحكاية لكن دخلت في مسار آخر، بعد تشذيبها من الجانب التاريخي، والأسطوري، وتغدو هذه الاحتفالات عادية إزاء كرنفال حضرته في مدينة "ماسترخت" الهولندية يرتدي به المشاركون أقنعة مضحكة، والبعض يظهر بأشكال غريبة لمخلوقات شريرة متخيّلة، كتلك التي نشاهدها بكتب ومجلات وأفلام الأطفال تلك المخلوقات وردت أوصافها في الميثولوجيا اليونانية القديمة، هذا الكرنفال افتتحه رئيس البلدية، الذي كان يرتدي مع مجلس البلدية ملابس الأمراء القديمة، وما أن أعطى إشارة البداية حتى سارت مواكب المدن والعوائل، وكلّ موكب يثير المشاركون به الضحك بملابسهم وأشكالهم الغريبة، وترافق المواكب موسيقى راقصة في جوّ من المرح، وحين سألت عن أصل الكرنفال قيل لي إنه مناسبة دينية ، تُقام مع بداية الربيع، يعود أصولها إلى ما قبل المسيحية، وكانت تلك المناسبة طقسا وثنيا لطرد الأرواح الشرّيرة، واستمّر الاحتفال بالمناسبة مع دخول المسيحية، وأضيفت إليها مواكب القديسين، وتحوّلت إلى احتفال سنوي يحرص على إقامته الهولنديون في سائر مدن هولندا ، سنويا، كجزء من تراث يحافظون عليه، وهو يشبه كما قيل لي، كرنفالا شهيرا يُقام في البندقيّة، حتى أن الحكومة الإيطالية أصدرت في نهاية السبعينيات، قرارا حكوميّا، اعتبرت إحياء هذا الكرنفال واجبا على كلّ فرد.
تلك الاحتفالات تقدّم لنا نموذجا حيّا، ودليلا على مدى اهتمام شعوب العالم بموروثاتها، وحفاظها على معتقداتها، التي لم تتخلّ عنها، لليوم، رغم ما بلغته من تقدّم وتطوّر علمي، شمل مجالات الحياة المختلفة، مع الاشتغال عليها لتتناسب مع العصر، وهذه النظرة نفتقدها في مجتمعاتنا التي صارت تتعالى على الكثير من المعتقدات الشعبية، فوضعتْها جانبا، ويوما بعد آخر، بدأت تختفي، وعجّلت المتغيرات التي طرأت على حياتنا، في اختفائها، وقبل أيّام استذكر رواد مواقع التواصل الاجتماعي، معتقدا شعبيّا كان معروفا في منطقة الباطنة يطلق عليه الأهالي اسم (الحمبكر) وكان يمثّل مناسبة سنوية سعيدة للأطفال، حتى أن الأهالي يبدأون التحضير له منذ عيد الأضحى المبارك، وعناصر هذا المعتقد تتألّف من : دمية صغيرة عليها الزي العماني التقليدي، وأكلات يدخل الرز واللحم المملح عنصرا أساسيا فيها، وأوعية فارغة، معدّة لملئها بالأكلات، التي تحضّر لهذه المناسبة، وأغان يردّدها الأطفال، لعلّ أبرزها :
"حمبكر تبى عشاها حمبكر والخير جاها
حمبكر تبى السحنيه حمبكر والخير هنيه
عطونا من عشاكم الله يخلى بناكم"
وهو قريب الشبه بـ (القرنقشوه) فالأطفال يمرّون على المنازل ويطرقون الأبواب، وبدلا من الحلوى في (القرنقشوه) يعطي صاحب المنزل للأطفال (مكبوس) اللحم، ويمضون في سبيلهم إلى بيت آخر، وبعد ذلك يأكلون اللحم، أما الفائض من الرز فيرمونه مع الدمية في البحر، وبذلك يختتم الأطفال طقوس الاحتفال، ويعودون إلى منازلهم سعداء، مبتهجين، ويمكننا تخيّل الفرحة التي تغمرهم ، وكذلك الأهالي، فإذا كانت الصين تحافظ على معتقد منذ الفي سنة، وهولندا تحتفي بمناسبة دينية بدأت قبل ميلاد السيد المسيح(ع)، كما هو الحال مع الكثير من شعوب العالم، فلماذا لا نحافظ على معتقداتنا التي لم تزل حيّة في ذاكرة الأهالي، ونتركها تندثر وتُنسى؟

عبدالرزاق الربيعي



* منشور في جريدة( عُمان)



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى