حسن أحمد بيريش - حوارات مع محمد شكري.. المعيش قبل المُتخيَّل - 4 - البدايات من "بني شيكر" إلى طنجة "

وماذا كانت النتيجة؟
" بقيت المحادثة معلقة دون أي اتفاق بيننا إلى اليوم·

اقتحامك للمناطق المحرمة، هل هو العامل الحاسم في شهرة "الخبز الحافي"؟
" نجاح سيرتي الذاتية لا يعود فقط الى تناولي ما يُعرَف بـ "الطابو"· هذه السيرة هي أساسا وثيقة اجتماعية تؤرخ ما لا يؤرخ له التاريخ الرسمي، أو التاريخ المأجور·

في رأيك أي الجانبين هو الأكثر حضورا في "الخبز الحافي": الجانب الاجتماعي ـ التسجيلي ـ الوثائقي؟ أم الجانب الاعترافي المرتبط بالبوح والإفضاء؟
" هناك مزج بين ما هو اجتماعي وما هو اعترافي له علاقة بتسجيل وتأريخ أحداث ممتدة بين أعوام: 1956/1942· ولكن الجانب الاجتماعي أكثر حضورا وتمثلا من الجانب المرتبط

تمتلىء "الخبز الحافي" بمشاهد لا أخلاقية· أتساءل: هل الهدف هو تعرية الواقع وإبراز عفونته؟ أم الهدف هو تحريض القارىء على البحث عما هو أخلاقي ومثالي في الإنسان؟
" هذه ملاحظة ذكية جدا· بالفعل في "الخبز الحافي" ثمة مشاهد لا أخلاقية أقدمها بحثا عما هو أخلاقي· إن شخوص هذا النص ليسوا راضين عن وضعيتهم اللاأخلاقية· إنهم لا يمارسون انحلالهم ابتهاجا، بل تحت قهر اجتماعي مزر· إنهم لا يملكون قيمتهم الإنسانية البشرية، لأن حياتهم يُتاجَر بها، وحياتي ضمنهم يمكن اعتبارها نموذجا· فقد تعلمت وصرت معلما· وكتبت احتجاجا على الاستغلال القاهر·
إنها دعوة قد تكون رابحة· وقد لا تكون· المهم أنها محاولة لرد الاعتبار لنفسي ولطبقتي المسحوقة·

ما هي اللغة التي لم تكن تنتظر أن تُترجم إليها "الخبز الحافي"؟
" العبرية· وقام بها مترجم فلسطيني· وحسب علمي، فإنني ربما أكون أول كاتب مغربي تترجم سيرته الذاتية الى اللغة العبرية·

ننتقل إلى الجزء الثالث من سيرتك الذاتية "وجوه"·
إن من يقرأ هذا النص سيكتشف أنك كتبت سيرة غيرية أكثر مما كتبت سيرة ذاتية· فهل "وجوه" سيرة مزدوجة؟
" في كل كتابة أكتبها عن نفسي هناك شيء، أو أشياء عن الآخرين· وفي كل كتابة أكتبها عن الآخرين، هناك شيء أو أشياء عن نفسي· أنا لا أدرك نفسي إلا من خلال الآخر· ولا أدرك الآخر إلا من خلال ما يُسرب إليَّ من معايشتي له·
التزاوج هنا وارد·
لقد تعمدت أن أكتب "وجوه" بهذا الشكل للأسباب التالية:
أولا: لكي أكسر نفس الطريقة التي كتبتُ بها "الخبز الحافي"، و "زمن الأخطاء"، وأعني هنا طريقة التاريخ المسلسل·
ثانيا: لأعطي قيمة للسيرة الغيريَّة·
ثالثا: لأزيل عني بعض التهم التي لاتزال لصيقة بي· ولا يهم إن كانت صادقة أو كاذبة!

هل تمثل "وجوه" تحولا جذريا في كتابة السيرة الذاتية لديك؟
" أعتقد ذلك· وبكل صراحة أنا أريد أن أتخلص من السيرة الذاتية المرتبطة دائما بالنرجسية، والتي تتضمن نوعا من "الأبيسية"· فمثل هذه السِّيَر معرضة دائما لاتهامات من بعض القراء الساذجين·

لماذا اخترت بالضبط هذا العنوان: "وجوه"؟
" لماذا "وجوه"؟ لأنها تتضمن بعض الأشخاص· وكل شخص له وجه· ولا تتقابل هذه الوجوه· وكل فصل مستقل بذاته، ومحور "وجوه" هو وجهي أنا·

كتبت "الخبز الحافي" في ستين يوما· و "زمن الأخطاء" في ثلاثين يوما· بالنسبة لـ "وجوه" كم استغرقت من أيام في كتابتها؟
" حوالي سنة وبضعة أسابيع·

هل واجهتك بعض الصعوبات أثناء الكتابة؟
" في كل عمل أدبي أكتبه تواجهني الصعوبات· ليس على مستوى الموضوع· المواضيع جد كثيرة، إنما على مستوى الصياغة والتكتيك الفني·
مثلا في "وجوه" هناك شخصية "بابا دادي"، وهو مازال يعيش حتى الآن (·)· وذات يوم سآخذك، إن شئت، إلى حانته· أعرفه منذ عام 1951، ولم أستطع صياغة تجربتي معه إلا عام 1999· وهناك أيضا قصة "الميراب"، سمعتها من موظف كان يشتغل في البريد منذ خمسة عشر عاما· طوال هذه السنوات وأنا أفكر في صياغتها، ولم تسعفني التقنية إلا منذ أقل من سنة فقط·
أنا متأن جدا· لا أعيش تجربة اليوم وأكتبها غدا· لابد من تراكم ومن تخزين· لأن "كل ما ينمو ببطء يعيش طويلا"· كما قال الفيلسوف الكبير شوبنهاور·

في "وجوه" ثمة إشادة بالعزلة واحتفاء بها· هل الإبداع مرتبط بالعزلة في رأيك؟
" لا إبداع جيد بدون عزلة خلاَّقة·
إن كبار المبدعين لم ينتجوا كتاباتهم الخالدة إلا بعد ارتباطهم بالعزلة· وهناك قولة بليغة للألماني غوته تصلح مثالا لارتباط الإبداع بالعزلة· يقول غوته: "إن الميول تتربَّى في الجماعة، أما العبقرية ففي الوحدة"·

ماذا تقصد بالعزلة هنا؟
" هناك نوعان من العزلة· هناك كُتَّاب ينغلقون على أنفسهم ولا يستطيعون أن يكتبوا في مكان عمومي· لأن حساسيتهم المفرطة تجعلهم يشعرون بالتشويش على أفكارهم· وهناك كُتَّاب يعيشون العزلة دون أن ينغلقوا على أنفسهم· وهؤلاء بإمكانهم أن يكتبوا في الأماكن العمومية بنوع من التركيز الذي لا يتأثر بضجيج الآخرين·

وبالنسبة لعزلتك أنت؟
" بالنسبة لي أعيش حاليا بنوع من الاتزان والانضباط والهدوء، بعد أن تخلَّصت من توتراتي العصبية· أقرأ بانتظام· وأخطط جيدا لأي كتاب أكتبه· عندما يأتيني دافع قوي للكتابة أنعزل في بيتي، وأشرع في الكتابة· وألزم نفسي بالاستيقاظ في وقت معيَّن· ولا أفتح باب منزلي إلا للطارق الضروري جدا·

توقفتَ عن كتابة القصة القصيرة منذ سنوات طوال· هل القصة لم تعد قادرة على توصيل تجربتك الى القارىء؟
" لم أنفصل عن القصة القصيرة· وقد أعود الى كتابتها لاحقا· ولكن فن القصة ليس سهلا· ربما أصعب من الرواية نفسها· القصة يجب أن تُصاغ في أحدوثة، وفي زمن وجيز ومحدد، وفي لغة مكثفة تختلف عن لغة الرواية·
لقد أحببت القصة وكتبتها· ومازلت أحب من يكتبها·


10/18/2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى