إبراهيم محمود - ركلات فلسفية "7" حول كتاب الدكتور عبدالله الغذامي : مآلات الفلسفة

-7-


ريتشارد رورتي والانتقام من الفلسفة بالشعر، أم....؟

يشار إلى الفيلسوف والأكاديمي البراغماتيكي الأمريكي ريتشارد رورتي " 1931-2007 " أنه كتب مقالاً ، شد إليه أنظار المهتمين بالفلسفة والأدب، والشعر ضمناً، ليس لبراعة تكوينه أدبياً أو فكرياً، وإنما لأنه شكَّل طلقة الرحمة الذاتية بلغة الشعر الذي لم يعرَف به، إلا في المعتبَر الوقت الضائع أو غير المحتسَب من حياته،، على الفلسفة التي عُرِف بها طويلاً، إنه المقال الذي جاء، تحت عنوان " نار الحياة " قبيل وفاته " 2007 " ولعلَّه مثّل خيط أريان لكاتبنا الغذامي لبلوغ الجزة الصوفية في متاهته الغريبة، وليعلن مدى أهمية الشعر، وبئس المأخوذ به فلسفياً، وهو ما لم يقله في مقال قائم بذاته، كما فعل رورتي: ملهمه الأكبر مؤقتاً، وتحت وطأة حالة نفسية، لعلها إيمانية مستفهَمة كثيراً، وقد ضمَّنه كتاب " مآلات...." وما يدفع بنا إلى التقابل بينهما، إنما دون وضعهما تناظرياً بالتأكيد" حيث تتساوى كفتاهما نقدياً، إنما في نقطة جديرة بالتسمية ورؤية المفارقات هنا بالذات، وهي أن رورتي كتب مقاله هذا قُبيل رحيله الأبدي لحظة اكتشافه أنه مريض ومصاب بالسرطان، وتأثير ذلك على نفسه، وكان عمره في حدود " 76 " عاماً، وما انطلق منه الغذامي، وكان عمره " 75 " عاماً، أي هما متساويان تقريباً في اللحظة الزمنية تلك. إنما ليس من مرض معين، ربما هي أزمة نفسية غير مسمّاة، مباغتة، وهو، أي " رورتي" يصب جام غضبه على الفلسفة، أزمة لا يظهر الغذامي حيالها حتى في مستوى من أبصر فيها دواءه الناجع للتخلص من دائه النقدي الذي عرِف به طويلاً في ظل جاك دريدا " الغربي " بأكثر من معنى ، أي الغزالي وقد أمدَّه بمفهوم مركَّب عنده، هو " الذوق " كما سنرى، الغزالي الذي كتب " المنقذ من الضلال ". فأي ضلال استشعره الغذامي هنا يا تُرى، ليكتب مسكوناً بفوبيا الفلسفة التي لم يقِم معها علاقة مباشرة، ليكتب " مآلاتـ:ـها "؟ ..
أي وهو يجيز لنفسه أن يعوّل على الشعر منقذاً له من أوزار العولمة وتبعاتها، كما يبدو، واستناداً إلى رورتي، الذي " تطهَّر " في معتقَد الغذامي مما كتبه فلسفياً بامتداد عقود من الزمن.
حول الشعر والفلسفة، وما جاء عن رورتي، وقوله عن أن ( الشعر لا الفلسفة ينقذ العالم.. حيث كان يائساً.. ص 43).
ربما طرِح سؤال من هذا النوع: كيف يبرَّر تسطير مقال كامل عن قول، هو جملة، ويُترَك ما عداه، بالمقابل؟ ألا يشكّل هذا خللاً في العلاقة بما سطَّره كاتبنا الغذامي، وتحويراً لمفهوم النص؟
أوضّح مباشرة حيث أقول عن أن العلاقة تقوم على نوعية القول، وموقعها في الكتاب، وبما أثاره الكاتب، وهو الذي أمضى عقوداً من الزمن يقرأ الشعر ليكتب عنه، ولا بد أنه كان يتذوقه، ويقرأ الشعر ليتمكن من تقليبه على وجوهه نقدياً، وما عرِف به من إشهار الذكورة الخاصة به على ما عرَّف بهم ذكوريين في نصوصهم الشعرية، كما هو جليّ في كتبه ذات الصلة. والأكثر أهمية وتأكيدَ مقام هو أن ذائقته الشعرية الخاصة والمخضرمة في مداها الزمني، ترتقي إلى مستوى الشاهد على مدى تأثره بالشعر ودوره في الحياة، وانفعاله به، وهو الذي يقيم في منطقة تصله بتاريخ تليد، حجازياً، حيث لشعر المعلقات سريان فعلها الأكثر من كونها شعراً، إنما ثقافة، أي ما يجعل من هذه الثفافة المعزَّزة بخميرة الشعر، ديواناً مضاءاً بزخم معناها في الذاكرة الجمعية المحروسة إلى الآن، وما في تصرف الكاتب من إظهار إخلاص لسلفه المعلقاتّي ومقيّمه. وما يترتب على علاقة كهذه من نزيف مريع لمعنى اللغة ومنتجها الثقافي، واختزالها، حيث يستدعي ذلك المثل المعروف" طنجرة لقت غطاها "، مع فارق العلاقة بين كل من رورتي والغذامي.
لهذا، سأتوقف في المحدَّد أو المخصَّص هنا لهذه العلاقة، متناولاً الشخصية المفهومية لرورتي، وما إذا كان قد أطلق رصاصة الرحمة حقاً على ما كانه بصفته فيلسوفاً، وليظهر في نطاق مقال لا يخفي انطباعيته، وبؤس تقييم له، بالصورة التي تخرجه من تاريخه الطويل والمتشعب. أي كما لو أن رورتي يتلخص في هذا المقال القصير، وما فيه من فورة انفعال بتأثير من مرضه كثيراً.

6.jpg

رورتي في المواجهة

كيف يمكن قراءة رورتي في هذا الحيّز الضيق، وهو مؤلف كتب كثيرة، ولها أهميتها، من مثل:
1979، الفلسفة ومرآة الطبيعة [CP]
1982، عواقب البراغماتية.
1989، المصادفة والسخرية والتضامن.
1991، الموضوعية والنسبية والحقيقة: أوراق فلسفية، المجلد الأول.
1991، مقالات عن هيدجر وآخرين: أوراق فلسفية، المجلد الثاني.
1998، الحقيقة والتقدم: أوراق فلسفية، المجلد 3.
نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج.
1998، تحقيق بلدنا: الفكر اليساري في أمريكا القرن العشرين.
2000، الفلسفة والأمل الاجتماعي.
2007، الفلسفة كسياسة ثقافية، أوراق فلسفية، المجلد 4.
2014، العقل واللغة وما وراء الفلسفة: أوراق فلسفية مبكرة.
2020، عن الفلسفة والفلاسفة: أوراق غير منشورة.
1952، “استخدام وايتهيد لمفهوم الإمكانية”، رسالة ماجستير.
1956، “مفهوم الإمكانية”، أطروحة دكتوراه.
1961، “الميتافلسفة الحديثة”، مراجعة الميتافيزيقا.
1973، “المعايير والضرورة”.
1977، “دريدا حول اللغة والوجود والفلسفة غير الطبيعية”، مجلة الفلسفة.
1982، “فلسفة العقل المعاصرة”، تجميع.
1997، الحقيقة والسياسة و”ما بعد الحداثة”. محاضرات سبينوزا 1997.
1999، “البراغماتية باعتبارها مناهضة للسلطوية،” المجلة الدولية للفلسفة.
....إلخ " 1 "
أن نعرف جوانب حية من هذا الموقف من الفلسفة التي عرِف بها، ولازال، وما جعل من الشّعر حقيقة ثقافية ووجدانية تعلو ولا يُعلى عليها، كما هو المقدَّر، ليس بالأمر السهل، جهة اعتباره اللائذ بالشعر، وفي المتبقّي القليل من عمره، وهو يكابد ألم سرطان البنكرياس. ليس من السهولة بمكان، الفصل بينه وبين عمر طويل، وهو بكامل عافيته وجذوة شبابه، حيث كان الهم الفلسفي الجامع بين ما هو فكري وسياسي وفنّي مالىء نفسه، وشاغلها على مدار الساعة؟! كما لو أن أي تذكير به ينوّه في الحال إلى شبيه المقال اليتيم. وليس سواه. كيف يمكن لأحدهم أن يُتهجى اسمه ويقدَّم على أنه كاتب، هكذا، وقد تم عزله عما كان يميّزه في وسطه الأكاديمي الثقافي فيلسوفاً؟
رورتي " 1931-2007 " الفيلسوف البراغماتيكي الأمريكي، والجامع خلاف الغالبية الكبرى من نظرائه من معاقري الفكر الفلسفي وحتى النقدي، بين ما هو بارد" العالم الأمريكي- الساكسوني " جهة الميل إلى الفلسفة التحليلية والوضعية وامتدادتها العملية في الواقع، ومن الناحية العلمية، وما هو حار " الفلسفة القارية " في أوربا، في فرنسا وألمانيا في الواجهة، وما في ذلك من " شق عصا الطاعة " على تقليد أكاديمي صارم ومتَّبع قبل البحار " في لندن " وماوراء البحار، في أمريكا، والمتاعب التي سبَّبها هذا التأليف : الهجين وتبعاته بالمقابل ؟!
ثمة ما يستدعي التوقف، على الأقل، بإيجاز، يضمن، في حدود الإمكان، إبراز صورة كاتب، مفكّر ومكابد لهمّ الفكر في جوانبه المختلفة: الفلسفة، الفن " الجمال" الأدب، والسياسة كذلك!

هوذا الملف المعلوم
أن يكون هناك إعداد ملف فلسفي حول رورتي، وفرنسي، ليس اعتباطاً، إنما هو رد جميل على موقف جميل، بمفهومه المعرفي، أي ناحية انفتاح رورتي على ثقافات عدة، وضمناً: القارية، وثمة ما هو مشار إليه في ثبت عناوين لمؤلفات له، وردت سالفاً" دريدا في الصميم "، ليكون انفتاح المجلة الفرنسية تأكيد تفاعل على أن المسافة الجغرافية الهائلة لا تحول دون التمازج.
في تقديم مادلريو لرورتي وفي مجلة" وثائق فلسفية " حديثاً نسبياً، أي قبل قرابة أربع سنوات، أي بعد وفاته بـ " 12 " سنة، نقرأ ما يعزّز لمثل هذه العلاقة التي يمتزج فيها الماء والتراب:
(عند النظر في أعمال ريتشارد رورتي (1931-2007)، فإن ما يلفت النظر هو التنوع الواسع في قراءاته ومحاوريه. هناك عدد قليل من الفلاسفة المعاصرين الذين يمكنهم التباهي بمثل هذا الموقف غير الدوغمائي في اختيار مراجعهم. على جانب الفلسفة التحليلية، كتب رورتي عن فيتجنشتاين، رايشنباخ، كواين، سيلارز، ديفيدسون، دينيت، سيرل، ماكدويل ولكن أيضًا عن راولز، كوهن، كافيل أو تايلور؛ وعلى جانب الفلسفة القارية، نشر مقالات عن هيدغر، ودريدا، وفوكو، وليوتار، ولكن أيضًا عن غادامير، وكاستورياديس، وهابرماس، وفريزر. وهو معروف بالطبع أيضًا باستعادة الرؤية للبراغماتية الأمريكية، من خلال كتابته عن بيرس وجيمس وديوي وهوك وكذلك من خلال مناظرته مع البراغماتيين الجدد مثل بوتنام، أو براندوم، أو إم ويليامز، أو ويست أو بوسنر. وقدم تفسيرات لشخصيات كلاسيكية في الفلسفة، بما في ذلك أفلاطون، وأرسطو، وديكارت، ولوك، وكانط، ونيتشه، وهيغل، ووايتهيد، لكنه كان مهتمًا أيضًا بكتاب مثل ديكنز، وبروست، وأورويل، ونابوكوف، وكونديرا ونقاد الأدب مثل إيكو. بلوم أو نوريس أو دي مان.
لقد كان رورتي يمارس الفلسفة التي نظّرها - أو بالأحرى، أعطى الفلسفة الصورة التي تخدم الممارسة الفلسفية التي رغب في الترويج لها باعتبارها الأكثر فائدة للمجتمع الفلسفي: المحادثة.
الموضوع الرئيس لفكره، والذي أصبح واضحًا بشكل متزايد في سياق عمله، هو أن البشر لا يمكنهم الاعتماد إلا على أنفسهم، وأنه لا توجد سلطة غير بشرية يمكنها توجيه وتبرير الممارسات البشرية، وأن البشر لديهم ولا سبيل إلى واقع غير إنساني يوفر معياراً للفصل بين خلافاتهم بيقين، وبالتالي فإنهم مسئولون فقط -فكرياً وأخلاقياً- عن بعضهم بعضاً، تجاه الآخرين، وليس تجاه الذرات أو تجاه الله الذين هم كائنون.
لقد كان في الواقع يدافع عن فكرة أن الأمل الاجتماعي بمستقبل أفضل يجب أن يأخذ على المستوى الأخلاقي المكانة المعيارية التي احتلها البحث عن معرفة معينة، مضمونة بأساس غير إنساني، في ثقافتنا منذ الإغريق، وأن من الأفضل لنا نحن البشر أن نرى أنفسنا كحيوانات ناطقة تفعل ما بوسعنا على هذا الكوكب لتحسين علاقاتنا وممارساتنا الاجتماعية (بما في ذلك العلم)، بدلاً من أن ننظر إلى أنفسنا كأشخاص مختارين بشكل طبيعي في انسجام مع الحقيقة المطلقة والأشياء اللاإنسانية.
ولم يواجه أيّ من الفلاسفة الفرنسيين الذين سعى إلى الحوار معهم نفسه جديًا بقراءة أعماله كما استطاع أن يفعل من جانبه، على سبيل المثال هابرماس .
لن نجد سوى ذكر واحد لرورتي في جميع مجلدات أقوال فوكو وكتاباته، كرد فعل على ملاحظة الفيلسوف الأمريكي حول فكره. وبالمثل، فإن التبادلات بين رورتي ودريدا واضحة من خلال عدم التماثل بين رورتي الذي قرأ وعلق على دريدا، دريدا الذي يستخدم تعليقات رورتي لإعادة تفسير أطروحاته الخاصة، دون السعي إلى فهم تلك الخاصة بمحاوره.
إن سياق المحادثة - الرغبة في استيراد ونشر تقليد تحليلي لا يزال غير ممثل بشكل واضح في فرنسا - جعل من الصعب سماع مواقف الفيلسوف الذي جاء من هذا التقليد، والذي جاء لمعارضته بشكل جذري. الافتراضات والممارسات ويشير منذ ذلك الحين بطريقة مدح إلى هؤلاء الشخصيات الفرنسية الذين، مثل دريدا، جسدوا كل ما سعى هؤلاء الفلاسفة أنفسهم إلى تجاوزه.
منذ تعيينه أستاذًا للعلوم الإنسانية في جامعة فيرجينيا عام 1982 إلى أستاذ الأدب المقارن في جامعة ستانفورد عام 1997، أصبح رورتي مهتمًا بحرية متزايدة بالأدب ودوره في الثقافة، لتقريب الفلسفة منه، وبالتالي تحريكه عمدًا. ) " 2 "
ثمة الكثير والبالغ الكثافة في هذا التقديم، وقد حاولت نقلَ ما هو مشدّد على مكانة رورتي وما يصلنا به، نحن أنفسنا كباحثين عن المعرفة، مهما تنوعت في لغاتها،وما يصله بنا من خلال التركة الفكرية له، وما يمكن الاستفادة منها، وهي لا تخضع لشرط الزمكان المؤطر، وإلا لما كان هذا الانشغال بالموضوع، ولا كان كاتب مثل الغذامي ينشغل به وهو يتمترس وراءه.
مقدّم العدد لم يقمقم رورتي في زاوية معتمة، اسمها" نار الحياة " وإشكالية الموقف منها، من هذه المادة وظرفيتها بالمقابل، حيث يُنظَر فيها دون ربطها بما اجتهد فيه رورتي فكرياً.
إنه طريق طويل، متشعل، تضاريسي المسلك، متنوع المناخات من خلال واقع متغير كثيراً .
وليكون لـ " نار الحياة " تلك الحياة المعلوم بزمانها ومكانها، لحضورها الشرطي اعتبارياً .
وإن تم الإغلاق على الموضوع برمَّته، فهذا يدفع بنا إلى التصرف بالمثال، وهو أن الغذامي لم يكتب سوى كتاب واحد، أراده صك إثبات نفسياً على خاصية تقية" مآلات .." دون غيره؟؟!

رورتي كما يقول هو عن نفسه
ما تقدّمنا به في مستهل مجلة " وثائق فلسفية " يمكن أن يضاء من خلال ما سطَّره في سيرته الذاتية الفكرية، حيث نشِر ما يشي بـ" الغرض " في المجلة هذه، وفيه الكثير والوفير مما يعلّم .
لقد أعطيَتْ مساحة لافتة لهذه السيرة، وما يمكن القول بأن المعنيين بالمجلة راعوا مكانة المفكر والفيلسوف الأمريكي الاستثنائي، وقدَّروا المكانة الكبرى لهذه السيرة وما فيها مما مؤثّر هنا.وقد حاولتُ إيراد مقتطفات، قد تبدو للقارىء أحياناً على أنها أخَذت مساحة واسعة، إنما، ربما كانت حجتي أنها منقولة من نصها المنشور بالفرنسية، وبغية الاطلاع عليها، والوقوف عند كمّ أكبر من النقاط المفصلية لحياته الشخصية وروابطها العلمية والفكرية:
(لقد أمضيت حياتي أبحث في المكتبات، على أمل أن أصدم - وأتحول - بكتاب مليء بالخيال، أصلّي تمامًا. تمجيدًا بمثل هذا الكتاب، سأفتح بعد ذلك كتابًا ثانيًا، والذي لا يكاد يتوافق مع الأول. سأحاول بعد ذلك جسر الهوة بينهما، لإيجاد سبل لإعادة صياغة ما قيل في أحدهما مع مراعاة ما قيل في الآخر، لتحقيق ما يسميه غادامير "انصهار الآفاق fusion des horizons ".
إن إدراك احتمالية ما نقدره أكثر من غيره هو وسيلة جيدة لتجنب الدوغمائية. أجد أنه من الجيد أن أضع في اعتباري أنه إذا اضطررت إلى إدراج جميع الكتب التي حاولت التوفيق بينها، فسيبدو الأمر بمثابة قطعة سخيفة.

يعتقد أفلاطون أن اليقين المبكر يمكن تجنبه من خلال صياغة حجج لا يمكن دحضها بصبْر. لكن ما يمكن اعتباره حجة جيدة يعتمد على الظروف الطارئة بقدر ما يعتمد على ما يمكن اعتباره ببليوغرافيا جيدة. الحجة ليست خطافًا يرفعنا فوق الزمان والمكان المحددين لنا. الخيال وحده يستطيع أن يفعل ذلك. لكن الخيال لا ينقلنا إلا إلى مكان آخر. إنه لا يتغلب على محدوديتنا، وحقيقة أن أغلى معتقداتنا هي فقط أفضل ما يمكننا تجميعه من المواد المتاحة لنا عن طريق الصدفة.
ومن وجهة النظر هذه، فإن ما يسمى بـ "مشكلات الفلسفة" هي بناءات تاريخية، تم إنشاؤها لأغراض بلاغية وتربوية من قبل مفكر أصيل من بين آخرين.
ومع ذلك، فمن الممكن أن يأتي اليوم الذي لا يعد فيه الفلاسفة يعتبرون أنفسهم "مساهمين في المعرفة". في ذلك اليوم، لن يأخذ أحد على محمل الجد فكرة أن فيلسوفًا معينًا قد فهم الأمر بشكل صحيح، مرة واحدة وإلى الأبد. وهذا هدف يليق بالطهاة والحرفيين والمحامين والعلماء والمحاسبين وغيرهم ممن لا خلاف في غرضهم ووظيفتهم.

ولهذا السبب أمضيتُ الكثير من الوقت في محاولة إقناع ثنائيّ من الفلاسفة (مثل نيتشه وميل، وديوي وهيدغر، وبوتنام ودريدا، وسيلارز وفيتجنشتاين، وبراندوم وديفيدسون) بالإمساك بأيدي بعضهم بعضاً - مما يسبب لهم أحيانًا الإحراج والانزعاج.

وكان الفلاسفة الذين تركوا أقوى انطباع عندي خلال تلك السنوات هما هيجل ووايتهيد. لقد منحني كتاب "ظواهر الروح" لهيجل، و"مغامرات الأفكار" لوايتهيد، و"السلسلة العظيمة للوجود" للوفجوي، طعماً للروح الطموحة والمفعمة بالحيوية التي لم أفقدها أبدًا.

الرفاق الذين أعجبت بهم كثيرًا في شيكاغو كانوا من تلاميذ ليو شتراوس: كانوا طلابًا في لجنة النظرية الاجتماعية، مثل آلان بلوم، وفيكتور جوريفيتش، وستانلي روزين، ناهيك عن سيث بينارديت وسعة الاطلاع التي لا تضاهى.

في خريف عام 1951، عندما فشلت في الحصول على فكرة أفضل عما يمكنني فعله في حياتي، قررت التقدم بطلب للحصول على برامج الدكتوراه في الفلسفة. نصحني ديفيد جرين، الإستاذ الرائع الذي ترك انطباعًا قويًا عندي، بإعداد أطروحة في لجنة النظرية الاجتماعية. لقد شعرت بالإغراء، خاصة لأنه كان من الممكن أن يسمح لي بالحصول على منحة للعمل في باريس مع كوجيف وبالتالي السير على خطى آلان بلوم.

وحتى في جامعة ييل بدأ الناس يشككون في أن أهم الفلاسفة المعاصرين هم كارناب وكواين. لذلك ذهبت للبحث عن الفلاسفة التحليليين الذين كانوا أقل اختزالاً وأقل إيجابية.

وبينما كنت أؤدّي خدمتي العسكرية في زمن السلم، بين الحرب الكورية وحرب فيتنام، لم أتمكن قط من الارتقاء فوق رتبة الدرجة الثانية (وهي ترقية كانت ستحررني من أعمال المطبخ الروتينية وغيرها من المهام المماثلة).

قضيت معظم وقتي في الجيش أشعر بملل شديد، وأتساءل عما إذا كنت سأحصل على وظيفة تدريس بمجرد إعفائي من التزاماتي العسكرية.

في محاولتي لفهم ما يمكن أن يتفق عليه كارناب وفيتجنشتاين للتأكيد بشكل أفضل على اختلافاتهما الواضحة، عززت تفضيلي للحلول الفيتجنشتاينية للمشكلات الفلسفية على حساب الحلول البنّاءة.
ومازلت أؤمن بمعظم ما كتبته في الفلسفة ومرآة الطبيعة. ولكن هذا الكتاب عفا عليه الزمن الآن.
إن كتاب هيدغر "تاريخ الوجود Histoire de l’Être "، كما قرأته، هو تفسير لتقلبات ما أسماه ديوي "البحث عن اليقين".

إن افتتاني بهيدغر، وكذلك بالقراءات التي قدَّمها دريدا، حل تدريجياً محل طموحي في أن أصبح فيلسوفاً تحليلياً محترفاً ومحترماً. أصبح واضحًا تمامًا أن هذا الأمل لن يتحقق أبدًا من خلال قراءة المراجعات النقدية للفلسفة ومرآة الطبيعة في المجلات الفلسفية.

في أوائل الثمانينيات، كنت أبذل قصارى جهدي للتأقلم مع ما كان يسمى بالفلسفة "القارية" وكنت أحاول أيضًا العثور على منصب جديد. اعتقدت أنني إذا كنت سأخصص الكثير من تدريسي لنيتشه وهايدجر ودريدا، فسيكون من الأفضل عدم القيام بذلك في قسم الفلسفة.
لذلك قررت أن أشرح أنني أفضل الالتزام ببرنامج متعدد التخصصات بدلاً من الالتحاق بقسم الفلسفة. وانتهى بي الأمر بالحصول على وظيفة في جامعة فيرجينيا، والتي صممها لي إ. د هيرش الابن، والذي كان آنذاك عميد قسم اللغة الإنجليزية. اعتقد هيرش، الذي عرفته من جامعة ييل، أنه سيكون من المفيد لطلاب الدراسات العليا الذين يدرسون الأدب في جامعة فيرجينيا أن يقدم لهم الفيلسوف عن طريق التدريب دورات حول مفكرين مثل فوكو ودريدا، الذين والتي تم تدريس أعمالها بالفعل تحت عنوان "النظرية الأدبيةthéorie littéraire " في أوائل الثمانينيات، عندما كانت "النظرية" لا تزال هي المنهج الدراسي (قبل ظهور "الدراسات الثقافيةétudes culturelles ")، أراد طلاب الدراسات العليا في اللغة الإنجليزية تجربة كمية كبيرة من نصوص نيتشه وهيدغر ودريدا، على عكس طلاب الفلسفة. وتحت قناع "النظرية الأدبية" تم إدخال الفلسفة "القارية continentale " إلى الجامعات الناطقة باللغة الإنجليزية.

كما قدّمت أيضًا ندوات للدراسات العليا حول موضوعات مثل "نظريات التفسير" أو "الفلسفات غير التمثيلية للغة: فيتجنشتاين وديفيدسون ودريدا".
بمجرد استقراري في جامعة فيرجينيا، امتد عملي في اتجاهين. واصلت المشاركة في المناقشات بين الفلاسفة التحليليين، معظمها للدفاع عن الأشخاص الذين أعجبت بهم كثيرًا (مثل ديفيدسون أو دينيت) ضد منتقديهم. لكنني بدأت أيضًا أكتب المزيد عن مؤلفين وموضوعات خارج الفلسفة التحليلية: على سبيل المثال، فرويد، ودريدا، ونابوكوف، وهيدغر، وكاستورياديس، ودور الرواية في التربية الأخلاقية، ومصير الاشتراكية والعلاقة بين السياسة الثقافية والسياسة الاجتماعية. -السياسة الاقتصادية. نقلاً عن دريدا عندما كنت في أكسفورد، وعن ديفيدسون عندما كنت في باريس، مارست ما يسميه ستيفن بوتر “نهج الناديين approche des deux clubs".
بعد أن توقفت عن الانتماء إلى قسم الفلسفة، وخاصة بعد نشر "الصدفة والسخرية والتضامن"، كثيرًا ما سُئلت عما إذا كنت لا أزال أعتبر نفسي فيلسوفًا. وكانت إجابتي: "بالطبع. ما هو الاسم الآخر الذي يمكن أن يناسبني؟ لقد قرأت القليل جدًا خارج الفلسفة حتى أتمكن من الانتماء إلى أي تخصص آخر. وعندما يسألني الناس إذا كنت لا أزال فيلسوفًا تحليليًا، أجيب: «يومي الثلاثاء والخميس فقط»، وأعني بذلك أنني أعمل وفق التوجهين اللذين ميزتهما أعلاه.
والسؤال الذي يطرح عليّ كثيرًا هو: "ما هو مستقبل الفلسفة؟ أجيب بأن مستقبلها مشروط مثل مستقبل الرواية: كلاهما يعتمد كليًا على ما سيفعله العبقري القادم الذي سيظهر.

إن إنجازات سيلارز وديفيدسون وآخرين لن تُنسى. إذ تتغير الموضات الأكاديمية لأسباب غامضة، ولكن طالما استمرت الحرية الفكرية، فإن الأعمال المذهلة والمبتكرة، وهي إنتاجات العقول الأصيلة حقًا، ستتم إعادة اكتشافها والتهامها. لن يفتقر فيتجنشتاين ولا هيدغر إلى القراء أبدًا.
وبقدر ما لا يزال الفلاسفة يهتمون بما إذا كان هناك محك غير إنساني (الواقع الذي يقال إن المقترحات الحقيقية تتوافق معه، والقانون الأخلاقي الذي يجب على المؤسسات الإنسانية أن تجسده) لتقييم القرارات البشرية، إنهم يخاطرون بفصل عملهم عن التقدم الأخلاقي والثقافي. كما أنها تتعرض لخطر عدم قراءتها من قبل المثقفين الذين يسهمون بالفعل في هذا التقدم.

إن أكثر الفلاسفة فائدة هم أولئك الذين يقنعوننا بعدم القلق بشأن المشكلات التي لم تعد ذات أهمية عملية. فمنذ ما يقرب من مائتي عام، اقترح كتاب هيغل "ظاهريات الروح" طريقة جديدة لكتابة حواشي أعمال أفلاطون ونبذ الألغاز الميتافيزيقية والمعرفية. وتساعدنا قراءة هذا الكتاب على التفكير في الفلسفة باعتبارها دراسة العلاقات بين الماضي الإنساني والحاضر الإنساني والمستقبل البشري المحتمل، وليس العلاقات بين الإنسان وغير الإنسان. ) " 3 "
كما أشرتُ، إن حجتي هي أن الذي يقرأ هذه الفقرات التي اخترتها، يزداد قرباً من رورتي " أو هكذا أفترض طبعاً " ويكون فضوله معرفياً أكثر، وبمقدار ما تكون قابليته للانفتاح عليه أكثر فأكثر.
في مستطاع الآخذ بمسيرته الحياتية العملية، أن يعتبرها نبعاً كاشفاً عن جوانب حية من سلوكه أو طريقة تفكيره وتعامله مع الحياة العادية وتلك المرتبطة بالثقافة والجامعة وسواها. وعما عُرِف به في مواقفه بصفته أمريكياً، كما يعرّف بنفسه كثيراً، ويشهِر انفتاحه النفسي والفكري على الثقافات والعالم الخارجي، وما يتوازى مع ما هو مكتوب في الشأن الفكري بصيغ شتى .
كما أنه في مقدور الباحث عن الفكر، أن يتوقف عند رورتي بصفته شخصية مفهومية، لها وزنها ومداها المعرفي المعلوم جهة انتشار تأثيره خارج النطاق الأمريكي، وفي المنحى نفسه، ما يستوقف الناظر في صلاته الاجتماعية والسياسية ، وكرؤية لأمريكا كدولة وسياسة واعتبار، ودون نسيان مدى أهمية اللغة في إبراز تلك المؤثرات الاجتماعية والنفسية الخفية فيها .
إنما في الوقت نفسه، ثمة ما يصله بالأدب، وبالجمال، ورؤيته للعالم على صعيد كوكبي كمصير.

الفلسفة بوصفها واسطة العقد الفكرية
رورتي فيلسوف أولاً وأخيراً، ولكنه هاضم أنواع فكرية من خلال الفلسفة. حيث يكون الجمال، وحيث يكون التعامل مع الآخر، وحيث يكون النظر في الأدب وصلته بالفلسفة، وحيث تكون السياسة نفسها فاعلة في النشاط الفكري لديه. ثمة جماع قوى تسمّيه، كما يظهر.
هنا خط فكري اختطه لنفسه، ليكون له ظله المعرفي. وهناك ما ينير هذه الخلية الفكرية داخله:
(أراد رورتي أن يكون قبل كل شيء فيلسوفًا نقديًا، وقدم موقفه على أنه “سلبي” وليس “إيجابي” .
" في الواقع، كان يحدد هذا الموقف بانتظام بمصطلحات مثل “مناهضة الجوهرية”، و”مناهضة التمثيلية”، و”مناهضة التأسيسية”، وما إلى ذلك، بدلاً من السعي لبناء نظرية ذات أطروحات إيجابية. وإذا كان قادرًا على ادعاء "البراغماتية"، فذلك لأنه وصفها على الفور بشكل سلبي: "إن الإنجاز الرئيس الذي حققه جيمس وديوي كان سلبيًا: لقد أظهرا لنا كيفية التخلص من الأعباء الفكرية التي ورثناها من التقليد الأفلاطوني؟

وبالمثل، فإن التقارب الذي اعتقد أنه اكتشفه بين تطورات الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية طوال القرن العشرين - مع تقاطعهما المفترض عند نقطة سيطرت فيها البراغماتية الكلاسيكية بالفعل - يحدث من خلال هوية رفضهما وليس من خلال أي هوية. مشروع إيجابي مشترك: "إن المهم بالنسبة للتقليدين، الذي يؤدي إلى ديفيدسون والذي ينتهي إلى دريدا، ليس ما يقولونه بقدر ما هو ما لا يقولونه، وما يتجنبونه أكثر من ما يقدمونه .
في نظره، ما هو ثمين حقًا عند هيدغر ودريدا هو حركتهما الثورية ضد مشروع هوسرل – في بداية القرن – لجعل الفلسفة علمًا يقينيًا للجواهر؛ وما هو ثمين لدى فتجنشتاين الثاني، ثم كواين وديفيدسون، هو تخليهم عن برنامج راسل وفتجنشتاين الأول وهو اكتشاف البنية المنطقية التي تشكل جوهر اللغة والفكر.
وإذا كانت الفلسفة، ويجب أن تكون قبل كل شيء انتقادية، فما هو نوع النقد الذي يجب أن تنفذه؟ إلى جانب الحجج النقدية التي يحشدها رورتي في تفاصيل تحليلاته وتعليقاته، أود أن أحدد النوع العام من النقد الذي يروج له رورتي والذي يقول إنه مستوحى من البراغماتية، بهدف لاحق هو تحديد مفهومه للفلسفة العامة والفلسفة العامة.

وإذا كان النقد علاجًا، فهو يتعلق بالتالي بالأمراض التي تتطلب تعاون المريض للشفاء والتي تتطلب أيضًا شكلاً من أشكال الفهم الذاتي من جانبهم:
فالعصابي لا يُشفى حتى يفهم سبب مرضه، أما المصاب بالسرطان فيمكن شفاؤه حتى لو لم يعرف كيف أصيب بالسرطان. وبالمثل، فإن الشخص الذي يعاني من مشكلة فلسفية لن يعتبر إعطاء الدواء للتوقف عن الاهتمام به بمثابة حل للمشكلة المعنية
وهكذا فإن رورتي يجلب إلى محادثة المعالجين الناطقين باللغة الإنجليزية صوت الفلاسفة التاريخيين القاريين، مع مكانة خاصة لهيجل، باعتباره الأول في السلسلة، ولهيدغر، باعتباره الشخص الذي ذهب إلى أبعد من ذلك في محاولة لتجاوز التقليد الفلسفي.
وبالتالي فإن الهدف علاجيّ thérapeutique ويأتي من الفلسفة التحليلية والفلسفة الناطقة باللغة الإنجليزية على نطاق أوسع، ولكن الوسيلة تاريخية ومستوحاة من التقاليد القارية.
وإذا كانت الميتافيزيقا تعني محاولة ربط البشر بواقع غير إنساني، ينبغي أن يكون له سلطة على كيفية تصرفهم، فإن النقد العلاجي للميتافيزيقا يشبه في قلم رورتي النقد الديمقراطي للأشكال الفكرية للسيطرة الاجتماعية. وبفعل ذلك، يبدو رورتي قريبًا جدًا من “النقد الاجتماعي” الذي يدين أشكالًا معينة من الخطاب باعتبارها تمارس تأثيرات القوة على العلاقات بين البشر.
مثل هذا النوع من النقد يجد أصله في أعمال ماركس ونيتشه وفرويد بقدر ما يجد أصله في أعمال لوك وبيركلي وهيوم والثاني في هيجل. ولا يتم انتقاد الخطاب هناك لأنه لا معنى له أو لأن معناه وقيمته عفا عليها الزمن. على العكس من ذلك، فهو كذلك لأنه يحمل معنى أكثر مما نعتقد: فمعناه الأول، الحرفي أو الظاهر، يخفي معنى ثانيًا أعمق يحجبه الأول ويكشفه. والمعنى الذي يتجلى مباشرة ليس في الواقع إلا معنى أقل يحمي ويخفي ورغم كل شيء ينقل معنى آخر هو المعنى الحقيقي.
إن أي خطاب يدّعي أنه محصن بشكل نهائي ضد النقد والمراجعة، بما في ذلك من خلال تقديم نفسه على أنه النظرية النقدية النهائية (منزوعة من النقد الخاص به)، يكون مفتوحًا للنقد. ولهذا السبب يظل رورتي في نهاية المطاف ناقداً علاجياً، ليس لأنه يسعى إلى حل المشاكل الفلسفية الزائفة، بل لأنه فيلسوف بالنسبة للفلاسفة، يذكرهم باستمرار بعدم أخذ عملهم على محمل الجد ــ ليس من أجل الثناء على التهور، ولكن لأن المطالبة بأي سلطة فلسفية، سواء كانت لها علاقة بالمعنى أو التاريخ أو التنظيم الاجتماعي، هي بالنسبة له العقبة الرئيسة التي يمكن أن يقفها الفلاسفة المحترفون أمام التقدم البسيط للديمقراطيات الليبرالية.) " 4 " .
نحن إزاء مشهد فسيفسائي حين نقرأ هذا الذي ينقل إلينا الموجز اللامع والمتعلق به كفيلسوف. إن تنويعه الفكري ترجمة رغبة داخلية، لأن يكون فرداً واحداً منفرداً بنفسه، وليس كما هو القطيع المعلوم بمعناه، أو حتى على صعيد التقليد المحروم في الجامعة وفي ثقافة أمريكا. إن اعتزاز رورتي بأمريكيته لم يمنعه من أن يحدد موقعه الفكري، ونوعية نظرته إلى الآخرين.
ذلك يصلنا بما هو جمالي، ومكانة الجمال في مشروعه الفكري الكبير. أكثر من ذلك، يظهر أن هذا الذي جمَع في فكره الفلسفي بين ما هو حار وبارد، يرتقي إلىة مستوى الصيدلياني، الذي يفرد مكاناً معاوماً لتطبيقاته الدوائية في خلفية صيدليته ذات الأدوية المعلومة بأسمائها، وهو ما ينطبق عليه نفسياً، جهة ما يأخذه من كل اسم فكري، فلسفي ، وأدبي، وما يعمد إلى تهجينه لداع نفسي.

الجمال الذي ينفتح على قاعه العميق
في مفهوم الجمال، الذي انشغل به فلاسفة كثيرون، وجد فيه رورتي الكثير مما يلبّي ذائقته النفسية، وقابلية انفتاح، حيث المظهر ينفتح على الجوهر، بمقدار ما يكون هناك سعي معمَّق نحوه طبعاً، وبمقدار ما يشعر الباحث أن هناك فراغاً يكبر داخله، وهو يزداد اقتفاء أثر للجمال .
(لدى ريتشارد رورتي علاقة غامضة ومتناقضة بشكل خاص مع علم الجمال. من ناحية، تقع الجماليات في قلب مشروعه الفلسفي بأكمله: فهي تحفز استراتيجيته الجدلية، ورؤيته للتاريخ، وفهمه للتقدم اللغوي والعلمي والسياسي والأخلاقي، بالإضافة إلى نموذجه المثالي للتكوين وتحقيق الذات. . فإذا اعترف بأن “البعد الجمالي أصبح أكثر وضوحا في كتاباته.
علاوة على ذلك، في حين أنه يمتدح ديوي باستمرار باعتباره مصدر إلهامه الرئيس، فإنه نادرًا ما يشير إلى عمله الجمالي الرئيس، الفن كتجربة، ويرفض بشدة مفهومه الأساسي للتجربة.
من المؤكد أن رورتي يفضل الاستخدام الجمالي أو الشعري للغة على الاستخدامات التقليدية للتواصل العادي وحل المشكلات العملية. ورغم إصراره على قيمة اللغتين، لغة «حل المشكلات» ولغة «الكشف عن العالم»، فمن الواضح أنه يمنح الأخيرة مرتبة أعلى لقدرتها على خلق عوالم جديدة» من خلال مفردات جديدة ومفاهيم جديدة.
اللغة – التي تشكل، بحسب رورتي، قلب الحياة الشعرية لخلق الذات. وما يخيف الشاعر القوي هو أنه حتى لو نجت كلماته "فلن يجد فيها أحد شيئا مميزا"؛ "لن نترك بصماتنا على اللغة، لكننا سنقضي حياتنا فقط في تداول الأوراق النقدية التي تمت طباعتها بالفعل.
وكما أن فكرة رورتي عن الشاعر القوي تخلط بين الإبداع الفني والتفرد المبتكر، فإنها تساوي الاستقلالية مع التعريف الذاتي الأصلي، والحرية مع التفرد.
يجادل رورتي بأن التزامنا بحقوق الإنسان والمبادئ الأخلاقية الأساسية الأخرى لا يمكن تبريره في الواقع من خلال استحضار العقلانية العالمية. بل تعتمد على المشاعر المشتركة حول كيفية معاملة الناس. إن الشعوب التي لا تشاركنا ثقافاتها معتقداتنا الأخلاقية قادرة تمامًا على تنفيذ المهام العقلانية الصعبة بجميع أنواعها، بحيث، وفقًا لرورتي، فإن معاملتها غير الأخلاقية لبعض السكان (الأقليات العرقية، والنساء، والأطفال) ليست نتاجًا لعدم العقلانية. بل ينجم عن الشعور بأن المخلوقات التي يضطهدونها ليست بشرية تمامًا. ويقول إن ما يجعلنا أكثر أخلاقية من الحيوانات هو أننا "يمكننا أن نتعاطف مع عدد أكبر من الأفراد مما نستطيع".
ويؤكد هناك مرة أخرى أولوية الجماليات، أي الأدب، على منطق الفلسفة، بل ويؤكد على المزايا المحددة للشعر على النثر من حيث "التأثير العاطفي"، بسبب كثافة مزيجه من "الصور، ولكن أيضًا القافية". والإيقاع". يعترف: «كنت أود أن أخصص المزيد من الوقت في حياتي للشعر. ليس لأنني أخشى أن أكون قد فاتتني حقائق لم يكن من الممكن التعبير عنها بالنثر. لأنه لا توجد مثل هذه الحقائق (...). ولكن لأنني كنت سأعيش بشكل أكمل لو كنت "مشبعًا بالشعر". "إن الثقافات التي تحتوي على مفردات أكثر ثراءً هي أكثر إنسانية - فهي أبعد عن الوحوش - من تلك التي تكون فيها أكثر فقراً. يصبح الأفراد، نساءً كانوا أم رجالًا، أكثر إنسانية عندما يتم توفير ذاكرتهم بشكل كافٍ في الشعر.) " 5 "
ثمة حراك مجتمعي كوكبي في مثل هذا التقدير للجمال الذي يشكل رافعة فكرية مركَّبة، فيها أصوات كثيرة، من الأدب إلى الفلسفة، ومن العلم إلى الفن، من السياسة إلى التاريخ، من الاجتماع إلى الاقتصاد، وما يصل بين الشعوب، انطلاقاً مما يمكن الاستئناس به في المسطور.
ليس الشعر ببعيد عما هو مقروء، وما في هذه الإشارة من أن حديث رورتي عن الشعر ليس حديث العهد، أي من خلال مقاله المذكور" نار الحياة "، الشعر لم يفارق رورتي، لقد كان له وزنه الفني في مدينته مجتمعاً وثقافة، وحيث التربية الذوقية وتحفيز القوى النفسية فاعلتان هنا.
الأدب كتمثيل، كمجاز، كلعبة فنية يجر إعدادها في متخيل المعني به، هو ما نقرأه ونتلمس فيه ما يعبّر عن مشاعرنا وأحاسيسنا وهواجسنا، وهذه ليست الفلسفة وحدها تستأثر بها وهي ترى فيها أكثر من فاعل سلطة رمزية في الكتابة التي يجري نشرها والإقبال عليها:
فـ(في كتابه الصدفة والسخرية والتضامن (1989)، طوَّر رورتي انعكاسًا يمنح الأدب امتيازًا، مرتبطًا بكل من السخرية والتضامن الليبرالي. تلعب قراءات بروست ونابوكوف وأورويل دورًا مركزيًا في مناقشة هذا الكتاب. يرتبط الأدب في المقام الأول بمفهوم "السخرية". على عكس “الميتافيزيقي” الذي يريد العثور على مفردات نهائية تؤسس للمعرفة، فإن “الساخر” يقبل وفقا لرورتي عارضية رغباته ومعتقداته (ص. الخامس عشر).
عند رورتي، كما عند روسيه، تلعب النصوص الأدبية وظيفة التمثيل، حيث تعمل على توضيح النظريات الفلسفية. مع ذلك، بينما يبدأ روسيه غالبًا باقتباس عبارة أو مقطع تعبير أو مشهد معين يكشف بعض الحقيقة الفلسفية، يميل رورتي بدلاً من ذلك إلى ذكر التعميمات حول مؤلفيه المفضلين. خذ بعين الاعتبار تمييز رورتي بين النظرية والأدب. وفقًا لرورتي، فإن "المنظرين الساخرين" - فئة تضم هيجل، ونيتشه، وهيدغر، ودريدا، وفوكو - يعترفون بصدفية أي مفردات، مدركين أن أوصافنا للعالم تكون دائمًا عرضة للاستبدال بأوصاف أخرى (الصدفية، ص98).
ونرى أن المنظور الفلسفي يجلب فهمًا عميقًا للبعد المعرفي والأخلاقي للأشكال الأدبية. على العكس من ذلك، يتيح الأدب، من خلال عرضه للتجربة الإنسانية، إلقاء نظرة نقدية على الخطاب الفلسفي، والكشف عن أهمية بعض المفاهيم التي غالبًا ما تقمعها هذه الفلسفة، مثل فكرة الصدفةidée de hazard ) " 6 "
الحديث عن الصدفة" أو المصادفة، محوريّ لدى الكتاب الذين يركّزون على ما هو نسبي، على فراغات الوجود، على أن المعرفة لا تعدو أن تكون جملة مصادفات ، بعلامة برزخية متحركة، تصل ما بين معلوم ما، في حدود معينة، ومجهول ما في حدود معينة بالمقابل، وأن القلق الذي لا يفارق الباحث عما هو فكري، أو فني، يبقي جذوة المتخيل فالكتابة متوهجة..
بذلك لا يعود مجرد براغماتيكي كغيره من نظرائه،إنما ما يجعل النقد متقدّمه في كل قراءة، لكي يبقى متحرراً من كل تأطير، أو تبعية معينة، أو أسير فكرة تستبد بنفسه، وهي في فتنة تجلّيها.
إن العلم نفسه معرَّض للنقد، والميتافيزيقا، وبين الاثنين يكون العالم مترقباً ما يجري من خلالهما، حيث إن المفكر، والفليلسوف في الصميم، هو من طريق المعرفة سالكاً حباً بالحياة:
إذ (لطالما كانت للبراغماتية علاقة وثيقة بشكل خاص بالعلوم الطبيعية. أكد مؤسسها، تشارلز ساندرز بيرس، على "روح التجريب" الخاصة بالعلم الحديث ضد "الروح الديكارتية"، من أجل إصلاح الميتافيزيقا، أي تحريرها من النموذج اللاهوتي لجعلها "علمياً" أصيلاً.
لقد جادل رورتي مرارًا وتكرارًا مع الفلاسفة الذين حاولوا، بشكل أو بآخر، إضفاء الشرعية على الأولوية المعرفية للمعرفة العلمية - التي تم تفسيرها على أنها "اختلاف في الطبيعة" بينها وبين الأنشطة البشرية الأخرى - واستنتاج أولوية ثقافية.
إن نقد فلسفة العلم يسير دائمًا جنبًا إلى جنب، في مؤلف كتاب عواقب البراجماتية، مع تقدير النشاط العلمي، الذي تميز خصوصياته وعمومياته رورتي عن معظم المروجين الفلسفيين للعلم.) " 7 "
ثمة رؤية عالمية لديه، تتيح لنا النظر في كتاباته، وكيفت تمارس حياته، وكيف تعرض وجوهها الثقافية والاجتماعية والسياسية بالمقابل، وما انفتاحه على الآخرين إلا استجابة لهذه الرغبة، وانطلاقاً من معايير ذهنية ونفسية معين بالتأكيد، وقد ( كان رورتي واضحاً في مديحه لبعض الفلاسفة الذين تقدَّموه والذين وجد فيهم ما يمثّل وجهة نظره . يقول " إن الفلاسفة اللاكنْتيين، مثل هايدغر ودريدا، كانوا شخصيات ذات رمزية معينة تمثلت في أنهم لم يعملوا على حل معضلات فقط، وإنما في أنهم لم يكن لديهم حجج ولا أطروحات.) " 8 "
ينظر إلى نفسه من خلال الآخرين، وينظر إلى هؤلاء لأنه لا يفارق نفسه في خضم حياتها واقعاً وتلك المستجدات الجارية في محيطها الاجتماعي والسياسي. وهي نظرة تكون مرتَّبة، مختارة بالصورة التي تكفل له بقاء حياً في الزمان والمكان، ومستوعباً كل متغير، ومعبّر عنه كتابة .

وللسياسة موقعها في مضمارها الفلسفي
لطالما انشغل رورتي بالسياسة، وبلغة الفكر وما في الفكر هذا من مصطلحات فلسفية توسّع دائرة الرؤية لديه، بمكوناتها الاجتماعية والتاريخية، وحتى على صعيد استراتيجي بالمقابل، وهي الأرضية التي شهدت ارتحالات في العلاقات والحوارات والجدالات التي وصلت بين عوالم مختلفة قارياً، ولأوربا لائحتها الكبرى في هذا التموقع الثقافي، ورهانات السياسة، أعني التمثيل المجتمعي الذي يجد المثقف نفسه معنياً به، ومن حقه وواجبه في آن، وإزاء متابعة تاريخية .
وربما أمكن التأكيد على فرنسا وكيف أن ذلك كان يثير حفيظة أصحاب الفلسفات التحليلية والمنطق الوضعي ، حيث تدولت أسماء في الفكر والسياسة، داخل الرواق الجامعي وخارجه.
كان رورتي على وعي كامل أن لغته الفكرية لن تكتسب تلك الأهمية المنشودة من التماسك في المصطلح وجاذبية المفهوم، إلا بمعايشة مناخ معلوم تاريخياً بفلسفاته ذات المنحى الموسوعي، أي أوربا، ولفرنسا، ولألمانيا شأنهما في هذا السياق، وما في هذا التوجه من محاولة اكتساب أمرين اثنين : لفت نظر الآخر المعروف بخلفيته الفكرية، وتأكيد الذات الفلسفية بما تقدم:
(هل من الضروري للفلسفة أن تزود الديمقراطية بأساس يضمن شرعيتها، أم أن مشروع التحرر الديمقراطي لا ينتج إلا عن نشاط إبداعي يسعى الناس من خلاله إلى تحرير أنفسهم؟الهيمنة، من خلال لفتة لا يأذنون فيها إلا لأنفسهم ولهم. الرغبة المزدوجة في المساواة والحرية؟
يعود اهتمام رورتي بكاستورياديس إلى ثمانينيات القرن العشرين: لقد كان واحدًا من أوائل الفلاسفة الأمريكيين، ربما مع ديك هوارد ولكن في سجل ربما أقل سياسية بشكل مباشر، الذين قاموا بالإشارة بوضوح إلى كاستورياديس. التقى الرجلان للمرة الأولى في عام 1989 خلال ندوة في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور، وتواجها بشكل مباشر خلال لقاء في الكلية الدولية للفلسفة في عام 1995، وهو عرض ردّ كاستورياديس على محاضرة ريتشارد رورتي حول الفلسفة. مسؤولية المثقفين.
لقد أظهر كاستورياديس في مناسبات عدة أنه يزدري تمامًا الفلسفة التحليلية، عمومًا في أمريكا الشمالية، والتي لامها بسبب أكاديميتها وعدم قدرتها على النظر في الواقع الملموس، ولا سيما المشاكل الفعلية التي يطرحها العلم المعاصر. لم يكن رورتي مستهدفًا على وجه التحديد من هذا النقد، لأنه احتل موقعًا هجينًا إلى حد ما في المجال الفلسفي الأمريكي: مشربًا بقوة في البداية بالمشكلات الخاصة بالفكر التحليلي، متأثرًا بكواين، ديفيدسون وبوتنام، طور رورتي فكرًا أصليًا للغاية، تميزت بانتمائها إلى براغماتية جيمس وخاصة ديوي، ولكنها تأثرت أيضًا بالمفكرين الأوروبيين مثل نيتشه أو هيدغر أو دريدا.
ما يجمع كاستورياديس ورورتي معًا هو الأولوية التي يمنحها كلاهما للممارسة على النظرية، حتى لو لم يدعي كاستورياديس أي انتماء براغماتي.
وبعبارة رورتي، لا يمكن للجوانب المختلفة للوجود الإنساني، الفردي والجماعي، أن تشكل موضوع رؤية وحدوية، مثلما لا يمكن وصفها بمفردات مفضلة. تقع هذه تحت ما يسميه رورتي “احتمالية اللغة
وفقًا لكاستورياديس ورورتي، فإن غياب الأساس هذا لا يكشف بأي حال من الأحوال عن زيف السلطة، حتى الأكثر ديمقراطية، ولكنه يعني ضمنًا أن مسئولية وضع القوانين، دون مساعدة التعالي، تقع على عاتق الرجال، وعليهم وحدهم. إنها الطبيعة أو الدين أو التقاليد. ولذلك لا ينبغي فهم هذا الفراغ الأصلي بطريقة النقص المدمر، ولكن بمعنى أنه يوفر المعيار المتميز للمؤسسة الديمقراطية الذي لا يمكن فهمه إلا على أنه تتويج وبلورة لفعل اختراع أو إبداع. ) " 9 "
وما حاول إبرازه من التعريف بنفسه انتماء إلى دولة: قارة، وهو يعرض ثقافته ذات العلامة السياسية المعلومة، الدولة التي لم يخف رورتي افتخاره بها، رغم تركيزه على ما ينبغي أن تتمتع به دولة في هذا المقام الكوكبي من موقع لافت وهيبة اسم :
(في أفق فكر العلمنة، قد تبدو فلسفة رورتي قريبة من التطورات التي نجدها في فرنسا بين المؤلفين الذين هم في أعقاب توكفيل.
إن استقبال رورتي بيننا، كفرنسيين، يبدو غير حساس للغاية تجاهه، الأمر الذي يثير بالتأكيد الليبرالية، لكنه، قبل كل شيء، يدين النسبية ولاعقلانية مواقفه. ومع ذلك، مثل ديوي في عصره، تم استقبال رورتي في فرنسا، وربما، مثل ديوي، تم تصنيفه أكثر من تحليله، ووضعه أكثر من فهمه. صحيح أن رورتي محير. وهكذا، فبينما يظهر الليبرالية بلا شك في جميع الأمور، فإنه يستطيع أن يعلن أنه يجب إعادة تأهيل الصراع الطبقي. وهو ينتقد باسم رفض "الجوهرية" و"التمثيلية" أي ادعاء بالحق والموضوعية، لكنه لا يتماهى مع الشكية.
لا شك أن هناك معارضة سياسية في الانتقادات التي يمكن توجيهها في فرنسا إلى رورتي. لأن رورتي يطلق على نفسه ويعلن نفسه أمريكيا، ويضع فلسفته وبراغماتيته بشكل عام على أنها أمريكية.

يعلق رورتي: “لا يبدو أن هناك أي جسر في طور البناء فوق الفجوة التي تفصل بين ما يسمى بالفلسفة “التحليلية” وما يسمى بالفلسفة “القارية”. يبدو لي أكثر أسفًا أن العمل الأكثر إثارة للاهتمام الذي يتم إنجازه في التقليدين يتقاطع رغم كل شيء في جزء كبير منه.
نحن، كبراغماتيين، ليس لدينا نظرية للحقيقة، ولا حتى نظرية نسبية. ولأننا من أنصار التضامن، فإن تفسيرنا لقيمة البحث الإنساني يرتكز على أساس أخلاقي بحت، وليس على نظرية المعرفة أو الميتافيزيقا. .
بمعنى آخر، إذا كانت البراغماتية تؤكد وجهة نظر شمولية، أي أنه لا يمكن ترك المجتمعات للوصول إلى وجهة نظر محايدة "متعالية"، فإنها لا ترفض بأي حال من الأحوال إمكانية تبرير هذه المجتمعات نفسها.
وها نحن هنا مرة أخرى مع هذا التوصيف للبراغماتية باعتبارها ديمقراطية وأميركية. هذا هو المكان الذي تلتقي فيه السياسة بنظرية المعرفة. ذلك لأن تعارضات الفلسفة التقليدية تستجيب لمفهوم إقطاعي للثقافة.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن البراغماتية تستجيب بفعالية للروح الأميركية. لأن أمريكا في الأساس قوية من صدفة أصولها. دولة جديدة، مخترعة، انطلاقاً من مبادرة الإرادة، تخلق باستمرار دون الحاجة إلى الولاء ودون مساءلة عن ثقل وقت الأوامر وثقل الماضي الذي يبرر نظاماً يجبر، أمريكا تجربة.

"إن هذا البلد وأبرز فلاسفته يقترحون علينا أنه يمكننا، في السياسة، أن نضع الأمل بدلاً من هذه المعرفة المحددة للغاية التي اعتاد الفلاسفة على محاولة تحقيقها. لقد كانت أميركا دائماً دولة ذات توجه نحو المستقبل، وهي الدولة التي لا تزال تبتهج لأنها اخترعت نفسها في الماضي القريب نسبياً. ) " 10 "
إنه الانطلاق من الموقع الذي يسمّي مثقفه، ودور المثقف في نقل الصورة المنقولة إليه، أو تلك التي يلتقطها جرّاء اهتمامه بما هو ثقافي، وفي جهات مختلفة، وما له من دور وإمكان تعبير، وهو يسطّر، أو يتحدث عن جهات لها حمولتها اللافتة من ثقل السياسة النوعي وسطوتها، وفي اوقت نفسه، ما يكون عليه من علم ومعرفة هما محل تقدير من أهل السياسة هنا وهناك، وليس كما هو الحال في الدول التي لا تكتفي بتهميش مثقفيها وإنما بـ " تبويقهم " ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، والدفع بهم لأن يكونوا كومبارسيين، ويجري تركيب ألسنة في أفواههم خارجاً .
وفي الوقت نفسه كذلك، حين يقدّم الداخل في إهاب المثقف، أو المفكر، عارضاً ثقافته لصالح من يرى فيهم معنيين بأمور البلاد والعباد، وأحياناً دون أن يُطلَب منه، وفي ذلك البلاء الأعظم.


في خضم الشعر
بعد الذي حاولنا كتابته، ونقله مما " تيسَّر " من كتابات رورتي، أو ما كتب عنه، حيث التقى فيها، كما تقدَّم الفلسفي، الفري، الفني، الأدبي والشعري، العلمي والسياسي. ربما أمكننا التوقف عند هذا اللغم الذي أظهره الغذامي، وأبرز رورتي من خلاله، وكأنه حامل معلقات !
ثمة " هيصة " أثيرت حول هذا الشعر الذي أوقِف باسمه رورتي، وعرّف الأخير به.
أورد فقرات من المقال المذكور، ويسهل النظر فيها وهو منشور مترجماً في مواقع الكترونية:
(حاولت في مقال لي بعنوان “البراجماتيّة والرومانسيّة” أن أؤكد من جديد على حجة شيلي في “الدفاع عن الشعر”، فلقد قلت أن في قلب الرومانسية يوجد الادّعاء بأن العقل يستطيع أن يسلك فقط الطرق التي فتحها الخيال أولاً. لولا ذلك لا وجود لكلمات ولا تفكير. لا خيال ولا كلمات جديدة. لا يوجد كلمات من هذا القبيل، ولا تقدم أخلاقي أو فكري.
لقد أنهيت ذلك المقال بمقارنة استطاعة الشاعر في أن يمنحنا لغة أكثر ثراء بمحاولة الفيلسوف في توسل منفذ غير لغوي للوصول إلى الحقيقة الفعلية، ولقد كان حلم أفلاطون بمنفذ على هذا النحو في حد ذاته إنجازًا شعريًا مذهلاً.
لقد استخدمت في مقالي، كما في كتاباتي السابقة، مفهوم “الشعر” بمعناه واسع النطاق، فلقد عملت على توسيع مفهوم “الشاعر المكين” لهارلود بلوم Harold Bloom ليشمل الكتّاب النثريين الذي أبدعوا ألعابًا لغوية جديدة لنا للعبها، إنهم أناس مثل أفلاطون، ونيوتن، وماركس، داروين وفرويد، بالإضافة للشعراء مثل ميلتون وبليك.
بعد مدة قصيرة من الانتهاء من مقال “البراجماتيّة والرومانسيّة”، كنت قد شُخصّت بمرض سرطان البنكرياس، وهو غير قابل للاستئصال. وبعد بضعة أشهر من تلقي الأخبار السيئة، كنت جالسًا لشرب القهوة مع ابني الأكبر وابن عمه الزائر، هذا الأخير الذي سألني (وهو رجل دين) عن ما إذا كانت أفكاري قد انعطفت نحو المسائل الدينية، فأجبت “كلا”. ليسألني ابني “حسنًا، وماذا عن الفلسفة؟”، فأجبته كذلك “كلا”، فلا تبدو أن الفلسفة التي قمت بكتابتها أو قرائتها لها أي صلة معنية بحيثيتي هذه، فلم أشتبك مع قول أبيقور بأنه من غير العقلاني الخوف من الموت، ولا مع رأي هيدغر بأن النزعة اللاهوتية تنشأ من محاولتنا التهرب من فنائنا . ولكن لا التحرر من الاضطراب ataraxia ولا الكينونة نحو الموت Sein zum Tode كانا ضمن اهتمامي.
يصرّ ابني مجددًا ويسأل “ألم يكن لأي شيء قرأته أي فائدة؟”، فأجبته “بلى!”، ووجدت نفسي أقول باندفاع “الشعر” ، فسأل “أي شعر؟”، فاستحضرت له من الذاكرة الأبيات الشعرية الأكثر شهرة من قصيدة سوينبرن Swinburne “حديقة النثر الصنوبري”، وكنت أقولها ببهجة غريبة، لقد كانت تلك الأبيات مثل حبات كستناء قديمة:
نشكر في صلاة شكر قصيرة
أيا كانت الآلهة
أن لا حياة تحيا إلى الأبد،
وإن الراقدين لا يُبعثون أبدا،
وإن حتى النهر الخائف
تهب رياحه على نحو ما آمن تجاه البحر.

لقد وجدت العزاء في تلك التعرجات البطيئة وتلك الجمرات المتلعثمة. أعتقد أنه لم يكن بالإمكان إحداث تأثير مماثل من خلال النثر، فليس فقط الخيال، ولكن أيضًا القافية والوزن ضروريين للقيام بهذه المهمة، فيتواطئون الثلاثة على إحداث درجة من الضغط، وبالتالي تأثير لا يمكن إلا للشعر إحداثه. وبمقارنة ذلك بالقنابل المشحونة المصممة من قبل ناظمي الشعر، فإن أحسن النثر لن يكون إلا مجرد رصاصة عشوائية.

وأيا كان الأمر، فإنني أتمنى الآن لو أمضيت بطريقة ما مدة أطول من حياتي مع الشعر، وهذا ليس نابعًا من خوفي بأنه قد فاتتني الحقائق التي لا يمكن التعبير عنها بالنثر، فلا توجد مثل هذه الحقائق ، ولم يكن هناك أي شيء عن الموت عرفه سوينبرن ولاندور وفشل أبيقور وهيدغر في معرفته.
إن الثقافات ذات الكلمات الأكثر ثراء هي ثقافات أكثر إنسانية، وأكثر ابتعادًا عن الوحوش، من تلك الثقافات الفقيرة، وإن الأفراد من الرجال والنساء يصبحون أكثر إنسانية عندما تغص ذكرياتهم بالشعر.) " 10 "
ثمة ما يشبه الاعتراف بواقعة نفسية، ما يشبه التلويح بحقيقة جرت تسميتها في لحظة من الزمن وفي رقعة جغرافية معينة، حيث كان وضعه الصحي مؤثّر في ذلك، مهما جرى التأكيد على لزوم الفصل بين هذه لحظة الإصابة المرضية المباغتة، والحديث عن الشعر وجدواه.
نعم، في مقدور الشعر أن يلبي رغبات كثيرة، وهي في منشئها النفسي، والتعبير عن تلك اللواعج، تلك المكبوتات التي تترجم مواقف، انتكاسات، مثلاً، رهانات حياة فاشلة، انكسارات نفسية، صدمات ثقافية وسياسية غير محتسبة، وما يخرج عن السيطرة مما هو متعال بالذات في هذه المكاشفة عما يصعب البت فيه بالمأثور النفسي وانجراحات الروح في العمق. أي ما يرفع من شأن هذا المعترف به على أنه واقعة ضغطت عليه، وكشفت عن الخفيّ فيه، كما لو أنه كان ينتظر هذه اللحظة غير المتوقعة، بمقدار ما كانت اللحظة هذه تنتظره ليسمّيها ويُسمى بها.
ذلك ليس سهلاً أو دقيقاً، وجعل المقال، وبصدد الشعر، هو وحيد كتابته في عمره الطويل نسبياً، إنما ما يجعل الشعر تعبيراً عما هو وجداني، وألم نفسي، رأى في تمثيله شعرياً مؤاساة له .
أذكّر هنا أن جاك دريدا " 1930-2004 " هو نفسه من أصيب بالسرطان، وبسرطان البنكرياس نفسه، وبينهما فارق " سنتين " جهة العمر، لصالح رورتي، وكابد آلام المرض هذا كثيراً، سوى أنه بقي مثابراً في مساره التفكيكي المعلوم، على عطائه في التفكير، وفي التنويع الفكري: الفلسفي وسواه. وكان له جولات وصولات في مضمار الفن والأدب والشعر بالمقابل.
ثمة ما يميّزه ويرفع من مقامه الكشفي إزاءه:
( الشعر ذو شقين. فمن ناحية، على غرار كانط (مركزية العقل، والميتافيزيقا)، فهي في قمة الفنون البلاغية - أكثر الفنون تعبيراً، وأكثرها ارتباطاً بالصوت. ولكن من ناحية أخرى، فهو الفن الأكثر حرية، والأكثر وفرة، ذلك الذي يؤدي إلى الحداد الأكثر اكتمالا - إلى حد النشوة - للمفهوم، والمتعة، والعمل، وأيضا للمعنى. ويحتل هذا الجانب الثاني مكانة متميزة في عمل دريدا، وهو ما لا يكفي لتفسيره معرفته بالإنتاجية الحرة المطلقة.) " 11 "
ذلك يضعنا في مواجهة المختلَف عليه نفسياً، وما يشد كلاً منا إلى جهة معينة، اجتماعياً، وفكرياً، ولا يعتبَر أي تغير من هذا القبيل علامة فارقة، تشكل تنحية كلية لما سبق هذه الحالة .
ومهما كان البحث عميقاً، أو متشعباً في خلفية هذا الاعتراف، أو وشائج القربى بين رورتي ومرضه، وما آل إليه نفسياً، يبقى من المستحيل حصر الجاري في القول المذكور. أم تراه الغذامي يصرُّ على أن هذه الواقعة استثنائية، وانعطافة حياة شخصية، ليكون الشعر لا الفلسفة منقذ العالم؟ أتراه أراد من كتابه أن يكون صرخة استغاثة شعرية، في وسط يحتفظ بقيمة معينة للشعر، ولكن المتغيرات تقول شيئاً آخر، مثلما أن الذي يشغر تفكير الغذامي وهو يظهر في لبوس الداعية، وينظّر ثقافياً، وما في ذلك من محنة تعرّف به مريضاً بدون علّة مسماة من قبله، وما في هذا التجاهل النفسي من أنفة عاجزة عن إخفاء الصدع الهائل في نفسه وفكره معاً ..
" يتبع "



1-
1-Richard Rorty, Stanford Encyclopedia of Philosophy
-2Stéphane Madelrieux:Relire Rorty. Introduction, Dans Archives de Philosophie 2019/3 (Tome 82)
ستيفان مادلريو: أعد قراءة رورتي. مقدمة
3-Richard Rorty:Autobiographie intellectuelle , Dans Archives de Philosophie 2019/3 (Tome 82)
ريتشارد رورتي: السيرة الذاتية الفكرية
-4Stéphane Madelrieux:Richard Rorty et la critique philosophique, Dans Archives de Philosophie 2019/3 (Tome 82)
ستيفان مادلريو: ريتشارد رورتي والنقد الفلسفي
5-Richard Shusterman, :L’esthétique chez Richard Rorty, Dans Archives de Philosophie 2019/3 (Tome 82)
ريتشارد شوسترمان، :الجماليات عند ريتشارد رورتي
-6Alison James: Reflets et représentations : Richard Rorty et Clément Rosset face à la littérature
أليسون جيمس: تأملات وتمثيلات: ريتشارد رورتي وكليمنت روسيه في مواجهة الأدب
-7Olivier Tinland:Richard Rorty : la science comme représentation et comme solidarité, Dans Archives de Philosophie 2019/3 (Tome 82)
أوليفييه تينلاند: ريتشارد رورتي: العلم كتمثيل وتضامن
8-ريتشارد رورتي: الفلسفة ومرآة الطبيعة، ترجمة: د. حيدر حاد إسماعيل، مراجعة: ربيع شلهوب، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص 28 .
-9Fonder ou créer la démocratie ? Cornelius Castoriadis et Richard RortyNicolas Poirier
هل وجدت أم خلقت الديمقراطية؟ كورنيليوس كاستورياديس وريتشارد رورتينيكولاس بوارييه

10- نار الحياة – ريتشارد رورتي / ترجمة: مروان محمود، مجلة حكمة
29/06/2019
11-Pierre Delain - "Les mots de Jacques Derrida", Ed : Guilgal, 2004-2017, Page créée le 27 septembre 2005, [Derrida, la poésie]
بيير ديلين - "كلمات جاك دريدا"، منشورات: غويلغال، 2004-2017...[ دريدا، الشّعر ]
ينظر: جاك دريدا - ما هو الشّعر؟.. النقل عن الفرنسية : إبراهيم محمود، موقع أنطولوجيا،3 أيار 2022 .




5.jpg
د. عبدالله الغذامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى