د. محمد عبدالباسط عيد - أُذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ (2-2)

(2-2)


أنت بالتأكيد تعرف الشاعر بشّار بن بُرْد (96-167ه).. وتعرف أنه رجل أكْمَه؛ أي أنه قد حرم نعمة البصر منذ ولادته؛ فليست له ذاكرة بصرية، مثله في ذلك مثل المعريّ ( ت 449ه) والحصري القيرواني (488ه) في القدماء، وعبد الله البردوني من المعاصرين (1929- 1999م) ..
ولعلك فكّرت في الطريقة التي يرى بها هؤلاء الشعراء العالم، وتساءلت: من أين تتشكل صورهم الفنية؟ وهل للأذن دور في ذلك الخيال؟ ما طبيعة الصورة الصوتية التي تكونها الأذن لكل ما حولهم؟
وهذا كما ترى، مبحث شيق انشغل الدارسون ببعض جوانبه، ولا عجب؛ فالصورة في الشعر تركيب جماليّ ونفسيّ وحضاريّ يستحقّ منا مزيدًا من التدقيق والبحث.
أنا أيضًا منشغل هنا بالطريقة التي استقبل بها هؤلاء الشعراء الأصوات الإنسانية، مشغول بمركزية الصوت في شعرهم؛ ففقد البصر– كما أشرنا سابقًا- يعيد تنظيم العقل، ويستنفر الحواس الأخرى، ويمنحها رهافة ودِقّة، وهذا من باب التعويض التلقائي الذي تقوم به منظومة الحواس الإنسانية في تفاعلها مع العالم وفي انسجامها مع بعضها..
وهذا لا يعني أن الشعراء المبصرين لا ينتبهون إلى قيمة الصوت؛ فحضور أصوات الطبيعة من رياح وماء وحيوان هي من "ثيمات" الشعر في كل الثقافات.. وما أكثر انتباه العشاق إلى الطريقة التي تتحدث بها محبوباتهم أو تنادي بها عليهم، ولكنهم ينتبهون إلى الصوت ضمن غيره من المؤثرات الأخرى؛ ولذلك فحضور الصوت لديهم يقتصر غالبًا على بينة الوصف؛ فصوت المحبوبة مثلًا عذب جميل الوقع، وأثره على العاشق أقرب إلى السِّحر...إلخ
ولكننا مع شاعر مثل "بشّار" نجد حضورًا أعمق لصوت المحبوبة، إذ يجعله مرتكزًا جماليًّا ووجوديًّا، ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ "بشّارًا" يدعو الشعراء إلى الانتباه إلى قيمة الصوت وقدرته على تشكيل صورة ذهنية أو طيفية للمتكلم.. الصوت في تصور بشّار هوية المحبوب الصّافية، وهو ما يجب الانتباه إليه..!
كانت الظلمة تحيط بـ"بشّار" منذ ولادته، ولم يمنعه هذا من إدراك قيمة النور، ليس هذا فحسب، ولكنه - في شعره - يمنح العمى بعدًا أعمق؛ إذ ينتقل به من فقدان حاسة البصر إلى معنى مجرد يرادف بين العمى والضلال.. العمى في وعي بشّار عدوان على الحقّ وطمس له.. يحتاج الحق إلى سيف قاطع يمزق عنه سُدف الظلمة، كما في قوله مادحًا مروان بن محمد:
أُلاكَ الأُلى شَقّوا العَمى بِسُيوفِهِمْ
عَنِ الغَيِّ حَتّى أَبْصَرَ الحَقَّ طالِبُه
هنا يمزج بشّار ببراعة لافتة بين محنته الخاصة (العمى) ومحنة ممدوحه مروان بن محمد (آخر ملك أموي صرعه العباسيون)، ولم يكتف بشّار بذلك، ولكنه يُجرِّد من المحنتين خبرة كُليّة لا تخلو من حكمة، يتأكد بها التلازم المضطرد بين الحق والقوة، وحاجة كل منهما إلى الآخر.
بالتأكيد ليس هذا مقام الاستطراد في الأمثال، خاصة في هذه النقطة المشوقة، فقط أردتُ أن ألفت انتباهك إلى هذه اليقظة الفنية التي يتمتع بها هذا الشاعر الفذّ ..
نعود إلى صوت المحبوبة على نحو ما قدمه بشّار في هذه الأبيات الشهيرة التي جعلناها عنوانًا لهذه المقالة، وفيها يقول:
يا قَومِ..!
أُذني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ؛
وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا
قالوا: بِمَن لا تَرى تَهذي؟
فَقُلتُ لَهُم:
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا
هَل مِن دَواءٍ لِمَشغُوفٍ بِجارِيَةٍ
يَلقَى بِلُقيانِها رَوحًا وَرَيحانا؟!
لعلّكَ انتبهت إلى أنّ "بشّارًا" لا يتحدث بشكل مباشر عن الصوت، ولكنه يتحدث عن أذنه التي استقبلت الصوت، إنه يحاجج عن أذنه التي عشقت، لا ينكر "بشّار" دور العين في العشق، ولكنه يفتح نافذة جمالية للأذن، أو قل إنه يدعونا إلى الانتباه إلى دور السّمع في التقاط نبض الكلام والوعي بأعماقه وطبقاته..
يُحَاجج "بشّار" عن طاقة الصوت وقدرتها على تشكيل صورة طيفية للمحبوبة، فيحدثنا عن امرأة تهادت إليه عبر الصوت، وتَشكَّلت صورتها من خلاله وحده، وهذا يعني أن الصوت لديه أكبر من مجرد ذبذبات تنقلها الحنجرة. الصوت هوية المحبوبة وقد ترسَّخ حضورها في قلبه على نحو لا يدركه المبصرون، أو لا يدركونه على هذا النحو من الرَّهافة التي أدركها هو.
بشّار غير محجوب بالشكل أو ما نطلق عليه "سيمياء الجسد" وتجليه في الفضاء الاجتماعي، فلا تحجبه الملابس وأناقتها مثلًا عن اكتناه الروح التي تتحدث إليه، لا شيء من هذه المكملات الاجتماعية والنمطية تشوشر عليه في إدراك فردية المتكلم، ونفاذ روحه وذكاء قلبه أو جماله الذي ينبع بالأساس من الداخل وبه يتشكّل الخارج المتخيل.
بشّار لديه أذن مدربة جيدًا على الإنصات إلى الخلجات الدقيقة لروح المتكلم، إنه يقول لنا بوضوح: إن الأذن حين تعشق ترى جوهر المحبوب، وتصلها رسائله واضحة بلا التباس.. يريد "بشّار" أن ينبهنا إلى بهاء الصوت وأعماقه ودوره في الفن والحياة.
بالتأكيد، يحتاج الصوت إلى مزيد من التأمل، وسيكون ذلك أكثر تركيبًا وتأثيرًا واتساعًا إذا تأملناه مع كبار المطربين والمطربات الذين قدموا عشرات القصائد، ووشحوها بأصواتهم الاستثنائية، والأمر نفسه نجده مع كبار القرّاء الذين أوقفوا حياتهم على قراءة القرآن الكريم ونَقَّبوا بأصواتهم المدربة عن الدلالات الخفيّة والمنابت البعيدة للكلمات، وعلى أيديهم تبلورت ملامح "المدرسة التعبيرية في الأداء".. وهذا يحتاج إلى وقفة أخرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى