إبراهيم محمود - ركلات فلسفية "9" حول كتاب الدكتور عبدالله الغذامي: مآلات الفلسفة

"9"


الغزالي نبراساً ومتراساً؟!

ربما أمكن اعتبار الغزالي ( 450-505هـ/ 1058-1111م ) الذي يلقَّب بـ " حجة الإسلام " مبتغى القول لدى الغذامي. كما لو أنه فكَّر في كتاب يحمل هذا الاسم " مآلات الفلسفة ..." ليُمحور كل ما أثاره حول " أبو حامد الغزالي " الأشعري، الشافعي، لأن كل حديث عن الأزمة إن ارتبطت بالفلسفة و" مأزقها المفاهيمي " كما رأينا سالفاً، أو حتى فضيحتها الكبرى، لا بد علينا أن نذكّر بكتاب الغزالي " فضائح الباطنية " وهي تسمية لها معنى آخر جهة طبيعة التفكير، عما نتلمسه في " فضيحة الفلسفة " في سياقها الفكري الغربي، وحتى العلم نفسه، حيث ينتظرنا مفهوم " العلم اليقيني " المسنود دينياً لدى الغزالي بالنسبة إلى الغذامي، أو المَخرج من الأزمة، أي ما يتشكل في إهاب النظرية التي هي حصيلة تجارب مريرة وأفكار تصل بالمعاناة النفسية، كما الحال كذلك مع الغزالي والمثار في كتابه الشهير " المنقذ من الضلال " وليس في الإمكان تجاهل ما ركَّز أو شدَّد عليه في " ملاحقته " كتابياً للفلاسفة في " مقاصد الفلاسفة " وبصيغة أوضح وأكثر شهرة " تهافت الفلاسفة " يكون حديثاً مزكّياً للغزالي رهان غذامينا لتجاوز كل أزمة ممكن التفكير فيها راهناً، أي الحل المعجز، بمفهومه الديني: الصوفي: الذوقي بجلاء للجاري.
كيف استدعى الغذامي الغزالي، وأي غزالي تشكل لديه، وثمة عشرة قرون تفصل بينهما، حيث الكلام يواجه طبيعة الفكر المعتمَد، والرؤية الفكرية، والمنهج أو السيستام الثقافي وفحواه؟
هل أخلص الغذامي للفكر الذي تفاعل معه كمفهوم يهديه إلى " صراطه المستقيم " المقدَّر ؟
لماذا كان الغزالي مطلوبَه ومحبوبه أو مأثوره المنتقى، وليس ابن رشد " 1126-1198 م " مثلاً، الأقرب إلى لغة العصر بالمفهوم الفلسفي، وفي أمره قيل الكثير والذي يعتدُّ به حقاً؟ طبعاً، لو كان ابن رشد، لما كان هناك أي مبرر لأن يضع كتاباً كهذا، ويضمّنه أفكاراً كالتي تابعناها..
ماالذي يمكن القول في الذين شكلوا نقاط استناد كثيرة في كتابه من رموز ثقافية غربية، حيث النهاية كلّلت باسم له موقع آخر في التفكير والرؤية والمحرّك البحثي لمَا هو ثقافي كذلك ؟
وبصيغة أخرى أي صورة للغزالي الذي عاش أطواراً وتقلبات في الكتابة، في مرآة الغذامي؟ وهل حقاً أن رهانه على الغزالي، ومن جهة الذوق، بعلمه اليقيني، الحدسي خلاص له من أزمته؟
سوف أتوقف عند هذه النقطة، وقد تلمستُ مفارقات غريبة من نوعها، في طبيعة تعامل الغذامي مع الكتاب كعنوان، وما يتضمنه العنوان من محاور فكرية وبحثية فيه، وما إذا كان الغزالي الذي تقدَّم به نبراساً في التفكير والتنوير النفسي يشكّل دواء مهدّئاً أم معالجاً لأزمة يعانيها الغذامي نفسه، ومن ثم متراساً يسلّح به نفسه، بأكثر من معنى في وسطه الاجتماعي والسياسي أيضاً، دون ذلك كيف يمكن النظر في شبكة معلوماتية لا تخفي غرائبيتها ، وحيث تكون الوقفة هذه مع مصادر عربية كتباً ومقالات ذات صلة هي المعتمدة لئلا يجري اتهامي بالتغريب ؟!

6.jpg

الغزالي غير المحسود عليه
في الفصل الثالث، والذي يحمل عنواناً لافتاً: المفاهيم الكبرى، نقرأ طيَّه ما يوضّحه ويجلو جانباً مؤثراً من رؤية الغذامي لما هو عقلي، وهو العقل الذي نعرَف به، وفي الفلسفة أكثر:
( ميزة العقل في قدرته على كشف عجزه ) .
لعلها فتوى مباشرة تتطلب التزاماً بها، ومراعاة المقصود منها، أي ما يدفع بالعقل، بعد هذا الذي أثير فلسفياً، كما لو أن الفلسفة نبتاً في " أصيص " معلق على شرفة منزله، أو خرزة في مسبحته يطقطقها كما يريد، وليس ما يفصلها عنه ليس بالحساب الزمني وإنما الذهني والنفسي ثقافياً، وما يترتب على عملية مكاشفة من هذا النوع من مفارقة تتضخم مع صفحات الكتاب.
مع الغزالي( العقل طور من أطوار الآدمي، كما أن العقل غير واف، لأنه ليس مستقلاً بالوفاء بجميع المطالب ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات. ص 105 .)
وتالياً: وهنا يحدث المأزق العقلي، لأن معطياتنا متغيرة، في حين أن السؤال عن الخالق ثابت. ص 107)، وهنا ينتظرنا جواب سؤال متعال ٍ فشل الآخرون في الجواب عنه !!
وفي الفصل السابع :الفلسفة والحكمة: سقراط/ الغزالي. ص 145 ، وتقابل علَمين بينهما بون شاسع وواسع، وهو ينطلق من محنة كل منهما:
( تشابه رحلة الغزالي مع سقراط، حيث سقراط اعتبر حكمة الفلاسفة والشعراء والساسة وأهل المهن ناقصة، والغزالي طاف بين الفلاسفة وعلماء الكلام والباطنية والمتصوفة، ليصل إلى أن العلم لله وحده. ص 154 .) .
سقراط يعرَف فيلسوفاً، فهل الغزالي يعرَف فيلسوفاً؟
وثمة ( نقد الغزالي للفلسفة. 158 )، وما يقوله تالياً ( وقد تبحَّر في الفلسفة، واستخلص من المتصوفة فكرة الذوق، والذوق من وظيفة الروح، فهو " كشف باطني ويقين عميق يتولد عن الغوص في أعماق النفس وهو قبس من نور الله . ص 160 .) ..
أي ما يخرج الفلسفة من حقيقة كونها فلسفة، لتجري معالجتها بمعايير الذوق التصوفي، حيث يتم تحريرها" الفلسفة " من فاعلها البنيوي: العقل المعتاد، نظراً لوجود مأزق ملوَّح به هنا .
هوذا الغزالي الذي يلهِم الغذامي، ولعله أراد منه أن يكون كوكبياً فيما جاء به أو سيقَ باسمه . فهل يستجيب الغزالي لإرادة القراءة لدى الغذامي؟ وهل حقاً أن الغزالي كما هو مقروء هنا، هكذا كان في تاريخه وتحولاته؟ أم تراه كان حصيلة تناقضات ومفارقات، لازالت قائمة، يستأنس بها من يريد الغزالي مِن وجه من وجوهه، وترْك البقية، أو يستعين بها من يريد ردْم هوة نفسية ما داخله، بالقدْر الذي يستطيع، وهو يقدّمه كاريزمياً لشرعنة فعله، أو يستدعيها " تناقضاته أو مفارقاته " بالطريقة التي يراها بعيداً عن كل ذلك، ليعزز من خلال قراءته موقعه لا حباً فيه؟


نقطة مركَّبة
هناك اختلاف مواقف من الغزالي، كأن نقرأ لدى أحدهم:
( اهتدى الغزالي إلى أنّ للمنهج الذَّوقي شأنًا کبيرًا في منــاهج البحث المختلفة وفي نظريّة المعرفة, فظهر له أنّه مفتاح أکثر المعارف؛حيث يحصل منه ما يمحو بالکلّيّة ظلمـــات الحيرة والظّن والشّک. وذلک بعد تطواف مستطيل في أفق الفکروتبحّر في المنهج العقلي؛ فهناک بعض الحقائق التي لا يدرکها العقلاء ببضاعة العقل, بل يجب أن يقنع صــاحب العقل أنّ العقل هو الذي يقرّ بوجود طور أسمى وراءه: هو طَوْر الذَّوق، وأنّ عجزه عن الذَّوق ليس دليلًا على استحالته لدى غيره.) " 1 "
وفي مثال ثان:
( منهج أَبْو حَامِدْ مُحَمّد الغَزّالِي الطُوسِيْ النَيْسَابُوْرِيْ أقرب ما يكون من المنهج القرآني الحكيم ربما أنه مفترق في كثير من كتبه وهو باختصار المنهج الذي يجمع بين النص والعقل والذوق. الزمن الذي عاش فيه الغزالي لديه أثر كبير على عقيدته وأفكاره ونشأت بحثه.) " 2 "
وفي مثال ثالث:
(لم تتلق شخصية نقداً لاذعاً مثلما تلقاه الغزالي، كما لم تتلق شخصية علمية مدحاً هائلاً مثلما تلقاه الغزالي، فكان حجة في الإسلام ونابغة عصره.
كانت شخصية الغزالي فريدة من نوعها، كما هو حال عصره، بحر تتلاطمه الأمواج العاتية، لا وقت فيه للراحة والهدوء، اضطرته الظروف للكتابة في الكلام والفلسفة والباطنية والتصوف والفقه والأخلاق والمعاملة، وكانت الظروف التاريخية لا تسمح له بكثير من الصبر والآنة للتعمق أكثر فيما يقرأ، فكان مضطرا للكتابة ضد الفلاسفة والباطنية، لتكون كتبه بمثابة المانفيستو الأيديولوجي للمذهب الأشعري السني في مواجهة الأفكار الباطنية والغنوصية والأفلاطونية المحدثة التي تهدد النسيج الديني ـ الفكري للأمة الإسلامية.. لقد كان محمولا بهاجس توحيد الأمة.. هكذا يجب أن نقرأ الغزالي.) " 3 "
من المؤكد أن ظهور شخصية فكرية، أو تاريخية، أو أدبية...إلخ بهذا التنوع، وما فيها من مفارقات تجمع ما بين المتَّفق عليه والمختلف عليه ، سلباً وإيجاباً، يكون تعبيراً عن ثراء فكري، وعن رؤية استراتيجية في التفكير، وقابلية لإثارة أسئلة تمثّل لسان حال الفلسفة الأعظم أيضاً.
إنما هل الغزالي هو كما قدَّمه الغذامي،، كما تقدَّم؟ أليس هناك ما ينزع اليقين عن تصور من نوع إيماني هنا يا ترى، وإزاء المثار مما يخص الفلسفة على وجه الخصوص؟
إن قراءة كتابات الغزالي لا تخفي تلك الحدة فيها، وما تنطوي عليه من توترلافت في بنيتها ، وبصورة خاصة تجاه من يوجه إليه كلامه، أو صوته، ولغة التحذير فيه:
(" أما بعد " فإنك التمست كلاماً شافياً في الكشف عن تهافت الفلاسفة وتناقض آرائهم ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسعافك، إلا بعد تعريفك مذهبهم، وإعلامك معتقدهم، فإن الوقوف على فساد المذهب قبل الأحاطة بمدركها محال، بل هو رمي في العماية والضلال، فرأيت أن أقدم على بيان تهافتهم كلاماً وجيزاً مشتملاً على حكاية مقاصدهم .) " 4 " .
وما يأتي في كتابه الأشهر من أن يعرَّف به " تهافت الفلاسفة " ، وبدءاً من مقدمة محققه " 5 ":
( نعم إن مسلك الإمام الغزالي في كتاب التهافت قائم في معظمه على التشكيك والنقد، ولكن التشكيك عمل له قيمته. ص 23 .).
( ولأمر ما خرج منها " أي بغداد " وهام على وجهه في الصحارى والقفار نحو تسع سنين . ص 49 .)
( نشأ الغزالي والعالم الإسلامي يموج بمختلف الآراء وشتى النزعات، وكل فريق يزعم أنه الناحي، وكل حزب بما لديهم فرحون. ص 49 .).
يأتي التقديم للكتاب تعزيزاً لمحتواه، وإن كان في التقديم ما يلفت النظر جهة الإشارة إلى خاصية التشكيك، ولكنه لا يقف عند حدود مجرد التعبير اللفظي وسهولة قراءته، إنما ما يمضي بنا هذا التعبير إلى ما هو أبعد من ذلك، أي جانب النفس التي لا تخفي قلقها قهرها الداخلي، ودون النظر في محرّك هذه الحالة النفسية، أي ما يكون للتشكيك من لفت النظر إلى اضطراب عالم فيه.
ففي مختتم التقديم نتلمس مثل هذا الضغط ( يخلص من كل هذا أن كتاب " التهافت " لا يصلح اتخاذه مرجعاً لتصوير أفكار الغزالي، والتي يدين بها ويلقى الله عليها، بل يجب أن تستمد هذه الأفكار من كتبه التي ألفها بعد أن اهتدى إلى نظرية الكشف التصوفية، والتي سمّاه " المضنون بها على غير أهلها " . ص 70 .) .
وكذلك ما يلي مفردة معتادة وقتذاك " أما بعد " :
( أما بعد، فإني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد من الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين:من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات ، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، بفنون الظنون يتبعون رهطاً يصدون عن سبيل الله ويتبعونها عوجاً وهم بالآخرون هم كافرون .. ص 73 .) .
في مقدور من يريد " انتقاماً " أن يرتاح إليه، بالمفهوم المذهبي، وليس أن ينتظر إماطة لثام ما عن حقيقة غير واضحة، أو لم يشَر إليها من قبل، وأن ينخرج نفسياً في لعبته الكلامية،إنما إلى أي درجة يكون هذا الكلام دقيقاً، وشاملاً وفي الوقت نفسه معززاً لتلك الذهنية التي تتبصر طريقه، دون أن تترك وراءها أثراً ما دالاً على خلاف المثار، أي ما لم الغزالي هكذا.
أي ما إذا كانت حالة " الطهرانية " التي يجد نفسها فيها في محلها، أم دون ذلك !

مع " المنقذ من الضلال " أي ضلال هنا؟
لكم جرى كيل المديح لهذا الكتاب، ورُفِع من شأن مؤلفه؟ ولكم جرى التشديد على مكانة الغزالي في إثر هذا الكتاب، ودفِع به ليكون أكثر شهرة مما وضِع حديثاً فيما بعد، من نوع " اعترافات جان جاك روسو " وهاهو يقارَن بسقراط، لوجود وحدة حال، جهة المعاناة بينهما. وما في هذا السرد الكلامي من نسج أقاويل تبث وهْماً مضغوطاً في سياق التعامل مع المحتوى بالذات .
ماذا تنطوي عليه قراءات تقريظية، كهذه، تشير إلى أن أي محاولة لقول المختلف تلحِق صاحبها بدائرة " تهافت الفلاسفة " أو من باتوا متوهمين وواهمين وعاجزين عن فهم ما يقولونه !
لنتوقف عند هذا الكتاب، وبدءاً ممن حققاه وقدَّما له وهما يُعتبران باحثين في حقل الفلسفة "6":
في التقديم، نقرأ ( إن أهم موضوع ظل الفلاسفة الإسلاميون يحومون حوله في جميع الأدوار، هو محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة . ص 1 .)
ذلك ما يؤخَذ به، لوجود تاريخ ينير مثل هذه العلاقة، وانطلاقاً من طريقة تعامل مع ما هو ديني.
وتالياً، ما يشير إلى أن ظهور الغزالي كان بمثابة سطوع نجم ثاقب في ليل حالك:
( إن قسماً من المتدينين، رأوا أن الوصول إلى المعرفة الإلهية، عن طريق علماء الكلام، أو الفلاسفة، غير ممكن، فقاموا يدعون إلى انتهاج سبيل العبادة العملية، والكشف الباطني، والمشاهدة المحضة، وهكذا نشأت " طريقة الصوفية " .
تمثّل لنا نتيجة هذا التطور العام الذي اجتاز العالم الإسلامي في حياة شخصية فذة من عظماء الإسلام، هو الإمام " أبو حامد الغزالي " الذي قال عنه رينان: " إنه الوحيد بين الفلاسفة المسلمين الذي انتهج لنفسه طريقاً خاصاً في التفكير الفلسفي . ص 3 .) .
وما يجعل القلق النفسي الذي يوصف به الغزالي حالة مخاض لولادة فكر مغاير:
( زادت شكوكه بعد كتابه " مقاصد الفلاسفة " وقد نشر بعده " تهافت الفلاسفة ". ص 5 .) .
وما يأتي إثر الانقطاع عن حياة الآخرين تأكيداً على هذه اللحظة الزمنية:
( بعد الحج بقي عشر سنوات يكابد مما يجري، حيث ألَّف " إحياء علوم الدين " . ص 6 .) .
ثم ما يكون انعطافة في مفهوم التفكير، والعقل المنتظر:
( عنده أن العلم يستند إلى العقل والدين ينبجس من القلب . ص 9 .) .
وما يرفع من وطأة القلق وتبعاته:
( إن السببية الوحيدة التي يعترف بها الغزالي هي التي ترجع إلى إرادة حرّة واختيار تام، ومعرفة شاملة، وهي التي تستدل بها على حقيقة الإله . ص 14 .)
وفيما بعد:
( وذلك عن طريق الكشف الباطني واليقين الشخصي والحدس.. لأن نفس الإنسان قبس من نور الله . ص 14 .
لديه الإرادة تنشأ عن الحاجة ، ولذلك فهي نقص . ص15 .) .
أي ما يجرد العقل في مفهومه المتداول من خاصيته، ويؤسس لمفهوم مغاي، إيماني الطابع، حيث سريان فعل التطابق بين التعبير عن الذات ومكانة الشخص في الواقع العملي:
( كتابه صورة حية عن حياته الشخصية . ص 18 .).
وحيث نقرأ ما يعمّق هذا الاثر:
( وصف الغزالي في كتاب" المنقذ من الضلال " ما قاساه من الاضطراب النفسي عند مقابلة الفرق بعضها ببعض. ص 18 .).
وما يفصح عن انكشاف الطريق المأمول بلغة القلب:
( العلم اليقيني، هو العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ. ص 20 .)
وعنده( الحدس مفتاح المعرفة ولولاه لما رجع اليقين إلى العقل. ص 22 .
وفي النهاية: اطمأن إلى أهل الصوفية . ص 27 .) ..
وما نقرأ في بدء الكتاب، من جهة الغزالي:
( أما بعد فقد سألتني أيها الأخ في الدين، أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مع تباين المسالك والطرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد، إلى يفاع الاستبصار، وما استفدته أولاً من علم الكلام وما اجتويته ثانياً من طرق أهل التعليم، القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثاً من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف. ص 55 .
وقد كان التعطش إلى درْك حقائق الأمور دأبي، وديدني من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلَّتي، لاباختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد. ص 58 .
فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب. ص 59 .
يذكر أصناف الطالبين وهم أربع فرق: المتكلمون، الباطنية، الفلاسفة، الصوفية.. ص 64 .
وهناك مذهب التعليم وغائلته. ص 86 .
وعن طرق الصوفية: ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، أقبلتُ بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل ( بها ) إلى تخلية القلب عن غير الله ( تعالى ) وتحليته بذكر الله . ص 95 .
وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم ، مثل: " قوت القلوب " لأبي طالب المكي ( رحمه الله ) وكتب " الحارث المحاسبي " و" المتفرجة المأثورة " ، و عن " الجنيد " و" الشبلي "، وأبي يزيد البسطامي " [ قدس الله سرهم ] وغيرهم من المشايخ . ص 96 .
وعن اضطرابه: ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطرب الذي لا حيلة له، فأجابني الذي " يجيب المضطر إذا دعاه "، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال. ص 99 .
وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية. ص 109 .
ثم باشر العزلة قرابة عشر سنوات . ص 110 .
وبصدد العلم الحقيقي، يزيد صاحبه خشية وخوفاً [ ورجاء ]، ذلك يحول بينه وبين المعاي إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات ، وذلك يدل على ضعف الإيمان. فالمؤمن مفتن تواب، وهو بعيد عن الإصرار والإكباب . ص 122 ...)

ما لم يخلص له الغزالي
كما نوَّهت، هل حقاً أن الغزالي كان ينزع بإرادة حرة، أو واعية حينذاك، إلى موضوعه الفلسفي الطابع من مختلف جهاته بالتقدير الفكري نفسه؟ وهل كان الذي ينظر فيه ينال من لدنه ذلك الاعتبار الموحَّد والمتماسك، ليحصّل لقبَ الناقد، أو الماضي في نقده، أو المشخّص لأدواء هؤلاء الذين حشرهم في زاوية واحدة تشملهم جميعاً؟
أكثر من ذلك، هل حقاً أن إقدامه على مثل هذا الهجوم الجارف تعبيراً دقيقاً عن وعي نافذ الأثر لما اعتبره خروجاً عن جادة الصواب، أي بوصفه تهافتاً، ومن منطلق الإخلاص للحقيقة؟
أحقاً كان الغزالي في واقع أمره، كما أضاء الغذامي صفحته، وأبرز صفاء سريرته، وقدَّمه بالطريقة التي يستحق ، باعتباره الضليع في شئون الفلسفة وأطوار أهلها وفساد عقلهم؟
ماذا لو أن الذي ورد في كتاب " المنقذ من الضلال " تعبيراً عن وضع نفسي آخر، لا صله له إطلاقاً بمفهوم " الضلال " لأن ما اعتبره " ضلالاً" بعائده الديني، وهو الذي سعى إلى مجانبته، لا بل والتطهر من لوثته، لم أكثر من لوثة عقلية حملها معها، وأبقاها داخله، وتستَّر عليها ؟ وأن قراءة الغذامي له، بالتالي، له خاصية سيناريو موجهة، تسخيراً لما يريد هو لنفسه واقعاً، وليس لأن صاحب " المنقذ من الضلال " يحتفظ بمكانته التي قدّم فيها، إنما ما يقدّم هو نفسه به...

في ضلال الضال:
لعل الذي سعى إليه المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، وهو يقدَّم لكتاب فيلسوف الأندلس ابن رشد الأشهر من أن يعرَّف " تهافت التهافت " يستوقف كل من له صلة بالحقيقة، أو يريد إضاءة هذا الجانب لمعتبَر معتماً، وما يوسّع هذه الدائرة وهول المتشكَّل فيها دلالياً " 7 ":
بدءاً من عنوان أولي، وهو( الصراع المذهبي، وليس الدين وراء تهافت الفلاسفة للغزالي، ص 15 .)، نجابه حقيقة أخرى، أو ما يحرر القارىء من ذلك اليقين المودَع داخله هنا وهناك.
وبعد عنوان فرعي لافت " الضربة القاضية " الكاذبة ! حيث تفيدنا القراءة بالصادم، طبعاً لمن اعتاد التجاوب مع ما قيل أو جرى تكراره كحقيقة مطلقة بصدد صاحب" المنقذ من الضلال":
( فعلاً! لقد شاع وذاع أن الغزالي وجه بكتابه " تهافت الفلاسفة " ضربة قاضية إلى الفلسفة لم تقم بعدها قائمة ... وهذا من " الحقائق " الموروثة التي ملأت " التاريخ " العربي الذي نسخه " الجهل المركَّب " يكون علينا إذن البدء في هذا المدخل بكشف الغطاء عن كذب هذا " الصواب الموروث " . ص 20 .) .
هذا التعبير، هذا التوصيف، هذا التشريح للذهنية المركَّبة في خدمة تاريخ كهذا، وقراءة كهذه، ربما لو أن كاتباً آخر غير الجابري كان القائل لكان للقول معنى آخر، أي ما يعزز مكانة الجهل، ويعتبره فضيلة تاريخية لمن يؤخّذ بوهم منسوج من هذا القبيل. ومن ثم:
( لم يكن لكتاب " تهافت الفلاسفة " ذلك الأثر الذي يعزى له .. ما عدا إدراجه في قائمة كتب الغزالي من طرف بعض مؤرخي الطبقات الذين أرَّخوا للغزالي كواحد من كبار فقهاء الشافعية. أما المفكرون الأشاعرة الذين خلفوا الغالي على ساحة علم الكلام والفلسفة فقد تجاهلوه تماماً: لقد تم تجاهل ردود الغزالي على ابن سينا وكتبت ردود أخرى بديلة، بعيداً عن الجدل والسفسطة،التي اتسم بها كتاب الغزالي، وأكثر من ذلك تجاهلت هذه الردود البديلة تكفير الغزالي للفلاسفة تجاهلاً تاماً . ص 21 .... ومن المفارقات اللافتة للانتباه أن البديل الذي دافع عنه الغزالي، وباسمه كفَّر " الفلاسفة " وهو " علم الكلام " الذي كان في عصره يحيل إلى المذهب الأشعري، قد لبس هو نفسه " الفلسفة " ولبسته مباشرة بعد الغزالي ببضعة عقود من السنين، .. واستمر ذلك لقرون طويلة. ص 21 .) .
وما لا يأتي تعبيراً عما ينتظره الغذامي بالمقابل، حين نقرأ:
( لم تمت الفلسفة التي عارضها الغزالي وكفَّر أهلها، بل عاشت بعده في المذهب الأشعري نفسه، كما في المذهب الشيعي: عاشت... لتكون بديلاً عن علم الكلام.. وبعبارة أخرى تحولت إلى فلسفة كلامية فعلية، إلى إيديولوجيا. ص 22 .).
وما يزيد في فكفكة المغلَق والمعتم عليه في تاريخ شخصي وفكري للغزالي توضيحاً:
( في الكتاب الذي بين أيدينا " تهافت التهافت " يردُّ ابن رشد على الغزالي الذي خصص كتابه " تهافت الفلاسفة : للرد على ابن سينا أساساً. هذا شيء معروف، ومتداول ... ولكن السؤال الذي نريد أن نشرك القارىء معنا فيه هو التالي: لماذا توجه الغزالي بالخطاب والنقد والتجريح إلى ابن سينا بالذات( وإلى الفارابي بالعرَض، كما يقول القدماء )؟ لماذا سكت سكوتاً تاماً ومطلقاً عن الكندي، مع أنه كان فيلسوفاً، وأقرب إلى المعتزلة خصوم الغزالي؟ ولماذا سكت عن فلاسفة آخرين مثل الرازي الطبيب الذي كان " أبعد من ابن سينا والفارابي ، عن المنظور التوحيدي، السنّي والمعتزلي والأشعري والشيعي؟ ..ص 23 . إن رد الغزالي على ابن سينا لم يكن بريئاً! وإلا فلماذا تجنَّد له. وسكت عن الآخرين . ص 23 .
تصرف مع ابن سينا ناقداً ومظهراً تناقضات فلسفة ابن سينا في " مقاصد الفلاسفة " .. ص 23 .
وما قاله ابن العربي المتكلم الأشعري الأندلسي الذي التقى بالغزالي، وسمع منه، والذي قال قولته المشهورة : " شيخنا أبو حامد الغزالي، بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع ". وقد صاغ ابن تيمية الفكرة نفسها بعبارة أخرى فقال :" شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما استطاع . ص 23 .
و:ابن سينا كان إسماعيلياً. ص 29 .
الغزالي كفَّر ابن سينا ومن ذهب مذهبه . ص 31 .
وحينها يعترف بأن نيته لم تكن، يوم كان الشخصية " العلمية " الأولى في بغداد على عهد الوزير السلجوقي في نظام الملْك الذي استدعاه إليها، وهو العهد الذي ألف خلاله كتبه... وفي مقدمتها " فضائح الباطنية " و" تهافت الفلاسفة ".. إن الغزالي يعترف بأن نيته فيما كتب في ذلك العهد لك تكن " صالحة لوجه الله " بل باعثها ومحركها طلب المال وانتشار الصيت ". يقول " وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه وأدعوا إليه بقولي وعملي وكان ذلك قصدي ونيتي " .ص 33 .( هذا الاعتراف موجود في كتابه: المنقذ من الضلال، تحقيق : جميل صليبا، وكامل عياد، طبعة دار الأندلس، بيروت، 1981، 134 ) .
ليقدّم أطاريح حول ابن رشد يفند مذهب الغزالي في الكتابة:من ذلك إن الطريقة الجدالية السفسطائية التي سلكها الغزالي في كتابه " تهافت الفلاسفة " مثلها مثل تكفيره لهم، لم يلق أي ترحيب من أي شخصية علمية ممن خاض في موضوعات علم الكلام والفلسفة . ص 37 .
وفي أطروحة أخرى أن الغزالي لم يكن مخلصاً فيما كتب ضد الفلاسفة، كلا، كان متعصباً للمذهب، والمذهب الأشعري بالذات .ص 38 .).
...إلخ
لقد آثرت أن أورد طائفة من العبارات التي سطَّرها الجابري وهو يقتفي أثر الغزالي، وحقيقة صلته بالفلسفة، وحقيقة صلة الفلسفة به، وموقع الغزالي في المجتمع في زمانه، وما كان يفكّر فيه حين كان في بغداد، وهو شيخ المدرسة النظامية، وحين خرج منها، ولماذا عرِف باضطرابه، وكذلك بخروجه إلى الصحارى والقفار تحت وطأة حالة نفسية، ليس لأنه أراد التطهر من أدران مجتمعه " البغدادي " واللوذ بنفسه المطمئنة، وبعلمه اليقيني، وذلك الذوق المستعار من قاموس المتصوفة ليكون بوصلتَه إلى نفسه، وإلى لقاء خالقه وهو على أتم ما يكون استعداداً وصفاء نية.
أي إن الغزالي لم يكن إطلاقاً بتلك المواصفات التي عرِف بها على مر التاريخ " منذ عشرة قرون " وإلى الآن، وما يعرَف به كتابه " التحفة " في مكابدة النفس واللوذ بالمطمئنة فيها، أي النفس التي تكون " قبساً من نور الله " إنما ما يغاير هذا التصور أو هذه الشهادة، ربما ما كان يواجهه بنفسه، لأنه في اختلاط أفكاره والتباسها، أشكل الغزالي على الغزالي نفسه، وقد انخرط في لعبة العلاقات مع الآخرين وانجرف في تيار أبعده عن كونه العارف بالحقيقة، والمأهول بخميرة التوبة والمجاهدة لجعل النفس أكثر طهرانية والروح أكثر تحرراً من ربقة دنياه.
أي حيث إنه :
أولاً، لم يواجه الفلاسفة جميعاً، إنما جاء ذلك التعميم ليغطّي على ما كان يشغله، ويستطيع من خلال تصرفه هذا تحقيق مبتغاه المادي والبراغماتيكي، بلغة اليوم: كسب المال والجاه .
وثانياً، حين كان ابن سينا الأكثر حضوراً في " تهافت الفلاسفة " وما في هذا التركيز من كشف عداء ما أبعده عن الحقيقة، وأقربه إلى التمذهب والتعصب للأشعرية، كما رأينا .
وثالثاً، ربما لأن رجل فلسفة أول، عربياً، وهو الكندي، لم يشِر إليه، لأنه ينتمي إلى العرب، وما لهذا الانتماء من اعتبار، آثر التستر عليه، وأما ابن سينا، فوجد ضالته في النيل منه مذهبياً .
ورابعاً، وليكون للعلم اليقيني، ومن خلال مفهوم " الذوق " صلة " رحم " بما يقصي الآخرين عن حقيقة أمره، نظراً لوجود أمان ما، وقابلية تخفّ، مع ما هو تصوفي " ذوقي " وإمكان اعتزال المحيط المجتمعي، والنأي عن الآخرين، في الوقت الذي كان الاعتزال ربما ترجمة لما لم يعد في مقدوره التمكن من ضبطه، أو شعوره بأنه أخطأ كثيراً، ولم يعد في مقدوره إصلاح ما أفسده أو ما ارتكبه من أخطاء، ويقينه الداخلي بفداحة الحالة. وربما أكثر من ذلك، حين تبيَّن له من خلال علاقاته بالآخرين أن موقعه آيل إلى التهافت، فكان اعتزاله هروباً من نفسه والآخرين.
ذلك يشكّل صورة أخرى عن الغزالي ، غير التي عرِف بها، ومن روَّجوا له تعبيراً عما يريدون أن يعرَف بها الغزالي إلى الآن.
طبعاً، بالنسبة للجابري، حين وصف ما كتبه الغزالي بأنه لم يكن بريئاً، يرتد عليه في الكثير مما سطَّره في تناوله لمفهوم " العقل العربي" وفي " العقل الأخلاقي العربي "" 8 "

أين هو الغزالي صاحب الذوق وملهم الغذامي
بعد الذي حاولت النظرَ فيه ومن خلال مصادر مباشرة، ربما أمكن القول أن الذي استأنس به الغذامي هو صنيع الوهم النفسي، وشعوره بالانتشاء في إثره، على الأقل، وهو يرى في الغزالي ما كان ينتظره، ويتوقع منه أنه يستطيع تنويره من الداخل، ورد كيد " أعدائه " إلى نحورهم.
ما كان يراه الغذامي في غزاليه ليس كما أراد، أو كما يريد، وكتاب ملهمه نفسه يشهد خلاف المراهَن عليه بالذات، وأن الحديث عن محنته، لا صلة قربى بينها ومحنة سقراط الذي انتهى شهيد موقفه مما كان يجري في مجتمعه اليوناني، وأكثر من ذلك، أن الطهرانية التي كان الغذامي يودِعها شخصية الغزالي تترجم رغبة نفسية لديه، لأن الغزالي قريب منه، كما يتصور على صعيد ديني، إنما خلافه فيما عرِف به في تحولاته، وأن الذي نسَبه إليه ليس كذلك بالنسبة إلى تلك الفلسفة التي شهد عليها في تفاصيلها ورموزها، وتناولها دون تفريق، وأن الذي عُرِف به في نهاية حياته وكانت قصيرة "قرابة55 سنة " ليس كما كتِب ويكتَب عنه هنا وهناك، وتحديداً من خلال هذه اللازمة: رحلته من الشك إلى الإيمان، أي ما إذا كان شكه من النوع العلمي دون سواه، وأن بلوغه مرتبة الإيمان الذي يقال فيه الكثير حرَّره كلياً من شكه ذاك بالفعل، وليس هناك ما يمكن المساءلة حوله ومن خلاله: ما تكتَّم عليه، ورافقه إلى قبره، وكما يعلِمنا كتابه " المنقذ من الضلال " بالذات، وما لعبارة " الضلال " من علامة فارقة وعميقة الأثر، وجانب التفريق الكلّي أوالقطعي بين من يكون منقذاً، هو الغزالي نفسه، وما يكون ضلالاً، في الخارج.
وما يكون جديراً بطرح سؤال من هذا النوع: من يضل من في ضوء ما أثيرَ حتى الآن؟ أيكون في مقدور غزالي الغذامي أن يكون بريء الذمة وهو في حديثه عن مفصلية الذوق، ومدى تجييره، كونه ليس كما يظهَر عليه نفْساً، ليُقتدى به، أو يُستأنَس بعلمه اليقيني المزعوم؟ وما يجعل الغذامي نفسه في مواجهة قراءة مخاتلة تعنيه، باعتباره في منجى من كل شبهة !
ويبقى السؤال الموجَّه إلى الغذامي، وهو : أي ضلال يتراءى له، وهو يريد أن ينقذ نفسه منه؟ طبعاً، ليس سوى من تأثر بهم غربياً، قبل كل شيء، ودريدا في الواجهة، وهو إذ يعمد إلى ذلك فلكي يكسب جاهاً أكثر، ومالاً أكثر.. وإن لم يكن كذلك باسم الفلسفة، فلم كان كتابه هذا ؟
سؤال أطرحه، وأنا أستطيع القول أنه ربما من باب المفارقة، أن يجد أحدهم، باحثاً له تاريخه في العطاء النقدي أو الفكري، حال الغذامي، وما آل إليه أمره، في كتاب كهذا، يظهر مجتمعُه، وحتى الذين يسوسونه أكثر قابلية لتقبّل المختلف منه، والسعي إلى دخول التاريخ الحديث وثقافته؟؟!!

" يتبع "

مصادر وإشارات
1-منال محمد هشام سعيد نجار: المنهج الذَّوقي (المعرفة الَّلدُنِيَّة) عند أبي حامد الغزالي بين النظريَّة والتَّطبيق pdf سنة النشر 2015.
2-هديل شايب : منهج الإمام أبو حامد الغزالي في المعرفة.
3-حسين عبد العزيز : أبو حامد الغزالي.. من التفلسف العقلي إلى التصوف العرفاني
4-حجة الإسلام أبي حامد الغزالي: مقاصد الفلاسفة، حققه وقدَّم له: محمود بيجو، ط1، 2000.ص 10 .
5- الإمام الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليما دنيا، دار المعارف، مصر، ط4 . وقد وردت أرقام صفحاه في المتن من باب الإيجاز.
ينظَر أيضاً، ما عرِف به الغزالي من حدة وسجال ، في كتابه :
إلجام العوام عن علم الكلام، دار المنهاج، ط1، 2017 .
وجوابه على سؤال يخص الحشوية: أما بعد، فقد سألتني – أرشدك الله- عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهّال ضد الحشوية الضُّلّال، حيث اعتقدوا في الله سبحانه وفي صفاته ما يتعالى ويتقدس عنه، من الصورة، واليد، والقدم، والنزول، والانتقال، والجلوس على العرش والاستقرار.. ص 45 .
ثم اعلم: أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر، هو مذهب أهل السلف، أعني: مذهب الصحابة والتابعين، وها نحن نورد بيانَه، وبيانُه برهانه ..
فأقول: حقيقة مذهب السلف- وهو الحق عندنا- إن كل من بلغه حديثٌ من هذه الأحاديث من عوام الحق، يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس، ثم التصديق، ثم الاعتراف بالعجز،ثم السكوت، ثم الكف، ثم الإمساك، ثم التسليم لأهل المعرفة . ص 49 .
ثم كتابه الآخر الذي لا بد أن الغذامي استساغه في محتواه:
فضائح الباطنية، حققه وقدم له: عبدالرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، حَوَلي.
حيث يقول عما اشتغل عليه عن أن الكلام في التصانيف يختلف منهجه بالأصالة إلى المعنى: غوصاً ، وتحقيقاً، وتستهلاً وتزويقاً . ص 31 .
أما الباطنية، فإنما لقّبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب في القشرة . ص 35 .
...إلخ .
6-المنقذ من الضلال إلى ذي العزة والجلال، تأليف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، حققه وقدَّم له : د. جميل صليبا- د. كامل عياد، مطبعة الجامعة السورية، ط5، 1956 . وقد وردت أرقام صفحات الكتاب في المتن من باب الإيجاز .
7-ابن رشد: تهافت التهافت " انتصاراً للروح العلمية وتأسيساً لأخلاقيات الحوار "، تحقيق ومقدمة نحليلية للمشرف على مشروع ابن رشد: د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، وقد وردت أرقام الصفحات في المتن، من باب الإيجاز.
8-ينظر في كتاب د. محمد عابد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2001 ، وفي صفحات متفرقة، وما يفصح عن ذلك، منذ المقدمة:
( المجتمع العربي كان طوال تاريخه المديد- ومازال إلى اليوم- مجتمعاً قلقاً، على مستوى القيم على الأقل... إن كثيراً من الصراعات التي عاشها، ويعيشها – المجتمع العربي- كانت في جملتها عبارة عن " أزمات القيم " . ص 22 .)
وبالتأكيد، ليست الفلسفة، إن وجِدت فلسفة هنا، هي المسئولة عن هذا الكارثي مجتمعياً، إنما ما يضع الساسة في مواجهة المساءلة، وحين نقرأ في الفصل الثاني
في البدء كانت أزمة القيم . ص 57 .
حيث ربطها قبل كل شيء بتبنّي قيم الموروث الفارسي، وقد نشأت أخلاق الطاعة . ص 60 .
أخلاق الطاعة التي غزت الساحة الثقافية العربية عبر ما انتقل إليها من الموروث الفارسي . ص 627 .
وفي النهاية، ما يميّع مفهوم المجتمع العربي، والثقافة العربية، دون مراعاة التمازج الثقافي بعائده الإسلامي، حيث تصاهرت ثقافات أمم وشعوب، وقول الجابري: لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران، ولا غيرهم، من بلاد الإسلام، النهضة المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا في أنفسهم " أباهم " أزدشير . ص 630 .
لهذا يسهل طرح السؤال: ألم يكن الجابري نفسه إيديولوجياً في: العقل الأخلاقي العربي ؟
سؤالي أكثر من كونه سؤالاً، إنما هو مكاشفة لما انشغل به الجابري، في كتابه هذا بالذات، وهو لا يتردد في اعتبار أي خلل في المنظومة الفكرية للعقل الأخلاقي العربي، مصدره " تغلغل القيم الكسروية في الثقافة العربية " في تاريخها الطويل.!! على طريقة: احذروا: العدو في الخارج، وما يصل مفهوم " العدو " وفكرته، من نمط " المؤامرة الخارجية " بدمغتها السياسية !!





5.jpg
د. عبدالله الغذامي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى