الطاهر الهمامي - لا فضل لعربي على أعجميّ، ولالسنيّ على شيعيّ إلاّ بمقاومة الامبرياليّة والصّهيونيّة

تعكس الخلافات العربيّة النّاجمة عن الحرب الإسرائيليّة على لبنان اختلافا تقليديّا في الاصطفاف بين توابع المشروع الأمريكي والمناضلين من أجل المشروع الوطني والنّهضة القوميّة. لكنّها تعكس أيضا سوء فهم البعض لطبيعة التّناقضات القائمة وأحجامها وكيفيّة معالجتها، بما قد يؤدّي إلى إضعاف المقاومة وتقوية جانب المعتدين وإنعاش آمال المتواطئين وعبيد الاستعمار.
ولانعتقد أنّ من كان يملك قدرا من المبدئيّة والفهم السّياسي يغيب عنه الفارق بين التّناقضات الثّانويّة (المعدودة في صفوف الشّعب حسب التّعبير الشّائع) والتّناقض الرّئيسي ( الّذي يقابل الشّعوب والأمم بأعدائها) وأنّ كلّ مرحلة يحكمها تناقض رئيسي واحد تخضع له بقيّة التّناقضات ومن دون الإمساك به تتبعثرالقوى وتفقد البوصلة.
كما لا نعتقد أنّ ذا الرّاي السّويّ والرّؤية الواقعيّة يعجز اليوم عن تحديد طرفي التّناقض الرّئيسي على مسرح الأحداث العالميّة وعلى صعيد ما يجري بمنطقة الشّرق الأوسط عموما والمنطقة العربيّة خصوصا المحاصرة منذ انتصاب"النّظام العالمي الجديد" تحت لواء القطب الواحد وتسارع وتيرة الأمركة القسريّة للعالم.أمّا الطّرف الأوّل المستهدف فيتألّف من كافّة بلدان المعمورة وشعوبها وأممها المستعمرة أو المهدّدة بالاستعمارأو المحاصرة أو الفاقدة جزءا من سيادتها أو غير المسيطرة على ثرواتها ولا هي متحكّمة في قرارها، وتتصدّرهذه البلدان فلسطين والعراق وأفغانستان وتمتدّ كي تشمل سوريا ولبنان وإيران والسّودان وفنزويلا وكوبا وكوريا الشّماليّة إلخ...وأمّا الطّرف المقابل فتتزعّمه الامبرياليّة الأمريكيّة، السّاعية إلى بسط نفوذها المطلق وإقامة امبراطوريّتها على مختلف القارات، بذريعتين: العولمة ومكافحة الإرهاب، وبجملة من الأدوات العالميّة والإقليميّة العسكريّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة وتأتي اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط وداخل الجسد العربي، كأهمّ أداة متعدّدة الاختصاصات.
وغير خاف على أحد أنّ الثّنائي الامبريالي- الصّهيوني لايرضى بأقلّ من وضع شعوب المنطقة وأممها، وفي مقدّمتها شعوب الأمّة العربيّة تحت أقدامه، وتجريدها من كافّة مقوّمات السّيادة والنّهضة والعزّة حتّى يستبيح ثرواتها وطاقاتها ويقطعها عن جذورها الحضاريّة وآفاقها المستقبليّة وهو يسعى سعيا حثيثا إلى تحقيق ذلك عبر مشروع" الشّرق الأوسط الكبير" أو "الشّرق الأوسط الجديد" وعبر ألف طريق وطريق ويعمل على الأرض كي يغيّر الخارطة بدءا بخارطة العقول وعن طريق القوّة والحرب العدوانيّة والإبادة إذا لم ينفع التّهديد والوعيد ولم تُجدِ سياسة الإغراء والشّراء وعمليّات غسل المخّ بما يجعل شرّ الامبرياليّة والصّهيونيّة اليوم أمرا واقعيّا، تترجمه الأحداث الحادثة في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان وعلى أبواب سوريا وإيران وكوريا، فضلا عن وقائع أروقة الأمم المتّحدة ومجلس الأمن حيث تستكمل سياسة المكيالين والمعايير المزدوجة ما بدأته الحرب.
أمّا الضّحايا، شعوبا وأمما وبلدانا وبلدات ومدنا وقرى ومخيّمات، فلا تفرّق البوارج والطّائرات والقنابل العنقوديّة بين سنّتهم وشيعتهم، وبين عربهم وفرسهم وتركهم وكردهم، ومسلميهم ومسيحيهم متى كانوا وطنيّين، وأحرارا، وحريصين على استقلال بلدانهم ونهضة أممهم وعزّة أقوامهم ومتى رفضوا الاحتلال والإذلال ونبذوا قدر العبيد.
وأمام القوّة العسكريّة والتّقنية الجبّارة للوحش الامبريالي تكمن قوّة المقاومة في وعيها أوّلا الوعي الّذي يجعلها تحدّد التّناقض الرّئيسي تحديدا سديدا حتّى تحشد لحلّه كافّة القوى وتركّز الضّرب وتصوّب الرّماية. ألم يقل المتنبّي قديما وهو يختزل خبرة المعارك الجارية تحت أنظاره بين سيف الدّولة وجحافل الرّوم على السّاحل السّوري- اللّبناني:
الرّأي قبل شجاعة الشّجعان هو أوّل وهي المحلّ الثّاني
وبعد التّأكّد من صحّة الرّأي وسداد الرّؤية تأتي وحدة الصفّ الّتي تعني وحدة الرّاية ووحدة التّنظيم ووحدة السّياسة أو ما يُعبّر عنه في الأدبيّات المعروفة بالجبهة جبهة التّحرير وجيش التّحريرإلخ وأن تُطوى جميع الرّايات وتتخلّى جميع الفصائل عن أنانيّاتها الطّائفيّة والحزبيّة وتسحب رؤوس بنادقها وتخضع لمركز القوّة الموحّدة، إذا كانت تطمع في تحرير فلسطين وتحرير العراق والتّصدّي الفعلي للأطماع الخارجيّة وكسب التّقدير والتّأييد داخلها وخارجها.
حينئذ تحتلّ المسألة الوطنيّة، حيث هناك خطر أجنبيّ فعليّ، صدارة المسائل ويعلو التّناقض مع الخارج (وعملائه في الدّاخل) على بقيّة التّناقضات ويفرض على النّظام (الوطني) والمعارضة (الوطنيّة) إحكام التّعاون لحماية البلد وردّ العدوان ويصبح الصّمود والاستبسال في وجه الحملة الاستعماريّة هو المقياس، وأساس الفرز والاستقطاب بين الصف الوطني والصفّ المعادي.
ومن حقّ المقاومة في كلّ بلد محتلّ أن تطلب العون والنّصرة على أعدائها، وأن تتلقّاهما وهذا أمر ليس بجديد على حروب التّحرير شرقا وغربا وإثارته اليوم تدخل ضمن سياسة المكيالين الّتي رسّختها الامبرياليّة الأمريكيّة والهادفة إلى عزل حركات المقاومة وتقديمها كما لو كانت حركات إرهابيّة أمّا إرهاب الدّولة الفعلي الّذي تمارسه فلا بأس من أن يجد المساندة ومن أن تعدّ مساندته فريضة على كلّ مسلم ومسلمة وكلّ مسيحيّ ومسيحيّة واسرائيل الّتي تحتلّ أراضي جيرانها وتستوطن أرضا ليست أرضها وتركت المجازر وتستخدم الأسلحة المحظورة مدعومة أمريكيّا وأروبيّا ويُراد لها أن تكون مدعومة عربيّا ( وقد حظيت بذلك فعلا !!) بل ويراد لها أن تُحمى من ردّ فعل ضحاياها بحزام أمني في جنوب لبنان يستنفر طاقة العالم كافّة، ويُعاب على سوريا وإيران أنّهما تساندان هؤلاء الضّحايا وتشدّان أزر مقاومة الاحتلال، ويراد عقابهما على ذلك، وعربنا يتفرّجون بل يجدون عذرا للغزاة العتاة في مثل هذا اللاّمعقول، وفي ما يرتكبون على الأرض.
إنّ العرب المختبئين وراء التّناقضات الثّانويّة سواء كانت قوميّة (مع الفرس) أو طائفيّة (مع الشيعة) أو غيرها، يتجاهلون طبيعة المعركة ويفوّتون على الأمّة موعدا مع التّاريخ ( مهما كان حجمه) ترفع فيه رأسها بعد دهر من القهر. ولا عذر لمن أخطأ التّقدير والتّمييز إذا لم يراجع حساباته ويسوّي بوصلته ولم يرسم خطّ الفصل بينه وبين المتربّعين على آرائك الحكم الّذين تعمّدوا النّفخ في الخلاف العربي الفارسي، والسنّي- الشّيعي، وركبوا قاطرة إذكائه وراء أمريكا واسرائيل مقابل تجاهلهم التّناقض الحقيقي الّذي يحرّك المنطقة والعالم الآن والّذي محوره الوطن والمسألة الوطنيّة، في ظلّ الهجمة الامبرياليّة العولميّة الرّاهنة.
ولذا ظلّ هذا الرّهط من حكّامنا طيلة الحرب على لبنان ينتظرأن يتكفّل سلاح المعتدي بأمر سلاح المقاومة، وظلّ يتذرّع بالخطر الإيراني والشّيعي ويراه أخطرمن الخطرالصّهيوني وهبّ بعض أطرافه أمام النّصر المحرج الّذي حقّقته المقاومة"رغم الدّاء والأعداء"- يعزف معزوفة إعادة الإعمار وكأنّه كان ينبغي أن يصمت العرب ويخرس العالم أمام الدّماروألاّ يحولوا دون مواصلته وهم قادرون لو شاؤوا، وبأقلّ التّكاليف حتّى تضع الحرب أوزارها وتنتهي عمليّة التّهديم كي تبدأ إعادة البناء ويقع تكريس العبثيّة في أجلى مظاهرها.
لافرق بين عربي وفارسي وتركماني وكردي، ولابين سنّي وشيعي، أو مسلم ومسيحي ويهودي أو بين علماني ودياني أو بين هذه العشيرة وتلك، أو بين سوري وإيراني وعراقي وفلسطيني وسوداني وكوبي وكوري وفنزولي وبلقاني إلاّ بالصّمود في وجه الحملة الاستعماريّة الجديدة وبرفض الولاء للأجنبي والاستقواء به على النّظام الوطني، وعلى الأمّة.
مسائل نثيرها وندعو إلى إثارتها وطرحها ونقاشها عبر وسائل الإعلام المختلفة وخاصّة، ما تعلّق منها بشبكة التّناقضات الرّاهنة، وكيفيّة التّعامل معها، ولا بأس أن يكون الموضوع فكريّا- سياسيّا، فالحاجة ماسّة وملحّة إلى ضوء المعرفة، وشعاع النّظريّة وشمس الفكر، حتّى تنجلي الطّريق وتنكشف الحفر وتقلّ الحوادث.


الطاهر الهمامي
جريدة "الشّعب"- العدد882- السّبت 9 سبتمبر2006 ص10.
أعلى