دعوة الحق - الصداقة والصديق، لأبي حيان التوحيدي

قبل تحليل هذا الذي يعد من أروع ما كتبه أبو حيان التوحيدي، ينبغي أن نتعرف في لمحة عابرة على حياة هذا الكاتب ومؤلفاته وأدبه :
1) حياة أبي حيان : علي بن محمد بن العباس التوحيدي ولد بواسط أو بغداد أو شيراز أو نيابور حوالي سنة 312، ودرس ببغداد والبصرة على أساتذة بارزين كأبي سعيد السيرافي وأبي حامد المروزي وأبي سليمان محمد بن طاهر ويحيى بن عدي وعلي بن عيسى الرماني وآخرين، ومن أكثر الأساتذة تأثيرا في توجيه المباشر أبو سليمان المذكور الذي كان مشاركا في علوم كثيرة، خصوصا الفلسفة والمنطق، واتصل في شبابه بالوزير المهلبي ثم بابن العميد والصاحب بن عباد والحسين بن أحمد بن سعدان، وكلهم تولى الوزارة لدى البويهيين، كما اتصل بأبي إسحق الصافي رئيس ديوان الانشان ببغداد، وقام أبو حيان بمهمة النسخ لدى الوزراء المذكورين وكان يمقتها ويعدها دون مستواه الفكري.
ولم ينجح أبو حيان مطلقا في حياته العملية لأنه كان سليط اللسان قليل الاهتمام بمظهره كما اتهم بتزوير بعض الأحاديث، وأثارت ميوله التصوفية بعض أسباب العداوة ضده، وهكذا وضع كتابه المشهور في "مثالب الوزيرين، ابن العميد وابن عباد" ذلك الكتاب الذي نقل ياقوت كثيرا من فقره في "معجم الأدباء" كما وضع بضعة كتب في التصوف منها رسالة في أخبار الصوفية وكتاب "الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي" الذي استمد أفكاره من الحلاج حسب قول "ماسينيون"، وكان الحلاج يرى أن المومن إذا عاقه عن الحج عائق أمكنه أن ينعزل في حجرة بمنزله بعيدا عن كل دنس، ويؤدي نفس الطقوس التي يؤديها في الحج عادة.
واعتزل التوحيدي في أواخر حياته عن الناس حتى عمد إلى إحراق كتبه، وعذله في ذلك القاضي أبو سهل، فأجابه برسالة طويلة برر فيها سلوكه هذا بأسباب ثلاثة : أولا : أن هذه الكتب لم تنفعه في حياته العملية، فقد اضطر كما يقول إلى أكل الخضر في الصحراء وبيع الدين والمروءة. ثانيا : أن الذين الفها بناء على طلبهم، لم ير منهم حفظا للعهد، بالرغم من طول صحبته لهم. ثالثا : أن شخصيات ذات مقام في الدين والعلم لا ينكر، قد عمدت قلبه إلى إتلاف كتبها، كأبي عمرو ابن العلاء الذي (دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر) وداود الطائي الذي (كان من خيار عباد الله زهدا وفقها) وأبي سعيد السيراقي الذي أمر ولده بإحراق كتبه إذا لم ينتفع منها بعد موت والده وأخيرا، فقد اعتذر أبو حيان بالمرض والشيخوخة واليأس الذي اقض مضجعه.
ولحسن الحظ، فإن نسخا من بعض كتبه كانت قد انتشرت قبل عملية الإحراق هذه.
ونظرا للعزلة التي التزمها أبو حيان في آخر حياته فإن تاريخ وفاته يسوده غموض كثير وذكر زكي مبارك في "النشر الفني" اعتمادا على ماسينيون أنه توفي سنة 414هـ بشيراز بعد أن امتدت حياته أكثر من قرن.
ومن المعلوم أن القرن الرابع الذي عاش خلاله أبو حيان يمثل أزهى عصور الإنتاج الفكري في تاريخ الإسلام كله، هو عصر التنافس العلمي والسياسي الذي انفصلت فيه عدة دول عن الخلافة العباسية كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين والسامانيين والأخشيديين، وهو في ميدان الادب، عصر ابن مقلة والمهلبي والمتنبي والصاحب وابن العميد وأبي إسحاق الصابي والهمداني والخوارزمي، وفي العلوم عهد ابن النديم والرازي وأبي سعيد السيراقي "والدارقطني" وأبي حامد الاسفرييني وعلي بن عيسى الرماني وحمزة الاصفهاني وابن دريد وابن فارس والجوهري.
2) مؤلفات أبي حيان وأدبه : امتاز القرن الرابع في ميدان الفكر بالثقافة الموسوعية التي كانت مقياسا لرجل الأدب والعلم على السواء، وتأثر أبو حيان بعصره فوسع دراسته في علوم مختلفة، فكان يتقن الأدب والفلسفة والنحو واللغة والمنطق وعلوما أخرى، وكان مثله الأعلى هو الجاحظ الذي أعجب به أبو حيان أيما إعجاب وقدر علمه كما لو تلقى عنه مباشرة وكتب في تقريظه رسالة عده فيها أحد الثلاثة الذين انتهى إليهم العلم والفضل (في نظره) وهم أحمد بن سهل البلخي وأوب حنيفة الدينوري وعمرو بن بحر الجاحظ.
وكان يشبه أيضا في عيوبه، فلم يشد عن الأسلوب الأدبي حتى في بعض كتبه الفلسفية كالمقابسات وكان الجاحظ لا يفتأ يخلط الأدب بالعلم حتى في كتبه العلمية وهكذا لجأ التوحيدي إلى النوادر، يلقيها في عرضه الفلسفي، ومن طبيعته الاستطراد شأن الجاحظ الذي كان إلى ذلك، يمزج الهزل بالجد، إذ كان مطبوعا على روح التندر والفكاهة، وكان أبو حيان ينقصه هذا المزاج، على الأقل إذا قيس بالجاحظ وفي مقابل ذلك كانت له موهبة خاصة في سير أغوار الناس وتحليل لنفسيات، واختلف عن الجاحظ في أنه كما قال بعض النقاد، وصف أشخاص معروفين.
ولا يخلو أدب التوحيدي من سخرية لاذعة تفوق سخرية الجاحظ التي امتازت بروح مرحة ليس فيها غضب أو تسرد على المجتمع، ولقد كان أبو حيان يستخدم في أسلوبه النقدي، الاتهام بالصفات الدنيئة التي يكيلها لموصوفه بعد أن يعدد مزاياه ثم يستدرك عليها بهذه الصفات المناقضة وهي طريقة امتاز بها هو، ومن عاداته أن يسخر حتى من العيوب الجسدية فإذا وصف الصاحب قال على لسان ابن العميد (أحسب أن عينيه ركبتا من زئبق، وعنقه عمل بلولب) ثم يعلق على ذلك قوله : وصدق، فإنه كان ظريف التثني والتلوي شديد التفكك والتفتل، كثير التعوج والتموج، في شكل المرأة المومسة، والفاجرة الماجنة. (ياقوت 6 ص 201) وقد ترك أبو حيان آثارا في الادب والفلسفة والتصرف منها :

في الأدب وما إليه
1) الامتاع والموأنسة، نشر بالقاهرة فيما بين 1932/1944 بتحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وهو مرجع هام عن الحياة الاجتماعية والفكرية في العصر البويهي، ويتضمن المناظرة المشهورة التي جرت حول أصول النحو العربي بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي، إلى جانب موضوعات أخرى هامة.
2) "البصائر والذخائر" وقد بدأ نشره أحمد أمين، وأحمد صقر منذ 1953 ويشتمل على عشرة أجزاء كل منها مستقل بمقدمته وخاتمته، وهو عبارة عن مجموعة مختارة في الادب والفلسفة والتصوف واللغة من غير تنسيق ولا تبويب، وقد أطلق عليه أيضا اسم : "بصائر القدماء، وسرائر الحكماء".
3) "مثالب الوزيرين" نقل منه ياقوت كثيرا في عرض ترجمته للصاحب بن عباد، وقد جمع فيه عدة نوادر حول مثالب ابن العميد وابن عباد، ووصفهما بأشنع الصفات كالكلب والمتنطع والرقيع.
4) رسالة في علم الكتابة، وفيها يفصل أنواع الخطوط والأقلام والبري وطريقة الكتابة كما يبسط مصطلحات أهل الفن من تدوير وتعريق وتشقيق وتنسيق وتحذيق وغير ذلك، ثم يذكر ما قيل من كلام في الخط الجيد، ويزودنا بأسماء عدد من الكتاب البلغاء والخطاطين الماهرين ولا تتجاوز الرسالة حوالي 20 صفحة من القطع المتوسط ولكنها مفيدة جدا.
5) رسالة في الصداقة والصديق وهي موضوعنا الرئيسي.

وكم كتبه ورسائله في التصوف :
1) الإشارات الإلهية وهو مطبوع.
2) رسالة في أخبار الصوفية.
3) الحج العقلي إذا أضاق الفضاء عن الحج الشرعي وفيها يبدو تأثره بالحلاج في بعض أفكاره وكان الحلاج قد تزعم فكرة حلول الذات الإلهية في النفس البشرية بعد رياضة روحية طويلة وهي فكرة هندية قديمة تسربت إلى بعض طوائف الشيعة كالسيائية والحاكمية وأثارت نقمة الفقهاء والعلماء كابن حزم وابن الجوزية وابن تيمية.

أما في الفلسفة، فمن أهم كتبه :
1) المقابسات : وقد ظهرت طبعته الأولى ببومباي 1305-1887 ثم طبع بالقاهرة، وهو مجلد واحد يضم ستا ومائة مقابسة تمثل مجموع المذكرات التي سجلها التوحيدي إثر مناظرات ومناقشات كانت تجري في مجلس يحيى ابن عدي وأبي سليمان السجساني وأحيانا بمنزل الوزير ابن العريض ويحضر فيها علماء من مختلف الملل والنحل وفيهم صابئة ومسلمون ومسيحيون، كما كان فيهم رياضيون وفلكيون وأطباء ومؤرخون ومتكلمون وأدباء، وتدور المناقشات حول موضوعات متفرقة في الفلسفة كمشكلة العقل والروح والدنيا والآخرة والخلق واليوم الآخر والزمان والمكان والمادة والعرض والحركة والسكون والكهانة وعلاقتها بالغيب وتناول إلى ذلك موضوعات لا علاقة لها بالفلسفة كالبلاغة والخطابة عند الأمم (مقابسة 88) وشرف العلم والمعرفة (92) وعيب هذه المقابسات أنها غير مرتبة ولا موحدة الموضوع.
2) رسالة الحياة : التي نشرها إبراهيم الكيلاني تحت إشراف المعهد الفرنسي بدمشق 1951 وتبلغ 30 ص من القطع المتوسط، وقد تحدث فيها عن أصناف الحياة التي عدها عشرا والأخيرتان هما : حياة الملائكة وحياة الله وقد قال عنهما (... فليستا من الأصناف التي يلج الفهم في كننها) ثم نقل كلمات للفلاسفة كهوميروس وسقراط وأفلاطون وأبي سليمان السجستاني، وهي تتعلق بمختلف أصناف الحياة التي استعرضها وناقشها.
3) التذكرة التوحيدية.
4) المحاضرات والمناظرات.
5) الإقناع.
ونخص اليوم بنظرة مفصلة كتاب الصداقة والصديق الذي هو كتاب أدبي قبل كل شيء :
موضوع الكتاب : يدور كما جاء في العنوان حول الصداقة والصديق وأقوال الحكماء والأدباء وغيرهم في شروط الصديق ومزايا الصداقة وخيانة الأصدقاء وما إلى ذلك.
تاريخ تأليفه : ألف الكتاب كما جاء في خاتمته نفسها حوالي سنة 400 وكان ذلك بإيعاز من ابن سعدان قبل توليته الوزارة أي سنة 371-981 وبالتالي بعد مرور ثلاثين سنة على هذه التوصية، وقد كان تأليفه لهذا الكتاب، نتيجة كذلك، للظروف العصيبة التي عاشها الكاتب معظم سني حياته كما تدل على ذلك شكواه وتذمره في مختلف كتبه.
دواعي تأليفه : كفانا الكاتب مؤونة البحث عن دواعي تأليفه لهذا الكتاب الذي أورد في مقدمته قوله : "كان سبب إنشاء هذا الكتاب، أني ذكرت منه شيئا لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان أبي عبد الله سنة 371 قبل تحمله أعباء الدولة وتدبيره أمر الوزارة، فقال لي ابن سعدان : قال لي عنك زيد كذا وكذا، فقلت : قد كان ذلك، فقال لي : دون هذا الكلام، وصله بصلاته مما يصح عندك ممن تقدم فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في هذه الرسالة وشغل عن رد القول فيها، وبطوأت أنا عن تحريرها، إلى أن كان من أمره ما كان، فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة 400 عثرت على المودة وبيضتها".
أما الظروف التي تم فيها تأليفه الكتاب، فقد أوضحها أيضا في خاتمة كتابه، حتى أنه اعتذر بكيفية غير مباشرة عما يكتنفه من مظاهر التشاؤم والنكد، فضلا عن عدم التنسيق الذي سنلاحظه فيما بعد، وانتهى فيه معتذرا إلى ولي نعمته بقول :
(فاقبل حاطك الله هذا القدر الذي قد بدأته وأعدته، ونشرته وطويته، على أنه لو علمت في أي وقت ارتفعت هذه الرسالة، وعلى أي حال تمت لتعجبت، وما كان يقل في عينك منها يكثر في نفسك، وما يصغر منها بنقدك، يكبر بعقلك، والله أسأل خاتمة مقرونة بغنيمة، وعاقبة مفضية إلى كرامة، فقد بلغت شمسي رأس الحائط، والله أستعين على كل ما هم النفس ووزع الفكر، وأدنى من الوسواس).
ورحم الله زكي مبارك إذ يقول : (ابتدا هذا الكتاب بزفرة، وانتهى بزفرة).
نشر الكتاب : نشر الكتاب لأول مرة بالقسطنطينية 1301هـ (1882) بمطبعة الجوانب ثم بالقاهرة 1323/1905 وأخيرا بدمشق، بتحقيق السيد إبراهيم الكيلاني.
القدماء وموضوع الصداقة : عالج القدماء قبل أبيت حيان موضوع الصداقة شعرا ونشرا، وحكما أو موضوعات مستقلا، فتناوله الإغريقيون واللاتينيون كسيسيرون (ciceron) في حوار مع صديقه Lelius، حتى أن السيد كيلاني في ترجمته للتوحيدي وتحليله لكتبه، لاحظ التشابه بين ما كتبه التوحيدي وسيسيرون، ففي المحاورة المذكورة يتناول الصديقان مختلف المسائل التي تهم الصداقة من غير ترتيب ويضربان في هذا الموضوع هنا وهناك، كما أن التوحيدي لم يترك شاذة ولا فاذة في موضوع الصداقة إلا تناولها، فاستشهد بأقوال الجاهليين والحكماء على اختلافهم من عرب وغيرهم، قدماء ومعاصرين.
وتناول بعض شعراء الجاهلية موضوع الصداقة في أبيات متفرقة كما جاء في القرآن آيات كثيرة توصي باجتناب قرناء السوء والتسامح حيال المعادين كقوله تعالى : 1) ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا. 2) ياليت بيني وبينك بعد المشرفين فبيس القرين. 3) ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وقال لبيد ابن ربيعة يوصي ابنتيه عند موته :
وقولا هو المرء الذي لا حليفه
أضاع، ولا خان الصديق ولا غدر
وفي العهد الأموي نجد ابن المقفع يتحدث كثيرا في الموضوع في كل من الأدب الكبير والأدب الصغير ثم كثر عدد الشعراء والكتاب الذين تناولوه في العصر العباسي من غير أن يخصصوه بكتاب مستقل قبل ظهور رسالة التوحيدي هذه، ومن شعر بشار قوله :
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه
مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القنى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
الإخوانيات في العصر العباسي : توسع موضوع الترسل في العصر العباسي فشمل أبوابا كثيرة من مدح وشوق واستعطاف وعيادة وتعزية وعتاب، ودخل جل ذلك في ما يسمى بالإخوانيات التي لها ارتباط وثيق بموضوعنا.
وشؤون الصداقة في القرن الرابع كانت تحتل المكانة المرموقة في علاقات الكتاب بين بعضهم من جهة، وبين رجال السلطة من جهة أخرى، وهو عصر تنافس الأمراء فيه على قسم أكبر عدد من الشخصيات الادبية البارزة لتشغل مهام التحرير والنسخ والمراسلات الإدارية، ولتشارك في المناظرات والمجالس التي يعقدها هؤلاء الأمراء، كما كان يحدث في بلاط البويهيين والحمدانيين، وهكذا كانت صلات الصداقة تربط بين رجال الفكر الذين تجمعهم روابط العمل المهني أو المجال العلمية والمناظرات المختلفة، ومن تم، اتسع أفق المراسلات في ما بينهم، والكل يعمل على إبداء براعته أسلوبا وأدبا وأفكارا.
وهكذا فإن أبا حيان التوحيدي الذي عاش حقبة طويلة، عاشر كثيرا من الناس على اختلاف مللهم، ومحلهم، لأن العصر عصر تحرر ديني وفكري شامل، وكان أكثر الذين رافقهم بطبيعة الحال ممن يمتون إلى العلم والادب بصلة، أما كمثقفين أو عاطفين على الحركة الفكرية.
غير أن سوء حظ الكاتب لم يشأ له أن يكون مرعي الجانب، إذ كان ضعيف الثقة بنفسه كثير الشك في الناس، حريصا على أن ينال نصيبه من الدنيا دون أن يوفق إلى ذلك، مع ما كان عليه من نزعة صوفية تناقض طموحه، وكان لا يحسن المداراة ولا المحافظة على صداقة الناس، فسرعان ما يملهم ويملونه، وهو بعد، مؤذي اللسان، كثير التهجم بقلمه مما جعل رجال الدولة يتحامونه، فضلا عما يؤخذ عليه من رثاثة الحال وقلة عناية بالمظهر، وفي هذا العصر تكلم كتاب آخرون في الصداقة، ومزجوا بين أفكارهم الخاصة وأقوال حكماء الهند وفلاسفة اليونان والبلغاء والشعراء المشهورين، وممن تناولوا موضوع الصداقة، الجاحظ في عدد من كتبه ورسائله، والخوارزمي والهمداني والصابي في رسائلهم.
مقدمة الكتاب : تمثل هذه المقدمة نموذجا لسائر مقدمات كتبه، ففيها من رقة الأسلوب ووسائل التشويق ما يغري بإتمام الكتابة قراءة وتدبرا، إذ هو يذكر عادة بواعث تأليف الكتاب، والشخصية التي أهابتت به إلى وضعه، تم يعتذر عما يراه من قصور بسبب ظروف حياته الخاصة.
وهكذا ابتدا مقدمة أبي حيان في "الصداقة والصديق" :
(بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعوزنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب، وتنقي الجيوب حتى تتعيش في هذه الدار مصطلحين على خيرا مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروؤة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين متزودين للعاقبة التي لابد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الاطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء.
سمع مني في وقت بمدينة السلام كلام في الصداقة والعشرة، والألفة، وما يلحق بها من الدعاية والحفاظ، والوفاء والمساعدة، والنصيحة والبذل والمؤساة، والجود والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أكثره بين العام والخاص، وسئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملة مما قاله أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة، ليكون ذلك كله رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها وينتفع بها في المعاش والمعاد).
وبعد أن يذكر كلاما لأبي سليمان السجستاني في موضوع الصداقة، يفاضل بين صداقة الملوك وصداقة التجار ورجال الدين والعلم، ويقول إن الأولين جالوا عنها والتجار همهم الفلس، وأصحاب الدين ربما خلصت لهم الصداقة لبنائهم إياها على التقوى، وأهل العلم والكتاب قد تصح صداقتهم إذا خلوا من التحاسب وهم قليل جدا في ذلك. ثم يخاطب المهدي إليه شاكيا سوء حاله :
(إنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحرق والأسف والحسرة والغيظ والكمد والومد، وذلك لعلمك بحالي، واطلاعك على دخيلتي واستمراري على هذا الإنفاض والعوز، اللذين نقضا قوتي، ونكثا مرتي وأفسدا حياتي، وقر تأني الأسى، وحجباني عن الأسى، لأني فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرفق ومشفق.. والله لربما صليت في الجامع، فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عطار أو نداف أو قصاب).
طريقة العرض : ليس لأبي حيان طريقة منظمة في العرض، إذ لا توجد عناوين ولا مواد مستقل بعضها عن بعض، فهو يبدأ بعد مقدمته الطويلة بقوله :
وقبل كل شيء يجب أن تثق بأنه لا صديق، ثم يتمثل بكلام الشعراء والكتاب كأبي إسحق الصابي والعسجدي وأبي سعيد السيرافي، وينصح بعد ذلك بالحذر من الأصدقاء لينتقل إلى الحديث عن الفتوة والعيارين ثم يعود من جديد إلى حديث الصداقة والحث على الصبر، وبعد أن تحامل على الصاحب نقل عددا من المراسلات تناولها أصدقاء من الأدباء فيما بينهم، ومتى سمع أو قرأ حكمة أو قصة في الموضوع نقلها، ولا ينسى أن يهاجم الصاحب وابن العميد بين آن وآخر.
وبعد أن يبلغ أقل من نصف الكتاب في عرضه الغير المنسق، نلاحظ أنه كان يريد أن ينتهي بتأليفه هذا فيقول:
"وقد أتت هذه الرسالة على حديث الصداقة والصديق وما يتصل بالوفاء والخلاف والهجر والصلة والعتب والرضا والملق والاخلاص والرثاء والنفاق، والحيلة والخداع، والاستقامة والالتواء، والاستكانة والاحتجاج والاعتذار ولو أمكن لكان تأليف ذلك كله أتم مما هو عليه، وأجرى إلى الغاية في ضم الشيء إلى شكله وصبه على قالبه، فكان رونقه ابين ورفيقه احسن، ولكن العذر قد تقدم، ولو أردنا أن نجمع ما قاله كل ناظم في شعره، وكل ناثر من لفظه، لكان ذلك عسرا، بل متعذرا".
ولكننا نراه يعود بعد ذلك إلى الموضوع الذي يعالجه، متمثلا على عادته بإشعار وحكم، وقد ينقل عن الصاحب بن عباد وابن العميد بعض أقوالهما، ويسميهما بذي الكفايتين أوذي الرئاستين، مع أنه يهاجمهما في مواضيع أخرى.
وهكذا ينتقل من فكرة إلى حكمة، ومن موضوع في الصداقة إلى آخر بعيد عنها، وحينما يشعر بأنه أطال في موضوع الصداقة الذي لم يسبق أن أطال فيه غيره، يعتذر عن ذلك، كما يعبر عن آلامه النفسية مباشرة أو على لسان غيره.
ومن المسائل الطريفة التي تناولها في رسالته هذه مشكلة الفتوة والعيارين، وإذا كان العيارون ليسوا إلا أشخاصا اتخذوا من اللصوصية وسيلة للكسب، فإن مشكلة الفتوة التي شغلت الشرق الاسلامي زمنا طويلا، لم يستطع أحد أن يذكر أصلها في الاسلام أو يستفيض في الحديث عنها بما فيه الكفاية، ومن أهم الدراسات التي خصصت لها دراسة أمريكية لجيرارد زالينغر ترجمت ضمن مجموعة باسم "دراسات إسلامية" ونشرت ببيروت 1960 ويستنتج منها أن معنى الفتوة تطور مع العصور، وأنها أطلقت على منظمات تتحلى بفضائل وتؤدي طقوسا معينة أي أن صبغتها كانت دينية تطوعية للمصلحة العامة، وقد تركز نظام الفتوة في أيام الناصر بن قلاوون، حيث كان خاصا بجماعة المتطوعين للجهاد فيما وراء النهر وخرسان، وكان للفتيان وقف خاص أيام الناصر ومصلحة إدارية ترعى شؤونهم، وفي ظروف سابقة، كانت الفتوة قد انحطت إلى درجة قيام أصحابها بأعمال النهب أيام ركن الدولة البويهي الذي كادوا يطيحون بعرشه.
وقد تحدث التوحيدي في المقابسات عن الفتوة وعدها أعلى صفات الإنسان المكتسبة، ويدخل فيها النجدة والكرم وعلو الهمة وسائر المحامد، ثم قارن بينها وبين المروؤة التي اعتبرها أشد لصوقا بباطن الانسان "لأن الفتوة لا تصلح دون مروؤة، ويمكن أن تكون المروؤة دون فتوة" وعلى كل حال فنحن لا نستفيد في المقابسات أكثر من تحديدات لا تدل بحق على تطور الفتوة ومعناها في العرف الاجتماعي.
أما في رسالة الصداقة فإن أبا حيان، قد أشار إلى الفتوة والعيارين فيما رواه عن أبي عثمان الخالدي إذ يقول : أن عيارا سمع رجلا يقول : إذا عز أخوك فهن. فقال للقائل : أخطأت، إذا عزا أخوك فأهن سياله. ثم يضيف التوحيدي على لسان أبي عثمان، وأنا أقول : لو كان هذا الحكم من رجل نبيه له في الحكمة قدم، وفي الفضل قدم، لتأوله متأول على وجه قريب أو بعيد، ولكنه روي عن عيار، وهذا الرهط ليس لأحد فيهم أسوق، ولا هم لأحد قوة، لغلبة الباطل عليهم، وبعد الحق عنهم، ولأن الدين لا يلتاط بهم، والفتوة التي يدعونها بالاسم لا يحلون بها في الحقيقة، وكيف تصح الفتوة إذا خالفها الدين؟ وكيف يستقر الدين إذا فارقته الفتوة؟ الدين تكليف من الله تعالى، والفتوة أخلاق بين الناس، ولا خلق إلا ما هذبه الدين، ولا دين إلا ما هذبه الخلق.
وحاول أن يتملص من الفلسفة بقوله معلقا على كلام أبي سليمان : (... الفلسفة التي هي موقوفة على أصحابها لا نزاحمهم عليها ولا نماريهم فيها).
ومن هذا العرض القصير نستنتج أن التوحيدي لم يهتم بتنسيق عناصر رسالته والتزام وحدة الموضوع التزاما تاما.

ملاحظات :
1) لا تخلوا الرسالة من روح الفكاهة والسخرية التي طبعت قسما هاما من أدب أبي حيان، ولو أن فكاهته لا تمثل روحا مرحة طبيعية، بل هو ينفس عن كربته بنفسه متلذذا بالتهكم على أشخاص آخرين، فكان بحق، مصابا بمرض السادية المعروف عند علماء النفس.
وقد ذكر لنا بعض من كان يجالسهم عند الوزير ابن سعدان وهم : علي بن عيسى بن زرعة النصراني، وابن عبيد الكاتب، وابن الحجاج القاضي الشاعر، وأبو الوفاء المهندس، ومسكوية المؤرخ، وبهرام بن اردشير، وقد وصف هؤلاء واحدا واحدا، فاسترذلهم جميعا، واستخف بهم كلهم إلا بهرام، فأما ابن أبي زرعة فمتكبر يفاخر بأرسطاليس وأفلاطون وسقراط وبقراط، وأما ابن عبيد فقد أعمته البلاغة والخطابة عن الانصراف إلى غيرها، وابن الحجاج جمع بين جد القاضي وحياء الغانية الشريفة وسخف الشعر، وأبو الوفاء فد لفظه كونه خراسانيا على الرغم من ظرفه، وأما مسكوية فيسرد بدمامة خلقه، ما يتكلفه من تهذيب خلقه.

ويروي عن شخص اسمه معمر : (ما بقي من لذات الدنيا إلا محادثة الاخوان وأكل القديد وحك الجرب والوقيعة في الثقلاء).
2) لا يتحرج أبو حيان من نقل كلام المسيح في رسالته وقد سمعه من بعض النصارى فيقول :
(قال عيسى بن مريم عليه السلام، فيما حدثنا به ابن الحمل الكاتب النصراني، لتلامذته : علامتكم التي تعرفون بها أنكم مني، أن يود بعضكم بعض، وقال أيضا ليشوع تلميذه : أما الرب فينبغي أن تحبه بكل قلبك، ثم تحب قريبك كما تحب نفسك، قيل له : بين لنا يا روح الله، ما بين هاتين المحبتين، حتى نستهد لهما بتبصرة وبيان، قال إن الصديق تحبه لنفسك، والنفس تحبها لربك، فإذا صنت صديقك، فلنفسك تصون، وإذا جدت بنفسك، فلربك تجود.
3) يروي عن شخصيات مختلفة، فيها الفيلسوف والصوفي والأديب والكاتب والشاعر والمشارك، وأكثر من روى عنهم أستاذه أبو سليمان السجستاني كما روى أو نقل عن الحسن البصري وأبي سعيد السيرافي وابن عباد وابن العميد وقد كان كل من هذين موضوع تندره أحيانا، فقد وصف مجلس الصاحب بقوله : (وهل عند ابن عباد إلا أصحاب الجدل الذين يشغبون ويحمقون ويصاحبون، وهو فيما بينهم يصيح؟).
وروى ابن العميد كان ينافسه صديقه حاجب ركن الدولة، وكان يريد أن يزحزحه عن الوزارة ليتولاها هو فكان ابن العميد يقول : (أفكان يجوز لي أن أحلم بهذا في اليوم ثم أتمتع بالعيش في اليقظة ؟ لا والله.
ومن أطرف ما يذكر بهذا الصدد أبا حيان إذا أراد أن يعبر عن رأيه الخاص، أوفكرة في موضوع هام، عمد إلى التحدث على لسان شخصية بارزة، حتى يدعم نظره أو وصفه بكلام غيره، وقلما نراه يتحدث بلسانه مباشرة، ولكننا نستطيع أن نكشف روحه ونفسيته بسهولة حتى من خلال مروياته ومختاراته هذا إذا صدقنا أن كل ما يرويه على لسان غيره ليس أكثره أو بعضه له.
4) تكثر في الرسالة الاستشهادات حول موضوع الهجران وما يحدثه من آلام نفسية في الأصدقاء المهجورين فيتمثل بقول شاعر :

أشكو إلى الله جفاء أمري
ما كان بالجافي ولا بالملـــول
كان وصولا دائما عهده
خير الأخلاء الكريم الوصول

ويروي كذلك :

مالي جفيت وكنت لا أجفي
ودلائل الهجران لا تخفــــى
مالي أراك نسيتني بطرا
ولقد عهدتك تذكر الالــــفـــا

وقد أورد كثيرا من الأشعار في موضوع الجفاء والهجران.
5) كثير من الشعر الذي يرويه لا ينسبه إلى أصحابه، مما يدل على أنه ينقله عن حافظته، خلافا لأقوال آخرين من حكماء، وأساتذة له أو مجالسين، ومن أجمل ما تمثل به في موضوع المحافظة على العهد:

أنا عبد من أرضي مودته
ثم الخليفة بعد ذاعبدي
وافر ممن خانني فرقا
إن الخيانة علة تعــدي

محاسن الرسالة : المحاسن الرئيسية في هذه الرسالة هي : 1) حسن الاختيار. 2) جودة الأسلوب. 3) استيفاء كل عناصر الموضوع تقريبا. 4) تصوير بعض المظاهر الاجتماعية والحياة الدينية والأدبية. 5) التعبير عن وجدان الكاتب وميوله الفكرية :
1) حسن الاختيار : معظم المختارات من شعر وحكم ومسموعات ومقروءات، لم يتناولها كاتب قبل أبي حيان، وهذه طريقته الخاصة في أكثر مؤلفاته الأدبية، فهو يأتي فيها غالبا، بما لم يسبقه إليه غيره من الموسوعيين، وفي هذه المختارات نلمس سعة محفوظاته ومطالعاته، فقد روى عن فلاسفة كثيفانوس وأنكاغورس وأرسطاطاليس، وعن متصوفة كبرهان الدينوري وأبي المتيم والحسن البصري، وعن ساسة كجعفر بن يحيى وسهل بن هرون وابن العميد ومعاوية، وكتاب مسلمين ومسيحيين وغيرهم كالصابي وابن الحمل وسعيد بن حميد.
2) جودة الأسلوب : يقدم أبو حيان عناصر رسالته بأسلوب شيق، فيه حسن التصوير، وعدم التصنع والموازنة بين اللفظ والمعنى، خلافا لمعظم الكتاب من معاصريه الذين كانت معانيهم محدودة، وألفاظهم للمعنى الواحد لا يحدها حصر.
ومن السهل أن نميز بين أسلوبه الخاص وأسلوب غيره، فما رواه عن أساتذته أو مناظريه أو رفقائه كله من أسلوبه، والباقي يمكن تمييزه باعتبار الزمن ومما ينسبه إلى قائله.
ومن أسلوبه الخاص النص التالي : "لقد شاهدت لشيخنا ابن طاهر، أصدقاء ينطوون له على مودة أذكى من العنبر والورد، إذا لحظهم بطرفه تهللوا، وإذا ناقلهم بلفظه تدللوا، وإذا تحكم عليهم تصجلوا، وإذا أمسك عنهم نولوا وخولوا، وكانوا لا يجدون به ما لا يحدون بأهلهم وأولادهم رحمة الله عليهم، فقد كانوا زينة الأرض في كل حال من الشدة والخفض وإني لأذكرهم فأجد في روحي روحا من حديثهم، قلت : كيف كان انبساطهم في الاجتماع ؟ قال : ما كانوا يتجاوزون الليلة الحلوة والمزح الخفيف واللفظ اللطيف، والرمز الرشيق والتبسم المقبول، وإذا افترقوا فإنما هم في اهتمام بأن يعود نظام عيشهم، وتدوم لهم مسرة حياتهم، الكلمة واحدة، والطريقة واحدة، والإرادة واحدة، والعادة واحدة، والوحدة إذا ملكت الكثرة، نفت الخلاف وأورثت الائتلاف).
3) استيفاء عناصر الموضوع : لم يكد أبو حيان يترك شاذة ولا فاذة لم يناولها في رسالته حول الصداقة، فقد تكلم في مزايا الأصدقاء وعيوبهم وفي القطيعة والهجران وحفظ العهد وتضحية الأصدقاء، وفي العداوة ومكر الأعداء، وفي النفاق والتزاور بين الأصدقاء والحنين وخيبة الفراق وما إلى ذلك.
4) تصوير بعض المظاهر الاجتماعية والحياة الفكرية : يمدنا أبو حيان بمعلومات قيمة عن بعض المناظرات التي عقدت في عصره في المجال الفكري وعن الطريقة التي كان يعامل بها بعض العلماء ورجال السلطة أصدقائهم من رجال الفكر والأدب، كما تفيدنا رسالة الصداقة بأسماء وأقوال كثير من معاصري أبي حيان من رجال العلم والسياسة والأدب، فضلا عن بعض المعلومات في الفتوة والعيارين وغير ذلك.
5) التعبير عن وجدان الكاتب وميوله الفكرية : على الرغم من أن أبا حيان يختفي وراء شخصيات علمية بارزة ليتحدث على لسانها في موضوعات كالفلسفة والتصوف فنحن نلمس شغفه بالأفكار الفلسفية ونزعاته الصوفية، بل ميوله الأدبية التي تمثل أقوى ما في شخصيته الفكرية، وأن الجانب الوجداني ليتمثل في جوانب كثيرة من رسالته كما في مقارنته بين الصديق والمعشوق حيث يقول على لسان جعفر بن محمد : (مناغاة الصديق، أعبث بالروح، وأندى على الفؤاد، من مغازلة المعشوق، لأنك تفرح بحديث المعشوق إلى الصديق، ولا تفزع بحديث الصديق إلى المعشوق).
وأبو حيان بارع في التصوير المقارن، وهذا من أخص ميزاته الأدبية فقد قارن بين ميل الرجل إلى أهله وأحبابه من جهة، وميله إلى الصديق من جهة أخرى، فالمرء يميل إلى والده للتعزز به لأن الوالد عضد وركن يعاذ به ويؤوى إليه، أما الميل إلى الوالدة فلشفقتها ودعائها الذي لا يعرج إلى الله مثله وأما الأخت فلصيانتها والتروح لها، وابن العم للانتصار به، وإبنة العم لأنها (لحم على وضم) ويصبو إلى العشيق لأن ذاك شيء يجده بالفطرة والارتياح الذي قلما يخدو منه كريم له في الهوى عرق نابض، ثم قال : أما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك، لأني أباثه بما أجل أبي عنه، واجباً من أمي فيه، وأطويه عن أمي خجلا منها، وأداجي ابن عمي عليه خوفا من حسد يفقأ ما بيني وبينه.
(فأما العشيقة، فقصاراي معها أن أشوب لها صدقا بكذب، وغلظة بلين، لأفوز منها بحظ من نظر ونصيب من زيارة، وتحفة من حديث، وكل هؤلاء مع شرف موقعهم مني .. دون الصديق الذي حريمي له مباح وسارحي عنده مراح، أرى الدنيا بعينيه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت، إذا عززت له ذل لي وإذا ذللت له عزبي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلا حافظا للغيب، ولا يترامى لي إلا ساترا للعيب).
أما أهم عيوب الكتاب فهو كما سبقت الإشارة إليه : 1) عدم ترتيبه وتبويبه. 2) انعدام وحدة الموضوع في بعض جوانبه.

الصداقة وفلسفة الحب في "المقابسات" :
من المناسب أن يختم هذا التحليل بذكر بعض الآراء التي أوردها أبو حيان في هذا الموضوع في كتابه "المقابسات" حيث عرض للصداقة وفلسفة الحب في خاتمة هذه المقابسات ومن آرائه فيها وهو يتحدث على لسان النوشجاني في محاورة طويلة ضمنها أفكارا أخرى :
1) أن الإنسان تختلف أمزجتهم وطبائعهم.
2) الإنسان الواحد تختلف طبائعه وأخلاقه "لولا الكثرة التي تتوزعه لكنت تجده على هيئة واحدة" أما طلق المحيا كريم الأخلاق والشمائل وأما عابس الوجه شرس الأخلاق ولذلك قال أرسطو : "الصديق آخر هو أنت" (فبالموافقة يكون أحد الصديقين، الآخر، وبالمخالفة، يكون الشخص آخر).
3) الفرق بين الألفة والصداقة أن الإنسان إذا ألف بآخر فقد أجرى ذلك مجرى ألفه للطعام والزي، وإذا صادقه فقد رفع من مكانه وميز قدره.
4) الفرق بين المحبة والعشق أن هذا معناه تشوق بحركة دالة على صبوة المشاكل إلى مثله، وأما المحبة فهي على منوال العشق، مع محاولة الاتصال، برفع الكلفة. وقد تدرج التوحيدي على هذا المنوال في تعريف الكلف ثم الشغف والمعرفة والعلم، وانتهى بعد ذلك إلى التوحيد.
5) التوحيد اعتراف النفس بالواحد لوجدانها إياه واحدا من حيث هو واحد لا من حيث قيل أنه واحد.
6) السعادة أن تعود النفس إلى معادها بريئة من كل دنس، خالصة من كل عارض.



دعوة الحق

العددان 78 و79

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى