رضا أحمد - الأحاديث الجانبية للروائح قراءة في رواية العطر لزوسكيند (*)

هل يمكن أن تكون الموهبة سببًا في اضطراب الشخصية النرجسي؟ هل الشعور بالنقص يشكل انسحاباً من المجتمع إلى الهامش الكريه للوحدة؟ هل تصير المعرفة في جوانبها الأكثر جنوحًا، وحشا يصعب التحكم في سلوكه؟ هذه الأسئلة وأخرى يطرحها الألماني "زوسكيند" في روايته "العطر" التي تعد تحفة نادرة في فن الرواية عموما، وفي مدرسة الواقعية السحرية بصفة خاصة على مستوى الحبكة الغرائبية لتفاصيل عميقة في بساطتها ومنكهة بأكثر من رائحة ودلالة، والشخصية المحورية التي تمثلت في "جان باتيست جرونوي" الضائع في متاهة أنفه، وكذلك الفضاء الاستثنائي لعوالمها المعرفية التي تتجول بين العطور وصنوفها وصناعتها بثقافة جمالية وتقنية قد لا يجيدها أكثر العطارين مهارة وقدرة، ومن ثمة انطلقت حكايتها المبتكرة من بنية ثرية على المستوى المعرفي والجمالي، وأيضًا الفلسفي الذي يتناول السؤال الأكثر عمقاً في النفس البشرية؛ سؤال الهوية والغاية من البقاء، ولا نغفل المكان والزمن التي تدور فيه أحداث الرواية من حيث تفسخه وهامشيته وترديه.
الزمن مجرد مزحة
بواقعية شديدة. لا تشعر أنها مقبضة، ولا تنفر منها، يؤرخ "باتريك زوسكيند" المولود في مارس ١٩٤٩ بمدينة امباخ على سفوح جبال الألب، لحقبة زمنية تصنع أبطالها بخصوصية غاية في البساطة؛ حيث النبوغ البشع عنوانًا رئيسًا لصفات العباقرة في القرن الثامن عشر، من دوساد إلى بونابرت، مرورًا بالحروب التي تدور في خلفية المنازل بين حاويات القمامة وقدور المطابخ؛ إذ لن تجد فرقا يذكر في استعراض الروائح بينهما.
"العطر" التي صدرت عام ۱۹۸۵ تحت مسمى "قصة قاتل" التي لاقت نجاحًا محدودًا في البداية وقراءات نقدية في صحف هامشية، تؤكد أن الزمن مجرد مزحة وأنه بمرور الوقت ستصير إحدى الأيقونات الروائية في القرن العشرين، وتتصدر قوائم الأكثر مبيعاً لعدة سنوات عبر ترجماتها إلى لغات مختلفة وصلت إلى ٤٨ لغة تقريبًا، وكان السبق في تقديمها إلى المكتبة العربية لنبيل الحفار، عن دار المدى للثقافة والنشر، سوريا. دمشق، في ترجمة بديعة تكاد أن تكون إبداعًا موازيًا، صدرت عدة طبعات منها بعد ذلك لدور أخرى.
في أحداث الرواية أيضًا تمضى مزحة الزمن الثقيلة وتتهاوى الثوابت، فتنهار الجسور بين كل ما هو قديم بعقولنا في مسلخه المعتاد وأفكاره المهيمنة عن القدرة الإلهية اللامحدودة وسذاجة البشر في حدود سيطرتهم، والفكر الحديث الذي أعلن عن نفسه في صورة "جرونوي"، الذي تمسك بإرادة الحياة وصرخ حين حاول متلقيه قتله، وإخراسه إلى الأبد، المتلقي هنا يتمثل أولا في الأم، التي ترفض الفكرة وتحاول القضاء عليها، كما فعلت بأطفالها الآخرين أبناء السفاح. نجاة "جرونوي" تسببت في إعدامها، لتتناقله بعدها المرضعات بالرفض والنبذ؛ لأنه يصر على الحياة وينهل من إكسيرها بجشع، أو لأنه على عكس المعتاد من البشر؛ مميز بشكل منفر ويمتلك قدرات فائقة، ومنح غرائبية، إنه ليست له رائحة، ولكن لديه عوضًا عنها حاسة خارقة.
لو أنك أطلت النظر إلى العتبة التي يمهد لها "زوسكيند" هنا -على المستوي الواقعي- بحقائقها ورجالها الأوغاد؛ لصدقت أن تاريخًا كاملًا ومريبًا، صنعته أنف، مجرد أنف رجل وحيد ومنبوذ.
الشيطان سائحًا بين الروائح
يعرف مكانه وموقعك، فيما تبدو الأزقة معتمة، غاية في الوضاعة والزيف، تدور الأحداث في فرنسا، موطن صناعة العطور، أو بمعنى أدق في أنف تتنزه فيه الروائح، وبشكل أوضح في ذاكرة "جرونوي" الشمية المخيفة، الذي يتمتع بكراهية المحيطين به؛ لأنه مجرد عبء، طفل بغيض، مشوه وشؤم. لن تجد مفرًا كقارئ من التعاطف معه؛ بل إنك ستلمس كل رائحة شمها وتتذوقها، وتتعرف إلى روائح كثيرة تجهلها، هذه المعرفة لن تجعلك آمنًا، وتلك القدرة الخارقة التي يتمتع بها على تتبع كل أثر تبقيك أسيرًا، داخل جسدك، حبيس رائحتك، هذه الرائحة لها اسمك، صفتك وبصورة رسمية أنت عنوانها، بعكس "جرونوي"، الذى يفتقر إلى أسباب إنسانيته الأدنى؛ وهي إنه لم يمتلك هوية -رائحة- فهو مجرد عنصر محايد، وجوده لا يؤثر في نتاج المعادلات ولا يشكل معنى.
الوحش يأكل نفسه
كان "جرونوي"، عاجزًا عن التواصل مع البشر، لم يجد من يشاركه هوسه، جنونه ورغبته، وبالتأكيد موهبته، مشاعره وعنفه؛ فأنت لا تستطيع أن تعطي تصويرًا عن رائحة تدور في رأسك، أو عن لون عطر رأيته، أو عن كنة المجد الذي تريده أن يخلدك، وأن تحاكي الفلسفة التي تتداولها الروائح، حين تتدافع في أنفك إلى أحاديث جانبية يستقبلها «جرونوي» ببساطة كزجاجة فارغة.
كانت لغة الروائح، الوسيط الوحيد الذى يجيد التواصل به مع العالم، بجانب امتلاك حاسة شم سخية وهدف هو العثور على هوية خاصة به تجعله محبوبًا ومرغوبًا، سعى إلى صقل هذه المنحة بشتى الطرق، فانتهج في البداية الأسلوب الأسلم الذي يضمن تحقيق النجاح: أولا أتبع طريقة الطفيلي غير المرئي بأن يتعايش على عالم الروائح المتنوع عند الدباغ، إلى أن تسلق السلم وصار عصفورا يقتات بقايا الطعام من فك تمساح؛ بخدمته عند عطار يعاني من كساد مهنته ومنافسة شرسة، في تبادل مهنى مزرى للمنفعة، تعلم "جرونوي" منه صنعة العطور وحصل على شهادة مقابل إعطائه حقوقه في الابتكار وإنتاج عطور جديدة تكفيه حتى بعد رحيله. هنا نجد الفروق المهنية ما بين الموهبة الفطرية والصنعة الاحترافية وكيف يصبح العمر معادلا قاسيًا لغياب المهارة والدقة في حالة العطار/المعلم. بات "جرونوي"، بعدها قريبا من هدفه، شغوفا بالمعرفة، النوع القاتل منها، استخدم لاحقا الحسناوات كفئران تجارب، يأخذ ما يريده لصنع عطره البشرى الخالد ثم يتخلص منهن. كل معرفة غائبة عنه هى بئر عميقة يركض فيها ولا يصل إلى قاعها، كل معرفة متعة مؤقتة، وتراكم هذه المعرفة صنع منه مخلوقُا متوحشًا وحزينًا؛ حتى صار هو الآخر أسيرًا لهوسه مجرد فأر يأكل أحشائه.
تذكارات بشرية
الحب الذي يبقى وغفل عنه، كان حزنه الأمثل، وطريدته التي فرت، الذنب الوحيد الذي شعر به، عندما قتل فتاة ولم يحتفظ بعطرها، محبوسًا في زجاجة. الأمر المزعج هنا هو أننا في العادة نحتفظ بالأحباء في ذاكرتنا لا في أشياء ملموسة لو أنه احتفظ بها في زجاجة مثل الأخريات لم يكن ليشعر تجاهها بهذا الضعف وتلك المحبة، نحن مجرد فرائس/ قطرات عطر في ذاكرة "جرونوي" الصياد. كان حزنه الأكبر حين اكتشف أن حبه الحقيقي ميت، وأي متعة وقتية استطاع الاحتفاظ بها كانت أثرًا للآخرين غصبا عنهم وليس برغبتهم.
الموهبة كقبعة تجلب الصداع
الرواية تستعرض حياة البطل خلال فن الحكي، في سرد سلس وأنيق، يعتمد على التشويق، ويمر فيها الزمن بشكل رأسي وهامشي في قفزات مرسومة بدقة ووضوح؛ منذ ميلاد "جرونوي" حتى موته، وبشكل أفقي موسع في نفس البطل ومشاعره وعالمه الداخلي الموحش، نرى فيها المتن الزمني يتمثل في نمو الصراع الداخلي للإنسان تجاه نفسه وشعوره بالنقص وأنه كيان خفي لا يحضر إلا برائحة تهبه إنسانيته، رغم أنه يزدريها ويحتقرها إلا أنه يحتاجها ليكون مرئيًا، بالإضافة إلى عرض نمطي مرضي لاضطرابات الموهبة التي تتحكم في صاحبها وتتجرأ على حبسه في جدرانها ونفيه عن العالم، وكذلك تطلعات المبدع التي قد يشكل عمله الفني هوسًا خالصًا وخللًا في شخصيته النرجسية ووعيه بالمنطلقات الأخلاقية والقيمية للإبداع.
قد لا ينجو الآخر
استطاع "جرونوي" أن يتخطى كل مرحلة في حياته، تاركًا خلفه موتى، كأن كل رحلة يجب أن تنتهي عند فناء الآخر، لا مجاورته والتحاور معه، ويعد هذا دليلًا على أن الصراع الداخلي هو المسيطر على الحدث وماهيته وأبعاده، واتكاء "زوسكيند". على الجوانب النفسية لشخصية النرجسي وصعوده المدوي والدامي إلى السلطة. هنا نجد أن هوس البطل بموهبته هو الذي وجه سلوكه ودفعه إلى الطريق الذي يمضي فيه بلا اكتراث للآخر، في حين أنه وجد من الجميع النبذ والنفور؛ لذا أجهز على الماضي في كل مرحلة، وعندما حقق هدفه وغايته، عاد إلى مرحلة أولية؛ تكوينه البدائي، مجرد قطرة عطر تصحب كل شخص شارك في مأساته. هنا يبني لنا "زوسكيند" صرحًا من الفروض والاحتمالات لاستمرار الفكرة، واستعارتها أسباب البقاء مما أضفى عليها برودة تجاه مصائر شخصيات العمل الثانوية، وأيضًا تحول منطق الحياة داخل العمل الروائي إلى دائرة لتبادل المعاطف؛ فمهما قتل الماضي وسحقت الأفكار، يتسلل التاريخ الإنساني من بين رماد الموتى بكل تفوقه وسخافاته وقبحه إلى رأس البطل، تجد دائما أن هناك من يحمل جيناتنا نفسها، وجهات نظرنا، عقيدتنا ويبتلى بموهبة كأنه جزء من كيان عظيم جبار، رمی بذرته داخل روح كل واحد منا وذهب غير عابئ.
وفي تمزق "جرونوي" النهائي بين جمهوره الأخير، حين سكب عطره الخالد على نفسه، يشبه الإله الذي يوزع روحه بزهد وخوف من استخدام شيء لن يجد فيه متعة، إله يتسلى وهو ينظر بغرور إلى البشر، وفي الوقت نفسه كان يريد أن يصير بشريًا؛ يتعرى ويمارس انحرافاته وغريزته، وهذا يذكرنا بأسطورة سارق النار بروميثيوس الذي عاقبته الآلهة في عود أبدي بطيور جارحة استمرت في نهش كبده.
المشاعر كجراثيم يخشاها
بحث "جرونوي" عن أن يكون مقبولًا في مجتمع ظالم، يستغل قدراته من ناحية ومن نواح أخرى يرفضه؛ وحين وجد هذا القبول في شكل عرض للتبني من والد إحدى الضحايا، شعر بالخوف؛ لأنه شعور مؤقت سينتهي بفناء عطره، وأن المجتمع لا يستحق أمثاله، وكله كراهية وزيف في المشاعر، حتى الأبوة والأمومة ممكن أن تنتهي في سكرة الخوف من العار، مثلما حدث مع أمه، أو معايشة الوهم، مثل أبوة والد الضحية المشوش له.
هنا تتغلب لذة الصدق داخل البطل على قبح واقعية النرجسية وجاذبيتها، حتى الطقس البدائي للقاء الحميمي الذي تعرى به الجميع أمامه كان بإيحاء بديهي، أن كل إنسان مشتهى، حتى لو كان بغيضًا، كأن الحياة مجرد سكرة مغلفة بالمظاهر الاجتماعية فضحتها حقيقة الغرائز عندما تعرى الجميع، كان بطل الرواية يحافظ على حياته بغريزة البقاء متمسكا بأي شيء لمجرد أنه يعيش ويمثل الحياة، إلى حين اغتنام فرصة يمارس فيها باقي غرائزه المحروم منها في حب حقيقي، فنحن نحيا طالما نستطيع، وإذا عشنا ووجدنا فرصة، علينا أن نتفرغ لإنسانيتنا وحاجتها ، لكنه هنا يخاف من هذه الإنسانية الضعيفة التي تتمثل في جمهوره حين يسطو عليهم الوهم.
التحفة الناقصة
في الرواية ترى الحضور المشهدي لكاميرا خفية تتجول داخل نفس البطل ولافتتها في التجاوب معه، تشعر أنها تربت على كتفيه أو تتواطأ معه، في كثير من الأحداث تتعاطف مع شغفه، وتتبعه بمحبة وليس خوفًا أو نفورًا، تجد أنك أمام فنان حقيقي معذب بموهبته ولم يستطع استعراضها إلا بصنع عمل وحشي، تحفة فنية يجمع أجزاءها، الغاية منها كانت أكبر من فرضية القتل في سلب الحياة، تتعرف إلى إنسان بائس، مشكلته في تفرده، استطاع أن ينتصر على مجتمعه بأن نشر الوهم بينهم. لكنه لم يستطع أن يعيش لحظة حب حقيقية أو سعادة تخصه.
___________
(*) باتريك زوسكيند، كاتب وروائي الماني، ولد في مارس ١٩٤٩ بمدينة أمباخ، كانت رواية "العطر"، التي صدرت عام ١٩٨٥ عمله المنشور الثاني بعد مسرحية "الكونتراباص"، إلى جانب هذه الرواية كتب زوسكيند عددًا من السيناريوهات السينمائية والتلفزيونية، والقصص أشهرها "هوس العمق"، و"الحمامة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى