د. عبدالواحد التهامي العلمي - قراءة السرد العربي القديم بين وهم المماثلة ومبدأ المغايرة.. دراسة في بعض النماذج

توطئة
يصدر هذا البحث عن مبدأ نظري يقر بأن الأدب مفهوم مرتبط بالتاريخ والمجتمع والثقافة؛ أي أنه يشكل معاييره وأعرافه في ارتباطه بحاجيات الإنسان الجمالية والاجتماعية. وأن أي إخلال بهذا الشرط، قد ينجم عنه إخلال بقواعد قراءة الإنتاج الأدبي والإنساني في التاريخ، على نحو ما حصل في الثقافة الأدبية الحديثة التي أفرزت قراءات لم تراع مبدأ التمايز الذي يسم الإبداع الأدبي الإنساني، مما عرض أنواعا أدبية في تراثنا إلى التهوين، لكن التحولات التي حدثت في تصورات الدارسين العرب المحدثين لمفهوم ارتباط الأدب وأنواعه وأشكاله بالوعي الجمالي السائد في الحقب التاريخية، أعاد لتلك الأنواع الأدبية التراثية قيمتها الجمالية.


السردية الحديثة: بين التماثل والمغايرة

إن القراءة القائمة على مبدأ التماثل بين الأدب القديم والأدب الحديث سواء بالنظر إليه باعتباره أدبا ناشئا في طور النمو، أو باعتباره نموذجا قيميا في مرتبة أدنى، هي قراءة تقوم على النظر إلى هذا الأدب ليس بما فيه ولكن باعتبار ما ينبغي أن يكون عليه. في الحال الأولى يتم إلغاء خصوصية الأنواع القديمة ومغايرتها لصالح أدب يتعالى على الزمان والمكان ولصالح قيم كونية تبتلع الخصوصية الجمالية التاريخية لآداب الأمم والحضارات، وفي الحال الثانية يتم إلغاء هذه الأنواع واستبعادها كلية لصالح أنواع أفرزتها ثقافات حديثة وآداب جديدة. في الحالين معا، يسقط الأدب القديم ضحية نموذجية الأدب الحديث، تارة عندما يجد فيه الباحث ما كان يحب أن يلقاه، وتارة عندما لا يجد فيه ما كان يبتغيه. إن القراءة القائمة على المماثلة هي قراءة منحازة إلى النموذج الجمالي الأدبي الحديث، تستخدمه أحيانا معيارا تعيد في ضوئه صياغة أنواع أدبية قديمة، وتستخدمه أحيانا معيارا لمحاكمة هذه الأنواع واستبعادها. باختصار، يتصف هذا النمط من القراءة بالمعيارية والهيمنة والإقصاء؛ فكثير من الأنواع السردية القديمة لم تحظ بالتقدير بسبب ما كانت تقوم عليه من مكونات تتعارض مع التوجه الجمالي لمفهوم الأدب الحديث .
أما القراءة القائمة على مبدأ المغايرة بين الأدب الحديث والأدب القديم، فهي قراءة تؤمن بالخصوصية الجمالية للأنواع السردية القديمة واستقلالها عن التصورات الجمالية الحديثة؛ إنها تبحث في هذه الأنواع عن الأسئلة التي أثيرت في الزمن الذي تشكلت فيه، وعن طبيعة الإجابات المقدمة. في هذا النمط من القراءة يؤمن الباحث بمبدأ الاختلاف والهوية وديموقراطية وسائل التعبير الإنساني.
1-قراءة السرد القديم ووهم المماثلة
إن القراءة التي تجعل الأدب الحديث معيارا لأدبية الأدب القديم أنتجت نمطين من المواقف النقدية بصدد الأنواع السردية القديمة. يتمثل الموقف الأول في إدانة السرد القديم بحجة ابتعاده عن معايير الأدب الحديث أو كسره لمبدأ المماثلة الضروري. ويتمثل الموقف الثاني في تقريظ السرد القديم بحجة استيعابه لجملة من معايير الأدب الحديث أو تجسيده لمبدأ المماثلة. وفي الحالتين معا (أي موقف الإدانة وموقف التقريظ) تتبنى القراءاتان مبدأ المماثلة، أي البحث عن نظير تراثي للأنواع الحديثة.
1-1 إدانة المقامة
تعد المقامة أكثر الأنواع الأدبية القديمة تعرضا لإدانة الدارسين المحدثين؛ فقد شكَّل اختلافها الكبير عن الأنواع الأدبية الحديثة وعن مفهوم الأدب الحديث، أحد أهم العوامل التي جرت عليها اعتراضاتهم. وربما كان من الضروري الإشارة إلى أن موقف الإدانة الذي تبناه هؤلاء الدارسون العرب المحدثون لا يعبر عن مقت للأدب العربي، بقدر ما يعبر عن رغبة في أن يقوم الأدب العربي على جنس أدبي يضاهون به الأجناس السردية الحديثة. وهم يصدرون عن فكرة أن المقامة جنس أدبي عربي أصيل كان من الممكن مضاهاته بأنواع سردية حديثة مثل القصة والرواية، لولا أنه تورط في جملة من العيوب أضرت به وأعاقت نموه وتطوره. وواضح أن الأمر يتجاوز الإدانة بمعناها الإيديولوجي، إلى الإدانة بمعناها الأدبي الخالص؛ فهؤلاء على نحو ما يرى عبد الفتاح كيليطو وقعوا ضحية التصور الغربي لآداب القرن التاسع عشر، مجارين في ذلك آراء المستشرقين الذين كانوا يصدرون في تذوقهم للأدب عن هذا التصور. فالموقف الحديث الرافض للمقامة ينطوي في العمق على موقف شائع رافض للبلاغة على أساس أن المقامة فن بلاغي بامتياز، وهو في واقع الأمر ليس سوى انعكاس للموقف الغربي الرافض للبلاغة التي أصبحت سيئة السمعة في الثقافة الغربية عموما منذ القرن التاسع عشر قبل أن تسترد مجدها ابتداء من السبعينات من القرن الماضي. يقول كيليطو "إن الانصراف عن البلاغة العربية ليس سوى واحد من مخلفات أزمة البلاغة الغربية. اهتم المستشرقون بكل ميادين الثقافة العربية، لكنهم، ما عدا استثناءات نادرة، أهملوا البلاغة. والقارئ العربي، إذ يقتفي خطاهم، فهو يحكم على نفسه بأن يتجاهل مظهرا من مظاهر الثقافة الكلاسيكية، وأن يحجب عن نظره الألعاب اللفظية، التي تقاس أهميتها مع ذلك بأهمية المقولات اللغوية التي تجلوها للعيان، وأن لا يرى، في كتابة عريقة، سوى تعفن وانحطاط"
يتضح مما سبق قوله أن المواقف المدينة للمقامة ليست سوى انعكاس للمعايير السائدة في الزمن الذي تشكلت فيه هذه المواقف. هكذا نجد جملة من المعايير الأدبية الحديثة تسخر لإدانة المقامة والتقليل من قيمتها السردية والأدبية؛ فباسم معياري البساطة والابتعاد عن بلاغة التزيين وبلاغة التعليم ومعايير التعبير عن الذات وعن الحياة وعن العصر والمجتمع وتصوير النفس الإنسانية، أدينت المقامة وحوكمت في الثقافة العربية الحديثة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى