محمد خضير - السبيليات..

عدنا ثانية للسبيليّات، والتقطنا صورة للغائب إسماعيل فهد إسماعيل أمام بيته القديم. تجمّعنا ظهيرةَ الجمعة من منتصف ايلول، كي نجدّد ذكرى المكان الذي عاش فيه إسماعيل طفولته ومطلع شبابه، قبل رحيله عن هذا المُقام؛ فكأن السبيليّات مخزن لذكريات تأبى أن ترحل مع الراحل، وعلامة تمثّل قلقَ الارتباط بأرض وهوية موزعتين بين "الهنا" و"الهناك".
كانت هذه القرية محطّة انطلاق، ثم غدَت محطّة ارتجاع؛
مثَّلها في قصصه ورواياته الأولى، ثم عاد ليتمثّلها في روايته الأخيرة (السبيليّات). فكأن حياته تمثَّلت بدورة تكوين روائية مركزها هذه القرية. ومثلما ارتبط اسم الكاتب الكولمبي ماركيز بقرية ماكوندو، بعد هجرته من بلاده، كان لإسماعيل ارتباط بهذه القرية بعد هجرته للكويت منها، سوى أن قرية ماركيز مخترعة، وقرية اسماعيل حقيقية، يصعب انتزاعه منها.
لم يكن إسماعيل فهد إسماعيل يتردّد على مكانٍ مرتين، ما عدا هذه القرية كما يبدو لي. والسبب واضح، فهو لم يكن يعود إلى قريته حنيناً إلى ماضٍ تركه وراء ظهره، بل كان تحدّياً لجاذبية البقاء في مكان واحد للأبد. وفي حوار لإسماعيل مع الكاتب الكويتيّ فهد توفيق الهندال يصرّح إسماعيل بعدم رغبته في الالتفات إلى الماضي، وبأن علاقته بالأمكنة كانت تتميز بالغربة والإقامة المؤقتة. وحينما حلّ مبكراً في الكويت العام ١٩٦٦، راحلاً من البصرة، امتنعت عليه الكتابة عن المكان الجديد، حتى واتته الفرصة بعد ربع قرن، ليكتب سباعيته (إحداثيات زمن العزلة) عن الوطن المحتلّ، من مكان خارج الكويت، الفيلبين، حيث أقام فيها مدة سبع سنوات.
هكذا كانت السبيليّات علامة دامغة، وشماً على ذاكرة متنقّلة بين الأمكنة، لكنها كانت أقوى العلامات الدّالة على تشظّي هوية الراحل بين الأوطان، بل أعمقها دلالة على الارتباط بمكان ما.
كانت الهوية والأيديولوجيا شاغلين أساسيين في أعمال الراحل الادبية، إلا أن صدقه التعبيري_ معياره الأخلاقي والإنساني_ جعله يتبنّى قضايا مختلفة، كالقضية الفلسطينية، بالتفاني نفسه الذي انغمس فيه للكتابة عن قضية "البدون"، والعمالة الآسيوية، في وطنه الكويت. وكان بحثه الدائم عن "سماء نائية"، يدعوه للاتصال بشخصيات تعاني الغربة والنبذ الأيديولوجي والاجتماعي، مثل ناجي العلي وابن لعبون وأم قاسم بطلة رواية "السبيليات". ومن يدري؟ فلو أن الحياة أمهلته سنوات قليلة، لعثرَ على شخوص آخرين، موشومين بوشم العزلة "المئوية"، يضمّهم إلى عالمه الروائي المترامي الأطراف، بين البحر والصحراء ومدن الشتات والهجرة.
أما نحن، العائدين إلى مكان خلا من جسد إسماعيل الحيّ، فلنا العزاءُ الجميل، والودادُ المقيم، والأملُ الكبير، في أن تمتدّ ظلال الذكرى في هذا المكان، المحروس بقامتين متجاورتين، نخلة الأمس ومنارة المسجد القديم، أطولَ امتداد... ويا له من مُقام لا يَمَلّ منه ثاوٍ ولا راحلُ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى