أ. د. عادل الأسطة - في غزة لي أصدقاء ولي ذكريات: (1.......8)

(1)

سوت إسرائيل حي الرمال بالأرض ولم يبق منه إلا ركام حجارة وطوب وأسياخ حديد . لم يسلم منه ، كما تري الصور ، مبنى واحد .
في صباح اليوم بحثت في ( غوغل ) عن موقع مبنى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني ومبنى جمعية الشبان المسيحية ، ذلك أن الذاكرة خداعة ، ولي في المبنيين ذكريات .
في نهاية سبعينيات القرن العشرين ، ذات شتاء ماطر ، سافرت والمرحوم الكاتب محمد كمال جبر إلى هناك . بتنا في مخيم خان يونس ، فقد استضافنا المرحوم الكاتب محمد أيوب ، لنذهب في اليوم التالي إلى مدينة غزة نشارك في مناقشة مجموعة قصصية . كانت العادة في تلك الأيام أن يجتمع كتاب غزة وكتاب الضفة الغربية مرة كل شهر لكي يناقشوا كتابا أدبيا صدر حديثا ؛ مرة في رام الله وثانية في القدس وثالثة في غزة ورابعة في نابلس . هذه العادة ألفت بين الكتاب وجعلتهم أصدقاء : محمد أيوب وزكي العيلة وغريب عسقلاني ( إبراهيم الزنط ) وعبد الله تايه وصبحي حمدان وعبد الحميد طقش ومحمد أبو النصر وآخرين . مات أكثر هؤلاء وبقي منهم عبدالله وصبحي وآمل من الله أن يمد في عمريهما لكي يكتبا عن تجربة حرب الإبادة هذه .
عندما لم يسعفني ( غوغل ) تماما كتبت للشاعر خالد جمعة Khaled Juma استفسر منه حتى لا أخطيء . قال لي خالد :
- غزة اليوم اختلفت كليا عما كانت عليه في سبعينيات وثمانينيات القرن ٢٠ .
ومن المؤكد أن غزة التي غادرها خالد قبل سنوات ليستقر في رام الله اختلفت كليا عما كانت عليه يوم كان فيها . الآن صارت غزة ركاما تنعق فيها الغربان بفضل الحركة الصهيونية ودولتها التي أقامتها على أرض الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه . هكذا جعلت إسرائيل من فلسطين : أرضا خرابا ، والشاهد المخيمات الفلسطينية ومدينة غزة في هذه الأيام ، هي - أي إسرائيل - التي جاءت لتعمر الصحراء وتحول الأرض الخربة المقفرة إلى جنة خضراء تفيض سمنا وعسلا .
زرت غزة قبل العام ١٩٨٧ خمس مرات . الأولى في ١٩٧٠ / ١٩٧١ تقريبا والثانية في ١٩٧٩ والثالثة والرابعة في ثمانينيات القرن ٢٠ . زرتها مرتين برفقة أبي وأمي ، ومرتين بصحبة محمد كمال جبر في الأولى وبصحبة سامي الكيلاني في الثانية ، وزرتها مرة مع نادي شباب بلاطة الذي أجرى مباراة على أرضها مع فريق غزي . لم أكن يومها أكتب يوميات ولم أكن أسجل تواريخ ، ولهذا قد تختلط التواريخ.
في عام ١٩٧٠ استقلنا خطيب ابنة عمي المرحوم صلاح رزق ، وكان أبوه يكنى "أبو لطفي " ، استقلنا معه في باص صغير لكي نحضر عرسه في حي الرمال . كان والده ميسور الحال يقيم في حي الرمال في بيت مستقل له حديقة زرعت فيها أشجار البرتقال ؛ بيت يتكون من طابقين وقضينا في ضيافته بضعة أيام زرت خلالها بيت عمتي رئيسة في مخيم الشاطيء القريب من حي الرمال . لم تكن المنطقة مكتظة بالمباني كما صرت أراها عبر شاشات الفضائيات . كانت غزة مدينة بكرا - إن جاز التعبير . لم تكن فيها بنايات ذات طوابق ولا كان فيها أبراج ، ولم يكن مخيم الشاطيء مكتظا بالمباني ، مثل أكثر المخيمات في تلك الأيام ، إذ لم يكن يسمح بالبناء فيه بيوتا تتكون من طابقين .
في تلك الزيارة وصلنا إلى غزة ليلا ، وفي الليل كان الفدائيون يتجولون بأسلحتهم وتردد في حينه أن المدينة يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي نهارا ويستردها الفدائيون ليلا .
ذات ليلة من ليالي تلك الزيارة ، وكنت في غرفة النوم في الطابق الثاني ، جاء الفدائيون يسألون عن شخص مسلح كان ينتمي إليهم وشكوا في أمره . كان الشخص فدائيا معهم ولكن يبدو أنه ضعف وتعاون مع الاحتلال ؛ لأنه ما إن عرف بمجيئهم حتى انسل خارجا وغادر غزة إلى الضفة ليستقر في طولكرم . لقد أقسم الفدائيون لأهل البيت بشرف الثورة ، كما قال لي ابن عمي ، أنهم لن يمسوا الرجل بسوء .
كانت الأيام التي أنفقتها قليلة ولكنها كانت جميلة . كانت كلها أفراحا وليالي ملاح .
عندما غادرنا المدينة ؛ أنا وأبي وأمي غادرناها بالمواصلات العامة : من غزة إلى يافا فنابلس .
يتبع
١٤ / ١٠ / ٢٠٢٣ .
عادل الاسطة

>>>>>

( ٢ )

في اليوم الأول من الحرب كتب لي ابن أخي يقول لي إن عمه في عمان يسأله عن ابنيه اللذين يعملان في فلسطين وإنه قلق بشأنهما ، وذكر لي أيضا اسم أخيه ، ولم أرد ، فماذا باستطاعتي أن أفعل ؟ ثم إن هناك مئات العمال الذين ما زالوا موجودين هناك .
ولم أسأل عن أقاربي في غزة ؛ ابنة عمي المقيمة هناك مع بناتها وأحفادها ، وأحفاد عمتي رئيسة ، إن بقي لعمتي هناك أحفاد أو أولاد - أغلب الظن أنهم استقروا كلهم في السعودية في مدينة جدة ، واستقرت حفيدة لها في نابلس منذ تزوجت في ثمانينيات القرن ٢٠ .
عندما اشتد القصف وسوي حي الرمال بالأرض وقرأت ما كتبته Salma El Rayes عن بيت أهلها وبيت عمها ؛ البيتين اللذين لم يبق منهما أثر يدل على زمن حافل بالبهجة والسرور ، تذكرت ابنة عمي التي تقيم في حي الرمال منذ بداية سبعينيات القرن ٢٠ - أي منذ ثلاثة وخمسين عاما . وتذكرتها أيضا عندما سألتني سما حسن Sama Hasan إن كان لي أقارب في غزة يمكن أن تلجأ إليهم لعلهم يؤونها وأولادها بعد تدمير بيتها .
أمس سألت بعض أخواتي إن كن عرفن شيئا عن ابنة عمي . كنت ابتداء نظرت في صفحتها في الفيس بوك ولاحظت أنها لم تنشر ، بعد نعيها أختها قبل عامين ، أي شيء . في الصباح حولت إلي أختي رسالة من ابنة عمها التي تقيم في الأردن تعلمها فيها أن أختها ما زالت على قيد الحياة وأنها تقيم الآن في أحد مراكز اللاجئين .
ابنة عمي الآن في الرابعة والسبعين من عمرها تقريبا ، وأغلب الظن أنها ولدت في إحدى المدارس التي آوت أهلي بعد هجرتهم من يافا في العام ١٩٤٨ ، أو أنها ولدت في خيمة من خيام اللاجئين في مخيم عسكر القديم ، الخيام التي ولدت فيها أنا وأخواي اللذان يكبرانني ؛ الخيام التي استمر وجودها حتى العام ١٩٥٨ .
يا لمأساتنا !!
لقد ولد جيلنا في الخيام أو في مراكز اللجوء ؛ في المدارس أو في الجوامع وها هو يعود لاجئا ثانية يقضي بقية عمره - إن كتب الله له طول العمر - في مكان شبيه بالمكان الذي ولد فيه .
وأنا في نابلس ذهبت ، قبل ثلاثة أعوام أو أكثر ، إلى حارة الياسمينة لكي أتعرف إلى جامع الساطون . أنفقت في المدينة ستة وستين عاما دون أن تقودني خطاي إليه ، ولما أخبرني جارنا نبيل سعدات أنه ولد بعد الهجرة فيه ذهبت إليه لأعرفه .
ربما تتحسر ابنة عمي الآن على ما ألم بها ! ربما هي التي توفي والدها في اجتياح نابلس في ربيع العام ٢٠٠٢ ، دون أن تتمكن ، أو نتمكن نحن ، من دفنه أو إقامة بيت عزاء له . لقد دفن والدها / عمي مع ال ٧٥ شهيدا ممن ارتقوا في الاجتياح . لم نقم لعمي بيت أجر ، فقد كان حظر التجول في حينه مفروضا ، وكان يستمر لمدة أسبوعين . أحضر أبي المسجل ووضع فيه شريط قرآن بصوت عبد الباسط ، وجلست أنا وهو نصغي . هكذا كان بيت الأجر ولم يأت أحد من الجيران ، إذ كانت دوريات الاحتلال تجوب الشارع .
ولدت ابنة عمي في سنوات النكبة الأولى ؛ النكبة الكبرى ، وشهدت حرب حزيران ١٩٦٧ ، وكان بيتهم في المخيم على الشارع الرئيس الذي مرت بجانبه الدبابات الإسرائيلية ، وربما سمعت زغاريد النسوة للجيش الجزائري ، وشهدت أيضا حروب غزة كلها ، وكانت من قبل عاشت فترة المقاومة الفلسطينية في غزة والانتفاضة الأولى فالثانية .
الآن تعيش مثل ٤٠٠ ألف فلسطيني في غزة اللجوء مجددا ، ولكنها الآن في الرابعة والسبعين ، وفي هذا العمر تصبح قوة المرء على الاحتمال ضعيفة جدا . هل ثمة أحفاد أو أبناء أو بنات إلى جانبها ؟ لا أعرف ، وما أعرفه أن زوجها الطيب الكريم البشوش توفي منذ سنوات ، كأنما من الله عليه بالفضل حتى لا يرى بيته وبيت أبيه يسوى بالأرض ، وحتى ينجيه من رؤية الخراب وعيش تجربة اللجوء داخل الوطن .
يتبع
١٤ / ١٠ / ٢٠٢٣
عادل الاسطة

اليوم الثامن للحرب


>>>>>

( ٣ )

في زيارتي أنا ومحمد كمال جبر لخان يونس لم نتجول في المدينة أو في مخيمها . وصلنا مساء قادمين من رام الله إلى غزة فخان يونس مباشرة ، فاستقبلنا محمد أيوب وبتنا في منزله . ومحمد لاجيء من مواليد يافا ، وهو من عائلة أبو هدروس التي لجأ قسم منها إلى مخيم عسكر القديم والعائلتان تمتان لبعضهما بصلة ، وقد أخبرني بذلك ، وأعلمني أنه زار أقاربه في مخيمنا .
شارك محمد في المجموعة القصصية المشتركة الأولى " ٢٧ قصة قصيرة من القصص الفلسطيني في الأرض المحتلة " ثم أصدر مجموعته " الوحش " التي ذهبنا من أجل مناقشتها في مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني ، وفيما بعد أصدر روايته الأولى " الكف تلاطم المخرز " وواصل دراسته العليا في قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية وشاءت الظروف أن أعلمه ، فقد غدوت أحمل درجة الدكتوراه ، وأناقش رسالة الماجستير التي أعدها ، وهذا ما سبب له حساسية ووتر العلاقات بيننا .
بدأ محمد يكتب قبلي ، وهو أكبر مني بسنوات ، ولم تقتصر كتابته على الأدب ، فقد كان له انتماء سياسي بدا في كتابته الأدبية والسياسية ، ولم يكن يهادن ، بل إنه كان على استعداد لمواجهة من يختلف معه حتى لو أدت المواجهة إلى العراك بالأيدي ، ومرة أخبرني أنه ضرب قاصا من غزة اختلف معه كفا . ولعل من يقرأ قصصه وروايته التي أشرت إليها يلحظ بعض ملامحه فيها ، وأظن أنه لو امتد به العمر وشاهد ما يجري لحث الناس على البقاء وعدم التفكير بالرحيل أو الهجرة حتى لو أقام تحت شجرة زيتون ، وله قصة عنوانها " شجرة الزيتون " صور فيها علاقة الفلسطيني بأرضه ، وانظر في عنوان روايته " الكف تلاطم المخرز " كما تقاتل حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى في هذه الأيام دولة إسرائيل التي تدعمها أميركا .
بعد انتفاضة الأقصى تقطعت بيننا وبين غزة الطرق إلا بتصريح ، وعندما عقدت الجامعة الإسلامية في غزة في العام ١٩٩٩ / ٢٠٠٠ مؤتمرا عن اللغة والأدب وقررت المشاركة فيه بدراسة عنوانها " محمود درويش ولغة الظلال " رفض الإسرائيليون منحي تصريحا لاجتياز حاجز ( إيرز ) ، وهكذا لم أزر غزة بعد استلام السلطة الفلسطينية لها ، ولم أعد ألتقي بمحمد وفترت العلاقة بيننا . عندنا مثل يقول " البعد جفا " وأظن أن الحواجز بين الضفة الغربية وقطاع غزة تركت أثرا في العلاقة بين أبناء جناحي الوطن المنشود الذي قسمته أحداث العام ٢٠٠٧ قسمين وجعلت من الدولة اللفظية دولتين ؛ دولة محاصرة كنست الاحتلال وخاضت معه سلسلة حروب آخرها هي الحرب التي نعيشها الآن ولما تنتهي ، ودولة السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال ، والآن .. الآن يريد ( بنيامين نتنياهو ) رئيس الوزراء الإسرائيلي فرض خارطة جديدة يعمل من أجل إنجازها على طرد أهل غزة أولا ، ثم طردنا ثانيا ، وجعل فلسطين أندلسا ثانية .
من يتذكر الآن أعمال محمد أيوب النثرية ؛ قصصه القصيرة وروايتيه ؟
وأنت تتابع ما يجري الآن في غزة تتساءل أكان محمد أيوب محظوظا لأنه توفي قبل أن يرى دمار غزة ؟ أم أنه خسر كثيرا لأنه لم ير الجدار يدمر ويجتاز من المقاومين الفلسطينيين ؟
لو كنت كنديديا ، وكنديد عنوان رواية للفرنسي ( فولتير ) لقلت : مليح إنه صار هيك ، لأنه لو ما صار هيك لصار الأسوأ .
تفاءلوا بالخير تجدوه ، وليس بالإمكان أبدع مما كان .
يتبع
خربشات عادل الاسطة

١٥ / ١٠ / ٢٠٢٣
اليوم التاسع للحرب

>>>>>

( ٤ )

في نهاية العام ١٩٧٩ وبداية العام ١٩٨٠ نشطت في نادي شباب مخيم عسكر القديم ثقافيا ، وتشكلت من النادي ونادي مخيم بلاطة ونادي مخيم عين بيت الماء لجنة ثقافية مشتركة لإصدار مجلة ثقافية تعنى بأدب المخيم ، وصارت اللجنة تجتمع دوريا وبالفعل أصدرت بضعة أعداد من مجلة عنوانها " الفجر المنبثق " .
كان النشاط الثقافي في النوادي ثانويا ، فالنشاط الأساس هو النشاط الرياضي ، ولما كان هذا أعم وأشمل وأوسع ، فقد أقيمت مباريات بين نواد من الضفة وأخرى من غزة ، بخاصة بين فرق النوادي القوية وكان نادي مخيم بلاطة واحدا منها . ولم يكن أعضاء فريق كرة القدم وحدهم يسافرون ، إذ كان يسافر معهم جمهور يملأ مقاعد باص كبير يتسع لستين شخصا ، وقد سافرت مرة إلى غزة لأحضر إحدى المباريات وكنت أعلمت القاص زكي العيلة ابن مخيم جباليا بموعد الذهاب حتى نلتقي به .
زكي العيلة - رحمه الله - من أبرز الأصوات القصصية في سبعينيات وثمانينيات القرن ٢٠ ، وقد نشط في النشر في الصحف والمجلات ااصادرة في الوطن ؛ ومنها الفجر والبيادر والاتحاد والجديد والأخيرتين تصدران في حيفا عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي - راكاح .
جمع زكي قصصه المبكرة في مجموعتين قصصيتين هما " العطش " و " الجبل لا يأتي " وكتب الشاعر سميح القاسم مقدمة للثانية ، ولاحقا أصدر زكي مجموعته " بحر رمادي غويط " ، ليتفرغ بعدها لدراسة الأدب الشعبي وكتابة رسالة ماجستير ولست متأكدا إن كان حصل على الدكتوراه قبل أن يتوفاه الله .
ما إن وصلنا إلى غزة حتى كان زكي في استقبالنا وأصر على أن يصطحبنا إلى بيته في مخيم جباليا لنشرب الشاي ونتعرف على المخيم الذي ألم به في بداية السبعينيات ما ألم بمخيمات غزة التي اشتعلت فيها المقاومة التي أضعفها ( إريك شارون ) وقرر فتح طرق بين بيوت المخيم حتى لا يتمكن المقاومون من الهرب والاختباء ويتم تصفيتهم بسرعة . كما لو أن ما فعله شارون هو بذرة لما حدث لاحقا في حروب غزة منذ نهاية ٢٠٠٨ و بداية ٢٠٠٩ .
عندما تمشينا في شوارع المخيم اصطحبنا زكي إلى الأماكن التي جرت فيها أحداث قصص مجموعته القصصية الثانية " الجبل لا يأتي " ، وهي قصص يمكن نعتها بأنها قصص مقاومة بالمفهوم المتعارف عليه لأدب المقاومة . إنها تأتي على الفدائيين وعملياتهم وعلى أهل المخيم وحصاره وفرض منع التجول عليه واعتقال المشتبه بهم .
إحدى قصص المجموعة تصف ليلة ليلاء من ليالي حصار المخيم حيث جمعت القوات الإسرائيلية رجال المخيم وشبابه في بركة تعرف ببركة أبو راشد . وحين وصلنا إلى البركة قال لي زكي :
- هذه هي البركة التي جرت فيها قصتي .
وكنت كتبت عن مجموعته وأنا أعمل محررا في جريدة " الشعب " المقدسية .
لم يكن مخيم جباليا ، مثل أكثر المخيمات في تلك الأيام ، كتلة اسمنتية متراصة يصعب فيها المشي بين أزقتها . تماما كما لم تكن غزة مدينة كلها بنايات . كان هناك مساحات بين البيوت وكانت هناك بيارات برتقال تصدره إلى الضفة ؛ البرتقال الذي رأى فيه محمود درويش دم غزة المعلب .
كانت الرحلة تلك رحلة رياضية ورحلة تعارف وتقارب بين أهل الضفة الغربية وقطاع غزة وكانت أكثر من ذلك .
في الطريق من مخيم بلاطة إلى غزة ؛ ذهابا وإيابا ، غنى الشباب الأغاني الوطنية التي كانت تعبيء سامعها بحب الوطن والدفاع عنه ، وممن كان معنا في الحافلة كاظم سرحان الذي لا أعرف أين استقر وماذا فعلت به الدنيا . كان كاظم ذا صوت جهوري وكان يحفظ الأغاني ونحن نردد وراءه :
" عبد القادر ناصب شادر ، فوق الشادر طيارات .. " .
عندما أقيمت السلطة الفلسطينية زار زكي جامعة النجاح الوطنية ، ليكمل فيها دراسة الماجستير ، ولا أعرف لماذا تعثر أمر دراسته هو الذي حصل على البكالوريس من جامعة بيت لحم أو الحليل ، وكان في السبعينيات حصل على الدبلوم من معهد رام الله التابع لوكالة غوث اللاجئين حيث أقام في سكنه في رام الله عامين .
مات زكي العيلة بمرض وعولج في مشفى إسرائيلي وفقدت غزة قاصا من قصاصيها العديدين الذين فاخرت بهم وبفنهم قائلة إنها تصدر البرتقال والقصة القصيرة .
يتبع
عادل الاسطة
١٦ / ١٠ / ٢٠٢٣
اليوم العاشر للحرب .

>>>>>

( ٥ )

في العام ١٩٨٦ عدت أحرر صفحة " الشعب الثقافي " وزاوية " بأقلامهم " في جريدة " الشعب " المقدسية ، وأسهمت مع نشطاء من الجبهة الديموقراطية في إصدار مجلة فصلية تعددت أسماؤها حتى يتواصل صدورها دون الحصول على ترخيص ، مستفيدين من قانون إسرائيلي يمكن من ذلك ( العمل الثقافي / لجان العمل الثقافي / صوت العمل الثقافي ) . وتطلب ما سبق السفر أسبوعيا إلى القدس لتحرير صفحة الثقافة في الجريدة ، والتنقل بين نابلس ورام الله وغزة لإنجاز المجلة .
مرة واحدة سافرت ، بصحبة القاص سامي الكيلاني وهو من يعبد قرب جنين ، إلى غزة للاجتماع بأدباء من المعنيين بالمجلة .
في جمعية الشبان المسيحية في غزة استقبلنا الناشط جمال زقوت والقاص محمد أبو النصر . ما زال جمال على قيد الحياة ، وهو يقيم في رام الله ، أما محمد أبو النصر فقد استشهد في ٣٠ / ٦ / ١٩٨٩ ووري الثرى في ٣ / ٧ / ١٩٨٩ ، بعد ثلاثة أيام من اختفائه وعدم معرفة أهله بما ألم به .
في معرض الكتاب الأخير في رام الله التقيت بجمال ، وأمس تواصلت معه أتأكد منه من بعض المعلومات ، وعرفت أخبار أبو النصر بعد عودتي من ألمانيا وتابعتها مع قريبه الناشط حسام أبو النصر . أما سامي الكيلاني فيقيم الآن متنقلا بين الضفة الغربية وكندا التي حصل على جنسيتها ، وهو يواصل الكتابة منذ عقود طويلة . يكتب الشعر والقصة القصيرة والمقالة ويترجم والمقالة . وغالبا ما نلتقي حين يعود زائرا إلى نابلس .
مكث محمد بضع سنوات في السجن قرأ خلالها الأدب السوفييتي وكتب قصصا قصيرة متأثرا بأبرز أعلامه ثم أصدر مجموعته " رجال وقضبان " . اهتم بمجموعته بحياة الفلسطيني السجين ، وهذا ما يقوله العنوان الذي يتكون من مكونين هما : رجال و قضبان ، والرجال هم المقاومون وأما القضبان فهي قضبان السجن الذي غالبا ما ينعت بالآتي :
" داخله مفقود والخارج منه مولود " . صدرت المجموعة عن منشورات " الصوت " في العام ١٩٨٦ في الناصرة .
كان الجو يومها معتدلا وجلسنا فترة من الوقت في جمعية الشبان المسيحية ثم ذهبنا معا إلى بيت جمال الواقع في حي عباد الرحمن ، وكان مقاما على عمدان . أمس عرفت من جمال أن جزءا منه دمر وما زال جزء آخر قائما . لجمال إخوة آخرون استشهد أحدهم في سبعينيات القرن ٢٠ وخصه القاص غريب عسقلاني بقصة " زائر الفجر " التي ظهرت في مجموعته الأولى " الخروج عن الصمت " ، وغريب ، وهذا اسم مستعار للكاتب إبراهيم الزنط ، يحتاج إلى كتابة حلقة عنه . وأما محمد أبو النصر فقد كتب عنه قريبه حسام كتابة تعلمنا عن تفاصيل حياته ونشرها مؤخرا .
لعل ما كان يلفت النظر في أثناء الدخول إلى القطاع هو بيارات الحمضيات الكثيرة في بيت حانون ؛ البيارات الخضراء التي لم يبق منها الكثير أمام حركة البناء التي نشطت مع قدوم السلطة الفلسطينية وأمام التزايد السكاني الكبير في غزة .
في المساكن الشعبية الشرقية في نابلس ، حيث أقيم ، كان لنا جار من غزة عمل في مهنة المحاماة وعاش في ليبيا وتزوج من عائلة النابلسي ثم عاد إلى نابلس . غالبا ما كنت أجلس معه ، قبل أن يتوفى من خمس سنوات وأكثر ، أمام دكان أخي ، وغالبا ما تجاذبنا معا أطراف الحديث عن غزة وأهله وسكانها ، ومرة سألته عن بيارات الحمضيات هناك ، فأجابني:
- هو ظل بيارات يا راجل !!
صارت غزة ، منذ عقود ثلاثة ، كتلة اسمنتية كثرت فيها الأبراج السكنية التي غالبا ما تعرضت ، في حروب غزة ، للقصف والتدمير . كم من حرب شهدت غزة منذ العام ٢٠٠٧ ؟ حرب ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ و حرب ٢٠١٢ وحرب ٢٠١٤ وحرب ٢٠١٨ وحرب ٢٠٢١ والحرب الحالية الأكثر قسوة فقد مسحت فيها أحياء بأكملها.
مرة كتب محمود درويش:
" وغزة لا تبيع البرتقال ؛ لأنه دمها المعلب"
وبسبب ما جرى فيها على يد شارون في بداية سبعينيات القرن ٢٠ كتب نصه الذي يستحضر في كل حرب جديدة ليبدو وكأنه كتبه فيها " صمت من أجل غزة " .
هل بقي في غزة أشجار حمضيات لتبيع غزة البرتقال ؟
الآن يجب أن نصمت نحن لتقرر غزة مستقبلها وربما مستقبل الشرق الأوسط كله .
مساء الخير يا غزة
١٧ / ١٠ / ٢٠٢٣

يتبع

الحرب في اليوم الحادي عشر.


>>>>>>>>>>>

( ٦ )

عرفت غزة من زياراتي لها وعرفتها من لقائي بكتابها وعرفتها أيضا من كتابات أدبائها ولوحات فنانيها ، بخاصة كامل المغني ، ثم عرفتها لاحقا من خلال المحطات الفضائية وأشرطة الفيديو .
من كتابات معين بسيسو وهارون هاشم رشيد ، بخاصة " دفاتر فلسطينية " للأول ، والكتاب قريب من السيرة الذاتية ، و " سنوات العذاب " للثاني ، وهو رواية كتبها في ١٩٧٠ ، من هذين الكتابين تعرفت إلى غزة في الخمسينيات ، ومن قصص غريب عسقلاني " الخروج عن الصمت " ورواية " الطوق " قرأت عن غزة بعد احتلالها في ١٩٦٧ ، وهنا تطابق ما رأيته مع ما شاهدته كما في قصص زكي العيلة عن مخيم جباليا ، وعرفتها لاحقا من روايات عاطف أبو سيف الذي كتب عن مخيماتها ومعاناة أهلها ومن رواية يحيى السنوار " الشوك والقرنفل " التي يمتد زمنها الروائي من خمسينيات القرن ٢٠ إلى زمن صدورها في العام ٢٠٠٤ وقد كتبت عنها مطولا تحت عنوان " سهرة مع أبو إبراهيم " ولاحقا من رواية عمر حمش السيرية " مفاتيح البهجة " ( ٢٠٢٢ ) التي تكتب عن المخيمات في سنوات طويلة وقد خصصتها بمقالة .
في نهاية سبعينيات القرن ٢٠ أصدر القاص غريب عسقلاني ( إبراهيم الزنط ) عمليه المذكورين ، وعكس فيهما معاناة الناس هناك . كتب غريب عما شهدته غزة بعد إضعاف المقاومة فيها واضطرار بعض المقاومين إلى البحث عن عمل في المصانع والورش الإسرائيلية ، وكتب عن زيارات الفلسطينيين لمدنهم وقراهم ورؤيتهم ما آلت إليه من تهويد ، كما كتب عن حصار أحد مخيماتها حين بدأت روح المقاومة تعود إليها وأخذ الجيل الجديد يقاوم المحتل .
في قصة " الجوع " يكتب غريب عن فدائي كان يمنع الغزيين بالقوة من العمل لدى الإسرائيليين وكان يتصدى لهم ، ولما سجن وخرج من السجن بحث عن عمل في المدينة نفسها فلم يجد وابتعد عنه قسم من أصحاب العمل كونه سجينا ، ما دفعه للعمل لدى الإسرائيليين . تعاطف سعيد العامل الغزي مع عزرا العامل اليهودي اليمني حين طرده صاحب العمل اليهودي الأوروبي ، فطرد مثله .
في قصة " زائر الفجر " تعرفت إلى إخوة جمال زقوت قبل أن ألتقي به بعد سبع سنوات . كتب غريب عن منير زقوت وأخيه بشير . عندما عاد بشير من المنفى زارا مدينتهم عسقلان فدهش مما رأى وحين قفل إلى المنفى عائدا التحق بالمقاومة الفلسطينية واستشهد .
غزة التي حوصرت منذ ٢٠٠٧ حصارا مرا كانت تتدرب على ما يبدو على هذا الحصار ، ففي رواية " الطوق " وهي رواية لا تتجاوز ١١٣ صفحة من الحجم الصغير ، يرصد الروائي حياة الناس في أحد المخيمات . حوصر المخيم مدة شهر وضيق على أهله ولكنهم صمدوا .
عندما قرأت الرواية كتبت عنها مقالا طويلا نشرته أولا في جريدة " الشعب " ثم أعدت نشره في مجلة " الكاتب " لأسعد الأسعد Asad Alasad
. كان العنوان الذي اخترته في تلك الأيام ذا دلالة ، فالمخيمات التي أحاطت بالمدن الفلسطينية والعربية كانت تبدو نشازا ، وكان أهل المدن ينظرون إلى سكانها نظرة سلبية ، وجاءت الرواية لترسم لابن المخيم صورة الفلسطيني المقاوم . هكذا اخترت عنوان " الطوق : الوجه الآخر للمخيم " لأكتب تحته عن رواية غريب الذي صار من الأصدقاء الودودين لي ، وكلما التقينا في غزة أو في القدس أو قي رام الله تجاذبنا أطراف الحديث بنوع من الأخوة والصداقة .
لعل ما يستحق أن أكتب عنه هو صلتي بغزة من خلال نثر معين بسيسو وشعر محمود درويش ونثره؟
مساء الخير يا غزة
عادل الاسطة


>>>>>>>

( ٧ )

في النصف الثاني من سبعينيات القرن ٢٠ ، بعد زيارتي الأولى لغزة ،
صارت المدينة تعيش في وجداني من خلال الشعر ، وتحديدا من خلال ديوان محمود درويش " محاولة رقم ٧ " الذي أعادت منشورات الأسوار في عكا طباعته . أكاد أجزم أنني لم أقرأ منذ تلك الفترة شعر شاعر كما قرأت شعر محمود درويش . راقت لي غنائيته الصارخة وموضوعه الفلسطيني ، فحفظت مقاطع من القصائد .
" وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب "
" في غزة اختلف الزمان مع المكان / وباعة الأسماك باعوا فرصة الأمل الوحيد ... وكان الجند ينتصرون ينتصرون / كانوا يقرأون صلاتها / ويفتشون أظافر القدمين عن فرح فدائي "
ولم أنتبه جيدا إلى نص " صلاة من أجل غزة " الذي نشر في كتاب " يوميات الحزن العادي " ( ١٩٧٣ ) إلا مع بدايات الحروب على غزة منذ العام ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ . صار هذا النص يستحضر في وسائل التواصل الاجتماعي كما لو أن كاتبه كتبه في الحرب الدائرة على غزة في زمن الاقتباس ، علما بأن محمود درويش توفي في ٢ / ٨ / ٢٠٠٨ - أي قبل حروب غزة المتكررة منذ العام المذكور . كما لو أنه نص يصلح لكل حرب تشنها إسرائيل على غزة :
" ليست غزة أجمل المدن
ليس شاطئها أشد زرقة من شواطيء
المدن العربية
وليس برتقالها أجمل برتقال على
حوض البحر الأبيض
وليست غزة أغنى المدن
وليست أرقى المدن
وليست أكبر المدن
ولكنها تعادل تاريخ أمة " .
لا أعرف بالضبط تاريخ نشر محمود درويش نصه ، ولكني أرجح أنه كتبه في سنوات اشتداد المقاومة هناك . السنوات التي كان الفدائيون ليلا يستردون فيها مدينتهم المحتلة قبل أن يجرف ( إريك شارون ) بيوت مخيماتها ليقضي على المقاومة . صمتت المدافع العربية بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ ثم ولدت المقاومة فصار تاريخ غزة يعادل تاريخ أمة . ليست المدن بجمالها وغناها ورقيها واتساعها وإنما بروحها ودفاعها عن حقها في الاستقلال والحرية والكرامة وكنس المحتل . هل كان قدر غزة أن تخوض حروبها في السنوات الخمس عشرة الأخيرة ليستحضر القراء نص درويش ، أم أن الشاعر ورط المدينة بنصه فصار لزاما عليها أن تثبت أنها على قدر وحجم ما كتب فيها ؟
في نهاية سبعينيات القرن ٢٠ أعادت منشورات صلاح الدين في القدس طباعة كتاب معين بسيسو / سيرته الجميلة " دفاتر فلسطينية " . في هذه الفترة زرت غزة ورأيتها للمرة الثانية . ظهر يوم هاديء استقل أنا ومحمد كمال جبر السيارة من رام الله إلى غزة ، فنصلها بعد العصر
ولا نتجول فيها ، إذ تابعنا الرحلة إلى خان يونس وكنا ننظر إلى البحر وأشجار النخيل ، وفي اليوم التالي أمطرت السماء مطرا غزيرا .
ولد معين بسيسو في الشجاعية وسكن في حي الرمال الراقي ، وأعجبنا في تلك الأيام بشيوعيته إعجابنا بلغته . قدرناه لشجاعته ومبدأيته ، مما قرأناه في سيرته ، ومما قرأناه في شعره بخاصة ديوانه " الآن خذي جسدي كيسا من رمل " الذي كتبه في أحداث سقوط مخيم تل الزعتر في العام ١٩٧٦ ، وقد كتبت عنه مقالا نشرته في جريدة الفجر الصادرة في القدس . لم يهادن معين ولم يختف وراء صور واستعارات وإنما كان مباشرا في هجاء الرئيس السوري حافظ الأسد لموقفه من الحرب الأهلية في لبنان ووقوفه إلى جانب الكتائب .
في " دفاتر فلسطينية " عرفت غزة في الخمسينيات أيام كانت تحت الحكم الناصري الذي سجن معين أربع سنوات بسبب انتمائه للحزب الشيوعي . قاوم معين مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء وقاد المظاهرات لإفشاله .
كانت غزة في تلك الأيام مدينة مقاومة . قاومت احتلال ١٩٥٦ وقاومت مشروع التوطين والترحيل وقاومت ضباطا مصريين أرادوا اخضاعها واذلالها أيضا .
هل أنسى قصص غسان كنفاني التي أتت على غزة ، بخاصة قصة " ثلاث أوراق من فلسطين " ومنها " ورقة من غزة " في مجموعته " أرض البرتقال الحزين "( ١٩٦٢ ) :
" وفي منتصف العام ، ذلك العام ، ضرب اليهود مركز الصحة ، وقذفوا غزة ، غزتنا بالقنابل واللهب " و " غزة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع ، بأزقتها الضيقة ذات الرائحة الخاصة ، رائحة الهزيمة والفقر ، وبيوتها ذات المشارف الناتئة . هذه غزة ، لكن ما هي هذه الأمور الغامضة ، غير المحددة التي تجذب الإنسان لأهله ، لبيته ، لذكرياته ، كما تجذب النبعة قطيعا من الوعول . لا أعرف ! وكل الذي أعرف أني ذهبت لأمي في دارنا ذلك الصباح ، وهناك قابلتني زوجة أخي المرحوم ساعة وصولي ، وطلبت مني ، وهي تبكي ، أن ألبي رغبة ناديا ، ابنتها الجريحة في مستشفى غزة... " وكانت ناديا فقدت ساقها بسبب غارة إسرائيلية . والعام المشار إليه ليس عام صدور المجموعة القصصية ، فالقصة كتبت في الكويت في العام ١٩٥٦ .
يا لغزة كم احتملت !
مساء الخير يا غزة !!
يتبع غدا الحلقة الأخيرة
١٩ / ٢٠ / ٢٠٢٣

>>>>

( ٨ ) الأخيرة

وحدت هزيمة حزيران ١٩٦٧ الوطن الفلسطيني كله تحت الاحتلال الإسرائيلي ، فصار الفلسطينيون يزورون أقاربهم الذين انفصلوا عن بعضهم ولم يكونوا يلتقون إلا مرة في العام عبر بوابة مندلباوم التي خلدتها قصص سميرة عزام واميل حبيبي القصيرة وبعض كتابات أخرى .
ولكن الهزيمة التي وحدت سكان فلسطين أقامت حاجزا بين سكان الضفة الغربية وقطاع وأهلهم في المنافي . لم ينقطع اللقاء ولكنه صار أكثر صعوبة بسبب سياسة الجسور ولفترة السفر عبر مطار اللد . ولن ينسى قراء الأدب الفلسطيني أربعة أعمال لعزام وحبيبي هي " عام آخر " و " بوابة مندلباوم " و " حين سعد مسعود بابن عمه " و " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " .
وكما التقى ابن العم المقيم في مخيم جنين بابن عمه المقيم في الناصرة التقت أمي بأبناء وبنات عمها المقيمين في يافا والتقى أبي بأخته رئيسة المقيمة في غزة التي جاءت وأولادها لزيارة أمها / جدتي وفرحنا بها .
صار أعمامي وجدتي وعمتي يتبادلون الزيارات وعرفنا أن لنا عمة وأبناء وتصادقنا قبل أن يصبح الوصول إلى غزة منذ العام ١٩٩١ صعبا وصعبا جدا ، ولم نعد نرى منهم إلا ابنة ابن عمتي التي تزوجت في نابلس فصارت موضع عناية من أبي وأعمامي ، يزورونها وتزورهم .
عندما كانت عمتي أو أحد أبنائها يزورون نابلس كانوا يحضرون نوعا من السمك صغير الحجم جدا يسمى " صريدة / سريدة " وبرتقالا وعرفنا البرتقال البلنسي ، ولكننا عرفنا أيضا البلح الرطب القادم من دير البلح .
وفي مخيمنا تعرفنا إلى بعض أهل غزة ممن تركوها وجاؤوا ليستقروا في الضفة وصار هؤلاء أصدقاء غالبا ما يحنون إلى الحياة في غزة . لم تعجبهم الحياة في الضفة قياسا إلى غزة فأخذوا يعيروننا :
- هي نابلس مدينة وفيها ملاعب !!
ومع ما سبق ظلوا في نابلس إلى الآن .
في تلك الأيام حضر بعض لاعبي كرة القدم المشهورين وأخذوا يلعبون في فرق كرة القدم الضفاوية ؛ جمعية الشبان المسيحية ونادي البيرة وكان أحدهم لفت الأنظار . كما لو أنه في أيامنا هذه مثل رونالدو أو ميسي ، وكنا ننتظر مبارياته ونذهب إليها أيضا لنشاهد لعبه ، وفي مدرسة الجاحظ الثانوية في نابلس درس شاب غزي مادة الرياضة وقد لفت أنظارنا . هل كنا معجبين بشباب غزة لإعجابنا بمصر والمصريين والرئيس جمال عبد الناصر وفريد شوقي واللهجة المصرية التي أتقنها الغزيون إلى حد ما ؟
في منتصف ثمانينيات القرن ٢٠ زرت وأسرتي غزة زيارة خاصة . اطمأن أبي على أخته وابنها حسن جهير ، وسألهما عن فؤاد وعبود المقيمين في جدة واستقرت معهما لاحقا أختهما نعم وأخوهما الصغير سليم .
في فترات لاحقة صار اللقاء يتم بين بعض إخوتي وأبناء عمي مع أبناء عمتي في جدة في المملكة العربية السعودية ، بخاصة حين يسافر الأولون إلى السعودية لتأدية فريضة الحج أو مناسك العمرة .
ماتت عمتي ومات ابنها حسن ولا أعرف ما ألم ببيتهما في مخيم الشاطيء الذي كنت في زيارتي الأولى لغزة أمشي إليه سيرا على الأقدام غير مكترث لرمال الطريق .
هل أكلت في بيت عمتي الخبز المحمص بالفلفل ؟ لم أعد أذكر ، ولكن ما أذكره أن أبناء غزة الذين استقروا في مخيم عسكر القديم غالبا ما كانوا يذهبون إلى فرن " أبو توما " ومعهم رغيف خبز مدهون بالفلفل لكي يحمصه لهم .
الآن لا أفران في غزة والخبز شحيح وذهبت أرغفته والفلفل والثلاجات والنمليات وفرن الغاز والثلاجة وأثاث البيت وسكانه ؛ ذهبوا إلى المجهول .
في الحرب الدائرة حاليا سألت عن ابنة عمي فريال " أم هشام " لكي أطمئن عليها ، فتواصلت معي بعض بناتها يطمئنني . ولدت ابنة عمي في سنوات النكبة وها هي تعيش النكبة الآن لتكتمل الدائرة .
ماذا أقول في مدينة العنقاء ، مدينة طائر الفينيق ؟
هل أبكيها ؟ هل ارثيها ؟ هل أمدحها وأتغنى بها ؟ وكيف أواسيها وأواسي أهلها ؟
ماذا تجدي الكلمات في مدينة قال عنها محمود درويش في العام ١٩٧١ " تحيط خاصرتها بالألغام .. وتنفجر . لا هو موت ، ولا هو انتحار . إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة .. بعد أربع سنوات ، ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف " .
صمت من أجل غزة !!
منتصف النهار / الجمعة ٢٠ / ١٠ / ٢٠٢٣
عادل الاسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى