موسى إدريس حامد - أوار الغربة...!!

في ليلة من ليالي بلاد إسكندنافية الباردة، ومن شرفة غرفته الصغيرة في مجمع إيواء مؤقت، أخذ عبدالله نفسا عميقا من سيجارته، ثم شرع ينفث دخانها بتناغم خارج صدره المثقل بالهموم، محدقا في حلقات الأوار وهي تخترق طبقات الهواء قبل أن تتوارى في شقوق وتصدعات جدران الغرفة الخاوية من الأثاث، سوى من سرير ومقعد من خشب الموسكي ومنضدة صغيرة.
لم تقتضِ حالة التأمل تلكم، سوى ثوان عدة كانت كفيلة لإتيان بشريط الذكريات على شاشة الحلم كأبهى وأروع ما يكون ، والبدء من المربع الأول في مسيرة الخمسة ألف ميل أو نحو ذلك، رحلة عودة افتراضية الى نقطة البداية - مسقط الرأس- بلد المولد، المنشأ والصبا.

وفي حالة انفرط فيها عقد اللاوعي أو ما يعرف بالتصورات الغامضة وتواشجت فيه الأفكار، ومن قمة تلة صغيرة تطل على قريته الوادعة أسفل جبل تكسوه مروج موسمية خضراء، التحف عبدالله الصمت شوقا لديرته التي غادرها قسرا في جنح الظلام منذ خمسة سنوات ونيف صوب المجهول - رحلة محفوفة بالمخاطر والصعاب..
ومع انبلاج الفجر، وزقزقة العصافير ، وصياح الديكة، أنعشت نسمةَ هواءٍ باردة ذاكرتَه المتخمة بمحن سنوات الغربة الطويلة، والبعد عن الأهل والخلان، وفي غمرة التأمل وبلوغه أقصى آفاق خياله، ناجى عبدالله حنان والدته التي انتقلت إلى بارئها بعد فترة وجيزة من رحيله، حزنا على فراقه وكذلك عطف وسماحة وحكمة والده المسن، ومشاكسة شقيقه "صالح"، وحتى دلال، وغنج الوردة الصغيرة ، والابرز في الأسرة "خديجة" أخر العنقود..

وفي ثوان معدودات، طغى عليها وهن وضعف المشاعر الإنسانية، ذرف عبدالله من ثنايا مقلتيه دموعًا سخية، سواكب حفرت خطوط غائرة في خديه الناتئين، مقلتان أنهكهنّ سهر الليالي الطويلة، حزنا على فراق الأهل والأحبة، والخطيبة الأثيرة التي لا تفارق خياله لحظة منذ هجرته، وأيضا شوق الأصدقاء والصحاب والأقران.
لحظة لا وعي اختزلت كل المشاعر الإنسانية من ضعف، انكسار وحرمان عاشها عبدالله على مدى سنوات الغربة والضياع الموحشة.
في لحظة توقف فيها الزمن أو كاد، أطلت من بعيد غيمة سوداء، تحمل سيل منهمر من الذكريات والشجن، أشبه ما تكون بكتلة خيوط متشابكة، عندها أعتصر عبدالله الذاكرة بتفاصيلها الدقيقة، سنوات حياته في قريته الصغيرة بأكواخها البسيطة المبنية من أعواد القصب الجاف ، والأسمال البالية..
وهلة من الزمن تعد قصيرة بمقدار طرفة العين، غاص خلالها عبدالله في أعماق الماضي البعيد، حياته التي مضت بسلاسة وبلا تكدر، في ظل أسرة بسيطة متحابة ومترابطة، وأصدقاء يتسمون بالطيبة ونقاء القلب، رفاق افتقدهم في لحظة مفصلية ؛ اتخذ فيها قرار الهجرة والهروب نحو المجهول..

وعقب حالة سكون وصمت مدقع، خطى عبدالله ؛ خطوات أشبه بالهرولة نحو الغدير الوحيد الذي يغذي القرية بالماء في منطقة شديدة الهجير ، وتعاني شحا في المياه صيفا.

تقدم بخطى متسارعة نحو الغدير للقاء مشوقته وخطيبته التي هام بها قلبه من بين حسناوات القرية، لم لا وهي التي سكنت خياله ، وكانت سلواه ومصدر قوته عند اشتداد السهاد في غربته، لا سيما وأنهما أي - الحبيبين - أقسما العهد في نفس موقع البئر على الارتباط الأبدي المقدس.

لم يخب ظن العاشق المتيم كثيرا، فقد كانت "سعاد" وهذا أسمها، في المكان نفسه الذي نسج فيه القدر أولى خيوط حبهما، لمح طيفها من بين سديم الزمن، عبق أنفاسها يعانق روحه المعذبة في زمن التباعد، عندها سادت لحظة صمت وذهول سبقت اللقاء، إلا من ابتسامة بلهاء ارتسمت على محيا سعاد، فاهت عقبها بصوت متلكيء اهتزت له المشاعر، صوت رخيم ناعم وعذب من شفاه مرتعشة..
قالت وهي تتلمس وجه من لامس زعانف قلبها.. يا إلهي "عبدالله".. هل هذا أنت، أم طيفك من نسيج خيالي..
قال بصوته المبحوح وهو يضمها إليه بقوة حتى شعر معها ب "طقطقة" ضلوعها الغضة.. نعم يا "سعاد" أنا عبدالله "خطيبك" ونديمك الذي طال انتظاره.. عدت حتى أوفي بوعدي، ذاك العهد الذي قطعناه سويا ذات يوم، فأنتِ لي وانا لك ما حيينا..
- ‏هذا القلب يا سعاد ينبض لك، وكل حرف تنطقين به يثير الحزن الكامن في أعماق قلبي، وكل قافية تقطر حزن تقذفني بلا هوادة في أعماق الموج، تكسر أجنحتي، تمنحني الضياع وتجعل عنواني "مجهولا".
وأنت يا حياتي.. ألا زلت على العهد؟

عندها سحبت سعاد جسدها النحيل من بين قبضته، وانكفأت على وجهها تنتحب بهياج شديد، آه يا عبدالله ليتك لم تعد، ليتك لم تظهر في حياتي ثانية بعد أن تركتني أواجه المصير لوحدي.
آه كم من ليالي طويلة سكبت فيها الدموع مدرارا، كم اعتراني من هم وألم، عذابات تشتد وطأتها عندما يدنو قرص الشمس من المغيب، ليالي وليالي ناجى فيها قلبي طيفك، كم تمنيت أن تهمس في أذني بأعذب الكلام وأرق المعاني كما في الزمن الذي مضى، زمن جميل عشناه يافعان مدفوعين بأحلامنا الوردية.
- ألا ترى أن ذراعاي المرتعشتان تفشلان في عناقك رغم أنفاسك الحارة التي تداعب عنقي، أنا لست لك يا حبيبي، لقد تم عقد قران جسدي الأجوف الخاوي من المشاعر على غيرك، بعد رحيلك بعامين ...!
نعم.. بعد رحيلك يا عبدالله وانقطاع أخبارك، كثف أزلام النظام من حملات التجنيد الإجباري المعروفة بالخدمة الإلزامية والدفع بهم إلى معسكر "ساوا" سيء السمعة (1)، ولتفادي هذا المصير كان خيار الأسرة تزويجي بأول طارق، رغم معارضتي الشديدة وتفضيلي الموت على أن أجد نفسي في عصمة رجل آخر.. رجل أتشارك معه سقف واحد، بينما قلبي شبه خاوي وروحي ترفرف بعيدا في فضاءات اليأس والأمل المفقود، قلب جريح يبحث عن حبيب أنسل في ليلة ظلماء.. ليلة عاصفة ناقمة مولولة تنبئ بنهاية قصة عشنا فصولها بتفاؤل وقد أغفلنا إن للأقدار اليد العليا في مصائرنا، ولا مناص من الإيمان بقضاء الله وقدره..
الوداع يا من كان دنيتي وسلواي، قد تكون قصة حبنا واحدة من قصص الحب ذات النهايات المبتورة، وقد كان يخبئ لنا القدر نهاية غير متوقعة

قرار مغادرة عبدالله لقريته الواقعة في أقصى شمال منطقة "القاش" المحاذية لحدود السودان الشرقي، لم يكن اختياري بغرض تحسين ظروف معيشية له ولأسرته رغم شظف العيش.
بل كانت رحلة هروب قسري وأصعب من تجرع السم كخيار لمن أراد وضع حد لحياته، خصوصا وأن الخطوة سيترتب عليها البعد عن الأسرة، الأصدقاء المقربين والأقران، وحتى قريته واهلها الطيبين.
غادر عبدالله، مسقط رأسه هربا من تسلط وجبروت تشكيل عصابي قاتل اغتصب في غفلة من الزمن البلاد والعباد، أحرق الأخضر واليابس، غيب وهجر وسجن الرجال، ورمل النساء ويتم الأطفال، ولم يكن أمامه سوى خياران لا ثالث لهما، أما البقاء والخضوع لتجنيد إجباري غير محدد المدة، وبالطبع خوض حروب الطاغية العبثية خارج الحدود، أو المشاركة مجبرا في قمع أبناء شعبه
في الداخل المغلق، أو خيار الفرار خارج الحدود، الى أي بقعة في المعمورة تضمن له السلامة وتقيه ملاحقة أجهزة النظام الأمنية المتعطشة للدماء.
خطط عبدالله للرحلة بعناية وسرية تامة وتكتم شديدين، سبقتها محاولة عصيبة ومتعثرة لإقناع الوالدة والوالد بالسفر الى الدولة المجاورة (السودان) التي سبقه إليها عدد مقدر من أبناء القرية الفارين من التجنيد وعمال السخرة، ولم تكن بالطبع مهمة يسيرة أو سهلة وقد استغرقت ما يربو الأسبوعين، عقبها بدأت مرحلة التخطيط ثم التنفيذ بالتنسيق مع ثلاثة من الأصدقاء المقربين، أحدهم كان على دراية تامة بالدروب الجبلية الوعرة بعيدا عن أعين حرس الحدود المنتشرين عبر الكمائن الثابتة والمتحركة على طول الحدود.

وفي ساعة الصفر خطى الأصدقاء الثلاث خطوتهم الأولى نحو المجهول، تسبقهم دموع وعويل الامهات وتضرع الآباء بأن يحفهم الله بعنايته في ترحالهم الجسيم.
لحظات نحتت فيها الدموع أخاديد عميقة على الخدود، أستجمع خلالها عبدالله ورفاقه ما تبقى لديهم من اتزان ورباطة جأش، ثم ولوا وجوههم شطر سلسلة الجبال الشامخات باتجاه الغرب حيث الحدود الفاصلة بين دولة التنظيم العصابي والبلد الجار - الملاذ الأمن لآلاف من أبناء شعبه الذين سبقوه على مدى أعوام واعوام وباتوا يشكلون ما يعرف بسكان مخيمات اللجوء "المنسيون والمعذبون" في الأرض.
ثلاثة أيام بلياليها كانت مدة الرحلة تخللتها مراحل تواري عن الأنظار - التخفي نهارا، وقطع طرق وعرة لا يسلكها إلا من خبر دروب وتضاريس المنطقة وتفرعاتها، لينتهي بهم الحال غرباء داخل شوارع وازقة المدينة الحدودية (كسلا)، ومن ثم إلى معسكر "الشجراب" للاجئين (2) كمرحلة أولى من رحلة اللاعودة أو هكذا كان الواقع.
شهر واحد كانت المدة التي مكثها عبدالله في المعسكر المحمي بالحراسة الأمنية المشددة، تسلل بعدها الى مدينة كسلا بحثا عن عمل يؤمن له قوت يومه، ورغم محدودية فرص العمل، تمكن من الحصول على وظيفة في مخبز شعبي صغير يقع على اطراف المدينة، وخلال عامين ونيف من عمله المضني أدخر بضع جنيهات، فكر عقبها في اتخاذ قرار مصيري أخر أكثر جرأة من سابقته، قرار الهجرة إلى ما وراء البحار، وتحديدا إلى أوروبا بلاد الحليب والعسل والحلم العارم للكثير من اللاجئين والمهاجرين من شعوب القارة السمراء.

وبعد ما أستقر به المقام في مدينة كسلا الوجهة الجاذبة للكثير من الإرتريين، شرع عبدالله من فوره لخوض غمار المخاطرة الأعظم في حياته، وبات خيار التوجه إلى الخرطوم ملحا، ومن هناك صوب الصحراء الكبرى باتجاه ليبيا التي وصلها بعد خوض تجارب قاسية ومريرة، حيث يعيش اللاجئين والمهجرين الأفارقة الفارين من بطش الحكام الفاسدين وشظف العيش في بلدانهم، هاجس مخاطر قوارب الموت البدائية ووحشية مهربي البشر، حيث تبتلع مياه البحار الهائجة العديد منهم في منتصف الرحلة قبل الوصول إلى شواطئ المتوسط، وايضا مخاطر الوقوع في قبضة عصابات الاتجار بالبشر وبالتالي الاحتجاز في ظروف غير آدمية، وربما البيع في أسواق "النخاسة" والاتجار بالأعضاء البشرية .
عبدالله نفسه وقع ضحية العصابات المسلحة، عندما أختطف مع ثلاثة من رفاق الرحلة من قبل تجار البشر في منطقة "غريان" على بعد 75 كلم جنوبي العاصمة طرابلس، ومن ثم تم احتجازهم بمنطقة صحراوية بعيدة عن أنظار السلطات، في ظروف غير آدمية تعرض خلالها مع رفاقه للتعذيب الجسدي والاذلال لمدة ثلاثة أشهر والتهديد بالقتل إذا عجز عن دفع فدية كبيرة لا قدرة له بها.

مكان الاحتجاز كان عبارة عن كوخ خشبي داخل مزرعة في عمق الصحراء تبعد عن الطريق العام الرابط مدينة غريان ومدينة ترهونة بخمسة كلم.
ومع لحظة الرعب او الكابوس الذي عاشه عبدالله على الأراضي الليبية على مدى ستة أشهر قبل انتقاله للشطر الأخر من المتوسط عبر منفذ اجدابيا على المتوسط، إيطاليا اليونان ثم بولندا والمجر وصولا لألمانيا ثم النرويج حيث يعيش حاليا، عندها شعر بلسعة نار في أصبعه، مصدرها لفافة التبغ التي ظلت مشتعلة في يده خلال انفصاله عن الواقع، هنا أدرك أنه أطلق العنان لخياله وغاص عميقا في عالم اللامعقول أو ما يطلق عليه بحلم اليقظة المطلق، ليعود لواقعه مكسورا وحيدا معانقا وسادته الخالية ليخلد للنوم في غرفته الباردة بلا أمل في انبلاج صبح محزون ..!




- هوامش:
(1) معسكر ساوا:
هو معسكر للتدريب العسكري أو البئر الذي يبتلع أعمار الشباب من الجنسين، ويقع في قاش بركا، حيث يسخر الشباب في خدمة اجبارية غير محدد المدة وتستعبد الفتيات في خدمة ضباط وقادة المعسكر في سبيل الوطن!

(2) ‏يقع مخيما الشجراب وود شريفي في ولاية كسلا بشرق السودان، ويضم عدد من اللاجئين الإريتريين من الجنسين، وقد تأسس معسكر "شجراب" في عام1985 بواسطة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فيما يعد مخيم ود شريفي الأقدم ويأوي داخله عدد كبير من اللاجئين ، تأسس في عام 1982م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى