رحمة حسام عبدالرحمن - ليوسف مِن بيسان: الرسائلُ الأخيرة

(27 أكتوبر 2023)

حبيبتك.. روحك!
ما جرأك عليّ؟
آه صحيح..
لا داعيَ لأن نخجلَ من بعضنا البعض بعد اليوم..
لن يلتقي وجهي بوجهك مرةً ثانيةً..
قررتَ إذن أنني سأموت؟
طَيّبْ.. شُكرًا يا سِيدي.
***
يوسُف.. آسفة جدًا..
عاجزة عن إجابتك.. بالأساس عاجزة عن النطق.. بالكاد أتنفس.
سامحني.. أنا سامحتك.
***
لا لا..
لا ألومُ فيكَ العالمَ..
ولم أقصد أن أُفرغ شُحنةَ غضبي فيك حتى تقول: حَقُّكُم عَلينا!
مَن حَقُّكُم
أنت لا تفهمني.. ولو حكيت مائةَ عامٍ لن تفهمني..
لا تَقُل لي حَقُّكُم.. لا تُكلمني بلهجةِ المواقع والأخبار..
أنا أنا.. لا هُم..
لسنا كتلةً يُحكى عنها على بعضها..
كلُّ واحدٍ منّا واحد..
يوسُف.. حدّثني مِثل أوّل مرة..
مِثل أول مرة زُرتكم بداركم.. مثل أول مرة رأيتني فيها.. ومثل آخر مرة.. تتذكر؟
تتذكر حين قُلتلي:
خَلِّي أملك كبير في ربنا يا بيسان.
***
إيه معذرةً..
يا يوسُف! ليس غضبًا منك..
موبايلي تكسّر من أول يوم لمّا كُنت أجري في الشارع كالمجنونة بحثًا عن أخي الصغير..
لم أرَ أيّةَ رسائل إلّا الآن.. بالكاد حصلت اليومَ على موبايل معقول وضعت فيه الخط..
قبل كان موبايل قديم لا يتصل بالانترنت.. اتصال فقط.
المشكلة إنه بعد ساعتين سينفد شحنه ولا أدري متى أتمكن من شحنه مرة ثانية.
تستغرب؟
إذا الماء غير متوفر!
إذا النور غير متوفر!
إذا الدواء.. إذا الطعام..
إذا النَفَس غير متوفر!
الحِين صرتُ أحكي كيفما نحكي في الأخبار..
فاض بنا.. ما العمل؟!
نعم.. بنا يا يوسُف..
بالناس الذين تُشاهدهم على الشاشات والقذائف تتهاوى فوق رؤوسهم.. يهربون من موقع إلى آخر.. من جحيم إلى آخر.. أين المفر؟
الناس.. الذين ترى أطفالهم مُلطخي الوجوه بالدماء.. ترتعدأطرافهم.. بينما الدموع تتحجر في أعينهم؛ تأبَى السقوط..
أنا هؤلاء الناس.. أنا هُم.
***
ما الذي تنتظر سماعه مني؟
تقول لي:
طَيِّب كلمة.. كلمة واحدة..
إيه؟
تعرفُ ما الذي أرغب فيه؟
أن أصرخَ..
أصرخ إلى يوم الدين..
ولو أفعل ما يكفيني لأعبر عما أحس به.
تعرف..
يمكن الحق معك في تفكيرك..
يمكن خلاص.. راح أموت!
القصفُ اليوم رهيبٌ.. رهيب..
تقول لي: جاوبِيني..
ماذا تريد أن تسمع؟
أصلًا لماذا؟
طَيِّب.. سأُجيبك على سؤالك ولو لم يعد من الأمر فائدة:
نعم يا يوسُف أخبرتهم..
قلت لبابا وماما أن يوسف يريد أن يخطبني منكم.
مَتى أخبرتهم؟
يوم 7 أكتوبر صباحًا..
تتصوّر؟!
***
هُدنة؟
صحيح يحكون في التليفزيون عن اقتراح هدنة؟
لا.. لم يهدأ شئ..
لا لا.. من الليل دخلوا بريًا في خان يونس.. ويمكن من قبلها..
لم يكفهم الضرب فوق رؤوسنا.. لم يشفِ غليلهم ما تناثر منّا من أشلاء..
مشتاقةٌ أعينهم لنهرِ من الدم.
صوتك بالفويس الأخير غير واضح.. عِيده.
***
تسألني: لماذا لم أخبرهم منذ عودتي من القاهرة لغزة..
يعني هل هذا وقت عتاب ولوم؟
قلتلك من قبل: بابا جَد مريض..
لم تكن الظروف تسمح بأي كلام في الموضوع.
يوسُف.. أرجوك أن تهدأ..
كُف عن النحيب في كل فويس حتى أفهم ما تقول.
لا.. والله يا حبيبي لا أسخر منك.
إيه حبيبي..
تعرف يا يوسُف..
يمكن هي النهاية فعلًا.. وما فيه أي فائدة من الحَكْي..
ويمكن لأنها النهاية.. يمكن أن أحكي كل شيء.
***
أين أجلس الآن؟
على الأرض.
في أيّ مكان؟
في محيط مشفى الشفا..
لا.. لا نقيم هنا..
أنا هنا لأساعد في إسعاف المصابين.. أو تكفين الميتين.
والآن آخذ استراحةً بعد أربعين ساعة من اليقظة المستمرة.
بيتُنا تهدّم في ثالثِ أيام القصف..
ونقيم في ملجأ قريب من المشفى وفّره أقاربنا في إحدى البنايات.
أمان؟
من يدريني إن كان أمان أو لا!
وهل يخفى على طائراتهم من السماء شيء؟!
يوسُف..
كُف عن الأسئلة التي لا أعرف لها أية إجابات.
ليس هذا ما أود أن أحكي عنه..
تعرف أيّ مشهد حاضر في ذهني الآن؟
مشهدي من خمس سنوات..
يوم حملت حقيبتي وقَدِمتُ إلى القاهرة لأدرس فيها الطب.
كانت سعادتي بالغة.. وأحلامي كبيرة..
قبلها احتفل أهلي بي كما لم يحتفلوا من قبل..
وكان بابا - ليل نهار- يتغنّى بالخبر لكل معارفه..
إن بنته الكُبرى - بيسان - ستدرس الطب.. وتصير طبيبة.
تعرف أنني لمّا جئت للقاهرة تعجّبت كثيرًا..
تعجّبت أن أرضكَم واسعة..
تتنقلون فيها من شارع لشارع.. ومن حَيّ لحَيّ..
من غير خوفٍ.. ولا إيقاف بكل مدخل ومخرج.
ولمّا طلعت رحلة بعامي الدراسي الأول إلى أسوان..
يا الله.. قديش جميلة!
استغربت من القطار كيف يقطع المسافات.. ويتحرك من بلد لبلد.. من أقصى الشمال لأقصى الجنوب.. داخل نفس الوطن..
استغربت؛ هكذا يَحيا الناسُ بأرضهم لمّا تكون وطن..
أحرارًا مثل الطيور.
بلادُنا ما يتركوها لنا وطن.
***
معذرةً يا يوسُف..
هذه المرة أنا التي تبكي وتنتحب.
خَلاصْ.. بقيت بخير.
كنت أقول أن مشهدي في تلك الأيام الهانئة يحضُرني في هذه الليالي المعتمة.. حالكة السواد.
يحضُرني يوم معرفتي بهند.. صديقتي الغالية الحبيبة..
طَمئِنها عَليّ يا يوسف إن كانت تجلس بجوارك.. أرسلتُ إليها، لكنها لم تقرأ رسالتي بَعد.
بالمناسبة: أشكُرْها لي.
أشكُرْها أن أدخلتني بيتَكم.. أن عرّفتني بأبيها وأمها وبِكَ..
الله يحفظكم ويخلِّيكم لبعضكم.
ييه.. لا تقُلْ بعدَ الشَر!
يوسف..
لا أعرفُ لماذا لم أخبرك مُنذ بدايةِ حديثي..
يمكن لأنه بَعدي غير مصدقة..
ويمكن لأن لساني لا يطاوعني أن أنطقها..
أَنَس.. أخي الصغير.. استشهد بثالث أيام القصف.
***
هذه المرة لن أعتذر على بكائي ..
لأنني حِين استشهد أنس لم أبكِ كما يجب..
لم أبكِ كما أحتاج..
لم يعطونا فرصةً للحزن.
يومُها كان القصفُ على حيّنا كأنه قذائفُ جهنم..
لم تُصِب القذيفة بنايتنا بذاتها لكنها وقعت في محيطها.. كان أنس حينها بالخارج..
وحين خرجنا لنبحث عنه كانت قذيفة آخرى تسقط فوق البناية.
اختبأنا.. لا أدري كيف ولا أين..
اختبأنا حتى لا نرحل دون أن نحمل جثته معنا.
بحثنا طويلًا.. لا أذكر عدد الساعات..
حتى وجدناه.. مُقطّع الأوصال..
أنس.. أخي.. حبيبي ونور عيوني.
***
تعرف أن الإنسانَ عجيب..
في اليوم الأول حين سمعنا بما فعلته المقاومة حملنا الهم..
إيه فرحنا..
فرحنا أن جنودًا منهم أُسِروا فيمكن إذن مبادلتهم بأسرانا..
فرحنا أن ذاقوا بعضًا مما نذوق منذ الأزل..
لكن حملنا الهم!
لو كانت لهم قلوب..
لذكّرهم مُصابهم بمصابنا الدائم.. لشعروا بنا..
لرقّت قلوبهم كما يرقُّ قلبُ الإنسان للإنسان..
ولو كما يرقُّ قلبُ الإنسان للبهيمة..
ولو إلى أي شيء! أي شيء!
لكنّا نعلم أن مصابهم يضاعف تجبرهم..
يضاعف الطغيان..
حملنا همًا عظيمًا.
حين شرعوا في الانتقام أصابني الرعب..
لا أكذب عليك.. كنت أرتعد من الخوف..
أنظرُ كل ساعة في أعينهم: أبي وأمي وإخوتي..
أُناشدهم ألا يصيبهم مكروه.. أن يظلوا دومًا بخير.
وحين أخذوا مني أخي تغيّر في عيني كل شيء..
صدقًا كل شيء..
كأنما استحال العالمُ غير العالم الذي أعرفه..
عالم لا حذر فيه ولا حرص..
لا خوف فيه من شبح الموت..
لأنه لم يَعُدْ للموت في عيني شبح..
فقط له أجنحة.. تُحلِّقُ بالشهداء صوبَ الجنان.
***
إيه.. أَتَحرّكُ.
أتجه صوبَ ملجئنا.
لا تقلق.. قلتلك أنه قريب من المشفى..
وقلتلك أيضًا أنني لم أعُدْ أهاب الموت.
يييه..
يا يوسُف..
أنا شبعت خوفًا..
شبعت قلقًا..
اترُكني أحكي وكُف عن تحذيراتك..
كُف أيضًا عن الاعتذار..
نفضنا أيدينا من كل العالم.
***
سامحني..
لخاطري سامحني..
والله ما أقصدك..
لا.. لا أراك نذلًا..
لو بَس تَكُف عن مقاطعتي..
وتعطيني فرصةً لأحكي ما أرغب في حكايته..
لعلمتَ كيف أراك.
أراك كما رأيتك أول مرة..
يوم زُرتُ هند في البيت وقدّمتني لكم..
وقدمتك لي:
يوسف أخويا الكبير..
سابقنا بسنة في الكلية..
أحلى مني.. ودَحيح.
من يومها وأنا أراك كما وصفتك:
جميل وشاطر..
وعرّفتني الأيام أنك جدع.. وصالح..
لا تلعب ببنات الناس.
أربع سنين لتقلي أخيرًا: بحبك..
قلتها لأنك بسنتك الأخيرة أعطاك أهلك الإشارة الخضراء لتخطب.
لم أُصدق نفسي..
واحترتُ..
طَيِّب إذا عشت بمصر.. كيف أترك أهلي؟
هل يوافقون؟ وأنا.. هل أقدر؟
قلتلي يوم سفري بينما تودعني بصحبة هند:
هيوافقوا.. وهتقدري.. ومفيش حاجة هتقف قُصادنا..
خَلِّي أملك في الله كبير يا بيسان.
***
إيه الحمد لله وصلت.
تعرف يا يوسُف..
ربما لم أكن أقدر – ولو سمحت كل الظروف – على ترك أهلي والعيش بشكل دائم في مصر.
أنا أصلًا كان حلمي أن ترى دارنا!
ما أعرف كيف.. ولا متى..
بس كان حلمي.
لأنه لمّا أحكي مع هند ومع والدتك ومعك..
بحس أنكم تتخيلوننا نعيش برُكام.
لا..
دارنا جميل.. وعَصريّ..
في حَيّ نظيف ويرى البحر.
هذه المرة تحديدًا.. حرصت على التقاط العديد من الصور من فوق سطح البيت..
وكذلك صوّرت فيديوهات للبحر ليلًا.. بحرنا..
كُنت أنوي أن أُريها لهند.. ولَكَ.
الحين صار عِزُّنا خرابًا..
حتّى الصور فقدتها.
***
يوسُف..
شحنُ الهاتف على وشكِ النفاد..
وشحني كذلك نَفَد..
سأُصلي.. ثُمَّ أنامُ قليلًا.
لكن يستحيل ألا أحكي لك عن الليلة المروّعة..
مَن يدري؟
ربما لا تأتي فرصة أُخرى.
ولّا خَلاصْ..
لا فائدة الآن من الحَكي..
من المؤكد أنكم شاهدتم عبر الشاشات ما فعلوه بنا..
ما فعلوه بالمرضى العاجزين..
وبالأطفال اللاجئين..
في مشفى المعمداني.
ماذا أُخبركَ عن تلك الليلة؟
لا جديد لأضيفه..
فقط قل لأساتذة الجراحة في كُلِّيتنا العريقة..
أن بيسان طالبتكم النجيبة..
ساعدت الأطباء في خياطة أيدي وأرجل ورؤوس البشر بدون بِنْج لأنه نفد..
وغاصت بيديها في الدماء بغير عزل..
واضطرت – أحيانًا – لاستخدام أدوات بغير تعقيم..
أخبرهم أنني لو قُدّر لى استكمال دراستي – وأنا لا أعرف ما قُدّر لي – سأصير يومًا طبيبةً رحيمة..
نعم رحيمة..
لا أقول ماهرة.. ولا كبيرة..
فإن الأيام هذه علّمتني أن أبذل روحي لإنقاذ روح.. لا فقط علمي وجهدي.
وأخيرًا..
ما زلت أُحبك يا يوسُف.
نعم.. نَفَضتُ يدي من كل العالم..
إلا يدكَ..
ما زلت أُمسكها بقلبي.
***
نامت (بيسان) ساعة.. أنقطع أثنائها الإنترنت عن غزة.. وانعزل سكان المدينة عن العالم طوال الليل.
ما نعرفه من وسائل الأخبار أن القصف على مختلف أنحاء المدينة في تلك الليلة كان مروّعًا، وأن قوات الاحتلال توغلت بريًا في بعض المناطق واشتبكت بالأهالي.
أمّا (يوسُف) فحتى هذه اللحظة من يوم الثامن والعشرين من أكتوبر لا يعرف شيئًا عن (بيسان) بشكل شخصيّ؛ يعرف فقط ما تبثه قنوات الأخبار بشكل عام.
يمكث في غرفته، يعيد قراءة آخر رسائلها، ويقضي ساعاته بين البكاء والدعاء.

(تخليدَا لذكري صمود أهل غزة، وانقطاع الانترنت ليلة السابع والعشرين من أكتوبر عام 2023 عن المدينة؛ سَعيًا من المحتل البغيض لحجب أعين العالم عن جرائمه).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى