د. عبدالجبار العلمي - كتاب "رأيٌ غيرُ مَأْلوف" للدكتور إبْراهيم السُّولامي.. دفاعٌ عن اللغة العَربية ونقدٌ لاذع للفرانكفونية

صدر كتاب " رأي غير مألوف" للدكتور إبراهيم السولامي في طبعته الثانية المزيدة سنة 2019 . والكتاب يحتاج إلى دراسة متأنية رصينة، شأن أعمال المؤلف الأخرى في مجال دراسة الشعر العربي الحديث في المشرق والمغرب. ويضم الكتاب مجموعة من المقالات والدراسات الأدبية والنقدية. وقد اختار المؤلف عنوان الكتاب من مقال من مقالاته يحمل نفس العنوان ( ص: 83 ).
لقد قدم الأستاذ إبراهيم السُّولامي بين دفتي هذا الكتاب آراءَه وأفكارَه في العديد من القضايا الأدبية والاجتماعية وفي بعض الشخصيات التي ربطته بهم روابط متينة أو عابرة.
ويمكن أن نقسم الكتاب إلى قسمين :
القسم الأول : يشتمل على تسعَ عشرةَ مقالةً ودراسةً نقْدية ، تتوزع بين مواضيع متنوعة : تأبين صديق ـ ملامح شخصيات بارزة تنتمي إلى مجالات متعددة : ثقافية وفنية ووطنية كما عرفها عن كثب في الغالب الأعمِّ ، يذكر منهم: الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، والشاعر أحمد المجاطي ، والأستاذ محمد برادة ـ بعض طلبته الذين أصبحَ لهم صيت ذائع في عالم الكتابة والإبداع ـ شخصيات فنية مغربية مرموقة . ومن الشخصيات الوطنية التي يذكرها بمحبة وتقدير : المجاهد عبدالكبير الفاسي الذي ساعد المؤلف ورفيقه « علي أومليل » لكي يلتحقا بدراستهما بمصر. يتحدث في مقال " عطر الأحباب " حديثاً شجياً عن أستاذته الدكتورة سهير القلماوي بكلية الآداب بالقاهرة، كما يذكر ندوة العقاد الذائعة الصيت التي كان يعقدها في بيته كل صباح جمعة ، وكان الأستاذ إبراهيم السُّولامي مواظباً على حضورها. وفي مقال بعنوان " الدبلوماسي " ، يقارن بين الملحق الثقافي في الماضي والحاضر في السفارات المغربية، ففي الماضي كان الملحقون الثقافيون مثقفون بارزون، كان لهم إشعاع ثقافي وأدبي وسياسي مرموق في السفارات التي عمِلوا بها. يعالج الكاتب في مقالات ودراسات أخرى من هذا القسم ، مجموعة من القضايا والأحداث الثقافية التي كان يرصدها و يواكبها في حينها، ولا تخلو هذه الكتابات من نقد يتسم في بعض الأحيان بالحدَّة ، لا سيما حين يتعلقُ الأمرُ بدفاعه عن اللغة العربية، وذلك مثلاً في مقاله عن " الندوة الدولية حول الأدب والتسامح " التي نظمت بكلية آداب القنيطرة سنة 1994 ، لأنها أقصَتْ أساتذةَ الشُّعب الأخرى ومنها شعبة اللغة العربية. تدفعه غيرته إلى نعت الفرنسية باعتبارها لغةَ الاستعمار بـ"جرثومة " تقسِّم المجتمع إلى " نُخْبَةٍ " وأهالي. ما يعني أن الاستعمار مازال قابعاً بين ظهرانينا بعدة ألوان وأشكال. ولا ينبغي أن ننسى موقفه من الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية الذي يرى أنه يُعري عن خفايا مجتمعه وعيوبه، ولا يُظهر إلا الجوانب السلبية منه خاصة في البوادي المغربية ، وذلك في دراسته القيِّمة حول رواية " شمس الدياجي " لعبد الحق سرحان 1993م. والرواية ـ كما قدمها الأستاذ إبراهيم السولامي بكل موضوعية ـ رواية محكمة البناء ، مليئة بالأحداث والشخصيات ، إلا أن ما يعيبه عليها أنها تقدمُ صورةً مشوهةً عن أبناء جِلدته للأخر الغَرْبي ، بينما لا يُعنى بالصورة الإيجابية التي تمثلُها القيمُ النبيلة والتقاليد الأصيلة التي مازال يتشبث بها الإنسان المغربي في البادية وغيرها.. ولا يخفى أن بعض تلك الأعمال الأدبية المكتوبة بالفرنسية ، كانت تستهدف الجوائز التي تُقَدَّمُ لمثل هذا الأدب الفرانكفوني. من أبرزها رواية « ليلة القدر la nuit sacré « للطاهر بن جلون الذي حصلَ عنها على جائزة الغونكور الفرنسية GONCONRT سنة 1987م. والرواية كما نعلم، تركز على الجانب الفولكلوري والعجائبي الذي يستهوي الآخر الغربي ، ويجد فيه مجالاً للتسلية بواقع المجتمعات المتخلفة التي ساهمت الدول الاستعمارية نفسها في تخلفها وإعاقة انطلاقتها واستقلاليتها. ويكفي هذا المثال للدلالة على انسلاخ البعض عن هويتهم واسترضاء الغرب وتملق المشاعر الصليبية، كما ورد في مقال نقدي لأحمد عبدالسلام البقالي ( مجلة "دعوة الحق " ، عدد 270 ، 1987 م.) ( ) .
هذا الاستطراد كان لابد منه ، خاصة وأن موضوعة الكتابة باللغة الفرنسية ، والتهميش الذي تتعرض له العربية من الموضوعات التي شغلتْ بال أستاذنا إبراهيم السُّولامي ، سواء في هذا الكتاب، أو في دراساته التي نشرها في بعض منابر أدبية خارج الوطن . ( )
يوجه الأستاذ السُّولامي في مقاله الموسوم بــ« بول بولز وأمجد الطرابلسي » نقداً لاذعاً إلى الجهات الثقافية والإعلامية التي تُكَرِّمُ بعضَ الكتاب الغربيين الذين كانوا يعيشون بين ظهرانينا ، وتُعْلي من شأنهم وشأن أدبهم ، مثل الكاتب الأمريكي "جول بولز" الذي أقام سنوات طويلة بمدينة طنجة، في حين أن كتابته تتجه اتجاهاً سلبياً هدفُه تدمير هوية المجتمع وقيمه الأصيلة. يذكر الأستاذ السُّولامي بمرارة أمثال هؤلاء الأدباء الغربيين الشواذ سلوكاً وكتابة الذين كانوا يعيشون في بلادنا، لكي يعقد مقارنة لها دلالتها العميقة، بين هؤلاء وبين "أدباء شرفاء منحونا من قلبهم وعقلهم وزرعوا في أرضنا الشمم ، والرجولة والإخلاص ، لكنهم لم يحظوا بما هم جديرون به من تقدير وإكبار " ( ص : 79 ) . ويذكر في مقالته العديد من الأساتذة والأدباء والعلماء العرب. ومن بين هؤلاء أستاذنا " مؤلف الرجال " الدكتور أمجد الطرابلسي الذي " قضى في رحاب الجامعة المغربية أكثرَ من ربع قرن .. كان الأستاذ أمجد غزير المعرفة، دمث الخلق ، عفيف اللسان ، حريصاً على مواعيد دروسه ، مخلصاً في أداء الواجب... أشرفَ على عشرات الرسائل الجامعية ، وناقش عدداً لا يحصى منها " ( انظر: ص : 79 وما بعدها ) .. عاش لعمَله العِلمي الرصين ولطلابه الذين أحبوه وقدروه حق قدره. يقول الأستاذ السُّولامي : " وما أشك في أن أستاذنا العزيز لو خير بين أوربا والمغرب لاختار وطنه الثاني العربي" ( ص : 80 ).
القسم الثاني:
يضمُّ هذا القسم من الكتاب مجموعة من الدراسات حول دراسة الشعر المغربي تنظيراً وممارسة .
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الدراسات تتميز بالتنوع في أشكالها والغنى في القضايا التي تتناولها بالدراسة والتحليل.
ـ في الموضوع الأول "علال الفاسي شاعراً " ، انصب اهتمام الباحث على أهم موضوعَتين في شعره : الشعر الوطني والشعر الذاتي الوجداني ، وقد لاحظ خلال دراسته للمتن الموسع الذي تتضمنه أجزاء ديوانه الأربعة، أنه يتميز بالتداخل بين هذين المستويين. ويلاحظ المؤلف قلةَ عناية علال الفاسي في شعره الوطني بجماليات الفن الشعري ، لأن الشاعر كان مهموماً بالقضايا الوطنية والقومية ، يوظف شعره من أجل التعبير عنها وخدمتها ، بخلاف الشعر الذي أنتجه في المنفى، فهو شعر وجداني، يتميز بالتصوير الشعري البليغ ، والتعبير الجميل عما يعتمل في ذاته من أحاسيس الاشتياق والحنين إلى الزوجة والأبناء ومراتع الصبا السعيد في أحضان الوطن.
ـ وفي دراسته " تأمُّلات في شعر أحمد مفدي " ، يرى المؤلف أن هذا الشاعر السبعيني لمْ يحظَ إنتاجه الشعري بما هو جدير به من اهتمام ، ولم تكتب حوله إلا دراسات قليلة . والشاعر أحمد مفدي ينتمي إلى كوكبة من الشعراء أغلبهم نشأ في رحاب كلية الآداب بظهر المهراز بفاس ، وقد بدأوا ينشرون أشعارهم في أواسط الستينات قبل هزيمة 1967م .
يتصدى الباحث في هذه الدراسة إلى مقاربة ديوانين اثنين للشاعر هما:" في انتظار موسم الرياح " و"الوقوف في مرتفعات الصحو". ويرى في هذه المقاربة أن هذين العملين يمثلان تجربة شعرية تمتد من 1971 م. إلى 1987م. ، وتعكس موضوعين أساسيين هما : الوعي التاريخي (ويعني بها قضية الوطن المغربي ووحدة التراب الوطني من جهة ، وقضية الوطن العربي ووحدته المأمولة )، والوعي الفني ( ويقصد بها النواحي الفنية في شعر الشاعر من خلال ديوانيه). إن الشعرَ عند أحمد مفدي رسالةٌ تخدم قضايا الإنسان الذاتية والموضوعية بأدوات فنية بليغة.
ـ في ديوان " الولد المر " للشاعر محمد علي الرباوي، يتناول الباحثُ ظاهرتين أساسيتين : الأولى معنوية، وتتعلق بالنزوع إلى الروح الإسلامية التي نجدها عند شعراء المغرب الشرقي وأبرزهم حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة رحمه الله .. ويرى الكاتبُ أن الشاعر الرباوي ، وإن كان ينتمي إلى اتجاه الشعر الإسلامي، إلا أنه كان يحرص على أن يكون له صوتُه الخَّاص ، فيتركُ مسافةً بينه وبين رفاقه في الاتجاه، ليعبر عن معاناته الذاتية الخاصة ، وعن الصراع المحتدم في أعماقه بين الروح والجسد ، مع الحرص على توفر شعره على الشِّعْرية وابتعاده عن الشِّعَارية والنزعة الدَّعوية. أما الظاهرة الثانية ، فهي فنية ، وتتمثل في استخدام الشاعر التناص أو ( التداخل النصي ) باعتباره " قيمة جمالية ودلالية .. ووسيلة من وسائل التعبير الشعري إلى جانب العناصر الشعرية الأخرى." ( )
ـ رصد الباحث دراسته الموسومة بـ" الثابت والمتحول في القصيدة العربية " لعقد مقارنة بين قصيدتين كُتبتا حولَ موضوع واحد هو : مدينة " سبتة " المحتلة. الأولى للشاعر محمد الحلوي المعروف بكتابة القصيدة العمودية. أما القصيدة الثانية فهي للشاعر أحمد المجاطي. وقد حاول المؤلف من خلال مقاربته النصَّيْن النموذجين ، بيانَ ملامح الثبات والتحول في القصيدة العربية. وانطلق من قناعة مؤداها أن التغيرات التي أصابت القصيدة العربية الحديثة والتي نتجت عن " دراسة وتمكن من تمثلِ الأصول لغةً وإيقاعاً وتركيباً، هي أقرب إلى طبيعة التطور ، لأنها تجمع بين ملاءمة العصر والحفاظ على العلاقات الاجتماعية بقيمها ومثلها وكل مقوماتها المتراكمة عبر العصور " ( ص : 116 ) .
ويرى الأستاذ السُّولامي خلال مقارنته بين ملامح الثابت والمتحول في النصين" أن ميزة المجاطي أنه حاول الإيحاء والإشارة والبحثَ عن صور جديدة مؤثرة ، ومحاولة مزج الواقع بقضية الأراضي المغتصبة ، وتجاوز الوطن إلى البعد العربي القومي ، وهو بذلك يعلن عن انتماء سياسي قومي وإحساس بمسؤولية المثقف الملتزم. ( ص : 122 .. )
ـ ويرى الباحث في دراسته الموسومة بــ« تجليات المقاومة في الشعر المغربي المعاصر »، أن الكتابة الأدبية رافقت التاريخ المغربي الحديث ، واتجهت إلى المقاومة بالكلمة، منافحة عن الوحدة الترابية في سائر الوطن منذ بداية القرن الماضي.
والحقيقة أن ما ورد في هذه الدراسة المقتضبة المكثفة ما هو إلا غيض من فيض حول تجليات المقاومة في الشعر المغربي المعاصر . ومن أراد التوسع في دراسة هذا الشعر يجد بغيته في كتاب الأستاذ السولامي الرائد الموسوم بـ " الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية 1912/ ـ 1956 ".
ـ في الدراسة الموسومة بـ « الموضوع واحد والشعراء ثلاثة : محمد الحلوي ـ أحمد المجاطي ـ محمد السرغيني » ، يتناول الأستاذ السولامي غرضاً شعرياً واحداً هو الرثاء . ومن المعروف أن الرثاء أحد فنون الشعر العربي البارزة. وفي هذه الدراسة المركَّزة، اقتصر على رثاء ثلاثة شعراء لشعراء من معاصريهم. ومما أُثار انتباهَ الباحثِ قلَّةُ رثاءِ الشعراء المغاربة بعضهم البعض. أحمد المجاطي كتب قصيدة يتيمة في الرثاء ، رثى بها الشاعر عبدالله راجع بعنوان : « باقة موتٍ على ضريحِ شهيد " ( ) ؛ ومحمد السرغيني أيضاً ، لم يكتب إلا قصيدة واحدة يرثي بها طالبهُ وزميله محمداً الخمار الكَنوني. ولم يحظ هذا الفن الشعري بالاهتمام إلا من لدن الشاعر محمد الحلوي الذي رثى معاصره إدريس الجائي إلى جانب شعراء آخرين من المغرب والمشرق. وقد عمل الباحث على تحليل قصيدتي السرغيني والمجاطي ودراستهما من حيث المضمون والبناء الفني ، مركزا على تيمة الموت في كليهما، وعلى هزيمة الجيل العربي المأزوم ، في قصيدة راجع. ويتوصل المؤلف بعد تحليله للقصائد الثلاث « أن الشعراء الثلاثة وهم يرثون شعراء من وطنهم وعصرهم، إنَّما يرثون أنفسَهم » ( ص : 137 ).
إن الدراسة فيها دعوة إلى المحبة والسلام والإخاء بين أهل الكلمة، فمآل الجميع إلى النهاية المحتومة. وهي دعوة إنسانية ترتفع بالمثقف الحقيقي إلى السمو وتجاوز ترهات الحياة الفانية.
ـ في مقاله الأخير من الكتاب : « القصيدة الحديثة ومسألة التصنيف» ، يرصدُ الأستاذ السولامي قضية شائكة عويصة لم يتم الحسم فيها بعد ، هي قضية تصنيف شعراء القصيدة الحديثة . ويرى الباحث أن ذلك يمكن أن يتم عبر خانات ثلاث : الأجيال ـ التجارب ـ الرؤى . ويلاحظ أن عدم توفر الرؤيا المتفردة لدى أغلب الشعراء المعاصرين أضاعت الحدود بينهم . ويرجع الأستاذ السولامي تبدد الرؤى إلى واقع الهزيمة والتشرذم الذي تعرفه الأمة العربية الذي أفقد الشعراءَ البوصلة ، وأصبحت الرؤية لا تقود إلى أي رؤيا .. " ( انظر ، ص : 142 )
إن كتاب « رَأي غَيْر مَأْلُوف » للدكتور إبراهيم السُّولامي، يطرحُ العديد من القضايا الأدبية والنقدية الهامة بلغة صريحة ، ونقد لاذع ، وغيرة متقدة على لغته وقومه ووطنه . وقد كان الكاتب صادقاً في قوله : « مرَّ عقدان من الزمن على الطبعة الأولى من هذا الكتاب ، لم يفتر فيها إحساسي بسخونة ما فيه من مشاعر وأفكار... » (كلمة ظهر الغلاف )


إحالات :
1

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة " الشمال " ، عدد يوم السبت 4 نوفمبر 2023 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى