سيد الوكيل - البيوت الحزينة..

كل صباح استيقظ، افتح التلفاز، فأرى في قلبي بيتاً حزيناً

تقول الأسطورة إن الإنسان الأول ظل يجوب الأرض بحثا عن المكان، وكان كلما جنى الليل دق عصاه في الأرض ونام بجوارها. وذات صباح استيقظ فوجد العصا مخضرة مورقة، فأدرك أنها إشارة من السماء على أن ذلك هو المكان المقدس، فكان أن بني البيت.

في البدء إذن كان البيت هو قدس أقداس الإنسان. ومازال، وهو رمز يصل حدا من التقدير يناظر حياة الإنسان ووجوده، لهذا نردد في أقوالنا: البيت الحرام، بيت المقدس، بيت الأمة، البيت الأبيض..إلى آخر هذه المسميات التي تجعل البيت رمزا معادلا لوجودنا.

في كتابه: (العادي والمقدس) حرص الأنثروبولجي (مارسيا إلياد) على تأكيد قداسة المكان بوصفه دالاً على المكانة. فاعتبر البيت والمعبد والضريح والمسجد من المقدسات البشرية. لكن العامة يفاضلون بينهما فيقولون (ما يحتاجه البيت محرم على الجامع) والمغزى أن الحياة، أهم فهي الحضور الحقيقي للإنسان، وليست مجرد رمز لغوي. فالبيت هو الذي يحفظ على الإنسان حياته.

وعندما قال رجل قريش وجد رسول الله لملك الحبشة للبيت رب يحميه. إما الإبل فأنا ربها، فإنما اضطر للمفاضلة بين بيتين.. بيت الله الحرام وبيته هو فاختار بيته.
ويلفت انتباهنا في هذا القول أمران الأول:

أن الناقة عند العربي بمكانة البيت، ولا مبالغة لو قلنا أن الناقة هي البيت ذاته، فكما أقام المصري القديم كوخه على ضفة النهر، حمل العربي بيته وزوجته وأولاده على ظهر الناقة، ومن ثم لا عجب أن العدوان على الناقة كان عند العربي بمثابة العدوان على البيت والوطن فتقوم الحروب بين العشائر من أجل ناقة بل ولا عجب أن بعض العرب المغرقين في البداوة قدسوا الناقة وعبدوها فيالها من
حكمة كان يخفيها عبد المطلب في قوله هذا

لكن امرؤ القيس لا يبالي بقداسة البيت في شعره فيقول:

يَومَ دَخَلتُ الخِدرَ خِدرَ عُنَيزَةٍ
فَقالَت لَكَ الوَيلاتُ إِنَّكَ مُرجِلي
تَقولُ وَقَد مالَ الغَبيطُ بِنا معا
عَقَرتَ بَعيري يا اِمرَأَ القَيسِ فَاِنزُل
فَقُلتُ لَها سيري وَأَرخي زِمامَهُ
وَلا تُبعِديني مِن جَناكِ المُعَلَّلِ
فَمِثلُكِ حُبلى قَد طَرَقتُ وَمُرضِعٍ
فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمَ مُحوِلِ
إِذا ما بَكى مِن خَلفِها اِنصَرَفَت لَهُ
بِشِقٍّ وَتَحتي شِقُّها لَم يُحَوَّلِ

سنشعر هنا، أن للشعر قداسة البيوت، بل الشعر هو بيوت تتراتب فوق بعضها البعض، كان الشاعر يبني مدينة تخصه. بالشعر والإبداع نخترق كل المحرمات وليس علينا من عتب. فليس معنى اغتصاب امرؤ القيس لعنيزة هنا أنه قد فعلها حقا، فالإبداع طاقة تستدعي الخيال لنهرب بها من الواقع. لهذا أظن أن امرؤ القيس كان يكتوي بهجير الصحراء، حرها، ورملها وعطشها، فخلق المخيال بداخله صوراً تعويضية، تمثلت في عنيزة.

البيت، الخباء، الخيمة،النزل مفردات لمعنى واحد يفضي إلى السكن الإنساني ومن ثم يحتل مكانة واسعة في الآداب الإنسانية، ولكن ما يلفت انتباهنا – وهذا يحتاج إلى دراسة خاصة – أن صورة البيت في الأدب العربي هي أشد الصور قتامةً وشجناً، ففي تلك الأعمال الأدبية التي تجعل المكان بطلاً فيها، يطل علينا البيت بوجهه الحزين، بيوتنا حزينة غالباً. فمثلا رواية قدر الغرف المقبضة لعبد الحكيم قاسم تحتشد بصور عديدة لبيوت عاش فيها الراوي.. وجميعها مقبضة حتى تلك التي سكنها في أوروبا، وكأنما يصحب بيته الحزين إلى كل البلاد، تماما كما كان العربي يصحب ناقته إلى كل البقاع. يعني هذا أننا لا نسكن البيوت، بل هي التي تسكننا.

الشاعرة الإماراتية (ميسون صقر) تطرح تجربة كاملة عن البيت، في شعرها، ومعارضها التشكيلية. ويمكننا أن نلحظ الألوان القائمة والخطوط المعقدة والكلمات القلقة المتهدجة التي ترصد علاقتها بالبيت، حيث مساحات من الصمت والشجن تباعد بينها وبينه، وحين تذكره لا يتشكل لها في نزعة نوستالجيا عاطفية بقدر ما يبدو تاريخا مأساويا طمسه القدر.

وعلى العكس من ذلك، فصورة البيت في الآداب العالمية تعكس حالة من الفرح والسلام الداخلي والحميمية، يقول ريلكة في إحدى قصائده:

البيت قطعة المرج يا ضوء المساء
فجأة تكتسب وجها يكاد يكون إنسانيا
أنت قريب منا للغاية، تعانقنا ونعانقك


وعادة ما تلتبس صورة البيت في الأدب العربي الحديث بصورة الوطن، حتى أصبح كل منهما مرادفا للآخر، فالبيت هو الوطن هو الحماية، هو الأمن، وكما أشرنا من قبل هو القدس. وإذا كان في داخل كل منا وطن جريح، وقدس طريح، ففي داخل كل منا بيت حزين، ربما لهذا تكون بيوت الأدباء هي الأكثر حزنا. وجدتني أفكر على هذا النحو وانأ اقرأ مقالا لفهمي هويدي ينبه فيه إلى خطورة إعطاء قضية المسجد الأقصى أهمية على حساب المواطن الفلسطيني. وضرورة العودة اللاجئين إلى بيوتهم . وهو على الرغم من نبرة التحرج في مقالة الذي صدم البعض والذي لم ينتبه إليه حكماء السياسة العربية، يتسلح بمنطق شديد الإنسانية والحكمة التي تذكرنا بحكمة رجل قريش، فالذي يمتلك بيته أولا يمتلك ذاته.
الحقيقة أن (هويدي) أراد نقل القضية من معناها السياسي إلى المعنى الإنساني العام، وبذلك ينقلها من مجرد صراع عربی إسرائيلي له صبغة دينية أو سياسية إلى معنى أوسع. وهو حق الإنسان في الحياة، في أن يكون له بيت يأوي إليه.

مقال فهمي هويدي نشر بتاريخ 15 اكتوبر 2000م. ولكنه في ظني ما زال ساري المفعول، ليس فقط لأن أحداث غزة الحالية توافقت في شهر أكتوبر أيضا، بل لأن في اعتقادي أن أي تعصب ديني نمارسه سوف يقتل الإنسان داخلنا. فهذا الجنون الإسرائيلي على أهل غزة الأبرياء، يعكس نزعة عنصرية واضحة تطيح بمعنى الإنسانية، في مقابل العقيدة اليهودية. ولا يمكنني أن أبرئ جنرالات حماس في المقابل، لأن الحرب ليست مجرد هجمات كر وفر بلا فكر استراتيجي وتوقع لتداعيات أكبر مما نتوقعه. صحيح أن حماس حققت بطولة وأخرجت غل السنين، لكن الذين دفعوا الثمن هم الأبرياء من الأطفال والنساء، الذين تساقطت بيوتهم بغل صهيوني في المقابل. إن أسر يعض اليهود مهما كان عددهم، يمكن أن نقايض به على أسرانا، ولكن هل يمكن أن نقايض بهم على شهدائنا؟

عزيزي القارئ، قد لا يعجبك كلامي هذا، وتعتبره من قبيل الخيانة الوطنية، لكني تجربتي العسكرية في أكتوبر، علمتني شيئا مهما، أن الحرب عمل استراتيجي معقد، قبل أن يكون بطولة.

من المشاهد التي هزت كياني وأبكتني لامرأة مسنة تنوح على ابنها وهم يخرجونه من تحت أنقاض البيت المدمر. يجب أن أتوقف عند هذا الحد، لكني لم اتمكن من وقف رثاء جليلة بنت مرة، وهو يتردد بداخلي:

يا قتيلا قوض الدهر به سقف بيتي جميعا من عل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى