مقتطف مُحمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (1) (بابُ الدخول 1966-1972م)

* تنويه:
نقلت هذه الرواية الى اللغة الإنكليزية
وصدرت عن دار الصافي سياتيل – الولايات المتحدة الامريكية 2013م،
ولم تصدر طبعتها العربية الاولى.حتى يومنا هذا..



أرجو:
أن تغفروا ليَ كلّ هذا الخيال،
وأن لا تلوموني،
عن عدم التشابه، أو التطابق...
حيث لا تُقارن الحَصاةُبأختِها..!!



• التأريخُ ليس واحداً، عهدناه متعدد الغايات والأوجه.. كل أمة كانت تحكي حكايتها وفقَ ما يناسبُ غرورِّها..


***** ***** *****


• نكذبُ على الآخرين فنظّن أننا خدعناهمُ بكذِبنا، والحقيقة أن الكذب يبقى كذباً متعدد الصور، والحقيقةُ واحدةٌ لم تقبل التغيّر..


***** ***** *****


• العاطفةُ يا سيدي السارِد سوف يفْسِدُها العقل بكلّ يقينّه.










عفرةُ غبار المجلدات المتراصّة، جعلتني أهبطُ الى الأسفل. فكان أماميّ ممرّ صار يفضي إلى انفراجِ الظلمةِ.. صرتُ أتطوّحُ حتى وصلت العمق.. كانت تحت عينيّ حياة تغصّ بالذين أثقلتهم تواريخهم، وكأنهم يئنّون تحت ذلك الضغط، صمتٌ مهمومٌ، يتكاثف. كتبٌ كثيرةٌ تراصَفَتْفي الرفوفِ، وملأت المكان برائحةِ الحبر الطباعي.
يهودا ناجي


















بابُ الدخول
1966-1972م




"أنا ابنُ مَن بعضُهُ يَفوقُ أبا ال باحِثِ والنَّجلُ بعضٌ من نَجَلَهْ"
• المتنبي




1
الرجلُ الوحيدُ الذي دخلَ الى ذلك المكانِ، وبعد عشرات السنين، هو الذي استطاعَ وَصفَهُ بكلّ تلك الدقّة المتناهيّة.. بيتٌ بطابقينِ فيه نافذة واحدة تشرفُ على الباب الرئيس، ومنها يتفحصون الطارق. يعيشُ فيه ثلاثة اشقاء، (يهودا، حسقيال، وسناء). لا يمنعون عن أي محتاج حاجة، ولا يردون سائلاً.. خاصة في أمور الطبّ.. يهبون الدواء لكلّ مريض أو مصاب، شهرتهم طغت آفاق المعمورة، يأتي إليهم الناس من كلّ مكان.. خبرتهم متوارثة في الاستطبابات والعلاجات الناجعة، وبيتهم هذا يقصده القاصي والداني..
قال "أبي" بأنهم لا يتركون بابهم مفتوحاً على الإطلاق ولا يدخلون الى بيتهم غريباً، ومهما كان السبب.. يقضون حوائج الناس من تلك النافذة التي رأيتها، بدون أن يفتحوا بابا لأي كان. لم يتعرضوا لحادث، ولكنهم يتوجسون خيفة مما يحدث لأقربائهم في أماكن أخرى.
يوم دخلت أثارني التأكيد على طارق الباب، حتى عرفونا، من بعد أن تفحصتنا الأعين جيداً، وغلقت علينا الباب برتاج كبير. لم يكن مضيفنا بملابس نومه، بل كان يرتدي بدلة بهيّة ويضع ربطة عنق، موشاه بخطوطٍ لامعة، ويفوحُ منه عطر نفاذ. لم يسأل لأنه بعد أن شاهد صار يعرف ماذا عليه فعله.
كنت قد رأيت أمامي باحة مضيئة، ودرجاً تحته بئر ماء. شاهدت "حسقيال" يركض اليه ويعود بدلو ماء بارد غسل به رؤوس أصابع يدي التي احترقت بالدهن الساخن، يومها غسلها من الدهن وراحت شقيقته (سناء) تجلب شاشاً ومرهماً وشيئا آخر لا أتذكره. كنت أشعر بألم الحرق، وراح يخفت تدريجياً، بسبب فعالية الدواء السريعة، حتى نسيته، سألني إن كنت قد سجلت في المدرسة فأجبته:
- "أمي تقول في العام القادم".
لم يكن "أبي" ابن جارهم، وحسب، ولكنه أحد الذين يعتمدون عليه في إدارة أملاكهم وخاصة دار السينما التي كانت بإدارته ومسؤوليته. كذلك عمي "صبحي" يعمل لديهم في شاحنة نقل "الكيروسين"(1)، فاهتموا بي وقدموا لي أكثر من قطعة حلوى وكنت أرى أبي يشير برأسه لي يشجعني على أن آخذ منهم ما يقدموه لي. رحت أنظر الى الطابق العلوي بعد أن نزلت منه قطة بيضاء، كأنها تتهادى مع أنغام "الغرامفون" الذي كان يصدح بصوت "اديثبياف" تاركاً رهبة داكنة، وطيبة.
قالت المرأة بأن القطة اسمها (سَنّونَة)، وسألتني إن كنت أحبّ القطط، فهززت رأسي بالإيجاب. ثم ابتسمت وكأن ألم الحرق قد خفّ عني وجفت دموعي، وبقيت أنظر الى أعلى فقد كانت هناك في الأعلى غرف بعدد الغرف التي في الطابق السفلي. ثم أخذتني من يدي وراحت تساعد شقيقها بالدلك الدقيق بالمرهم لتفادي آثار تلف الجلد الذي أحدثه الحرق، كان ينزل به برأس اصبعه من ساعدي الى رؤوس اصابعي بتأنّ، والبسمة لا تفارق شفتيه.
لمحت إحدى الغرف.. تبينت لي من فرجة بابها تغصّ بالكتب المتراصة من الأرض، الى السقف. وكانت هناك آلة كاتبة ترفرف فيها ورقة بيضاء كأنها تتراقص مع نغمة الأغنية الناعمة التي تنشر سحرها في البيت العابق برائحة النظافة، والنظام.
كلما قرأت وصفاً جديداً لذلك المكان تحررَّت حمامة بيضاء من قفصها وراحت ترفرف في الفضاء الحرّ، كأنها خارجة من بين صف الكتب الطويل الذي تنتظرني قراءته..
كان "ابي" يصغي الى الرجل الذي خرج من تلك الغرفة، وهو يقول:
- (كان يمرّ في الاماكن الشهيرة، ويصفها.. بعد أن نفوه قرر أن يبدأ برحلاته التي قام بوصفها والتي شملت "ليبيا"، "أوكرانيا"، "إيطاليا" و"صقلية". ترك أثرا عيّناً مدوناً بوصفه زائراً احترف الوصف.. كما وصف مدينة "بابل" إلا أنه لم يزعم أنه كان قد زارها في كتابه).
بقيت ذاكرتي تسجل كل شيء، الروائح الطيّبة، النظام الصارم، الاحترام العظيم، الموسيقى الساحرة، وكأني حقاً دخلت السينما في المكان الذي يعيش فيه الممثلون، الوانٌ باهرة، أزهارٌ متنوعة، أضواءٌ مريحة، أرضٌ مفروشة، ونفوسٌ مرهفة.
"تخيّلت وجه (هيرودوتس) الأسمر وهو يعتمِر شالاً أبيضَ، يحميه من شمسِ الشرقِ اللاهبة، وأتربتهُ التي تزكم الأنفاس. وكأنه يجلس في إحدى مقاهي المعمورة، ليشرب قدح شاي مع مجموعة رجال"!!.
- "فعلاً.. كان للرجل لحية بيضاء كثة، ويرتدي قميصاً أبيض، وعندما يتحدث يلوح بيديه اكثر من أي شرقي".
عينا "أبي" كانتا لا تلتقيان إلا به، وكأنهما تأخذانه الى عتمة زرقتهما.
ضحك الرجل ملياً ثم دنا إليّ مقبلا جبهتي، وبقي مستمراً في الكلام. بعد ان فتح الكتاب على صفحتين متقابلتين، مضيفاً:
- (هنا يصف في كتابه لقاء له مع "مخبر" في "اسبرطة" ويبدو أنه قد عاش فترة في "أثينا". عام 444 ق.م انتقل من أثينا إلى مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا تدعى "توري" حيث بدأ بكتابة تاريخ "هيرودوتس" في تسع مجلدات، واستغرق في كتابته ثماني سنوات. وهو مؤلفه الوحيد الذي وصلنا كاملا).
صرت أصغي مثلما يصغي أبي الى الرجل البالغ الأناقة، الواضح المخارج. فبقيت تلك اللحظات مجهولة غامضة، وخانقة. وكان في المدى أسطر تترى:
- البوابة المقفلة فتحت..
للتاريخ بوابات لا تفتح إلا بلفظ مطلسم وضعه ساحر في حقيقة أمره كان حاكم زمانه. المنتصر حاكم الزمان الذي احتجز التاريخ، لصالحه.
كيف سيحرر كل تلك العبارات المُحرِّضة على أن تكون التاريخ البديل.
كان أبي يواصل الإصغاء، بعد أن لفّ "حسقيال" يدي المصابة بالشاش جيداً، ثم أخذتني "سناء" من يدي وراحت تلعب معي، كعادتها. أسعدهم أن تكون شقيقتهم فرحة بي، ومستمتعة.
كنت معها أتحدث بحميمية، وصار ضحكنا يملا البيت حيوية...
شاهدت آلة كاتبة مهملة في نهاية البيت.
- "سأكتب بواحدة مثلها ذات يوم".
لا أدري كيف نطقت بكل ذلك الكلام، وكأنني كنت أعي ما أقوله، وأحتكم على مستقبل كان يجري أمام عيني مكتوباً وأقرأ سطوره بعفويّة.
قالت "سناء" سنسأل أخي إن كانت تلزمه أم لا ؟، فأجاب بكلّ ثقة: - "هي له"...
وأضاف قائلا:
- ما زالت تعمل بصورة جيدة. فهذه هي التي كتبت عليها "عودة هيرودث"(2)، ستدخل المدرسة وتتعلم وستعلم "ابراهيم" الكتابة عليها، هو لا يعرف غير لغة الأرقام والحسابات عساه يوماً أن يعرف لغة التأريخ.
للخالة "سناء" جمالٌ باهرٌ، مظهرٌ أنيق جداً، مُعتنية بشعرها السبل الفاحم، ترتدي ثوباً جميلاً، وتعلّق على جيدها نجمة لامعة. صوتها دافئ، ضحكتها ساحرة، وخطواتها مليئة بالثقة. طولها فارع وخصرها نحيل. عيناها نجلاوان، مشعتان. تفوحُ منها رائحة طيبة جداً.. تشجعت فقلت لها:
- " إنك تشبهين الملكات في أفلام السينما يا خالة"
- "أنا عمتك.. ولستُ خالتك"!!
بقيت تسألني عن وصف تلك الملكات والأفلام التي رأيتها..
كنت أطلق العنان لمخيلتي البريئة التي فاضت بما لا أستطيع نسيانه. الزمن هنا يتبادل المواقع. ما بينهما يقف "هيرودث".. كأنه يجفف الدموع العصية عن التوقف.. للزمن رائحة ما، غيابها يعيق الباحث المدمن عليها. لا يستطع أن يكفّ عنها، وإن غابت يبدأ كأي مدمن بالهياج. يبحث عن تلك الرائحة، وذلك التورط اللذيذ. عرفت يومها سرّ اهتمامه. يحدثني دائماً عن الرجل الذي أحبّه وهوَس به الى حدّ يعتبره أول كتبة التأريخ...
صرتُ أنا كذلك، فيما أبحثُ عنه في الكتب التي مرت أسطرها تحت عيني، "هيرودث".. كأنما صرتُ أمشي معه، وأكلمه.. تاريخ موصوف في كتب مرصوفة، الرجل في زي عربي بين العرب، ويركب الصحراء.
كنتُ أراه شامخاً يطلع من ثنايا التخيل، ولم أكن أعرف يومها غير كتب العرب المكتوبة بلسان العرب، كتبهم التي تغص بالكلام، والأحلام. تراصفت وفاحت برائحة تاريخهم، وفعلهم.
كنتُ الطفل الذي يقرأ أحلام الكتب، وكلامها..
***** ***** *****
قالت عمتي "سناء":
عندما لحظتني أحدق بـ"الغرامفون"، الذي يدور صادحاً بالأنغام المدهشة..
- "هل تعجبك الموسيقى"؟..
- "تعجبني"
- "اديثبياف".. مطربة فرنسية لها صوت يروقني..
بقيت تواصل القول:
- "اسمعها ولا أفهم لغتها، لكنها تجعلني أشعر بكل حرف تنطقه"..
ثم أردفت وهي تشد بفرح على أصابعي..
- "الأنغام العظيمة لغتها واحدة"..
أصابعي الباردة الصغيرة بين أصابعها الدافئة الكبيرة، تأخذني لتجول بي الطابق الثاني، رأيتُ غرفة الكتب، وبقيت أجول بعيني على حافات أغلفة الكتب الملونة، رأيتُ تراصفها..
- "ستقرأ كل هذه الكتب عندما تكبر"!
- "ما أكثرها"؟
- "عندما يبدأ الإنسان بحرف جنب حرف لتكون الكلمة والكلمة جنب الكلمة ليكون القول.. سيعجبك القول والقول يتبع القول.. هكذا هي الكتب"!!
- "يعجبني"...
كنت أصحبها من مكان إلى آخر، لا أفارقها..
انتبهتُ إلى شيء ما كان معلقاً في وسط حائط إحدى الغرف.. عيناي بقيتا عليه..
- "تلك اسمها "ماندولين"(3)..
كانت الأصابع الدافئة تأخذني برفق حنون. كأنها توّد أن تسمعني كل ما تقوله لنفسها:
- "موسيقى البيت المنتظمة، تتهادى بإيقاع حياة مليئة بالتواصل مع الكون، عندما تسكت تلك التي نظمها العقل البشري. لن يحلّ إلا صمت مطبق"..
بقيَ صوتها الناعس مع طراوة الأنغام يواصل القول:
- "تقتحم رأس الانسان موسيقى الحياة من كل جانب مثل حفيف الهواء من النوافذ، أو زقزقة العصافير على الشجرة، الكون من حولنا مجموعة نغمات لن يتوقف الانسان عن التقاطها، والتفاعل معها"...
كانت إضاءة الغرف تعطي شعورا أن حياة مليئة تدبّ في كل زاوية من زواياها، تبدو خطوط بلاطات الأرض الفاصلة خالية من الأتربة. فكل غرفة ندخلها تفوح منها رائحة طيبة. فالهواء فيها يدور عبر نوافذ مزججة، مفتوحة في مواجهة الشجرة.. كذلك الضوء..
****** ****** *******
بعد الرابعة عصراً، من كل يوم، تأتي "العمة سناء" إلى بيتنا، وقبل أن تأتي، كانت ترمي حجراً صغيراً على الباب، وما إن نسمع ارتطامه بالباب حتى نتأهب جميعا، لاستقبالها. نفتح الباب لها، تأتي دون أن تتأخر، ولا تودّ أن تنتظر على الباب. أحياناً كانت تخاف ولا تأتي إلا أن يؤمَّن لها الطريق، حتى لو كان دربها لا يبعد سوى عشر خطوات. ترفض أن تتقدم خطوة واحدة ما لم تتيقن أن دربها آمن.
كذلك يحدث العكس عندما تريد الرجوع إلى بيتها، تبقى واحدة منهنّ تؤمن لها الطريق، حتى تدخل العمة "سناء" بيتها. ولم يحدث أن نسيتْ أن تجلب لي معها في كل مرة قطعة حلوى، او قطعة خبز محلى، أو بعضا من فاكهة مجففة. تأتي مسرعة، ملهوفة، ممتلئة بالبهجة، وضحكتها واسعة، وكل مرة تضمّني إلى صدرها بشوق وسعادة..
تأتي بعباءتها السوداء، الموشاة بخيوط لامعة، وتعلّقها كعادتها على المسمار الذي وجدَ لذلك الشأن، المثبت بالحائط خلف الباب. تكشف عن ضفيرتين طويلتين من شعرها الاسود الفاحم، وهما تتمرجحان بمرح على كتفيها، مثل قرطيها الذين ينوسان على خديها البضيّن. ولم تبدل العقد الذي يحمل نجمة فضية صغيرة، متأرجحه على الجيد الذي استقرت في بياضه نقطة حُسنٍ بلون القهوة، كأنما لتكشف نقاوة بشرتها. ترتدي فستاناً فاتح الألوان، أو ألوانه متدرجة، ذات ملمس ناعم، وتفوح منها عطور طيبة.
أراها مثل جدتي التي كانت تغسل يديها عشرات المرات في اليوم الواحد، وتبقى تفوح منها رائحة الصابون الطيبّة، طوال اليوم. ودائماً تحرضني على أن أغسل يدي، قبل أن تناولني ما بيديها، غالباً ما أنتظرها عند عتبة الباب الخارجية، وتقبل "جدتي" و"عمتي" ثم "أمي"، مثل كل يوم. ولا يؤخرها عن موعدها أمر سوى يوم "الجمعة" تأتي بعد انتهاء فلم العصر، الذي يعرضه التلفزيون، ثم تغيب عنا كامل يوم "السبت"، معلّلة فيه بأنها تنجز بقية أعمالها في تنظيف البيت.
تتعمَّد أن تحدثني بحروف واضحة المخارج، وكأنها تريدني أن اتعود سماع ألفاظها، فأتعلم منها اللفظ الصحيح. تأخذ بيدي، وتحملني، وترفعني الى أعلى، وأنا اضحك معها، وتطلب مني أن أجيبها، وأن أسألها، مستمتعة معها "أمي"، معهن، يلعبن، ويتضاحكن في فناء البيت. وما أن تنقضي الساعة، مثل كل يوم حتى تطلب منا أن نؤمن لها طريقها، لتعود الى منزلها.
****** ****** *******
عندما تحضر تلك الضحكات المنتشيّة الى باحة البيت.. تحضر معها أجواء مشجعة على تواصل المرح، فتكون الضحكات النسوية متواصلة، ومتداخلة بالإشارات، والنقاشات. كنت أشعر أن عيونهنّ عليّ، واهتمامهن بي. كنت ذلك المحور الذي يحاولن لفت انتباهه، وكنت أيضاً أحاول معهن ملء ذلك الفراغ المتناهِ من الفرح. ضحكات شفيفة متواصلة بالغنج، والمحبة، مصحوبة بعبثهن، وكانهنّ صبيّات. يمرحنَّ على عين ماء رقراقة، والبسمة تتسع في الوجوه. كحكايات مفتوحة إلى حكايات أخرى. أو لمزات الأبطال في الأفلام التي كنّ يستذكرنها مما شاهدن على الشاشة. فتعرضها عيونهن، وأيديهن، وحلاوة أصواتهن.
كنتُ بينهن دائماً أتحدث، دون أن أسكت، أو أهدأ صاخباً مع صخبهن، أبقى اتكلم كلمات طفل لا تكتمل. أرى الكلمات صوراً. فأعيدها عليهنّ.. متحولة الى صور أخرى، حيث لا أدري كيف تحضر الى ذهني تلك الخيالات، والانثيالات. أنطلق متحدثاً.. لا يتوقف اللسان عن مواصلة النطق، كببغاء حفظ نهايات الكلمات التي يسمعها، فأكون بينهم "مغوِّغاً" كطفل لا تتواصل حروفه، ولكن كلماتي المنطوقة تترى بتواصل الصور التي أراها.
لم أكن أعرف بأني كنت أخلط ما أسمعه بما أراه.
****** ****** *******
لم تكن هناك أية قصة حبّ بين عمّي "أحمد"، والعمّة "سناء"، كما لمحت لـ"أبي" ذات مرة زوجة عمي "صبحي"، ولم يكن لتلك القصة، على الواقع، أي أثر، بل كانت من صنع خيالها، إذ كانت تغار من الزيارة اليومية التي تقوم بها العمة "سناء" الى بيتنا.
وأشبه بشعلة نار قد أحدثت توترا شديداً بين الشقيقين "ابراهيم"، و"احمد". كأنها هي من تسبب في تباعد الأخوين، بمجرد أن أسمعت تلميحها الى "ابراهيم" بان "احمد"، يتودد الى "سناء"، ولم يتقبل ما سمعه منها، فالأمر يعدّ كالكفر العظيم، كونها أختاً في الرضاعة.
يبدو بان زوجة عمي قد نسيت بأنهما أخوان، ولا يحق لها الشك قطعاً، وإن الامهات قد تساعدن في كل شيء، حتى في إرضاع أولاد بعضهن البعض. وباتوا أخوة.
أما اهتمام "احمد" بـ"سناء"، فلم يكن يتعدى وقوفه حتى يتمّ الاطمئنان عليها، تنفيذاً لطلب "أمه"، فهي التي كانت تريد منه أن يوصلها حتي باب بيتهم، والعودة..
هكذا أوقعت نفسها "زوجة عمي" في عزلة ولم يعد أحد يقبل منها حتى المجاملة، وصارت "سنية" و"امي" لا يكلمانها بأي حال من الأحوال، وكلما تأتي زوجة عمي، كانت العمة "سناء" مع أمي يدخلن الى الغرفة، ويبقين فيها حتى تغادر البيت.
****** ****** *******
أخذ العمل العم "أحمد" مع قرينه "مير"، وبقيّ يصاحبه الى "بغداد"، يساعده في سياقة الشاحنة الكبيرة لينقل من "بعقوبة" وإليها شحنات النفط الأبيض والأسود، وكان لا يعود من عمله إلا كل "خميس"، ثم أخذ غيابه عن "بعقوبة" يطول، و لا يعود كل أسبوعين أو أكثر، وبعدها غير عمله، إلى عمل أخر، ولم يعمل في شاحنات نقل النفط، وصار لا يأتي إلينا إلا كل ستة أشهر، أو أكثر... لكنه بقي يرسل النقود لجدتي، دون أن تراه..
****** ****** *******
صرتُ أعرف بأن الساعة قد أشارت إلى الرابعة عصراً كلما قدمت، وأعرف بانها الساعة الخامسة عصراً كلما غادرت.. بعد لعبة "التوكي "(4)، أو "الراجح "(5)، أو أية لعبة تعمّ عليهن بالبهجة. علاقتها مع "أمي" جداً ودودة. كانت تلك الساعة من كل يوم، تنقضي، وكانها دقائق، تعودنا عليها، تقول "أمي":- بأن يوم "السبت" أطول أيام الأسبوع، وكل سبت من كل أسبوع، تبدأ فيه بغسل البيت كاملاً، متعاونة معها عمتي "صبيحة" وخلال ساعة يكون نظيفاً وجاهزاً..
كل الغرف الخمس متجاورة، ثلاث منها على اليمين، وغرفتان على الشمال. وثمّة باحة ترابية ممتدّة حتى شجرة التوت الكبيرة المتوسطة بحجم تشابك أغصانها تتوسط باحة البيت. بجانب الشجرة بيت الكلب الذي دائماً يغسله "أبي"، وكذلك تغسل "أمي" أو "عمتي" ما يحيط بالبيت الخشبي الصغير التابع لمنام الكلب، ثم تكنس بعده باحة البيت كلها، من بعد أن تجرف الأوراق المتساقطة من الشجرة..
كانت واحدة من الغرف فيها أدوات الطبخ، وصاروا يسمونها المطبخ، والتي كانت تجاور غرفة عمتي "صبيحة"، والتي وضعت فيها منضدة عريضة، وجهاز تلفزيون صغير ماركة "نصر" المصرية، وثمة سريران خشبيان متقابلان. أرضية الغرف رصفت كما رصفت بقية الغرف بطابوق أحمر عريض.
أما غرفة معيشتنا؛ كانت هي أحدث الغرف، لأنها بنيت فيما بعد من بناء تلك الغرف.. جدرانها مطلية بالجص الأبيض والذي أعطى عمقاً مفتوحاً عن بقية الغرف... فيها خزانة ملابس متكونة من ثلاثة أبواب، وثمة سرير كبير يتوسط الغرفة، وفي نهايتها، وضع سريري، بجانبه منضدة حملت الى السقف الكثير من أفرشة وأغطية النوم، والتي كانت أغلبها جديدة، ولا تستخدم إلا عندما يزورنا الأقارب.
أما الغرفتان الأخريان فكانت واحدة لمبيت أعمامي، والثانية تنام فيها جدتي مع عمتي.
****** ****** *******
لم تعد العمة "سناء" تأتي بسبب الحوادث التي سمعوا بها، وما ألحقت بهم من خوف، ورعب..
إذ وصلت الامور ببعض الناس بتعرضهم للأذى المباشر، سواء كانوا في الأسواق، او في الطرقات، وأخذ الخناق يزداد عليهم، يوماً بعد يوم، وصارت القصص يوماً بعد آخر يصعب تصديقها، وصار على الفرد، ألا يمشي وحيداً في طريق، وعليه أن يتجنّب الطرقات التي تنعدم فيها السابلة..
****** ****** *******
لم تكن صورة "العمة سناء" غائمة في الذاكرة، كما صورة "العم "يهودا" التي لو حاولت استحضاره، وتخيله لبدت لي صورته غائمة مشوشة. لأني لم أحظَ بالوقت الكاف لأحفظ ملامحه، كما حفظت ملامح العم "حسقيال".. إذ حظيت بوقتٍ كافٍ لحفظ ملامح العمة "سناء". فدائماً الرجال لا يتواصلون مع الأولاد الصغار، عندما يحظون بنفس الفرصة التي تحظى بها النساء، فثمة ألفة ناعمة تطلقها طبيعتهن، تجعلهن أكثر تقبلاً، ويكون نحوهن الميل، وليس الاستغراب. صورة جميلة لم تتغير كلما أتذكرها. ودودة، وحنونة. عرفت فيما بعد أنها متعلمة جداً..
كنت ذلك الطفل الوحيد المحتفى به، وهو المتحفي بما حوله. أشارك بالكلام مع من يسألني ويتواصل معي، ويستمع إليّ. فأحكي له كل ما أراه في التلفزيون، وأكون متشجعاً كلما وجدت أحداً ما يصغي إليّ.
دائماً تتحرك عربات، وأخيلة تركض أمامها، وثمة أحداث، تتداخل ما بين المتخيّل، والمرئي.
****** ****** *******
صرنا نفتقدُ العم "احمد"، ولم نعد نراه، كل شهرين مرة، صارت زياراته تتباعد، وكل مرة تزداد عن المرة السابقة.. لم يتزوّج طيلة حياته أبداً، وبقي متنقلاً بين الأعمال الحرة، وكنا نسمع عنه بأنه شوهد في الموصل، والبصرة، والسماوة. لم يعد إلى بيت أهله، إلا بعد وفاة أمه. حيث لم يستقر ولم يتعود أن يثبت في مكان..
***** ****** *******
قبل يوم واحد من ليلة مقتل "حبيبة" الخياطة في دربونة "التوراة"(6).. لاحظت العمة "سناء" رجلاً كان يخرج من مرآب السيارات، وهو يحاول أن يتسلق السياج الخارجي للبيت، ويراقب بيتهم.
عندما طلب منها "أبي" وأخواها وصفه، لم تستطع أن تصفه بصورة واضحة، لأنها في الأصل قد دخلت في نوبة رعب شديدة كادت أن تطيح بها، وجعلتها تخاف الوصول حتى الى الحديقة، وبعدها انقطعت حتى عن المجيء إلينا.
شاع الخوف بينهم.. إذ صاروا واثقين من أن احداً يتربص لها، أو لأخوتها، تحددت حريتهم حتى في دارهم. حيث دار الشك بأنهم تحت مرمى المراقبة، وعليه استجد القرار لديهم بالرحيل، وليس لديهم أغلى من أرواحهم.
ومن بعدها بيوم وصلهم خبر مقتل "حبيبة الخياطة"، تلك المرأة التي لا حول لها ولا قوة. وكانت تربطها علاقة طيبة مع كل جاراتها. وجدوها في الصباح مطعونة بسكين، وأشارت التهمة إلى ثلة من أبناء جيرانها.
كذلك وصل خبر عن عائلة السيدة "راحيل" المكونة من أربعة أولاد، وبنتين، وجدوهم مقتولين، في بيتهم بعد أن سلبهم القتلة كل ما يملكون، وقال أحد شهود العيان، بأنه شاهد نقص الاصبع الذي كان يحمل حلقة الزواج الذهبية.
ذلك الخبر جعلهم يبيتون القرار؛ "أن يعبروا محنة الضيق تلك، ولابد أن يأتي اليوم الذي سوف يعودون فيه إلى بيتهم. كونها محنة عابرة، ستزول حتماً"،
البلد هو الأهل، والهواء، والماء؛ لا أطيب ولا أنقى منه هواء، ولا أعذب منه ماء.
المغدورون توالت أخبارهم، وصارت تنشر ظلالها المرعبة في كل شيء...
- كف مطبوعة بالدم وجدت على اغلب الابواب ليلاً.. !!








.../...
يتبع





1- * الكيروسين: من أنواع الوقود يعرف بالنفط الأبيض
2- * مؤرّخ يوناني وُلد وعاش في القرن الخامس قبل الميلاد. 484- 425 ق.م. لقب "أبو التاريخ"، ويعد أول مؤرخ قام بجمع مواده بطريقة منهجية وعلمية، وترتيبها وفق سرد تأريخي، وكان معاصرًا ل"توكيديدس" و"سقراط" و"يوربيدس".
3- * آلة موسيقية..
4- * احدى لعب البنات..
5- * احدى لعب الاولاد..
6- * حسبما ذكر عمي "جاسم" الملقب بالطويل: كانت هناك ثلاثة معابد لليهود في بعقوبة الاول كان بالقرب من عيادة الدكتور "اسكندر" وهو اول طبيب يفتتح عيادة في السوق القديم، والثاني كان خلف بناية المتصرفية التي تعرف ببناية السراي. اما الثالث هدم وبني فوقه أول مدرسة للبنات، وسميت بمدرسة النجاة للبنات.

1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى