عزيز معيفي - في أدب الاستعجال نص "أنت دولة يا سعد" لليوسفي من الاحتجاج إلى الاقناع الأنيق

اليوسفي قاص مغربي، دائم التأهب لمتابعة الأحداث والتعليق عليها، من منطلق قناعاته التقدمية، بعد الابتعاد عما أسميه "الغطس السياسي". ومردُّ هذا النعت يعود إلى العادة السيئة المتمثلة في تسرع بعض السياسيين في تحاليلهم المهزوزة، وانحسارهم في سطح المجريات، دون امتلاك رؤية ثاقبة للوصول إلى عمق الأمور. ولذلك يرتمون في الماء دون تعقل. هذا التهور سببه الرئيسي نوع من الإحساس بانتفاخ الذات، وكأنهم تحولوا إلى "كارتيلات" سياسية قادرة على فهم وتحليل كل الأحداث عالميا.
اليوسفي قاص مبدع، يستطيع قراءة الواقع السياسي والاجتماعي من منظور قصصي فني. وهي مسألة غير يسيرة، لأنها تتطلب قدرة حقيقية على الترميز والتحويل الفني لأمواج المجتمع المتلاطمة، وقد تكون أحيانا هوجاء ومحطمة للصخور.
عامل آخر جعله يحلل ويتابع معركة نساء ورجال التربية والتكوين من أجل حقوقهم المشروعة، يتمثل في تجربته النقابية، وانخراطه النضالي الصادق لعقود في الدفاع عن المدرسة العمومية وعن كرامة المدرسين والمدرسات.
من حدث الإضراب إلى النص القصصي:
ينتمي الإضراب إلى ما يصطلح عليه بالاستعجال، شأنه شأن الكوارث الطبيعية، أو الحرب، أو حملة قمع شاسعة، أو اضطراب سياسي كبير..
الاستعجال يختلف عن السير العادي للحياة اليومية، لأنه يُدخل الناس في إيقاع جديد موسوم بمشاكل جديدة وبمعاناة تحمل آثارا أعمق.. ولذلك فالكتاب والروائيون والقصاصون والمسرحيون والسينمائيون.. يتعاملون مع الاستعجال بنوع من الثبات والنمذجة، لتجاوز ما يجعله قابلا للتحول السريع على مستوى مكونات الخطاب الفني القصصي أو الروائي أو المسرحي، لكي يتحول إلى أدب يخترق الزمن ويتميز بالإبداعية ويمتلك القدرة على الصمود في وجه النسيان.
الأدب الفلسطيني شعرا أو رواية يرصد الحالات الكيانية الإنسانية التي يمكن القبض عليها، ويحولها إلى صمام أمان ضد الصهيونية بما هي وجه للكراهية والجشع الامبريالي. وهو بذلك يرسم معالم الحرية الإنسانية جمعاء، ويقيها من الوحشية مهما بدت أسبابها وذرائعها مغرية.
بالانتقال من الكوني إلى المحلي، كتب اليوسفي على أهل التربية والتكوين من خلال شخصية "سعد"، وهو بذلك سعى لخلق شخصية تخييلية تتميز بالنمذجة: شخصية ترمز إلى كل من يعمل في حقل التربية ويكد من أجل وطن قوي وشعب سعيد. وبذلك تحول النص القصصي "أنت دولة يا سعد" إلى نص دائم يخلد لحظة صمود، ليس فقط من أجل الدفاع عن حقوق الشغيلة التعليمية، بل أيضا من أجل صنع مغرب يتقدم بفضل التضحية والبدل والعطاء.
شخصية سعد في النص:
تتميز النصوص الإبداعية عن بعضها، حسب ما يمنحها قوة الإبداع والتعبير. وقد يكون عنصر الزمان أو المكان أو الحدث أو الشخصية..
يطول الحديث في هذا الصدد، غير أن حالتنا هذه تبين بشكل جلي أن شخصية "سعد" لعبت دور قطب الرحى داخل نسيج النص. ولذلك نجد أن النص غزل سداه انطلاقا من لحظة البداية بالتعرف على "سعد" والتآلف معه، ليكتشف القارئ مكامن هذه الشخصية في ذاته ووجوده.
هذا الدور الانطولوجي يجعلنا ننفذ تدريجيا إلى شخصية "سعد"، عن طريق تتبع نشأته وأسباب ترسخ قيم القناعة والإيثار والتضحية في نفسه، وكيف أصبحت العائلة بالنسبة له حجر الزاوية في رؤيته للحياة.
شعرية "البساطة" غلفت دلالات البداية في النص، ولا أدل على ذلك من الجمل القصيرة والبليغة التي تتجه مباشرة إلى عمق نفسية المتلقي: "قلبي أبيض" ـ "والدي مواطن بسيط من القاع الشعبي".. "يعمل بيديه لنأكل" ـ " اللقمة الحلال تشبع البطن الجوعانة.. ولو هبطت إلى مستوى الخبز والشاي، فإنها تصنع الكرامة".

هذه الصور السريعة تخلق سياقا دلاليا تقابليا، يحتمل وجود قيم أخرى لا تُذكر مباشرة في النص، لكن المتلقي يستشفها عن طريق لعبة الإلغاء القصدي من العملية التواصلية. فالقلب الأبيض يقابل سواد القلب عند الجهة المجهولة. وكذلك حين يقول "والدي مواطن بسيط من القاع الشعبي" فهذا يتعارض مطلقا مع كائنات اجتماعية تحتل المراتب العليا، ويتميز سلوكها بغلبة والقهر والسيطرة والجشع.
لن يكشف القاص عن هؤلاء إلا عند اقتراب النص من بلوغ قصده، أي اكتمال دور "سعد" في حمله ثقل العائلة ومسؤولية المتعلم، وكذلك هم البلد. عندها يفصح السارد عن الطرف المخفي في عملية التضاد: "عندما أعود إلى المدينة أرى الأغبياء من أبناء شعبي يحتلون المناصب العليا ويعبثون بالمال العام".
شعرية التفاصيل والرفع من شأن المعلم:
يلجأ اليوسفي إلى انسيابية بديعة في الحكي، فينقل القارئ من مستوى المتأمل لنص مكتوب إلى مستغرق في حياته الخاصة.
لذلك يتحول النص إلى شرك بديع يأسر اللب عند الاستغراق في ملامسة تضاعيف الحكي. وهي عملية ليست بالسهلة مطلقا، لأن ديدنها الصدق والرؤية الثاقبة التي تصل بك إلى أعماق ذاكرة المتلقي لتنطق الصامت والمنسي وأحيانا المسكوت عنه.
المسار الحكائي الذي قطعته شخصية "سعد" ليس فيه "ما خفي أعظم" ـ كما يقال ـ وهو يختلف كنموذج إنساني عن أولئك الذين يجثمون على رقاب الفقراء، ويغتنون بفضل إتقانهم "فن" اقتناص الفرص على حساب ما يُنمي سبل إسعاد الشعب بسد احتياجاته الكريمة.
"سعد" ليس لديه إلا روح التضامن التي أُغدقت عليه ما أن قرر أن يتحول إلى معلم/ فاعل تنموي في وسط قروي جبلي يفتقر إلى أشياء كثيرة، لكنه يتميز بالغنى الروحي الذي يطبع حياة البسطاء من المغاربة ـ بالغين ـ وليس المخاربة ـ بالخاء ـ الذين حجبهم النص، وأسقطهم من فضائه الحكائي.
الدولة كمعطى ذاتي في النص:
الدولة حسب منظري علم الاجتماع السياسي هي أجهزة تنتج وتعيد إنتاج نمط اقتصادي وسياسي ومجتمعي.. تطورت الدولة من مفهوم الدركي الذي لا يتدخل في المنافسة إلى الرعاية الاجتماعية. فهي تتدخل عبر التخطيط وتحمي اقتصادها، فضلا عن الأمن الداخلي والخارجي.. فماذا لو تخلت عن أدوارها هذه وانصاعت لتعاليم الليبرالية المتوحشة التي تقهر البلاد والعباد؟ هذا السياق هو ما أدى ببعض المتنفذين إلى شن حملة على المدرسة العمومية والمعلم، بهدف تشويه صورتهما النمطية في الأذهان، وتحويل الاستثمار في الموارد البشرية إلى بئر يمتص تجار الأزمات ماءها.
هكذا جاء ـ من العدم ـ من اعتلى منصة إعلامية، ليفتي في شؤون المعلم، ويبشره بأن دوره ستنهيه الدولة في القريب العاجل إذا ما لجأ إلى حق الإضراب لصون حقوقه وكرامته!! وما أصدق ما قاله الخالد د. محمد عابد الجابري: ( إن كثيرا من رجال الدولة "صانعي القرار"، إما متخوفون من رجل التعليم أو يحتقرونه...)
اليوسفي قام في النص بإسقاط لعملية أدوار الدولة على "سعد" بحيث أنضج ملامحه كشخصية فنية عن طريق إعلان مبادئه وقيمه الأخلاقية وجعلها متمركزة على ثقافة العطاء وليس الأخذ. هو أيضا يقدس المكان الذي آواه كمربي، كما يقدر عائلته، وقد ساعد تلميذه حين مرض، واختار إيقاف تعليمه العالي، ليتحمل مسؤولية العائلة ودعم أخاه البكر "أحمد".. بل أجل زواجه، وتكوين أسرته الصغيرة، لدعم عائلته الكبيرة.
وفي لحظة معينة سينبه السارد شخصية سعد إلى أنه يعوض دور الدولة في المسؤوليات المتعلقة بالرعاية الاجتماعية. ولذلك وظف ضمير المخاطب إجلالا له ولأشباهه من أستاذات وأساتذة هذه الأرض المعطاء.
من جهة أخرى استعمل "أثر الصدمة" Effet de choc ليحول المخاطب إلى جمع يمرر عبره خطابا واضحا، يمسح كل ما تعج به الساحة الإعلامية من مغالطات تروج بهدف افتعال الحواجز التي تمنع الرؤية، وتشوش نظرة التعاطف الذي يكنه الشعب للمعلم.
وقد جاء أثر الصدمة على شكل نفي قاطع موجه حصرا للشخصية المحورية: "لا يا سعد".
بعد ذلك انتقل إلى المفاضلة بين "سعد" وضمير الغائب "هم": أنت أولى منهم. وقد سبق الإشارة إلى أن ضمير الغائب يحتمل مؤشرات سلبية قائمة على تغييب المنتفعين والمتاجرين بأرزاق الفقراء من الفضاء التواصلي الإيجابي للنص.
عندها يعدد السارد الأدوار التي يقوم بها "سعد" متّبعا إيقاعا تصاعديا، يفضي في الأخير إلى إعلانه تجسيدا للدولة.
بهذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن الدليل "دولة" في العنوان لم يحمل "ال" التعريف، غير أنه في نهاية النص اتصلت به، وهي تفيد مطلق المعنى.
شخصية "سعد" تحولت إلى رمز أيقوني ثابت المعنى، ومتعال، يجسد عظمة المربي، وينزهه عن مختلف الدسائس التي تُحاك ضده من طرف دعاة الجهل والتجهيل.
اليوسفي لجأ في هذا النص إلى سمفونية قصصية ترفع الهمم، وتدعو للانخراط الإيجابي في صنع أجيال المستقبل. هذه السمفونية اختطّت بفنية عالية، أزالت عنها خشونة الخطاب النقابي الصرف، وألبستها جلبابا قصصيا بديعا.. وما أشبه هذه القصة باليد التي ستقتلع الأعشاب السامة لتزهر ألف زهرة.

عزيز معيفي
مهدية 18 نونبر 2023




1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى