مقتطف مُحمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (3)

3

اكتشفتْ جريمة قتل "العم موشيه" عقب انتهاء عرض فيلم الكاوبوي الامريكي "من أجل حفنة من الدولارات"(11) ، بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً، مع نهاية يوم حافل بالمشقة والزحام. كان فيلماً ناجحاً وقد حقق امتلاءً في القاعة، وعدّ من أكثر الأفلام جمهوراً، لكن اليوم السعيد لم ينته كما بدأ.
بقيت ماكينة عرض الافلام تعمل لمدة اضافية بعد كلمة النهاية التي بقيت مرتجفة على الشاشة، فلم تشعل الاضواء الملونة إشعارا بانتهاء العرض، (ولم يُدق الجرس الكهربائي إيذاناً بالخروج من الصالة كالعادة). فبقي أكثر الناس في مقاعدهم، ينتظرون ويترقبون إضافة أخرى ستلحق بالفليم. بقيت الحالة مُعلّقة، ومحيّرة، وأحدثت همهمة عالية، وتذمّراً شديداً مما تطلب من "أبي" أن يظهر بباب الصالة، متجاوزاً الحرج، ومعتذراً:
- "خلل فنيّ أصاب مصابيح الإضاءة".
حتى اقتنعوا بالخروج. وصاروا يغادرون القاعة. ثم أشار إلى "ياسين دمعة" أن يذهب ليستطلع السبب (سبب عدم إيقاف ماكينة العرض)، ويضيء مصابيح الصالة، فاختار الدرج الشمال القريب من باب الإدارة. في الوقت الذي تزامن مع نزول أغلب الجمهور من الدرجين المتقابلين، بينما هو يصعد واجه صعوبة صعود الدرج المليء بالنازلين إلى الطابق الأرضي، من الطابق الأول. تمكّن بعدها من الوصول إلى الطابق الأول، ومنه صعد الى الطابق الثاني.. حيث غرفة التشغيل. كانت مصابيح الممرّ إليها مطفأة، وكذلك مصابيحها الداخلية، أيضاً. طرق الباب وحاول فتحها فلم يفلح، وجده مقفلاً، حاول دفعها، ولم تكن مُقفلة من الداخل، وبقيت أكرة الباب تدور في مكانها، لا تتحرك. الباب تراجع خطوتين ثم دفعها بكتفه ولم تستجب، فحدس بأن قطعة لوح من الخشب الصلب، حشرت خلفها، كالعادة عندما يريد النوم. الرجل لا تأخذه سِنَة النوم طويلاً، ولا عميقاً. فأي طرق خفيف على الباب، سرعان ما يردّ عليه، ولم يكن هناك أيّ ردّ. حاول أكثر من مرة، ولم يرد سوى صرير الماكينة الهادر من الداخل. رجع بعدها إلى "أبي" في الإدارة يخبره بعدم الردّ، ولم يرقه ما سمعه منه، وكاد أن يشتمه:
-"قالها أبو المثل (تعِّبْ أجدَامك ولا تعِّبْ لِسانَك )(12).
انتظر دقائق حتى خرج آخر زبون، وعاد يطلب من "ياسين دمعة" أن يلحقه، موصياً "برهم أبو العنبه" برجاء؛ أن لا ينسى تنظيف الواجهة الزجاجية التي وسخها تراكم الغبار وبصمات الأيدي.
- "اليوم قبل ان تذهب الى البيت".
ثم صعدا الدرج إلى الطابق الأول ومنه إلى الطابق الثاني.. حتى وصلا معاً إلى غرفة التشغيل، ولم يتبدّل الحال حيث ماكينة التشغيل مازالت تعمل، وقد تغيّر صوتها إلى صرير سريع، (إذ وصل الشريط إلى نهايته، وأفلت). كرر الطرق ثانية وثالثة والصياح باسمه مرات عديدة، دون جدوى.
دفع الباب فتأكد له أنه لا يمكن فتحها حيث أثارت الخشبة المحصورة بين الباب من الداخل وبين زاوية الجدار، مخاوفَ وشكوكاً شتى.
تحوّل الأمر عندها الى محنة حقيقية، والرجل لم يكن في صلاته، كما توقع "أبي". حيث يحرص على أن يتمّها بسرّية بالغة، وكلما طرق الباب، يتجنب مواصلتها، فيقطعها ليعيدها في وقت آخر. تعوّد أن لا يجمعها مع العمل. فجدد الطرق بقوة أكبر، وصاح بصوت أعلى.
لكنّ المكروه السقيم قد وقع. وأصبح "أبي" على يقين تامّ بأن هذا اليوم الحافل هو الأخير في حياة "العم موشي"، وخاف أكثر أن تكون الخشبة لإعاقة الدخول، متمنياً أن يكون دليلاً على أنّ الحادث مُقدَّرٌ لا مُدَبّر.
فسأل أبي "ياسين دمعة" إن كان يقدر على الدخول للغرفة من "الرازونة"، فاعتذر بعفوية قائلا له "جبوري" يستطيع ذلك بسهولة. وسبقَ أن شاهده أكثر من مرة يدخل، ويخرج لسرقة السجائر من صندوق "موشي".
أجابه: - "ماذا تنتظر هات "جبوري".. لنرَماذا حدث للرجل في الداخل".
اضطر "ياسين دمعة" الى البحث عنه قبل أن ينزل الى الطابق الثاني في "اللوجات"(13) خانة تلو الأخرى، والتي تكونت من مجموعتين كل مجموعة فيها خمس خانات معزولة عن بعضها، بعازل من الطابوق المغلف بالخشب، كل خانة تسمى "لوج"، ولا تشرف الواحدة على الأخرى، فلم يجده. بعدها نزل إلى الطابق الأول، فوجد الجميع يريد معرفة ماذا حدث، ويحدث. فسأل "جاسم الطويل" (شقيق والدي الأكبر) مسؤول الدخول صالة الدرجة الأولى، ومراقب الصالة "زكي" عن مساعدهما "جبوري القرم". ولم يجد عندهما جواباً. كذلك الحمامات فارغة. اضطر بعدها أيضا إلى النزول إلى الطابق الارضي، سائلاً عنه "علي الدّب" عمي (شقيق والدي قبل الاصغر)، وهو مسؤول الدخول الى صالة الدرجة الثانية..
كذلك "كريم ضوه"، و"جمال قطف" مسؤول الصالة ومساعده "عليعِطّابَه"..
كذلك "ناجي الأعرج" الحارس، و"برهم عنبه" البائع في المتجر الداخلي الصغير، و"سلام البارد" بائع المشروبات الغازية..
لم يجد لديهم جواباً.
أبقى "كاظم الأعرج" باب المشبك الحديدي، الباب الرئيس، المطلّة على الشارع العام مفتوحة على فتحة تتسع لشخص واحد. كذلك أغلق البابين الجانبين المطلين على الشارع الفرعي. الأول كان يُفتح عند انتهاء أي عرض، ليخرج منه الناس، مباشرة. ولا يفتح الثاني إلا عندما تكون القاعة الأرضية مزدحمة.
غزاهمُ الملل، وبات كلّ منهم متوتراً، وقلقاً. أولهم "أبي" المسؤول المباشر عن كل شيء، ومعه مساعده "بوجي" بائع بطاقات الدخول. بقوا متوزعين ما بين الممر المؤدي الى غرفة التشغيل، وعلى الدرج بما فيهم "ياسين دمعة"، الذي أعلن عن اختفاء جبوري..
***** ***** *****
سَرَتْ همَهَمَة، وحلّ قلق كثيف. كغيمة خانقة.. صاروا يريدون البدء بتنظيف الصالتين، ثم يعودون إلى بيوتهم. اقترح أحدهم أن يدخل ولد صغير من الفتحة، ويرفع الخشبة التي تُعيق فتح الباب. وتململَ آخر بأن ايّاً منّا لن يرضّى أن يدخل أبنه في غرفة عبر فتحة العرض. خوفاً عليه من خرافات مَسَخَتْ نفسها وأخذت طابع حكايات واقعية، حكايات سهلة التصديق، لأنهم صاروا يرونها في كل يوم "جنياً" طويل الرقبة كان يختبئ في البئر التي يستخرجون منها الماء، كأنه يريد أن يستفرد بأحدهم. يراقبهم من دون ملل وكل ليلة ينظفون فيها الصالة، الى درجة يتجاهلون مكانه ولا ينظرون صوب البئر، فلا يجلبون الماء منها سهولة ذلك. ولكنهم باتوا يتحججون بأن الماء الجاري في النهر أطهر، وصار "الجنيّ" بينهم حقيقة معتادة، يشاركهم المكان، فلا يتقدم أي منهم، صوبه، ولا أحد يأتمن على نفسه بأن يبقى وحيداً.. فأيّ جنّي مهما بلغت شراسته لا يجرؤ على الاقتراب من مجموعة أشخاص ودائما يبحث عن ضحية منفردة. تصاعدت الهمهمة، وبقيّت الفكرة الأجدى من قلع الباب الحديدي؛ أنهم بحاجة الى ولدٍ شجاع جسمه صغير بعض الشيء ليدخلوه إلى الغرفة، ويزيح الخشبة.. أضاف أحدهم:
- وألا يخاف من "السعلوه "(14).
فلم يكن للغرفة سوى نافذة واحدة بعيدة عن الارض، وتشرف على الشارع العام، ومن المستحيل الوصول إليها إلا بسلّم المطافئ الطويل. تواصل الجوّ متوتراً حتى وصل "فؤاد" الصغير، دون أن يرسل وراءهُ أحداً، جاء مُستطلعاً الخبر قبل أن يصل أبوه "عمي الثاني". سألوه إن كان يستطيع الدخول، كان في السابعة من عمره، وجسده ملائمٌ للدخول، فوافق دون أن ينتظر موافقة أبيه. سأله أبي:
- "هل تخاف الظلمة"..
فأجاب ببراءة:
- "لا يُخيف البشر إلا البشر، وأنا لا أخاف البشر".
(كنت أتمنى أن أكون صانعاً للأحداث.. أتمنى أن اكونَ راويّاً خالقاً يخلق عالماً يتنفس، ويتفاعل تفاعلاً كيميائياً مع الأحداث، تفاعلاً يحدث تغيّراً فسيلوجياً، لا تفاعلاً فيزيائياً يزول بزوال المؤثر. وليس حاكياً يُعيد حكاية صقل حكاية، حُكيَتْ له، ميتة، أكون بطلاً، راويّاً، مشاركاً، متفاعلاً بما يروي كمن شاهدَ بأم عينيه.
أريدُ مشاركة حقيقية أصنّعها، أجبِلها بالحبر، والورق. أشارك فيها كأيّ بطلٍ حقيقي يصنع قدره بيديه، ليس بالخيال. ولا كالذي يُكمّل على الحوادث التي سمعها من هنا او هناك)..
امتعضَ بعضهم خوفاً عليه من الدخول، وقد شجّعه بعضهم الآخر على الدخول.. حتى يعود كل منهم إلى بيته. كلهم تذمّروا.
فصار لا سبيل إلا أن يدخل "فؤاد" ليفتح الباب المغلقة. وقبل أن يدخلوه جاؤالـ"أبي" بعمود خشب ودفع به الماكينة لتنزلق على سكتها إلى الوراء، حتى استقرت عند الحدّ المصمم لها، وبذلك فسحت مكاناً تحسّباً لأي ضيق، ويدخل منه الولد.. من "اللوج" القريب من الفتحة القريبة، وبجانبها ماكينة العرض التي كانت تعرض القسم الاول من الفيلم، حيث تتناوب مع الاخرى ما بين "بكرة" ومثيلتها. صفَّرَ "يسن دمعة".. مُشجّعاً، وصفّقَ "كريم" مُهنئاً وصمَتَ "بوجي" مطرقاً.
ثم رفعه "أبي" وهو يوصيهِ أن يذهب مباشرة إلى الباب، (لأجل أن يرفع الخشبة التي تُعيق فتحها)، وتركهُ يحشر نفسه في الفتحة الضيّقة، بمهارةِ أفعى تعرف طريقها الى جُحرِها. انزلق بيسرٍ فصار في الداخل، وناولهُ المصباح الذي يعمل على البطارية، وتوجه الى الخشبة، ورفعها. كان "أبي" بصوتهِ الجهوري يشجعَ "فؤاد" لأجل أن يُبعد عنه أيّ خوف ويقولُ له:
- "ارفع الخشبةَ وافتحْ البابَ وسأكرمك يا بطلْ الأبطال"..
- "ارفع الخشبة ليدخل معك عمك جاسم".
- "ارفع الخشبة وحسب".
- "إرفع الخشبة ولاقي عمك جاسم".
وكان عمي "جاسم" ينتظره أمام الباب متيقناً بأنها ستُفْتَح "فؤاد سيفعلها"، وفعلها "فؤاد". وصار التصفيق والصفير يرجع صداه في الصالة الفارغة. فدفعها برفقٍ وفتحت. ثم أخذ "فؤاد" بيديهِ الاثنتين، وسلّمهُ إلى من كان خلفه.
تناول منهُ المصباح الذي يعمل على البطاريةِ. ودخل ليكتشف ما حدث للرجل، ولم يشاهد إلا بعد أن فتح الضوء الداخلي، للغرفة وشاهد ما جعلهُ يضع يده على فمه موشكاً على التقيّؤ، وصار منفعلاً يصيح بكلّ ما أوتي من قوة، كالمعتوه.. كلمات متواصلة غير مفهومة:
- "مات.. الرجل ميّت".
عندها انحشرَ الجميع في داخل غرفة التشغيل مع "أبي" لمشاهدة اللحظة المروّعة، كان الرجل أمامه قدح شاي بارد، جالساً على كرسيه مائلاً إلى ماكينة التشغيل، ملفوفاً حول رقبته شريط الفيلم، ولسانه مُدلّى، وعيناه مُبحلقتان الى أعلى السقف:
- "المسكين مخنوق بشريط الفيلم".
- "هذه فعلة جنية شريرة"!.
- "لعنةٌ ستطاردنا جميعاً"
-"ماكينة غدارة"!.
***** ***** *****
كان "يهودا" يدرك جيداً بأنَّ العقل والمنطق دائما يوجهان التاريخ. وكأنما بقي مؤمنا بثقب في مصادر التاريخ المتراصة بعمد لتحجب عنا أغلب الحقائق تجعل تيهنا متواصلاً.. ذلك ينزل منه عمود الضوء. ذلك الثقب هو ما يتضمنه التاريخ من حركية للعقل. فيه تمرّد خفي، ذلك مدفون تحت الظاهر، ومتبطّناً ليثبتَ أنه استطاع أن يخترق رقيب السلطان.
ذاته الذي ابتلع الأماكن في شرقنا كما كان يؤكد "هيرودتس"، فالرقيب أكثر وحشية من السلطان، رقيب مُبرمَج على محاربة الحقائق، أو إزالتها.
يُبدع أكثر كلما غاب سيده معتمداً عليه، فيظهر شراسته ليثبت لسيده السلطان بأنه صاحب الولاء الأكبر، وإن تغير الزمان بسلطانه، يكون أول من يدعس السلطان. ويبصق عليه.
أتخيلُ "يهوده" المثقف العارف، يطفئ سيجارته في منفضة، ويكمل حديثه إلى "أبي" بابتسامته العريضة قائلاً:
- صاحبنا "هيرودتس" قال ما يكفي فيما يخصّ أمن السلطان، وما يمسّ سمعتهُ البهيّة. هو دائما ينسى بأن هذا الرقيب هو مجرد عين، وكلّ عين فيها زاوية عمياء.
مساحة يستغلها العقل لتصبح مساحة حرّة. هنا أوهناك تتجمّع فيها المُحَرّضات كبركة تتجمع فيها المياه، فتغرق كلّ ما كان تحتها.
***** ***** *****
كان في غاية الوداعة، والهدوء. فلم تبدر منه أي إساءة لأيّ أحد. وظيفته تشغيل ماكينة عرض الأفلام السينمائية.. كان الرجل مستقراً في غرفة التشغيل، ولا ينزل منها إلا فيما ندر، ولم يكن على خلاف مع أحد في يوم من الأيام. محدود الاختلاط والتجوال. لا يكثر الكلام، أبداً.
كان يُجيب باقتضاب مع ابتسامه شفيفة، ثم يسكت إلا اذ سُئِلَ مرة أخرى، ليجيب على قدر السؤال، بقيَ لا يرغب العيش في "دربونة التوراة"، وحيداً.. بعد أن هاجرت زوجه مع أولادها إلى "اسرائيل" الوجبة الأولى في منتصف الخمسينيات (15).
إذ "رفض ان يصحبهم مهما كلف الأمر"، كان يشتهر بجملة مكررة يومياً على لسانه، بمناسبة أو غير مناسبة:
- "بيت الله عُقُب بيتي لا والله"!.
لم يبْدُ عليه الخوف أو القلق مما كان يحدث في الجوار. بقيَ يعتاش على راتبه من العمل في السينما. كان له بيت ملك صرف، ويقع في "دربونة التوراة" التي تبعد دقائق عن بناية السينما.. بقي فارغاً بعد ان تعرّض الى النهب، وخوفاً من أن يتحوّل وكرّاً للآثمين، والمارقين. أسكنَ فيه "كاظم الأعرج"، شرط أن يتزوج، وسرعان ما تزوج، فبقي يسكنه، ولم يأخذ منه أيّ أجر.. كذلك له بستان مسجلة باسمه "ملك صرف" محاذية لنهر "ديالى".. لم تعد عليه بأيّ وارد مالي، ولم يطالب بحقّه خوفاً من العواقب. كما بعهدته بيوت أخرى لأخوته، وبعض أقربائه.. اشترط الزواج أيضاً على من رغب بالسكن فيها، دون أيّ أجر. هذا ما جعل له سمعة طيبّة.
- هنا ولدتُ كما ولد أجدادي وهنا اموتُ كما مات أجدادي"!.
كان قد شارف على الستين من عمره. وبقي دقيق العمل، دائم البسمة، قوي الذراع، مفتول العضل، ومسالماً.. كان الوحيد الذي يقدر على تشغيل مولدة الديزل، والتي كانت بغرفة مُلحقة بغرفة خاصة مبنية بجانب السينما من الخارج.. كانت المولدة بعجلة أولية كبيرة لبدء تشغيل المحرك الكبير، تتطلب شخصين متقابلين لتحريك دولابها الكبير، وسرعان ما يجعلها تهدر.
وكان مُغْرَماً بأغاني "فريد الأطرش" فغالبا ما يُسمع داخل الدور الأول أغنية "الربيع" الطويلة التي كان يقول عنها بأنها تلخّص له مجرى حياته التي شهدت تغيرات جمّة.
***** ***** *****
بقيت كلماته العفوية مثيرة للأعجاب، وبقيت تدور على الالسن، وتدور في ذهني..
- "لا يُخيف البشر إلا البشر، وأنا لا أخاف البشر "(16).
***** ***** *****
وقع خبر موت "العم موشيه" كصاعقة نزلت من السماء، وكادت أن تزلزل الأرض تحت أقدام كلّ العاملين في السينما، إذ تبيّنت فيما بعد أنها جريمة قتل من الدرجة الأولى مع سبق الإصرار، والترصد حسب المصطلح القانوني.. لم يعرف "أبي" الدافع الرئيس وراء قتل "العم موشي".
احتجزت الشرطة تلك الليلة جميع العاملين، لإكمال التحقيق. خاف البعض أن تمسّه الجريمة من قريب أو بعيد، وكان أحد اصدقاء "عمي" القدامى ضابطا في الشرطة، هو الذي أنجزَ التحقيق المباشر، بعد أن تثبَّتَ غياب "جبوري"، فصار موضع الشك الأول. وخاصة بعد أن أجمع أغلب العاملين معه، انه الوحيد الذي يمكنه الدخول الى غرفة التشغيل من "رازونة" فتحة العرض.
وبعد ساعة من انتشار خبر تلك الجريمة... عثروا عليه كان هارباً مشياً على الأقدام يروم الذهاب إلى بغداد، ولم يصل حتى ربع الطريق في ساعتين ونصف الساعة، والذي لم تصادفه أية سيارة تقله من الطريق. فأخذوه إلى المخفر، وفارق الجميع شبح ظل الجريمة المرعب.
يومها تفحص أبي الصندوق الذي يضع فيه "العم موشي" أغراضه، فوجده مبعثراً، وأغراضه كلها مدسوسة دون ترتيب في الصندوق، ولم يكن الصندوق مغلقاً، بصورة جيدة. وكان في الصندوق صندوق آخر، يحوي على "كيبا "(17) ، التي تستخدم في الصلاة، وهي رمز للتديّن، كذلك فيه شال من الخام الابيض الناصع البياض، يوضع على الكتف أثناء الصلاة، يسمى "طاليت"، وكذلك لفائف "التِفلنْ"، وهو صندوق صغير أسود به نصوص من التوراة تربط فوق الجبهة، ويلّف أطراف خيطها الجلدي، ويبرم عدّة برمات حول الساعد، ثم يوثق بالإصبع الأوسط لليد اليسرى، ومعه "السيدور "(18)، وبعض "المزامير" المكتوبة بالعبرية.
‏ ***** ***** *****
كل الحوادث تتراءى سواء كانت مكتوبة، مختلقة، أو منقولة، أو منحولة.. تتسارع، وتتصاعد، وتتصارع. أسأل نفسي إن كنت مائلا لجهة ما. خائنا لجهة على حساب جهة أخرى ومنتصرا على حساب ذاتي. كالتاريخ الذي لابد وأن يكون مائلا لجهة ما.
أكون مخطئاً كلما رغبت بأن أكون أحد المشاركين في سرد هذه الأحداث.
- أريد أن أكون خالقا مبتكراً للشخصيات والأحداث، وأجلس على كرسي القراءة لأستمتع بقراءة ما خطته أناملي وأنتجه عقلي.
***** ***** *****
اعترف "جبوري القرم" قائلاً:
(فعلا دخلت من الرازونة عازماً سرقةَ المال الذي شاهدته ذات مرة، وأنا أسرق السكائر من صندوق "العم موشي"، كان مبلغا كبيراً، ولم أكن أرغب في سرقة نقود ذات يوم. سكائر، وحسب، ولكن صاحبي أراد أن يَبيعني إلى "مراد عربيد" بعد أن خسر كلّ ما يملك في القمار، أرادني أن أبقى ذليلا تحت ذلك الرجل الذي يصفونه بكبر آلته، وسوء خلقه. فقررت أن أدفع له المبلغ، وأحرر نفسي من عبودية البيع والشراء، فليس ذنبي أن يكون جسدي ابيضَ، وأبدو ناعماً كطفل لا يكبر أبداً. فأنا منذ أن ولدتُ، لا أعرف إلا هذا أو ذاك مالكي، ولم يكنْ لديَّ عائلة ألجأ إليها. ولم يكن بوسعي أن أخلص نفسي من هذه الخانة الضيقة، المقيتة، المهينة، ففكرت بأن أسرق المال من "العم موشيه"، وأترك هذه المدينة البائسة إلى غير رجعة. ولا سبيل عندي إلا أن أدخل إليه أثناء تشغيل الفلم، ولا يمكنني أن أفتح الصندوق لأنه يستخدم الصندوق كسرير للنوم.
انتظرت موعد البكرة الأخيرة، في العاشرة والنصف، ودخلت إلى الغرفة بسهولة. كان هو منهمكا في عمله، يُرجع البكرات إلى علبها. فتحت الصندوق، وأخذت منه النقود، وشاهدت الصندوق الصغير الآخر الصغير إذ ظننته يحوي على مال أيضاً. ولما أردتُ العودة محمّلاً، هجمَ عليّ بغضب وهو يرعد:
- "تأخذ النقود ما همّني أمّا أن تأخذ تلْفِني.. فلا وألف لا"
فرميت الصندوق الصغير نحوه فأفلتُّ من يديه وصرت خلفه، فامسكهُ مخافةً ألا يلامس الأرض، فتعثر بشريط الفلم الممدود على الأرض، ثم سقط متسطحاً وجهه إليها، وهو يرفع يديه الحاملة الصندوق الصغير إلى أعلى كسابحٍ لا يريد أن تطول ملابسهُ الماء. ثم صرتُ فوقه، جالساً على ظهره، وقد لففت الشريط حول رقبته بكل قوتي، وهكذا حتى اختنق. ثم بعدها زحفته وأجلسته على الكرسي، بعناء، ونثرت الفلم حوله، وأعدتُ الصندوق إلى الصندوق بعد أن صار الوقت الكافي لمعرفة محتواه).
***** ***** *****
استقر العم "حسقيال" في العاصمة "بغداد"، بعد ان نال درجة دينية متقدمة، فلم يعد باستطاعته أن يبقى مسؤولاً مباشراً عن أملاكهم، ولم يعد متفرغاً للأمر الدنيوي حتى اقتضى به الأمر أن يُوَكِّلَ عنه محامياً لجباية الإيرادات.



ـــــــــــــــــــــــــ
(11)* الفيلم بطولة النجم العالمي "كلينتايستوود"..
(12)* أحد الأمثال البغدادية الشعبية
(13)* مكان معزول يطل على الشاشة ولا يطل عليه أحد.
(14)* اسم وحش خرافي من حكاية لتخويف الأطفال
(15)* في البداية لم تكن الهجرة خياراً واضحاً في عموم العراق حيث تعرضت عدة دور للعبادة اليهودية في بغداد للدمار مما أثار حالة من الهلع بين أبناء الطائفة. في البداية لم تسمح الحكومة العراقية لليهود بالسفر لكن لاحقاً أصدرت آنذاك قراراً يسمح لليهود بالسفر بشرط إسقاط الجنسية العراقية عن المهاجرين. وهاجرت غالبية الطائفة من العراق خلال عامي 1949 و1950م في عملية سميت عملية (عزرة، ونحمية) إلى أن تمّ إغلاق باب الهجرة أمامهم وكان في بداية الخمسينيات حوالي 15 آلف يهودي؛ اذ بقيّ في العراق حوالي 135 ألف نسمة عام 1948م. وعند وصول عبد الكريم قاسم للسلطة رفع القيود عن اليهود المتبقين في العراق وبدأت تحسن الأمور وتعود إلى طبيعتها. لكن انقلاب حزب البعث واستلامه للسلطة أعاد نظرية المؤامرة الاضطهادية عليهم وفي عام 1969م، أعدم عدد من التجار معظمهم من اليهود بتهمة التجسس لإسرائيل مما أدى إلى تسارع حملة الهجرة التي شهدت ذروتها في بداية السبعينيات.
(16)* باتت لازمة على كل لسان..
(17) * قبعة
(18) * كتاب الصلاة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى