حنا عبود - أبو العبر وتحطيمُ البلاغة: العبث بين الغيظ وصناعة الفرح

لم يكن أبو العبر صانع فرح. صانع الفرح يتخذ أسلوبا آخر، لا يتحرش بالناس على الشكل الذي فعله أبو العبر. صناعة الفرح تكون بالغناء والموسيقى والرقص. . . تكون بالدخول في عالم جميل حتى ننسى العالم الذي نحن فيه. الفن وحده يصنع الفرح، فعندما ندخل في لوحة أو قطعة موسيقى أو دبكة أو رقصة أو أغنية، فإننا نخرج من العالم الذي نحن فيه، عالم أمواج من المصائب والآلام والعثرات والخيانات، عالم الحياة اليومية.
لم يكن أبو العبر يدخل في هذا العالم الجميل، كان يدخل ويدخلنا في عالم الغيظ، كان يغيظ أبناء عصره بسخريته منهم. كان يحتقر البشرية، ويقول كلمته بغض النظر عمن يكون أمامه، خليفة أو أحد أبناء الشعب. وفي القصة التالية ما يدل على شجاعة أبي العبر وتطاوله بلسانه على المسئولين: لما بلغ إسحاق بن إبراهيم الطاهري ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة وإظهار الحماقة أمر بحبسه، فكتب إليه ورقة يذكر فيها أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه بأنه يعرف رقية العقرب فيعلمه إياها. وأنه ليس في الدنيا مثلها.فأحضره وقال له: هات علِّمنا رقيتك. قال: على أن توثق أنك لا تعرض لي بعدها. فوثق له بذلك. فقال له: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك.
كان يسير في الدرب المعاكس لصناعة الفرح، كان يسير في الطريق المعاكس للبلاغة العربية، التي كانت تعمل بدأب على تزييف الحقيقة، وتعويم المستبدين، والدعوة للمعقدين وتستر عورات البشرية. . . أما أبو العبر فكان يذكّر البشرية بكذبها ونفاقها وكيد بعضها لبعضها الآخر، وكان يلح أكثر ما يلح على الغباء البشري المتجلي في البلاغة الموروثة، سواء ظهر من أبيه أو من غير أبيه. وكان خبيرا بعيوب الناس والمطاعن التي يجعلها من أدوات سخريته ومن وسائل تحقيق مآربه. جاء في كتاب الحصري القيرواني "جمع الجواهر في الملح والنوادر":
"ولما استقرت الخلافة للمعتز بالله شخص إليه أبو العبر من ولد عبد الصمد بن علي فهنأه بالخلافة وتعرض لصلته بالجد، وهجا المستعين كما فعل البحتري في قصيدته التي أولها:
يجانبنا في الحبّ من لا نجانبه
ويبعد منّا في الهوى من نقاربه
فلم يقبل عليها، فعمل أبو العبر قصيدة مزدوجة كلها هزل من غير تقويم ولا إعراب منها قوله:
أيا أحمد الرقيع، ومن أكلك الرجيع، أتنسى من كان، نصيرك قهرمان، فيأتيك بالسويق، من السوق والدقيق، فصرت الآن في الدار، على رتبة البزار، أما تعلم يا فار، بأن الله يختار، ويعطي غيرك الملك، عزيزاً يركب الفلك.
وفيها ما لا يذكر من حماقات واختلال، وبرد وانحلال، وكلام مرذول، غث مهزول؛ فضحك المعتز منها، وأمر له بألف دينار، فألح على جعفر بن محمود الإسكافي في الاقتضاء، وهو حينئذ وزير المعتز، فألط عليه. فقال له جعفر: عهدي ببني هاشم يأخذون الصلات بشرفهم وعلومهم وجدهم، وأنت تأخذ بالمحال والهزل؛ فأنت عجيب من بينهم !! فقال أبو العبر: صدقت أنا عجيب من بينهم، كما أنت عجيب في أهل إسكاف، كلهم نواصب وأنت من بينهم رافضي، وكان جعفر ينسب إلى ذلك. ثم أنشد أبو العبر قول جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتنا
فقلت كلانا يا بثين مريب
وأريَبُنا من لا يؤدّي أمانةً
ومن لا يفي بالعهد حين يغيب
فدفع إليه الألف دينار، واستعفاه أن يعاود مثل هذا"
كان ظريفا من الظرفاء، ولكنه لم يكن مهرجا على النمط الغربي الذي يلازم البلاط، ويكون رهن الإشارة، وتكون إشاراته واعية بحيث لا تغيظ الملك أو أصحاب السلطة الذين يرضى عنهم الملك. وبالتالي يكون سليط اللسان على الذين يغضب عليهم الملك، ولو كانوا من القادة أو الوزراء. كما أنه لم يكن ماجنا من المجان المشهورين في العصر العباسي، أما المعتقدات الغيبية فلم يظهر له موقف منها، وهي التي كان يسخر منها بعض المندفعين في العصر العباسي، وفي عهد المأمون بشكل خاص. ربما كانت هذه الجوانب هي التي تبرز خصوصية أبي العبر. كل ما يمكن قوله إنه كان مستهترا بالبلاغة الإنسانية، ويراها سخفا وباطلا، يخفي طيلسانها الجميل كومة من عظام الموتى.
في الخمسين انتقل من "أبي العباس الهاشمي" إلى "أبي العبر" فقط وحذف لقب الهاشمي، وهو لقب مجز وعظيم في تلك الأيام. والعبر في هذه الكنية هي العيوب التي يتصيدها الرجل من الناس والملوك. ومنذ أن صارت كنيته أبا العبر لم يغير سلوكه ولا ربط لسانه بكلمة جادة، ولا ترك "اللغة" التي كان يتقنها جيدا من قبل، لأنه عثر فيها على كل عيوب البشر، واعتقد أنه بتغيير اللغة يمكن أن يغير البشر أنفسهم. ولهذا كان يعمد إلى طريقة تمزيق اللغة، وخلق لغة جديدة كل الجدة، عسى أن تنشأ بلاغة جديدة بعيدة عن الزيف والبهتان. وكما سبق وأشرنا، كان يتسقط لغة الدهماء والرعاع والعامة، عسى أن يجد فيها أداة أرقى من اللغة التي يتعاطاها الرسميون، ولكنه لم يجد فيها ما يريد، فكان يكتبها ثم يقسم الصفحات ويعيد توزيع الأقسام بحيث لا يبقى قسم في مكانه، فتخرج لغة جديدة فعلا، ولكن لا جدوى لها في تربية الناس من جديد.
قلما نجد في التاريخ العالمي شخصية مثل شخصية أبي العبر. كان قبل الخمسين بشخصية، ثم صار بعد الخمسين بشخصية أخرى مناقضة لها، وظل محافظا عليها حتى مات. أدرك في الخمسين (عقد النضج والوعي) مدى تفاهة العمل البشري الأناني. كان يعرف أن معظم الأعمال البشرية ما هي إلا اعتداء على الآخر، فانقلب ذلك الانقلاب الكبير، لذلك كان ينصح: إذا حدثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك، حتى يكون هو في عمل وأنت في عمل. إنه يمارس العبث في كل شيء.
ظل أبو العبر محتفظا بشخصيته العابثة بعد الخمسين حتى مات. كل ما قاله كان يثير الغيظ في نفوس الناس. وإذا ضحك خليفة، فإنما يضحك من غيظ الآخرين. كان أبو العبر لا يكتفي بالإغاظة بل أيضا كان يخيف الناس ويهددهم، فينال مرتجاه. ومع ذلك كان في إغاظته شيء من الظرف. وكانت اللغة سبيله إلى ذلك. كتب مرة إلى صديق له هذه اللغة: ما قبل فأحكم بنيانك على الرمل، واحبس الماء في الهواء، حتى يغرق الناس من العطش، فإنك إن فعلت ذلك أمرت لك كل يوم بسبعة آلاف درهم ينقص كل درهم سبعة دوانيق.
وذات مرة أرخ اليوم الذي هو فيه فكتب: "يوم إلا تسعا لخمس وأربعين ليلة خلت من شهر ربيع الأوسط سنة عشرين إلا مائتين"
وباعتباره من الأسرة الهاشمية فقد كان له ختم يمهر به ما يستلم من عوائد تقدمها له السلطة. لم يكتب اسمه الحقيقي على الختم، بل كتب عليه: "توفي جحا يوم الأربعاء". وصار يستخدم هذا الختم متباهيا، كأن بقية الأختام مبتذلة.
شخصية مثل هذه الشخصية تكون في العادة عرضة للتأليف، فتستهوي الكثيرين ممن يحبون الطرائف دون الولوج في الأعماق. ولذلك كنا نجد العديد من الروايات المختلفة حول حادثة واحدة، وكل رواية تعرضها من وجهة نظر راويها. لا شك أن اختلاف الروايات لا ينفي الواقعة. المهم هو الهدف الذي نريد الوصول إليه اعتمادا على وقائع أبي العبر. وهناك أحيانا روايات متناقضة، لا بد من التريث قليلا عندها لحشد مسوغات الرفض أو القبول. فقد روى عنها الرواة ما لم يحدث لها، بل رووا عنها أحيانا أشياء متناقضة.
من ذلك موت أبي العبر نفسه. روى الحصري القيرواني في كتابه "جمع الجواهر في الملح والنوادر" ما يلي: "مرض رجل فجاء أبو العبر يعوده وقد ثقل، فصاحت امرأته؛ من لي بعدك يا سيدي ؟ فغمزها أبو العبر وأومأ إليها أنا لك بعده، فلما مات الرجل وانقضت عدتها تزوجها أبو العبر، فأقامت عنده حيناً؛ ثم حضرت أبا العبر الوفاة، فجاء عواده؛ فصاحت من لي بعدك يا سيدي؟ ففتح عينيه وقال: لا يغمزها إلا من تكون أمه زانية". أما في كتاب "أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم" للصولي، فهناك رواية أخرى ترى أن سبب موته يعود إلى مخالفته البلاغة العربية الممالئة، فقد كان أبو العبر معارضا لكل تيارات البلاغة العربية، ومنهم التيار العباسي وتيار آل البيت. وقد سمعه أحد الكوفيين يسخر من البلاغة العربية في آل البيت فاستحل دمه وقتله في بعض الآجام وعرقه فيها (أي قطعه إربا).
في كتاب "كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين" لسلامة موسى، يقترح المؤلف على من ناف على الخمسين أن تكون لديه قضية مفيدة للجنس البشري، أو لوطنه، أو لشعبه، يعمل من أجلها، فيضحي ببعض وقته وماله لأجل هذه القضية. فـ "الاهتمام" هو أفضل طريقة للخلاص من برودة الشيخوخة، لأنه يدفع إلى اتخاذ خطط هجومية تشعر المرء بوجوده، وتبعد عنه الشعور بالعجز.
وقد اتبع أبو العبر نصيحة سلامة موسى، قبل أن يولد سلامة موسى بثلاثة عشر قرنا، فجعل همه تحطيم البلاغة البشرية، لأنها تغطي الزيف وتفرض الموروث وتحمي المتسلطين وتجعل الغباء أداة للتفكير الإنساني. . . ونعتقد أنه أمضى شيخوخة مليئة بالإثارة، أبعدت عنه الملل ودفعته إلى العمل لإنجاز مهمته في تحطيم البلاغة البشرية المزيفة. ويكون قد سبق مشاريع الكتاب المحدثين في هذا العصر.
لكن الفرق بين أبي العبر وسلامة موسى هو أن الأول لم يكن متفائلا بجدارة العنصر البشري. إن البشرية التي ابتكرت هذه البلاغة الزائفة لا تصلح للوجود، بينما يؤمن سلامة موسى بالبشرية ويتوهم أنها فطرت على الخير، وفي مقدروها أن تصنع فردوسها بيديها.
كل ما يمكن تأكيده أن أبا العبر بعد الخمسين من عمره، كان يدرك ماذا يفعل، ويعي ذلك وعيا كاملا.




حنا عبود:
(البلاغة من الابتهال إلى العولمة) ـ تتمة [الحلقة الأخيرة]
(بذلك نكون قد نشرنا الكتاب كاملا على حلقات)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى