مقتطف مُحمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (4)

4

قالت "العمّة أمينة" محذرةً "فؤاد" من عواقب الدخول إلى البيت المهجور، مرة أخرى:
- الجنيَّة التي كانت تسكن بيت "يهوده" هي التي قتلت "نهيّة".
كان ولداً جريئاً جداً، لا يخاف الجنّ، ولا العفاريت، ولا الطناطل، ولا السعالي التي كانت تسكن باطن عقول أغلب الذين كانوا من حولنا، وتجول بمرح، وحيوية. تمتليء بهم الأرض كما يمتليء الواقع بالناس، والوقائع.
بَقِيَت العمة "أمينة" تقص علينا أغرب القصص المليئة بالأشباح، وضحاياهم، وكان لا يُبالي بأيّة قصة، فهو الولد الوحيد، الذي بقيَ يدخل بيت "يهوده" المهجور، دون خوف. يتحدى قصصها، ويدخل وقت ما يريد. لا يصغي أبداً لتحذيرات الأكبر منه سناً. يدخل ويجلب ثمراً من الشجرة الكبيرة التي كانت تتوسط البيت، فيجلب للعمة "أمينة" كيساً كبيرا مليئاً بثمرة "النبق "19 التي تحبها كثيراً. فأسأله في أغلب المرات عما آل إليه حال البيت من الداخل، إذ كنت أريد التحقق مما روي لي من غيره عن الغرف الخربة، والأزبال. بعد أن كانت في نظافتها، وجمالها مفخرة للعين، والخاطر.
كان "فؤاد" في كل مرة يتجاهل أسئلتي البريئة ببراءة أكبر منها. كنت أرغب بالدخول، وأخاف "أبي". لأنه لن يسامحني إذا علم مرة بدخولي، دون إذنه. فأقاوم هذه الرغبة، ناوياً سؤاله. تجعلني رغبتي أن أفكر في كل مرة لأن أختلق عذراً مقنعاً. لكني في كل مرة ما إن اقترب فيها من "أبي" حتى أتردد، وأبعد عني هذه الرغبة، لأني أعرفه يرفض حتماً، وربما قد ينفعل، ودونما سبب. كانت رغبتي كل مرة تكبر، وما أن يمضي بعض الوقت حتى أجد الفكرة تتجدد، وتتحول إلى رغبة جامحة في الدخول إلى البيت المهجور.
باتت تلك الزيارة السابقة التي كانت قبل النهب أشبه بوهم؛ كأنها مدينة الأحلام قد خسفت بها الأرض وضاعت من أرض الواقع. ففي كل مرة أفقد الكثير من تفاصيل تلك الحكاية، بعد أن تغير الحال. خاصة بعد أن دخلها غيري من بقية أقراني وبعد أن أفرغ البيت من تفاصيله التي كنت قد شاهدتها قبل ثلاث سنين.
أصبح بيتاً آخرَ. إذ تبين لي بأن صورة الحلم السابقة كلها مسحت من ذهني، وحلّت بدلا عنها صورة أخرى غيرها، كأني كنت في مكان آخر، وزمن آخر، بعيداً عن تعاسة هذا العالم الأرضي.
محت الحكاية الجديدة حكايتي القديمة، وتبدلت بحكاية أخرى يحكيها من يشاء، وعلى طريقته، ووفق ما رأى..
***** ***** *****
كان لها بيتان، الأول تقضي فيه معظم ساعات النهار في حياكة السلال، أما البيت الثاني فهو الذي تنام الليل فيه. لم تتزوج، وبقي يشاركها السكن أخوها من أمها الذي لم يرث من أبيه شيئاً كما ورثت من أبيها الغني بضعة بيوت وبستاناً كبيراً.
كانت تروي لنا نحن أبناء جيرانها قصصا كثيرة عن أبيها، وكانت دائما تصفه بأنه الشجاع الهمام، وكانت تقول عنه أبلى بلاءاً حسناً في إنقاذ الغرقى أيام فيضان "ديالى"، عندما استطاع أن ينتشل الكثيرين من موجاته من الذين جرفتهم الأمواج. وهو من اقترح أن يشيدوا سدّاً عالياً من التراب حتى تكون المدينة في مأمن من الموج المفاجيء. كان سباحا ماهراً، لا يتوانى عن إنقاذ أي غريق. كذلك نهر "خريسان" في أيام الربيع كان يفيض على البيوت، ويجرف من الناس بيوتهم التي كان أغلبها من الطين. قالت ذات مرة بأنها أيقظته للذهاب إلى بستانه، ولكنه لم يستيقظ، وهكذا كان موته بلا ألم أو معاناة.. وبقيت تطلب من ربها في الصلاة أن يُميتها بمثل موت أبيها.. أما عن موت زوج أمها المسلم "فقد لدغتهُ حيّة، ومات في البستان"..
كنا ننتهز الفرص ونسألها بخبث دون تردد، وتجيب بلا تردد.
- "ما الفرق بين صلاتنا وصلاتهم"؟.
- "صلاتنا خمس مرات في اليوم، وصلاتهم لم تزد عن ثلاث.. كلها للربّ الواحد"!.
- "دينهم أقدم أم ديننا"؟..
- "دينهم"..
كانت تقول بأن أمها عانت كثيراً في تربية أخيها، فأخذته وتولت لوحدها رعايته. كنت أسألها:
- "أخوك مسلم وأنت"؟.
- "أصبحت على دين أمي بعد أبي"!..
هكذا في كل مرة تروي لنا العمّة "أمينة" حكاية أحدٍ ما عن أقربائها، أو حكاية لواحد من أهل الزقاق. تسرد علينا لنبقى بالقرب منها، ونساعدها في ما يخونها جسدها على فعله.. أحياناً تتسلى معنا بتسلية سؤال الألوان، التي كانت تقول بأنها تسلية آبائكم وأخوالكم المفضلة:
"أبيض البطن، أسود الظهر"؟..
نحار بالجواب، ولكننا بعد أن عرفنا جوابها بأنه "الباذنجان" فسهل إجابة "الحزورة" كل سؤال بعده. صارت مفتاحا لما بعدها. وعندما تنتهي من حزوراتها، تقول للذي تمسك بكفه:
- "أتحداك أن تفلتها".
أو:
- "إفتحإن استطعت وخُذْ منيّ ما تطلبهُ"!..
كانت تثق بقوة أصابعها التي لا يقدر أيٌّ منّا على فردها. كانت تحرص على نظافة يدها دائماً، على الرغم من خشونتها.. تطلب منّا أن نغسل أيدينا قبل الأكل، وتشاهد ذلك بنفسها. وكان معظم الأولاد يلعبون أمامها في باحة بيتها الواسعة. كذلك كان آباؤَنا وأمهاتنا يلعبون عندها، ويسمونها "أمينة المحبوبة". وتؤكد بأنها تعرف "أصل وفصل آبائكم وأمهاتكم". فتروي لنا حكاياتهم التي سمعناها منهم، والكثير مما لم نكنْ نستطيعه منهم..
- (المرحوم جدك علوان دندي "جرخجي "20 نصف الولاية)..
تروي ايضا:
- (ان جدَّكْ المرحوم كان صديقاً حميماً للمرحوم "ناجي" والد "يهوده". أما "يهوده" فهو الصديق الحميم لأبيك، ولم يفترقا أبداً، في أغلب مشاويرهما، وشقاوتهما.. بالرغم من أنه أكبر منه بخمس سنين أي بعمر عمك "صبحي"، وأبوك كان بعمر "حسقيال"، أما "سناء" فهي أصغر بقليل من عمر "أمك"، أما أنا- قرينة جدتك "فخرية "21، وأصغر من المرحومة "حسيبة".
أذكرهم لكم واحدا واحداً، الولاية كلها، أعرفها فهم معدودون وليسوا كثراً. أنتم القادمون، ونحن الراحلون. الشخوص أغلبها من "العنافصة "22، "أم الدجاج"، "السويدية"، "أم النوى". أخبارهم تصل من أول الولاية إلى آخرها في رمشه عين)..
بقيت تروي لنا عن موقع السوق وكيف توسعت رقعته، والسينما وكيف بُنِيَتْ، والكسبة، والتجّار... تروي أيضا عن بيتها أنه كان من أول البيوت، وقد بني قبل أن يبنى بيتكم وبيت "بشير" اشترتهكقطعة أرض مفرزة. واشترى بعدي المرحوم "حسن الأسود"، "علي شلال"، "عبدان الحلاق"، "ميخائيل المصلاوي"، "عاصم البزار" "حمدية الخبازة"، ثم "حجي محمود"، وبنى جدك بيته بإمكانياته المحدودة في الوقت نفسه الذي بنى فيه "ناجي" بيته الكبير بإمكانياته الميسورة. وقتها كان بيتهم القديم قرب "السراي" في الضفة الأخرى من نهر "خريسان".. هذه البيوت كلها كانت جزءاً من بستان كبير، إذ بيع، ليصبح بيوتاً..
- "الصديقان جدك وناجي توفيا في يوم واحد"..
***** ***** *****
صاغتنا المدوّنة. التي لم نصغها. ولم نرض بها.. صرنا لها تابعين ومتفاعلين وبقينا تحت سطوتها. صارت تمسخ حتى مستقبلنا، وتحتلّ ما بقيّ لنا من مساحة عقل.
***** ***** *****
صارت "العمة أمينة" في الستين من عمرها، ولا تكلّ من عملها اليومي، زوّجت أخاها "عباس" من إيراد عملها، وأنجب ولداً هي التي أسمته "عزيز".
كانت تحبه كثيراً إلى درجة كانوا يسمونه "المدلل". ولا ترفض له طلباً.. لكنه تركها ملتحقاً للدراسة في "بغداد"، وبقيت تنتظر قدومه نهاية كل أسبوع بفارغ الصبر. أيام شبابها كانت مخطوبة في السابق لـ "زهران مائير" بائع المواشي الذي سمي باسم أمه. وعدها بالزواج بعد الهجرة إلى اسرائيل، وبقيت تقول:
- "الوعد لا يكفي".!.
وتضيف:- "أردتُ منهُ ان يطلبني من أهلي، حيث لا تخرج البنت الطاهرة من بيت أبيها دون مراسم زواج"،
وهذا جعل أمه "مائير" تصرّ على الهجرة بابنها. فبقيت بحزنِها العميق تعمل يوميّاً منذ الصباح الباكر، حتى مغيب الشمس. كأنها تكابر بالعمل المتواصل، وتداوي جراح قلبها المحطّم. باكراً تقدمُ إلى بيت عملها، ولا تتركه إلا ساعة النوم، وتأكل وجباتها فيه. لا تطبخ سوى أن تضع إبريق الشاي على موقد الجمر، كان أخوها "عباس النحيل" يجلب لها كل وجبة في وقتها. ولا تقبل إلا أن تجعلنا نُشاركها بإلحاحٍ ما تأكله، وبكل متعة.
تروي لنا القصص، والسيّر بالتفصيل، نتحلّق حولها ونستمتع بما تحكيه. تُحبُّ عملها كثيراً، وتتَفَنَّن في ابتكار أشكال هندسية للسلال المحوكَة من أغصانِ الأشجار الناعمة. والمزوّقة بخوص السعف التي تبْرمُها ثم تشَرْشِبُها إلى شرائط بالغة الدقّة، لتعطي جمالها قبل أن تيبَس. هذا ما يجعل زبائِنها يأتون إليها من أماكن أخرى، وتروقهم نماذجها الأنيقة، والدقيقة.. بسعرها النزر.
كنا نلتقي عندها، فتهدينا الحلوى، ونلعب أمامها في باحة بيتها الذي حولته إلى مستودع السلال الجاهزة للبيع بمختلف الأحجام. تبيعها جملة إلى أصحاب البساتين، حيث يُعبِئونها بحاصل الموسم.
***** ***** *****
- "سعدون" هام على وجهه.. قالوا بأنه قصد بئر "يهودا".
وجدت الحكاية وجهتها عندما أغوته الجنيّة بأن يستسلم لها، فتطلق له سراح زوجته التي لا يمكنه أن يكون لغيرها.. كان يأتي من بيته الكائن في "دربونة التوراة"، ويهيم ساهم النظرة، صامتاً لا يتكلم مع أحد، ولا أحد يعرف ما يريد. كان الرجل وسيماً أبيض البشرة، ذا لحية سوداء.
كل مساء ينزل إلى الماء ساعة الغروب، ويسبح مع مجرى نهر "خريسان".. يحمل صرّة ملابس على رأسه، وبعضا من ملابس زوجته. رأيته مرة يخرج من النهر، يأتي سابحاً، ويدخل من فتحة ساقية الماء التي كانت في السابق تسقي الحديقة.
يدخل وقت غروب الشمس، ولا يخرج منها إلا في الصباح الباكر. كان يأتي، وأمه لا تعرف أين يذهب، يصعد عارياً لا يلوي على شيء سوى أن يحقق نداءها. يبقى حتى الصبح.. يلبس كفنه الأبيض لتأتي إليه، إمّا أَنْ تُجهز على روحه، أو تعيد له زوجته التي لا يمكنه العيش بدونها. زوجوه أهله بأخرى إلا أنه لم يقربها، وازداد أمره سوءا..
أراد أن ينفذ للجنية طلبها وتعيد له زوجته التي لا يريد سواها. يبقى طوال الليل، منتظراً. ولم ينم منذ أن ضاعت منه. البعض قال بأنها هربت من سوء معاملة أمه الغيورة.
بينما أم "سعدون" بقيت تتمسك بحكاية الجنية التي أعجبت بولدها الوسيم، وبأنها لن تطلق سراحها ما لم تأخذ منه وطراً.
بقيت "العمة أمينة" تواصل حكاية "نهية" تلك المرأة التي نزل زوجها الماء، فخطفه منها الجنيّ، ولم يعد يراه أحد.. قالوا لها بأنه يسكن في بئر البيت المهجورة، فدخلت كالمجنونة إلى عمق البيت، فالتقيا هناك.
كانت هي الجنية قد أخذت منه زوجته.. وتَلَبَسَتْ هيئة امرأة في العشرين من عمرها، سمراء، طويلة. وكان هو الذي تَلَبَسَهُ الجنيّ الذي أخذ منها زوجها في الثلاثين "صافي البشرة، طويل القامة، ويرتدي ملابس الملائكة".. ما إن اقتربا من بعض حتى رمى عليها قطعة ملابس زوجته فلبستها. دون أن يتبادل معها الكلام..
كانت الحكاية مع العمة "أمينة" تأخذ وجهة حقيقية مُقنعة، ولم تكن تريدنا الدخول لأي سبب كان. كنا نسمع الحكاية، ونتخيّل ما لم تكمله:
- "ظهرت عليها أعراض الحمل"..
ذات يوم راقبها شقيقها تدخل، وترتمي في حضن الشيطان. تابعها إلى هناك ثم طعنها قبل أن يصل سعدون، ولم يعترف بقتلها إلا بعد مدة طويلة. لاحقت التهمة "سعدون" زمناً، ومن يومها ما عاد أحد يراه. بعضهم شاهده في "بغداد" يرتدي ملابس الصوفية، وآخر شاهده في الشام...
***** ***** *****
استطاع "فؤاد"، دون قصد منه، أن يختصر لي خوفي من "أبي" وأن أحقق رغبتي في دخول البيت المهجور دون أن أنتظر موافقته. جاءني بكتيّب مصور عن الدراجات الهوائية. لم أكن حينها أستطيع القراءة بشكل كامل، ولكن ما إِن رايته في يديه حتى أخذت أقلب في أوراقه بلهفة، كنت أول مرة أرى فيها واحداَ من الأولاد الذين في سني يحمل كتاباً، فلم أكن متلهفا لمشاهدة الصور. لكن هاجسا ما في داخلي، يتحرك في مضمار الكتب، وعوالمها. كان شيء ما في داخلي يميل بغرابة إلى رؤية تلك الغرفة التي كانت تمتلئ بالكتب، والتي شاهدتها قبل أكثر من ثلاث سنوات. فسألته:
- "من أين لك هذا؟"..
فقال من "الخربة"!.
تهيأ لي أنه يكذب علي، فأظهرت له بأني غير مصدق لما يقول، ولكنه أكد لي بأن تلك الغرفة ما زالت مليئة بالكتب، "ولم يعرها أحدٌ أية أهمية".
بقيت مترددا، وغير مصدق بالذي أخبرني به. فأرجعت له الكتيّب أول الأمر، وكأن الأمر لا يعني لي شيئاَ، ولكني صرت بعد ذلك محاصرا بتلك الرغبة، ومشاهدة تلك الغرفة التي خرج منها "يهوده" ذات يوم، وبكامل أناقته، بصحبة كتاب "هيرودتس". فقلت له باني أعرفُ تماماً مكان تلك الغرفة، وأعرفُ جيداً رائحة تلك الكتب. فعقدت عزمي أن أدخل البيت المهجور مع "فؤاد".. مهما كان الثمن، وبعد أن تحققتُ من نوم "أبي" في تلك الظهيرة القائظة، وعزمت على ألا ألفت الأنظار اثناء خروجي، فتجاوزت الخروج من باب بيتنا المغلقة، فهي عندما تفتح تحدث ضجيجاً يجعل من في البيت يتنبه لخروجي، فتوجهت إلى شجرة التوت التي كانت بجانب سور بيتنا وتسلقتها. ومن غصنها المائل وصلت إلى الشارع.. هبطتُ خارج البيت. ثم تلفّتُ ظنا أن أحد ما سيراني. حيث لم يبعد بيت "عمي" عن بيتنا سوى بضعة بيوت، كنت حريصا على أن أتأكد من عدم وجود أحد يتتبعني. وبالقرب من شباك بيتهم انتظرني "فؤاد". دخل أمامي وأنا أتبعه خطوة بخطوة.. كان يتقدم بكل ثقة، لا يعرف قلبه الخوف. أما أنا فكنت أتعثر خوفاً وقلقاً.. كنت أراه متناسياً الأرواح الشريرة التي ستكون بانتظار من يدخل البيت، فصرت مثله متحدياً لذلك. تعود أن يدخل البيت لوحده، متجاهلا وجودها، وراح يغريني بالكتب الكثيرة في تلك الغرفة. كانت أمامنا الحديقة الكبيرة التي كثرت فيها الأحراش العالية، والقصب وتصاعدت على اليمين والشمال حول ممرّنا. وبقيَ درب ما وطأته الأقدام، حيث لم ينبت فيه اي نبات. فقال لي:
- "هناك في الجانب الثاني من الحديقة البئر الكبيرة.. تعال لأريك إياها"، رفضت بتشدد ألا نضيع وقتنا..
- "أريد أن أرى الكتب"..
تخطينا الغرفة المهدّمة التي تحولت إلى تلّة من التراب، فصارت أمامنا باب البيت الخلفي. لحظتها تذكرت بأن "أبي" كان على حق عندما رفض أن يصدق أن الباب لم يفتح إلا من الداخل. وقفت برهة أمام باب الخشب السميك، لأتأمله مدعوماً بشبكة فولاذية، منقوشة، ومثبتة بمسامير غليظة، فمن المستحيل فتحها، إلا بقلعها من الحائط العريض، وحيث تعمقت فيها دعائمها إلى باطن الحائط، والذي يزيد عرضه على المتر. تلمست الرتاج الكبير الذي يشبه رتاج الباب الرئيس. قال "فؤاد":
- "اتبعني هذه هي الشجرة وأتحداك إن كنت تستطيع تسلقها؟"..
- "كان اتفاقنا ان تدعني ادخل غرفة الكتب"
كنت أعرف موقع الكتب. بالرغم من تغير المكان الذي تغيرت معالمه وصارت كئيبة، تنتشر فيها رائحة العفونة.
افتقدت تلك الرائحة الطيّبة التي لامست أنفي يوم ذاك وما زالت عالقة. تضببَّت ملامح المكان، صارت لها ملامح خانقة، مظلمة كئيبة، لا تشبه المكان في ذلك الزمان.
تحول إلى مكان غريب آخر حطّ بي دمارٌ لما خزنته ذاكرتي ليوم دخولي إليه.
قلت لفؤاد الذي بدأ بصعود الشجرة غير مبال بالذي كنت أودّ إخباره به..
- "هنا.. لعبتُ مع العمةِ سناء"!.
- "هنا طبَّبَني العمُّ "حسقيال"!.
- "ومن هنا نزلت القطةُ البيضاءُ "سنونة"!.
- "ومن هنا خرجَ العمُّ "يهودا"!.
بعد أن اعتلى الشجرة صمتت عصافيرها، وطارت بعيداً، فتركت صمتاً جعلني أصغي إليه، وكأني بقيت أسمع ما خزنته بذاكرتي من اسطوانة "اديثبياف".. تغيرت سمات الأشياء إلى قذارةٍ ومسخٍ.
المكان كله تغير.. الذي كنت قد دخلته في يوم من الأيام، ولم يعد ذلك المكان. حتى الشجرة التي توسطت الباحة صارت كثّة الأغصان كأنها تبوح بحزنها، ولم يسعها أن ترتفع إلى أعلى بشموخ كما في السنين الماضية. بل أثقلها الحزن، فمالت، ولم ترتفع. بعد أن استطالت أغصانها وبدا قَلًفها مُتغَضِّناً.. إذ فاجأها الأسى المتراكم. باتت تحيط بها الازبال أكواماً؛باتت متراكمة في كل انحاء البيت.
تلفتت إلى البئر الذي كانت تسكنه الجنية، فلم يبق منها سوى بئر جافّة.. بعدها حرصت متقدماً إلى غرفة الكتب. كنت أحفظ موقعها، فدخلتها وحدي. كانت الرفوف العديدة محفورة بعناية على الحائط.. رفوف متسقة الأبعاد مع بعضها، ومقسمة من أجل تبويب الكتب..
أغلب الكتب أنزلت إلى الأرض بعبثٍ سقيمٍ.. بعضها ممزقٌ، وبعضها عليه آثار بلل نازلٍ من السقف، أو زحف إليها من شباك. لم أكن أعرف بأنه بقايا بول تيّبس؛ إلا بعد أن وصلتني رائحته النفاذة.
شاهدت مجلدات لم يكتب على ظهرها شيء، وأخرى مكتوبة بحروف كبيرة. كنت أجيد قراءة أسمائها (فقط) دون أن أعرف معانيها، بعض المجلدات مكتوبة بحروف مقلوبة، لم أعرف تهجئتها. أغلبها متناثرة على الأرض، بعضها مجلدة بأغلفة من الكرتون السميك، وبعضها منزوع عنها، أو بقيت عليها أغلفتها، أو نُزِعَتْ منها متونها. كتب مختلفة الأحجام، (حجم الجيب، وحجم المتوسط، وحجم الوزيري).. كتب بورق أسمر أغلبها لا تحمل صوراً، بعضها باللغة العربية، وأخرى بالإنكليزية؛ لم أفهم معاني عناوينها، عرفت عنها، كتب رجل عشق مادة التاريخ، وتخصص فيه. استطعت أن أحفظ ما شاهدته، وميزته فيما بعد..
مجموعة متعددة من "الكتب المقدسة" بعدّة لغات، أشعار "هوميروس" (Homer)، بعض التراجيديات والكوميديات الإغريقية، واللاتينية، وبعض من أدب العصور الوسطى الذي يتمحور حول الفروسية، و"دانتي" (Dante)، و"سنبسر" (Spenser)، والكثير من أعمال "شكسبير" (Shakespere)، وبعض من أعمال "ملتون" (Milton)، بعض من أعمال "ميكافيلي" (Machiavelli)، و "غاليلو" مع الكثير من الروايات التي تعود إلى القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، وكتب في مختلف العلوم، والتي لم أعلم منها سوى تهجئتها Phenomenology) 23، (Cyberentics 24وكذلك البعض من كتب الاقتصاد، لكن الأغلب منها كتب التاريخ على مختلف مراحله..
كنتُ مهتماً بأن أجد ذلك الكتاب الذي هوستني رائحته، ذلك الكتاب الذي تحدث به "يهوده" إلى "أبي". صرت أبحث عنه بين تلك المجلدات التي كتبها "هيرودتس"، رغم أني لم أعرف شكلها، ولا أعرف لون غلافها، أو اللغة التي كتبت بها. وكنت على يقينٍ بأني سوف أستدلُّ عليها دون جهد.
صرتُ أبحث على عجالة. برغمِ التراب الذي يغطي أغلب عناوينها، فوقعتُ في حيرة ذلك التأريخ الذي عصف بي، وجعلني أتخيله في متناول يدي. وإذ قبض ريح. يكفيني بأني شاهدت شيئا ذات يوم بعيد. بحثت عنه جيداً، وقلبت الكثير، كأني صرت أرى سطورها التي ترسخت في مخيلتي، ونُقِشَتْ عميقاً فيها. قلبتُ بهوَّس بقيّة الكتب المتناثرة على الأرض، حاولت أَعَادة البعض منها إلى رفوفها الفارغة. كان يدفعني شعور بأنها كائنات حيّة، طيّبة، لا تستحق مني تركها على سطح الأرض الباردة. كنت اناء ذلك أفكر في "إبراهيم" الذي شارك في تنظيم وبناء هذه المكتبة وهو لا يعرف القراءة والكتابة. سوف يغضب مني غضباً شديداً.. ان عرف عني هكذا مغامرة..
بقيت لا أدري كيف تأجج فيّ هذا العشق لعالم الكتب قبل أن أتمكن انا أيضا من القراءة.. كنت في العاشرة، وأعرف القراءة بصورة متقنة، لكن دون فهم. استطاعت "امي" ان تعلمني قبل دخولي المدرسة. كذلك الحروف الانكليزية، وتهجئتها. صرت أقرؤها دون فهم معانيها.. تلك رغبة "أبي". طلب منها أن تفعل ذلك بعد أن شفيت يدي التي طالها الدهن الحار.
اقترب "فؤاد" وطلب مني أن نجول سوياً على بقية غرف البيت وننزل الى الطابق الارضي.. دخلنا إلى غرفة أخرى. كانت فيها أيضاً، أكوام قمامة، وغائط، وبقايا الكتب الممزقة، باتت غرف مظلمة وفارغة، إلا الغرفة التي كانت بجانب الباب الخارجي، كانت بابها أيضاً مفتوحة، وفيها شرشف أبيض، فقرر أن يدخل إلى عمق الغرفة، وكانت المفاجأة التي كادت أن تطيح بنا. كاد قلبانا أن يتوقفا من الخوف.
***** ***** *****
أكون دائما في حالة سؤال مستمرة كيف يحاجج العقل التاريخ فينتج حالة ندم بأننا بقينا في وحلِ جُملة مفاهيم مغلوطة، أوصلتنا إلى التيه بعيداً عن إنسانية الإنسان. وليتنا نفك من أسرها، على عكس ما يحاجج عقلنا التأريخ.. ينتج بأن الثاني سيكون تابعا لا متبوعاً. مشكلة العقل أنه يتماشى مع الشاهد الذي ترك أثراً قبل أن يمضي، وليس مع الذي تَرَك له أثراً بعد أن مضى، وتفسّخ، فالمشهود بما ترك، والشاهد بما رأت عيناه، وليست بعين غيره التي لا تحايد.. الأثر الشاخص الأكثر حضورا وثباتا من المختلق أو المتخيّل...
- (التاريخ أعور، ولا يرى إلا وفق زاوية الحاكم.. حاقدٌ على الأسوياء.. كاتبه يعرف كيمياء السمّ في العسل، ويقلب ببلاغته صورة الحق إلى الباطل) ...
بعدها أخرجت الآلة الكاتبة التي أهداني إياها "يهوده"، عهدتها ثقيلة، وكان على رفعها بواسطة حبل كي أصل بها إلى أعلى شجرة التوت. ثم رحت أثبتها جيداً تحسباً لسقوطها، بعد أن حصرتها بين غصنين متفرعين، وهناك جلست أحلم بأني أكتب بها ما ليس أدري.. أرقب العالم من أعلى الشجرة المطلة على حديقة "يهوده"..
بقيت كالعصفور على شجرة التوت، أحلم، وألعب. وما حدثتني به العمة "أمينة" بقى بذهني ينتظر التدوين.. كتبت ذات مرة:
- لعل "فؤاد" هو أول من وجدها جثة هامدة في الغرفة التي تقابل الحمام.
يومها لم يخف، ولم يبال بشيء. نظر إلى دمها الذي خرج من فمها، وفرش حولها بركة من الدم الاحمر القاني، هكذا واصلت الخيال، كأني أريد أن أجعل الصورة، مليئة.. ربما قررنا الخروج، بعدها. تعمدنا ألا نخبر أحداً بذلك، ولأننا أردنا مواصلة الدخول إلى المكان المليء بالتشويق والمفاجآت. المكان المثير والمدهش الذي يجعلنا في غمرة اكتشافات متتابعة.. ولكن "فؤاد" كل ما يهمه هو جمع النبق في كيس.
***** ***** *****
(هل يضيرُ السمَّ سمّ. اقتحمت ليلتهُ الظلماء بيقين خلاصها، خوفها يخضّها خضّاً عنيفاً، فثبتت بخطوها نحوه...
كان الملاك في أبيضه ينتظرها ساهماً في أسراره.
بينما ظلها يسبقها إليه، لحظات حتى تموّج الضوء الخافت متحولا بينهما للهفة من حافة حادة، فأما الموت، وأما الحبيب... لم يتكلما خشية الإفساد، فمسّا بعْضَيهما، وتحول المَسيسُ شعلة محرقة، صارا في ظل واحد، الانغراس راسخ، يتقلبان، يموجان، يلهثان، يشتعلان، يضيئان، ويمصُّان رحيقا طيبا لا يملّان من بعضيهما)..
***** ***** *****
يطاردني قولُ "فؤاد" الذي لن ينسى..
- "لا يُخيف البشر إلا البشر ".


ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

19* ثمرة شجرة السـدرة
20* حارس ليلي يجوب حراسة أملاك الناس ساعيا على قدميه..
21 * حسب شهادة الوفاة للجدّة كان مكتوب فيها انها تولد بعقوبة في 1900/3/1
22* هامش مضاف بقلم آخر كأنه يؤكد بانها اسم محلة في وسط المدينة
23* علم الظواهر..
24 * علم الضبط..

.../...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى