مصطفى معروفي - ركود الشعر:الأسباب

حينما نتحدث عن الشعر بوصفه جنسيا أدبيا راقيا يسمو بالإنسان ككيان وجودي ويسمو بحسه الجمالي إزاء الأشياء في الكون وإزاء ذاته قارئا وقارضا ،فإن هذا لا يعفينا من الالتفات إلى ناحية أخرى تتعلق به من حيث تلقيه ومن حيث تداوله في المجتمع ،وخاصة بين الفئات المتعلمة.
إن المتتبع لحركة الشعر على المستوى المحلي وعلى المستوى العربي لا بد أن يلحظ ما يعانيه من ركود تختلف درجة حدته من جهة إلى لأخرى ،والشاعر وهو يرى ما آل إليه الشعر من وضعية لا يحسد عليها يتأسف ،ومع ذلك يكابر ويواظب على الكتابة آملا أن يتزحزح الوضع عن حالته الراهنة إلى حالة يكون فيها أحسن وأفضل من الوضع الحالي،فهو يرى أن المعاناة الحقيقية للشعر لم تأتِ من الجمهور وحده وإنما أتت من الشعراء الحقيقيين ومن أدعياء الشعر أيضا،بعدما تكاثرت وسائل الاتصال الحديثة وخاصة منها الالكترونية فتميّع الشعر بشكل طافح وفاضح في آن معا.وبتنا نلاحظ حتى من لا يمتلك ناصية اللغة يخربش نصا هابطا وينشره زاعما أنه شعر ،وما هو بشعر ،وينشره المنبر الالكتروني على أساس ما زعمه صاحبه عنه.
ونحن إذ نلاحظ عزوف الجمهور عن قراءة الشعر وعدم الحضور إلى الاستماع إليه في لقاء أو أمسية أو حتى في مهرجان ،فذلك لأن هذا الجمهور تعب من الحضور إياه،فقد كان يحضر وفي نهاية أي حضور يصاب بالخيبة فالشعراء غالبيتهم ليسوا بشعراء ،والشعر الذي يلقى ليس بشعر،فآثر هذا الجمهور النأي بالنفس عن هكذا لقاءات أو أمسيات أومهرجانات طلبا للراحة من تجشم مشقة لا يستفيد منها ، بل يتألم عندما يحضر ويرى الشعر أصبح مستباحا ،ولا أحد تصيبه الغيرة عليه فيدرأ عنه الأذى.
الشعراء الحقيقيون انسحبوا ،وتركوا الساحة للغربان تنعق فيها كيف تشاء ،وانسحابهم ذاك كان اختيارا من جهة ،ومن جهة أخرى كان اضطرارا،فالاختيار كان نابعا من قناعة مفادها أن بقاءهم واستمرارهم في الميدان سوف لن يغير من واقع حال الشعر شيئا أمام الكثرة الكاثرة من الشعارير وممن يقولون عن أنفسهم أنهم شعراء،والاضطرار أنهم صارت لا تقدم لهم الدعوة لقراءة الشعر وتقدم لغيرهم من الذين أقل شاعرية منهم أو من هم ليسوا شعراء البتة.
ثم إن ركود الشعر له أسباب ودواع أخرى غير التي اشرنا إليها أعلاه إلا أن المشار إليها هي أقوى حسما في مسألة الركود الشعري، وسنضيف إلى ما ذكرنا غياب التشجيع المادي الذي صار مرتبطا بالنثر نظرا لتحقق المنفعة المادية فيه وخاصة أن الحياة التي نعيشها صارت بما لا يدع الشك لشاكّ مصطبغة بالصبغة المادية لدرجة كبيرة.وهذا الواقع غلّب الجانب العقلي الذي يلائمه النثر في التعبير على الجانب العاطفي الذي يلائمه في التعبير الشعر.
ولا بد أن القارئ الذي يتابع مسيرة الأدب ودائما يجس نبضه لاحظ مزاحمة النثر للشعر في الناحية العاطفية ،فعبد ربه هذا شخصيا أحيانا يجد في القصة القصيرة والرواية وحتى في المسرحية من الشعر ما لا يجده في القصيدة ،حتى ليتوهم لو أن أحد جلاوزة الشعر ـ كذا ـ اطلع على تلك الأجناس الأدبية لوقف خجلا أمامها وأمام نفسه على ما تحتويه من تصوير وأخيلة و استعارات فخمة عالية القيمة.
لو نظرنا إلى الأدب نظرة فاحصة ماحصة لألفيناه في كثير من نماذجه يهدف إلى تثقيف الجماهير وإلى السمو بجانبها الجمالي وفتح أعينها على مناحي الحياة وما يجري فيها ،ونحن نعتقد أن أكثر فن يقوم بهذا ويوفره لنا هو النثر ،فالنثر سواء رضينا بذلك أم أبينا هو اللغة التي نحياها يوميا وهو أقرب إلينا من الشعر بكل موضوعية.وعليه نقول إن مزاحمة النثر للشعر ساهمت في إزاحة الشعر عن مكانته بدرجات تتفاوت علوا وانخفاضا،ومن جهة في الوطن العربي إلى جهة أخرى منه.
والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى