مقتطف مُحمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (7)

7

بإصراري على ركوب الدراجة لوحدي، والذهاب إلى المدرسة، ومن ثم المكتبة.. تحقَقَ فكاكي من قفص الخوف، وخاصة بعد أن استدعيَّ "عمي" الأصغر إلى الخدمة العسكرية، ثم لحقهُ الأكبر، وكان أيضاً متخلفاً عن أدائها لمدة ثلاث سنوات، مُلتحقاً مع شقيقه..باتهناك فراغ كبير في بيت جدي، وبدأت فيه أستعد للحضور ككائنٍ مستقلِ فاعل يريد أن يفرض وجوده كبقيّة أقرانه.
كذلك بعد أن تعود "أبي" أن يذهب يومياً إلى "بغداد"، ويترك مطعمه يُدار من قبل "حامد" أبن أخيه "جاسم"، وبضعة عمال من أبناء أصدقائه الآخرين. إذ جعلهم يديرون شؤون مطعمه على هواهم، ودون شعور بالمسؤولية. حيث تصاعد الإهمال السقيم، حتى بدأ يخسر معظم زبائنه، وأصبح لا يربح أبداً.. حيث القاصيّ، والدانيّ صار يأكل بالديْن، وصار رأس المال يتناقص أمام المصروفات.
على عكس المقهى الذي بقيت بجانبه وصار نجمها يتألق؛ إذ تصدر التلفزيون صالتها، وحَضَرتها مراوح الهواء لتحرك جوّها الراكد. بقيَّ صديقه "مناتي" المستأجر يشرف على عمله بنفسه، ولا يتركه إلا لضرورَة.
أما "أبي" استحوذت على اهتمامه مجموعة أصدقاء من هواة سباق الخيل، صاروا يأتون إليه في أغلب الأوقات، ويأخذونه معهم إلى مِضمّار رهان سباق الخيل في "بغداد"، ويعودون به آخر الليل، وصار يصرف مُدخراته ببذخ عليهم، حتى صرتُ لا أكاد أراه سوى مرة كل يومين أو ثلاثة...
صارت "أمي" تتذمّر، وبدأت "جدتي" تُلاحظ التغيّر في مواعيد رجوعه إلى البيت.
***** ***** *****
نقلتني هدية "يهودا" إلى عالم آخر، وفتحت لي آفاقاً جديدة لم أكن أعرفها. كبساط طائر، فما أن أضع سماعتهُ الصغيرة في أذني، وأغمضُ عيني حتى أطير فوق الغيوم، وأعبرُ البحار والمحيطات، ويكون الكوكب الأرضي مطويّاً تحت قدمي، كنت أنظر باستمتاعٍ لكلّ ما حولي، من أوصاف، مطلقا العنان لخيالي، وذاهباً الى البعيد عن أجواء الشدّ العصبية التي أخذت تتوالد بين "أمي" و"عمتي"، من جهة وبين "أبي"، و"أمي" من جهة أخرى..
في النهار أحولهُ إلى الموجة القصيرة، بديلة عن الموجة الطويلة القريبة.. لأجل أن أحلّ ضيفاً على إحدى عواصمِ الضوء الكونية، وأتابع أخبار الكواكب، والتاريخ، والموسيقى، وبقية الأشياء الأخرى التي تخطر على بالي، وقد لا تخطر أبداً، أسمعُ بشغف، وأقرأ بشغفٍ، أغرقُ في تفاصيل موقدة بالانبهار، تجعلني أخترق جدراناً سقيمة، قد ترك تقاربها حولي ضيقاً لم أكن أطيقه.. وجدت المذياع هديّة عظيمة، لن تنسى، أما هدية "حسقيال"، كانت مبلغاً من المال، قد خيّرني أن أشتري به ما أشاء، فأخذتني "أمي" الى السوق، واشترت لي به مجموعة من الملابس الأنيقة، وبعض الدفاتر الأنيقة، وحقيبة، وأقلاماً.
بقيّ ذلك المذياع معيّ يذكرني بأنني أريد أن أعرف شيئاً عن ابن "يهودا"، وأين استقر به المطاف. حتى جاءت مرة فرصة تجرأتُ فيها سؤال "أبي" وأروي فضولي، فانتَفَض متوتراً، وامتقع لونه. كأنما أثار سؤالي حفيظته، وقد مسستُ مقدسًا لا يدنَّسْ. تحول الموضوع من سؤال سألتهُ، وأودّ الجواب عليه، إلى أسئلةٍ توبيخٍ مُتعددة، تعذر عليّ الإجابة عليها:
- "كيف تتجرأ على مثل هذا السؤال؟"،
- "لا نسمح لك؟"،
- "ليس هناك أي ابن، ولم يكن قد تزوج أصلاً"،
كأنه فرض عليّ سورا، وعليّ ألا أعبره أبداً.. مثل ذلك جعلني أتأكد من أنها قصة حقيقية، ونكرانه لها، لن يزيدها إلا تأكيداً.
كنت دائما أتذكر الحديث الذي دار بين "حسقيال"، وبين المحامي "حسن قلق"، وبقي اسم "مُكابْيّوسْ"(31) ، كجرسِ يرنّ صداهُ في ذهني. إذ أدخلت نفسي في تحدٍ لتفسير هذه الأفكار المتعارضة، خاصة وأني أنفقتُ وقتاً وجهداً كبيرا في قراءة العشرات من القصص البوليسية الممتعة، والتي عاشت معي بكل تفاصيلها.
- "لابد لي أن أستفيد مما تعلمته من الكتب وأختبر ذاتي على أرض الواقع".. بعد أن توفرت لي فرصة حقيقية للبحث عن حلقة مفقودة اسمها "ابن يهوده"، ومن سوء الحظ أني بدأت مع الشخص الخطأ، بالرغم من أنه موطن أسرار ذلك الرجل.
وهذا ما جعلني ابدأ البحث عنه بكل ما تيسّر، خصوصاً "ألبومات الصور"، التي تحت اليد، أو التي في دولاب ملابس "أمي" أو بقيّة الألبومات لدى أشقاء أبي عسى أن أتبينه في لقطة هنا او هناك.
تناولت "الألبوم" الذي يخصُّ والدي ونظرت إلى مجموعة من الصور كلها، وخاصة التي تخصّ "أبي"، وأشقاءَهُ، وأصدقاءَهُ، وبعض معارفه، التقطت في أماكنٍ وأزمنةٍ مختلفة.. بحثاً عن الابن تارة، ومدققاً في ملامح "يهوده"، وشقيقه "حسقيال" تارة اخرى..
صرت أريد أن أحفظ تقاسيمه، فعسى أن أستدل إلى الابن "مكابيوس" من معارفي، ومحيطي.
بعد أن يئست مع "أبي" ومتيقنّا من استحالة أن يُنتزع منه شيء.
كنت أتمنى مع نفسي أن يحدثني عنه بعض الشيء، ولكنه كان في اغلب أحواله لا يتحدث معي إلا قليلا، ولا يظهر لي حميميته على الإطلاق. وكنتُ أراه مع غيري حميماً ومتجاوباً.. مع كل الناس حتى أبناء أخوته، إلا معي كأنه يكون في غاية الصرامة، والحزم. كنت أعاني كثيراً، لأني كنت بحاجة إليه، وأحتاج إلى مناورته بأي موضوع، وليس بموضوعة "يهوده" وحدها. فعدلت خوفاً من أن أناور معه بأية طريقة.
ليتني أستطيع أن أخترع "كذبة" وأضعها أمامه، وتبتدئ سلسلة الحقيقة تنكشف أمامي متسلسلة.. كما في روايات "اجاثا كريستي" وغيرها..
بقيت تلفني حيرتي، وعنادي، حتى فكرت بخطة، أسال عمتي بطريقة غير مباشرة، ولكنها اكشفت غاياتي واختصرت علي الحوار بتهديد:
-"ألم يقل لك أبوك ألا تقرب هذا الموضوع وأن تتركه حتى يحين وقته"..
ولم أستطع التحايل على "عمتي" بنزع الكلام منها حول ما ارغب، حيث لم أتمكن من فتح إحدى الحلقات المغلقة، الغامضة التي تحيط بـ"مكابيوس" الذي صار اسمه لازمة لم استطع الفكاك منها.
***** ***** *****
وجدتُ لي صديقاً منذ أول يوم لدخولي المرحلة المتوسطة اسمهُ "صفاء"، وهو الابن الثالث بعد بنتين لـ"نديم البيروتي" الذي وقعت عليه ملامة إعطاء بيت إلى "حسنة الخبازة"، والتي حوَّلت بيتها إلى ماخور سري. لم يستطع احد أن يثبت عليها ذلك، لأن أغلب زبائنها من محلة أخرى، ولم يرَ أحد بعينه، وقد تعودت بين آونة وأخرى أن تستعرض قوة لسانها السليط على أهل بيت "ميخائيل"، وقريبه "بطرس"، فتخرّس المحلة بـأجمعها.
***** ***** *****
كان "صفاء" هو الوحيد الذي تغلّب على "فؤاد" ابن عمي الذي تمادى كثيراً في إخافة أولاد المحلة عند لعبهم في المساحة الفارغة التي كانت خلف السينما، ويلعب بها الأولاد كل أنواع ألعابهم، فكل مرة يعمّ موسمٌ لإحدى اللعب، "لكل موسم لعبة بينهم"، حتى يتغيّر الموسم إلى لعبة أخرى. أما "فؤاد" فكان إذا خسر يدخل إلى بناية السينما من الباب الرئيس، ويخرج لهم سريعاً، عاصفاً، مفاجئاً، وغامضاً من الباب الخلفي المواجه للساحة الفارغة، والتي تكون بجانب غرفة مولد الديزل، بعد أن يكون قد تنكر لهم بإحدى قطع الملابس المتروكة التي كانت تستخدمها الفرق المسرحية. ايام كانت تحيي حفلاتها على مسرح السينما، إذ كانت صالة سينما ومسرح في الوقت نفسه، فالشاشة البيضاء ترفع بسهولة، وخلفها سِكةُ تسهل انزلاق ستارة المسرح، وثمة حبال تسحبها من طرف فتغلق، وتسحبها من الطرف الآخر فتفتح.
كان "صفاء" قد كشف بأن "فؤاد" هو "السعلوة" التي تركض وراءهم، وتفسد عليهم أغلب أوقات استمتاعهم بألعابهم، فقرر تلقينه درساً لا ينسى، فبدأ أولا بجمعِ مجموعة من علب الدهن البلاستكية الفارغة، ثم أذابها وصبّ المزيج في صحن كبير فارغ فيه القليل من الماء، وتركه حتى يتخذ شكل القالب، وبعد أن برد، عمل له ثقبين للعينين وعمل لهما حاجبين وأنف من البلاستك الفائض، وتعمّد أن يضع البلاستيك الأحمر ليبدو فماً دامياً، ثم الصق به مجموعة من شرائط قد أعدها من مخلفات عمته "نجمة" الخياطة، لتبدو أشبه بالشعر. بدت المحصلة قناعاً بشعاً. ولم يخبر أي أحد بصناعته، حيث لم يرد أن يُفسد الأمر.
بعدها انتظر حتى جاء "فؤاد" ليلعب مع أقرانه الأولاد. كان في كل مرة يخسر في لعبة "الدعابل "، أو لعبة "التصاوير ". يسحب نفسه بهدوء، ويذهب إلى السينما من بابها الرئيس، ثم يفتح بابها الكبير بقوة فتصدر صريرا عالياً، ويخرج راكضا نحوهم، حتى يرتعبوا هاربين، تاركين ألعابهم في أماكنها على الأرض.. كومة ملابس تهاجمهم دون ان يضحك كي لا تنكشف مزحته، ويحرص على العودة إلى الباب الذي خرج منه ليغلقه من الداخل، بعد أن يجمع ما بقيّ من غنائم تركت على الأرض، ويتحول من خاسر إلى غالب.
ولم يكن يعلم ان خطة "صفاء" قد رسمت له بعناية اذ تقتضي أن يختبئ له في مكان قريب إلى الباب، بعد أن استعار من أحدى عماته الثلاث عباءتها السوداء، ثم وضعها في كيس مع القناع، ليضمن عدم إفساد خطته، فدخل "صفاء" أثناء صولة "فؤاد"، واختبأ خلف باب السينما من الداخل، وأخرج من الكيس عدّة اللعبة، وركب القناع على وجهه، ولفّ نفسه جيدا بالعباءة السوداء منتظرا عودة "السعلوة" المزيّفة، لما عاد "فؤاد" وجد "السعلوة" الحقيقية تواجهه وتخرج إليه من داخل السينما، التي سمع عنها الكثير من الحكايات والقصص ولم يكن يصدقها، هي أمامه، وجهاً لوجه، ولم يتمالك "فؤاد" نفسه حتى صرخ صرخة خوف قوية "يُمَّــــــــــه" ، كاد فيها أن يتوقف قلبه من شدة الرعب، وقد خرّ إلى الأرض مستسلماً لا تكاد تقدر رجلاه على حمله، وبدأ ببكاء، ونشيج متقطع كمن يحاول أن يستعطف "السعلوة" ذات الوجه البشع كي لا تمزق جسده مثلما تنقضّ القطة على طيرٍ من طيوره. كذلك "صفاء" هو الآخر كاد أن يتوقف قلبه من شدة الضحك بعد أن شاهد "فؤاد" بلل ملابسه ببوله..
ثم نادى على الأولاد الخائفين كلهم ليشهدوا مصير "السعلوة" البائس. ومن يومها تغيّر اسمه من "فؤاد السبع" إلى "فؤاد أبو بوله"...
***** ***** *****
يقال بأن الأب ذهب مع ابنه في سفر طريق طويل لغرض خطبة العروس، والاتفاق على كيفية إتمام مراسيم زواج ابنه، وبعد مفاتحتهم بنية زواج ابنه "يهوده" من أبنتهم "مسعودة"، اكتشف بأنها لم تكن في عرفهم إلا "أرملة"، بالرغم من أن زوجها مات عنها دون أن يلمسها، إذ تزوجت قبل خمس سنوات من "واكيم" أحد أبناء عمومتها، ولما أتمّت الزواج الديني في المعبد، وكانت فرحة زواجهما كبيرة، وحفل باذخ هزّ أرجاء المعمورة، ومن سوء الحظ أثناء ذلك تعرض العريس لنوبة قلبية حادة أدّت به إلى الموت، وتمّ ذلك الزواج بمأتم.
كل ذلك سمعه من أبيها، فتراجع "ناجي يعقوب" عن الأمر برمّته، بشكل حاسم، وقاطع، فذلك الأمر من الله، حيث زواج الرجل الباكر من أرملة شؤم عليه، لابد أن يؤخذ بالاعتبار، لا يجوز مخالفة شرائع الله والأعراف المتبعة، وعليه أن يحتسب حسابه ويخاف من فألها المنحوس. امرأة محكومة من الله، وأمره سوف يبقى عليها فعولاً، لا اعتراض عليه. ولم يتوانَ عن التراجع لحظة واحدة، إذ رفض الأب أن يرتبط ابنه البكر، وقرّة عينه من أرملة مهما كانت.
وعاد بنفس اليوم بالرغم من أن المسافة بين المدينتين "بعقوبة"، و"قادش "(32) ليست بالهينة، وتنكرَ لخطبة الأرملة العذراء. وليكن ما يكون..
فلم يكن لـ"يهودا" أي ذنب، عندما أراد الزواج منها. يومها. ولم تكن بحسابه مخطئة عندما تصورت بأن السنين سوف تطمر سرّ زواجها الأول غير التام، واحتسبَ عليها زواجاً، مضى بنصف يوم، كانت تريد طمسه لإحساسها بأنه لم يكن زواجا حقيقياً كبقية زيجات أهل الأرض، ولم يكن سوى حفل لبست فيه فستاناً أبيض، أبدلته بعد نصف ساعة بفستان حداد.
لم تخبر زميلاتها في الكلية، عن هذا التفصيل المؤلم من ماضيها، ولم يكن لأحد معرفة بذلك سوى ناس من محيطها، ومحيطها لن يبوح به. ولم تبح لأحد، بسرّ حياتها الذي كانت تظنه سرّاً سوف يطمره الزمان، والمكان إلى الأبد، لم تكن تريد من الحدث عائقاً أمام مستقبلها والذي سوف يلاحقها. كانت كأي امرأة تريد أن تأخذ حقها الطبيعي في العيش، أن تتزوج، وتنجب، وتكون مسؤولة عن بيت زوجية تعيش فيه، معززة، مكرمة بعيدة عن ضغوط زوجات الإخوة، وعاديات الزمن.
بقيت تعاني من تلك النقطة، متمنية أن ترفع تلك الحادثة من تاريخها، وذاكرتها. وبقيت طوال سنوات دراستها تعمل على محاولة نسيان ذلك القدر إلى الأبد، إلا ان النسيان ما بين تارة، وأخرى، يذوّب جبل الجليد كل موسم.
كما بقيّ شاغل الدراسة أيضاً يساعدها على عبور تلك الأزمة الدفينة، فكابرت عليها طوال فترة سنواتها الجامعية، حتى نالت البكالوريوس في التنقيب عن الآثار، ثم جاءها النصيب الجديد الذي أحبته بحق، جاءت به الأقدار.. خلال أعياد "البوريم"(33) التي تقيم بمناسبته الجامعة حفلا فنياً كبيراً تستقدم فيه أفضل المغنين والعازفين، والفرق الراقصة ليقوموا بتقديم وصلاتهم الفنية على مدى ثلاثة أيام، ويتم داخل الصرح الجامعي. حيث يعيش الطالب أياما مميزة عن بقيّة أعياد العام، تمتلئ بالدعوات والشراب، والمرح الزاخر بانفعالات الشباب، وتفجير طاقاتهم الخلاقة.
تميّز "يهوده" بكونه عازفاً مقتدراً على آلة "القانون"، فوقع عليهما الاختيار للاشتراك معه في عمل غنائي، اسمه "النجمات الثلاث"، اختيرت معه "مسعودة" كمطربة تؤدي دور البطولة أما هو فكان ضمن الفرقة الموسيقية، كان لقاءً عابراً بصحبة جمهرة من الزملاء، إلا أن إيقاعاً خفياً بدأ يتصاعد بينهما، مثلما كونشيرتو متينة العُرَب صارت تجري بين كل هذا الخضم. التقيا وبينهما نصف قطر لدائرة، بدءا يصغيان لسماع تلك المعزوفة السرية، الدفينة، جذبته، جذبها، أصغت له، أصغى إليها، وهكذا اقتربا دون تعارف سوى تلك المعزوفة الكونية التي قربت المسافة بينهما، وأخذت يداه تصافح يدها.. كان ذلك في حفل التخرج لإحدى دفعات الجامعة المتزامنة مع نهاية المرحلة الثانية، تعرفت إليه، أو تعرف إليها.
- "أحد عازفي آلة القانون، وعاشق للمقام العراقي، لم تسمعه يغني.. لكنها سمعته يوجه أحد المؤدين في طريقة أداء الأغنية بطريقة أفضل"..
بقي الحبّ بينهما وهما طالبان في جامعة "بوهيما" التي كانت تجمعهما.. وبقيت تخاف ان تخبره بسرّها الذي كانت تظنه سرّاً سيطمر.
***** ***** *****
التاريخ سيلحق كل عربة نسيان ذهبت. وهناك ذاكرة أخرى، لا تريده أن ينسى.. التاريخ العاقل كالعطر الذي تتلقفه الأنوف..
***** ***** *****
بقيت ترفض بأنها في يوم ما مرّ عليها قدرُ الشؤم، وأصبحت في عداد الأرامل، كانت امرأة جميلة وتتمتع بشخصية، ولها سحر جذبه مثلما هو انجذب إليها. كانت من دينه ومن طائفته، أهلها من إحدى العائلات المُتَنَفِذَة المسيطرة على السوق، ويقال بأن هذه العائلة كانت تستورد الطحين أثناء حصار المدينة، وتبيعه بنفس السعر، وقد حققت أرباحا كبيرة من صفقة الأكياس الفارغة. كانت تفرض احترامها على كل قصبات مدينة "قادش"، وهكذا انتهت سريعاً بمأساة موت زوجها الذي ورثت عنه، بعضاً من أمواله الكبيرة بحكم الشرع، والعرف الاجتماعي، ولم تكن بحاجة إلى المال، ولكنها امرأة رزقها الله همّاً من حيث لم تحتسب، بعدها دخلت أزمة نفسية حادة كادت أن تطيح بها، وتؤدي بها إلى حرق نفسها. ليس حزناً على فقيدها، بل على مستقبلها الذي غلقت الأبواب أمامه، مستقبل توقف عند تلك النقطة التي قبلت فيها الزواج من "واكيم" الذي لم تكن قد اجتمعت به إلا لوقت قليل.. وقت لم تستطع فيه أن تنظر إلى ملامحه، إلا وهو مسجى أمامها لا حراك فيه. كأنه شجرة قد اقتلعت وتنظر أن يحل بها اليباس لتحتطب... بقيت حجيزة ذلك الاسم الذي لم تعرف له وجها، ولم تعرف معه إلا القنوط بفاجعة بقيت لا تعرف كيف تغنيها.
حتى لاح أمل الدراسة أمامها من جديد، صارت تفكر لذاتها، ونفسها وأرادت أن تكمل تعليمها الجامعي بعد نيلها الإعدادية، وأرادت أن تبعد عن جوّ المدينة المشحون بالعرف العشائري، والذي لا يسمح للمرأة بان تلبس ما تشاء، بحكم الشرع الدنيوي المتشدد. وقد ساعدها أبوها وشجعّها على نيل الشهادة المرموقة، التي تعوضها على ما لحقها من قدر لا تستحقه، ولكنه كان مقدراً من ربّ رحيم، وهو الذي يحمد لكل ما يقدر، فهو سيد الملكوت كله.
كان والدها يعرف كيف يتعامل مجتمعهم مع الأرملة، وأراد لها ألا ينظر إليها كسور حديقة مهدوم، سهل العبور. فلا يعقل أن تكون "أرملة عذراء" في التاسعة عشرة، تبقى محكومة بقدرها مركونة في بيت، وصار عليه أن يساعدها ليفكها من قدرها الآسر. وتمكنت من الحصول على مقعد دراسي في ايطاليا وسافرت إلى هناك.. كانت تعود لتقضي إجازتها السنوية في بيت أهلها، وفي سنة التخرج عاد معها، مواطنها المتخرج معها من الكلية نفسها، لأخذ الموافقات الأولية من أبيها، وصارت لها بداية فرح تبتدئ من عندها بعد أن تجاوزت الخامسة والعشرين.
***** ***** *****
لم يكن بيت عماته الثلاث جنب بيتنا، ولذلك لم أكن قد تعرفت عليه، إلا صباح يوم "الأحد" قرب كنيسة "أم المشورة" مقابل بلدية بعقوبة، مدعياً بأنه يريد شراء آلة "جيتار".. من ابن "حنا"، الذي دخل إلى الكنيسة وراء أمه ليأخذ منها مفتاح البيت، وبقي "صفاء" ينتظره.. وخرج بعد ليقول بأن أمه ليس معها مفتاح البيت وعليه أن يصل إلى محلهم في السوق كي يجلبه من أخيه، وطلب مني أن أعيره الدراجة حتى يذهب بها لدقائق، ويعود بالمفتاح. فقبلت وبقيت واقفاً مع "صفاء"، مترقباً عودته ليعيد لي دراجتي ولصفاء بالجيتار.
هكذا حصل تعارفنا لأول مرة، ففي السابق كنت أمرّ بطريقي وأراه كل يوم وأتذكر القصة المروية بكيفية تغلبه على "فؤاد"، وقتها عرفت بأن لديه "جيتاراً" آخر في البيت، وكان غير جاد في الشراء من ابن "حنا"، وقد افتعل هذا الموضوع محاولة للتقرب من فتاة داخل الكنيسة.. لكي يحظى بنظرة من "رجاء" ابنة "بطرس"، التي لم تنظر إليه في يوم من الأيام، ولأنه من دين غير دينهابالرغم من أنه حاول كثيرا في استمالة أخويها، لكنهما يعيبونه لان أباه هو من جعل "حسنة الخبازة" جارة لهم..
***** ***** *****
صار لا محالة من الزواج، ومهما حصل، فحزم أمره معها في السنة الأخيرة، حتى لو أمطرت دنياهم جحيماً.. فقررا التريث حينما يقنعه بالموافقة، ولكن الأب كلما فاتحه تشتد أزمته الصحية، ويكاد أن يموت في كل مرة. اذ بقيَّ متمسكاً برأيهِ المُتصلّب وإصراره على أن يموت، وأنه لن يوافق بكل الأحوال.
وإن اعترف لأبيه عن حميميته معها، بعد أن تمادت بينهما نشوة القبل التي تطورت إلى رؤيته لقطرات دم عِفَّتها، صار ملزماً بالمرأة رغماً عن كل شيء.
لم يقبل الأب بكل الأحوال والظروف على زواج ابنه من "أرملة عذراء" ، لم تفقد عذريّتها، لا تشفع بإقناعه، وراح يعلن عدم الموافقة على زواج ابنه البكر من المرأة التي مات عنها بعْلها.. عقدة شؤم تهددهم بالكثير. عارض الأمر بشدة، ووقع في أزمة صحية قوية هزتّه هزّاً عنيفاً.







------
31 * ينتهي السفر الثاني بخبر انتصار "يهودا مكابيوس" على "سلوقس نيكانور" سنة 160 ق. م
32 * ورد اسمها في كتاب معجم البلدان لابن خلكان باسم "طيبة"..
33 * عيد البوريم- عيد المرح (هامش مضاف) هو من أكثر الأعياد مرحاً ومتعةً في التقويم اليهودي، فيتم إحياؤه في ذكرى خلاص اليهود من الإبادة في فترة عيشهم ببلاد "فارس". ذُكرت أحداث قصة "لبوريم" في سفر "إستر" بالكتاب المقدس. أبطال القصة وهم: "إستر" وهي امرأة يهودية جميلة عاشت في بلاد فارس، وابن عمها "مردخاي" الذي ربّاها كما لو كانت ابنته. أُخذت إستر إلى مسكن "أحشورس" ملك فارس، لتصبح جزءاً من نسائه. أحب الملك "إستر" اكثر من نسائه الأخريات، فجعلها ملكة، ولم يكن يعلم بحقيقة يهوديتها، لأن "مردخاي" اوصاها بأن لا تكشف عن هويتها الدينية... بينما "هامان"، مستشار الملك، ذو الشخصية المتغطرسة يكره "مردخاي" بسبب عدم خضوعه وانصياعه له، ولذلك تآمر "هامان" على إبادة الشعب اليهودي. وفي خطاب معروف لدى اليهود، قال "هامان" للملك:"هناك شعب ما؛ متشتت ومتفرق بين الشعوب في كل أرجاء مملكتك، تغاير شرائعهم شرائع جميع الأمم، وهم لا ينفذون سنن الملك. فلا يجدر بالملك إغفال أمرهم" (سفر إستر 8:3)، وبهذا جعل الملك لـ"هامان" السلطة على اليهود ليفعل بهم ما يشاء. فحثّت "مردخاي" الجميلة "إستر" بالحديث مع الملك. هذا الفعل شكّل خطراً عليها، لأن من يذهب للملك دون استدعاء خاص منه يُقتل بكل تأكيد، وهي لم تستدع. وصامت "إستر" لمدة ثلاث أيام لتهيئة نفسها، وما إن جهُزت حتى توجهت إلى الملك "أحشورس" حيث رحّب بقدومها. ثم اخبرته عن المكيدة التي حاكها "هامان" ضد شعبها.. بهذا تمّ إنقاذ الشعب اليهودي من إبادة محققة، ثم شُنق "هامان" على المشنقة التي أُعدّت في الأصل لـ"مردخاي".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى