مصطفى نصر - ماذا سيحدث لكتبنا بعد أن نموت؟

إنني أعاني من أصوات الباعة الجائلين الذين يستخدمون مكبرات الصوت في ندائهم على بضائعم، فأصواتهم تقتحم صمتي وهدوئي داخل حجرات بيتي، لكن صوتاً بعينه أكرهه أكثر، فهو يعذبني، هو صوت مشتر كتب وكراسات قديمة، يقف أمام بيتي وينادي في إلحاح وكأنه يقصدني:
- إللي عنده كتب قديمة، الكيلو بربع جنيه.
أنظر حينذاك إلى كتبي المصفوفة حولي في المكتبة، فإذا مت فجأة قد يبحث الورثة عن تنظيف الشقة من هذه الكتب التي تشغل جزءًا كبيراً من الحجرة، ولن يجدوا سوى هذا الرجل ليشتريها بالكيلو. أو ربما يرمونها في صناديق القمامة الكبيرة، المهم أن يخلوا الشقة منها.
وقد كنتُ أسير مع صديقي شوقي بدر يوسف وتوقفنا في محطة مصر أمام بائع كتب قديمة، وفاجأني شوقي بقوله للبائع:
- فيه زميل لنا مات، خد رقم تليفونه من مصطفى واعرض على اسرته شراء مكتبته.
كان يقصد زميلنا أنور جعفر، ولم يكن قد مر على موته سوى أيام قلائل.
فشعرت بالخوف، وقلت لشوقي:
- معنى هذا إنك سترشد باعة الكتب القديمة عن بيتي فور موتي، ليفاوض ورثتي في شراء مكتبتي.
ومرت فترة قصيرة وفوجئت بكتب أنور جعفر تباع لدي بائع كتب قديمة على ترام الرمل.
وأتذكر عندما مات المستشار فوزي عبد القادر الميلادي، وذهبتُ لتعزية أهله في الصباح، فأمسك أخوه الصغير بذراعي، وسار بي بعيدا عن أمه قائلا:
- أبقى تعالى خد الكتب دي، علشان عايزين ننضفوا الشقة.
كان لدى المستشار كتباً كثيرة ذات قيمة، ملقاة في حجرته في إهمال، بعضها هدية من المركز الثقافي الأميركي، كان يطلبها ويقدمها كمكافأة في المسابقات الأدبية التي يقيمها ويشرف عليها، بصفته رئيساً لهيئة الفنون والآداب.
وعندما ذهبتُ لطلب الكتب كما أتفق معي أخوه؛ قالت أمه:
- أخوه إللي في أميركا، قال، حانهديها للمكتبة.
وسافرتُ إلى القاهرة لزيارة المعرض الدولي للكتاب، فوجدت لدي باعة الكتب القديمة - سور الأزبكية - كتب المرحوم أحمد محمد عطية، ملقاة في ركن، وفيها كتبي التي أهديتها إليه، وتعليقاته عليها بالخط الأحمر، وفي الناحية الأخرى، كتب المرحوم أنس داود. وعندما عدت إلى الإسكندرية، وجدت كتب المرحوم الدكتور أحمد ماهر البقري تباع في شارع النبي دانيال لدى بائع قريبا جدا من المعهد الفرنسي، وبعدها بأيام كانت كتب المستشار الميلادي تباع أيضا، واشتريت بعضها.
وحدثنا الأديب رجب سعد السيد بأنه وجد مكتبة الكاتب الكبير نيقولا يوسف لدى باعة الكتب القديمة بشارع النبي دانيال بالإسكندرية، وفوجئ بوجود مخطوطات لكتب لم يسبق نشرها، ضمن الكتب، وسأل البائع عن ثمنها قال له:
- ثلاثة ألف جنيها.
وعندما جمع المبلغ وذهب لشرائها وجده قد باعها.
شعرتُ بالحزن، فكأن الورثة يبيعون أعضاء فقيدهم. وتذكرتُ ما يحدث في سوق الجمعة، صور رجال ونساء داخل إطاراتها تباع على الأرصفة، فشعرت بالرجفة: من يستطيع بيع صور والده أو والدته؟!
فقال لي صديقي الذي يرافقني في مشاهدة بضائع السوق:
- أكيد زوجة الأبن باعت صور حماها وحماتها بعد موتهما.
هذا هو مصيرنا، سنباع للبائعين الجائلين الذين يشترون المتروكات والأشياء التي تضايق ربة البيت، وذلك ذكرني بزميل باع مكتبته منذ سنوات لبائع كان يقف أمام سينما الدورادو، فسألته:
- لماذا بعت مكتبتك؟
قال: أبعها بنفسي أفضل، فالورثة لن يعرفوا قيمتها، وسيبيعونها بأبخس ثمن.
وصديقي الذي باع ابنه مكتبته: كتبه وأجنداته وأوراقه الأدبية الخاصة، كل شيء باعه بسهولة ليخلي الحجرات ليسكنها، وكتبي التي وضعتها خارج الشقة وقت ترميم البيت، فجاء رجل في الصباح الباكر وحمل أجولة فوق ظهره ليومين، وكان باب الشارع مخلوع لزوم الترميم: الأعمال الكاملة لتشيخوف وجوركي ويوسف إدريس، والمجموعات القصصية المترجمة التي اشتريتها من المكتبة العراقية بشارع سليمان، وكنت سعيدًا بها وحريصا عليها. أختار الرجل الكتب الكبيرة والممتلئة لتكون ثقيلة في الميزان وقت البيع.
تحدثت مع صديق عن مخاوفي، فقال:
- مش معقول ورثتنا يفعلون فينا هذا ونحن نضحي بكل شيء من أجلهم.
ذلك ذكرني بابناء الكُتاب، البعض يذكر والده ويظل وفيا له ولكتبه، والبعض ما أن يموت والده، حتى ينتهى كل شيء بالنسبة إليه.
عندما فزت بالجائزة الأولى في الرواية في مسابقة نادي القصة بالقاهرة عن روايتي " الجهيني " عام 1982 كتبتْ المجلات والصحف عن أبن الشهيد يوسف السباعي الذي سيحضر حفل توزيع الجوائز ويهديني كأساً باسم الأسرة، لكن يوم الحفل لم يحدث هذا، ولم يأت أحد من أسرة يوسف السباعي.
بعكس ما تفعله أسرة المرحوم إحسان عبد القدوس، فقد وهبوا جائزة مالية باسم والدهم في الرواية والقصة القصيرة، وأقاموا صالون باسمه، ودافعوا عن كتبه، وهذا ما فعله الدكتور رءوف سلامة موسى مع والده، لقد وهب حياته وماله وكل ما يملك من أجله ومن أجل فكره فأعاد طبع كتبه ومجلاته التي كان يصدرها في حياته، حتى ظن البعض أن هناك دولاً مغرضة تبنت فكر سلامة موسى، وتقوم بإعادة طبع كتبه وإعادة طبع وتوزيع مجلاته.
وسأتحدث هنا عن حالات عديدة حدثت الإسكندرية.
فقد كتبتُ مقالة عن أديب الإسكندرية الكبير الدكتور يوسف عز الدين عيسى، وقلتُ فيها رأيي في أدبه، مما أغضب أسرته، ابنه الدكتور أيمن – رئيس قسم المخ والأعصاب في طب الإسكندرية - وابنته فاتن التي وهبت عمرها من أجل أدب والدها، تترجم أعماله إلى اللغات الأجنبية التي تجيدها، وتتابع كل ما يُكتب عنه. وشكا الدكتور أيمن للدكتور زكريا عناني، ولصبري أبو علم. وكتبتْ ابنته فاتن مقالة لترد على مقالتي.
أعجبتُ بموقفهما، ولم أغضب، بل أحسست بالسعادة لأن ابن وابنة يدافعان عن والدهما بهذا الحماس.
وشاعر غنائي راحل كان يعمل عامل نظافة، لم يدخل مدارس، وتعلم بعد أن كبر في فصول محو الأمية، له أغاني محدودة جداً في إذاعة الإسكندرية، وقدراته الفنية محدودة للغاية، لكن أسرته تدافع عنه وعن أسمه، ويتحدثون عنه كثيرا في إذاعة الإسكندرية وعن أغانية وكأنه بيرم التونسي أو رامي.
وحالة معاكسة، فقد حدثني المرحوم محمود حنفي قبل أن يموت بقليل عن رواية له اسمها " يوم الغرق السكندري " قدمها في سلسلة مختارات فصول، وطلب مني أن أسأل عنها، فتحدثت مع المرحوم سامي خشبة رئيس تحرير السلسلة، فقال لي:
- السلسلة توقفت والأدباء يأخذون أعمالهم ويقدمونها في سلسلة كتابات جديدة.
لكن محمود حنفي لم يعجبه هذا وقال:
- بعد هذا العمر أنشر في كتابات جديدة ؟!
وسألت حسن سرور - مدير تحرير السلسلة، فأخبرني بأنه لم ير هذه الرواية، وأكيد محمود حنفي قدمها إلى سامي خشبة مباشرة.
أثرت هذا الموضوع في لاتيليه الإسكندرية، يوم تأبين محود حنفي وفي وجود أسرته، ولم يسأل أحد، وضاعت الرواية.
وأنا أكتب هذه المقالة، اكتشفت مقالة قديمة للصديق المرحوم خيري عبد الجواد بجريدة القاهرة، بعنوان من يحمي مكتبتي من ورثتي. ووجدته يكتب في نفس الموضوع الذي يؤرقني، فيقول: كثيرا ما يؤرقني سؤال لا أستطيع الاهتداء إلى إجابة شافية عليه، إجابة مطمئنة؛ ما الذي سوف يفعله أولادي بمكتبتي بعد رحيلي؟ هل سيبيعونها لباعة الروبابيكيا، تخلصا منها بأي ثمن لأنها تشغل حيزاً كبيرا في المنزل بلا طائل، هل سيتخلصون منها ويعطونها هبة لأي عابر سبيل لأنها لا تتماشى مع الديكور الذي اختاروه للمنزل باعتبارها " زبالة" يجب التخلص منها، هل سيحتفظون بها كأرث ثقافي مهم وجزء من ريحة المرحوم – والدهم الذي هو أنا ؟
ذلك ما يؤرقني، زوجتي تكره مكتبتي وكتبي، وتتمنى زوالها، فهي تسبب لها المتاعب، وعارضت بشدة أن تكون لي مكتبة واقفة على الحائط، ولم تلين إلا عندما وجدت ريجيسير سكندري اسمه حبشي السينمائي، جاء إلى بيتي ليبلغني بأن الممثل محمود ياسين يريد مقابلتي في مكتبه في القاهرة لشراء روايتي الجهيني ليحولها فيلما سينمائيا، ومن ثمن بيع الرواية اشترت زوجتي بعض الأشياء في البيت.
كان أملي أن يكون أبنا أو بنتا من أولادي يميلون للقراءة، فيحتفظون بالمكتبة، لكن زال هذا الأمل بعد أن كبروا ووضح موقفهم من الكتب، والآن أدعو الله أن يكون أبنا أو بنتا من أحفادي لديه هذه الرغبة، فيأخذ كتبي ويحميها من هذا البائع الذي يفضل الوقوف أمام بيتي كل صباح مناديا:
- إللي عنده كتب قديمة، الكيلو بربع جنيه.



مصطفى نصر / مصر

تعليقات

هو السؤال الذي يشغل بالي، بعد رحيلي ما مصير مكتبتي؟ أخشى أن تكون بين أيدي العابثين
في مكبتي لمنزلية أزيد من 800 عنوان في شتى المجالات الفكرية، الدينية، السياسية، الثقافية
أعتبرها كنزي الذي امتلكه و أخشى عليه من الضياع
 
أعلى