مقتطف محمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (8)

8

البيضة بيضتها، والحيمنحيمنهُ.. كأني وقفت متسائلاً ببراءة قبل أن أتّحِد في خلية واحدة، وأستوطن الرحم.. حتى تنشطر خلية كينونتي إلى خليتين، والاثنتين إلى أربع والأربع إلى ثمان، وهكذا حتى أكون كائناً واحداً، بكامل "أناهُ العليا"، وقبل أن أكتسي بجسد بشري، وأدبّ بحواسي وأتحسس مكاني الهيولي. فكل نصف انصهر في نصفه الآخر، وصارت مني كتلةُ الخلايا تشغل مكانا آمنا اسمه الرحم كأول مكان آمن في هذا الكون.
انطلقتُ مترقرقاً بعضي يجذب بعضي، كلما اشتدت الموسيقى بالتصاعد، وبعد أن أعطى الربّ العظيم قائد هذه النغمات العظيمة الموحدة، بأمره، ووضع نقطته في آخر السطر، وآخر السلم الموسيقى البديع.. انتهى بحث نصفي عن نصفه الثاني، فوجد الحَيْمَنْ طريقه الى بيضتها لتخصب (يهو/ ده + مسعو/ ده). ما أن تعانقا، بعد أن التفت الساق بالساق، ولهثا، وانتهت نشوتهما كذكر، وأنثى، بعد ذلك الاشتهاء العاصف.. توقفت تلك الموسيقى العظيمة المندلعة كخريرِ السواقي، نقطةُ شوط المُطلق، وشوطُ المُحدد. تلك الكونية النغمية التي يقودها الله بجلاله جعلتني أكتشف بأن لي نفساً، وكياناً مخلوقاً، مواصلاً رحلتي على كل مساحة أمامي.. وقفتُ عند غربة ظلام دامس، وبداية الضياع، مسيرة دائمة، رحلة مستمرة. حتى اتخذتني الأرض، فكان لي القدمان اللتان سأسير بهما إلى أرض أخرى. حيث لم اختر العقيدة، ليّ عقل ينطق لساني، سأتعلم جيداً حتى الجنس من ذكر إلى أنثى، أو العكس. يتغير كل متغيّر إلى متغيّرهِ الآخر، أن تحيّا، هو أن تتغير؛ واي خيار سيأتي خيار معرفة.
كأنما تاريخ هذا الجسد كتب على ورقة نوتة موسيقية، وسيقرأ بمشاعر عازف قدير على آلة "شوفار" مُقدّسْ.نغمات هذا الكون تاريخ موسيقي، مدوّن على الذاكرة الكونية، نغمات هي أغلى ما تملك هذه الأرض..
(هو+ هي) تراكمُ الحسّ، وتراكمُ الثبات، وتراكمُ اليقين.. اللحظة المكتوبة بنشوة، أوجدت (أنا) وأوجدت تواصلاً لموسيقى أخرى تندلع بتصاعد، لأنها موسيقى الله بكل عظمتها وسحرها وملكوتها، بها أمرُ تكوين، موسيقى الخليقة، الإنسان ربط النغمة المتواصلة، بحرية لذته.
***** ***** *****
بقي اسمه في الوثائق الدينية اليهودية "مَكابْيوسْ"، كما بقي ذلك الطفل الذي لم أسمع عنه من أحد "سرّاً من بين أسرار حياتنا"، وقد انقطعت أخبار "يهودا" لأكثر من سنتين...
قرر والده أن يكون اسم ابنه في الوثائق المدنية "مُحَمَّد"، إعجاباً وتيمّناً بشخصية جدلية غيرت مسيرة التاريخ.. ولحماية "الابن" من الغدر الذي قد يلحق به بسبب دينِ أبيه، وثانياً بسبب خوف المطالبة به، من قبل أهل زوجته، لأنه تيقّن بأن والدها سوف لن يسكت عن ذلك الأمر، ابداً.
جاءوا خاطبين، ثم تفارقوا، وبينهم جبل من كبرياء، وقال كل منهما للآخر:
بعد ذلك بعدة أشهر عرفوا بأن "مسعودة" رفضت العودة الى بيت أهلها، وفضلت البقاء هناك لأنها حامل من "يهوده". ولن تعود إلى بيت أبيها ما لم يتفق الأبوان على صيغة تجمع الحبيبين، ولكن المسارات تعقدت بالسوء.
- "صار عناد الأبوين أكبر من قصة حب بين عاشقين"،
اذ تراشقت الأطراف البعيدة بالتهديد والوعيد ما بين أهلها وأهله".
***** ***** *****
قالوا لي يا "مسعودة": -"ليسبالضرورة أن يتسابق العرسان على طلب الزواج من المرأة الغنية والجميلة.. اقبلي يا مسعودة بأول خاطب، ولا ترفضيه قبل ان تطولك لعنة العنوسة"..
كان "واكيم" يكبرني بعشرة أعوام، ابن الشيخ "ضرغام العطيّة"، انتظر وتقدم من جديد ففاز بموافقة والدي، وأيضاً هو أحدُ أبناء عمومتي، طلبني للزواج أكثر من مرة، لم يرفضه "أبي" ولكنه كان يريدني أن أنهي دراستي في الإعدادية، قبل أي شيء، كان "والدي" يشجعني على نيلها، ليس لغرض أن أكون موظفة براتب شهري. لكنه كان يرغب في أن أكون امرأة متعلمة، ولأثبت للجميع قدرتي على التفوق في الدراسة.
ولكن الرجل بقيّ ينتظر الوعد أكثر من سنتين، أثبت خلالها بأنه قد حسم أمر اختياره لي، وبقيّ يسعى لنيل موافقة والدي بالزواج بي، وموافقتهُ بعد موافقتي، كأنما لم يكن أمامي غيره لكي اختار، لم يجبرني أحد على الزواج به، فأنا الابنة الوحيدة بين خمسة إخوة، المدللّة، زاد الاهتمام بيّ من بعد أن توفيت والدتي، وبقيت بين أشقائي وزوجاتهم كأميرة تحيطها حاشيتها من كل جانب.
ما إن تجاوزت مرحلة الخامس الإعدادي المنتهي، حتى كنت قد وصلت الثامنة عشرة، وشجعوني على الموافقة، ولم يكن الرجل ذا عيب بيّن.
- "للمرأة نصيب لا يرفض"..
صارت النسوة من حولي يَنْصَحْنني بقبول الخاطب المتقدّم لي، ولم يبق أمامي غير القبول لأنه وسيم جدا، ومتعلم، وغني، ومن عائله معروفة، وسمعته جيدة، وكان كريما في تعامله مع محيطي.. كان في صورة زوج مثالي يستحق القبول، بالتالي اقتنعت بحسنات الزواج والاستقرار.
***** ***** *****
أكملت مسعودة حكايتها:(طعنتهُ "باهرة" ابنة ساسون اللحّام، التي سبق ان هاجر أهلها قبلها بأربع سنوات، وبقيت المرأة على أمل أن تتزوج من "واكيم"، ولكنه لم يفعل... جاءته متنكرة في ملابس الرجال، وأخذت خاصرته بضربة سكين واحدة، لم نسمع منه إلا شهقة لم تكن عالية.. كمن لدغه عقرب"
تبين لنا فيما بعد أنها غرزة سكين مسموم. قضت عليه بعد أن وعدها بالزواج، ولم يفِّ بوعده حتى بعد أن حملت منه مرتين، وأنجبت، لم يتزوجها.. جعلها ترحل إلى "إسرائيل"، وبعد أن سقطت عنها الجنسية صعبت عليها العودة إلى بلدها الأم، بل عانت المستحيل عينه، لكنها بنقودها تارة، وبمساعدة معارفها تارة، دون أن تكشف لهم عن غايتها.. استطاعت أن تخرق كل ذلك القيد، بعد أن جازفت بكل شيء لأجل أن تحقق غايتها. خدعها ولم يلتحق بها، بحجّة أنه جمع أمواله، التي كانت بين الناس، وطلب منها أن ترحل مع أهلها، على أمل أن يلتحق بها في أقرب فرصة، ومضى عليها أكثر من سنتين، تنتظر منه الوفاء، حتى وصلتها الأخبار بأنهُيعدّ للزواج من امرأة أخرى. أقسمت على انهاء حياته قبل أن يتزوج غيرها. وضعت خطتها بالعودة إليه والنيل منه مهما كلف الأمر.. خاصة انه لم يقبل تسجيل أبنائها باسمه.
عادت من إسرائيل إلى "بلغاريا"، ومنها إلى "تركيا"، وبعد عدة سفريات للتمويه وبمساعدة إحدى صديقاتها، المنتمية إلى أحد الأحزاب المحظورة التي كانت تتمفصل على الحدود العراقية التركية، وعبرت الحدود مشياً على قدميها. ركبت البغال وعبرت أنفاق جبال مع دليل سار متحديا وعورة الصخور، لأكثر من أربع شهور حتى وصلت الى مدينتها دون ان تتوقف في مكان..
تمكنت أن تتابع الأخبار بدقّة من بقية أهلها، ومعارفها، ولم تخبر بأيّ لها، استطاعت أن تكمل خطتها، وتعدّ له سمّاً فتّاكاً، بعد أن تنكَّرت بزي رجل، وبقيت مندسة بين الرجال المحتفلين.. حتى انفضّ الناس من المعبد، وبدأ العريس بأخذ عروسته من مكان حفل الزواج إلى بيت الزوجية، تقدمت منه بكل ثقة، وطعنته طعنة نجلاء جعلت منه لا يقدر على أن يكمّل خطوه أخرى، وسقط مغشيا عليه بين الحاضرين، لم تتمكن من الهرب بالرغم من قوتها البدنية حيث لم يقدر على تقييّدها ثلاثة رجال.
ولم يعرف أحد أيضا مصير المرأة القاتلة، بعد أن أبرّت بقسمها، وأنزلت عقابها، وحققت وعدها. إما ذووه أشاعوا بأنه مات بنوبة قلبية، بغرض عدم التشفي به. ترك أملاك كثيرة، من بساتين، وبيوت، وسوقا كبيرة لتجارة الماشية إلى ورثته، وصار لي منهما بستان كبير، كان أشبه بجزيرة تلتفّ من حولها النهران وتحيطها بالماء من كل جانب.
بعد الحادث المروع.. أقدمتُ على الانتحار أكثر من مره؛ ليس كمداً على الزوج الراحل. بل كمَداً على الطالع السيء الذي سيلحَق بيّ الضرر طوال العمر، فأنا لم أره سوى ثلاث مرات لم تتجاوز عن النصف ساعة، مرة في حفل قبول خاتم الزواج، والثانية كانت في المعبد عند عقد القران عندما ربط اسمينا بالعهد على السراء والضراء، والثالثة قبل الطعن ثم سقط مغشياً، رأيت الدم يخرج من منخريه، تحوّل بياض وجهه إلى لون السخام.. لوَّثَ فستاني الأبيض، (لمَ كنتُ متعاطفة مع القاتلة؟ لا أدري) حيث لم أنسّ ما حييّت لمعة العين المظلومة، والمُغْتَلِمَة بالغلّ، التفتّ إلى باهرة بكل هلع، وحبس لساني عن أي صوت.
كانت هناك شعلة من بغضاء مليئة بالأسى تمتدّ بينها وبين زوجي "واكيم" الذي لم يتأخر حتى سجيّ على الأرض، لم ألحظ دمه أول الأمر. بقيت مرتعبة من تلك الشعلة الوقادة بالغلّ الغليل، وكأنها ترجوني أن ابقيّ نفسي هادئة.. كان مزيجا من الانبهار وعدم استيعاب، يغطي مساحة الفراغ الذي اتسع كالهوّة، ابتلعتنا. ولم اتعاطف مع صاحب الوجه الذي تمسك بيدي. شدّها وهو يهوي على الأرض كشجرة قطعت من أسفل.
ارادَ أن يأخذني معه إلى الأرض، ولكني بقوة أفلت يدي.. رغم أنه قد أقفل ضمّة أصابعه عليها، وتحولت الى حجر، حاولت إفلاتها، ولم أستطع.. كأنه أراد أن يعطي لمَلَكْ الموت روحي عوضاً عن روحه المقبوضة، نفضتُ عنيّ كفه لكني لم أستطع.
***** ***** *****
لم تتغير عادتي اليومية بالذهاب الى المكتبة العامة، وصرت أقرأ قصص التاريخ، وأبحث عنها، إضافة الى بقيّة القصص البوليسية، التي هوّستني بحلاوة مفاجآتها، وحلاوّة الاستِدلال إلى نتائجها الذكية، بدأتُ أصل الى صعوبة الحصول على ما يناسبني قراءته، كتب ثريّة فيها قصص التاريخ المديدة، أخذتني نشوة القراءة من كتاب الى آخر، ولم اتنبه الى تلك الفوضى العشوائية، صرت أقرأ فيها دون تتيع التسلسل الزمني.. كان لي التاريخ مجرد حكايات وحسب.
حرصتُ بين الفترة والأخرى أن أدوّن في "دفتر" تلك الملخصات الموجزة جدا عن الكتب التي أعجبني، وفي كل مرة أبتكر حوار داخلي أجريه مع "هيرودتس"، على الرغم من أني لم أجد كتابا واحدا عنه في خزانة المكتبة العامة. بات الرجل أكثر من لغز أتمنى حله، قرأت المزيد عن الغاز حكايات تاريخية، بقيتُ اتخيل أصحابها يمرون أمامي، كما يمرّ ابطال الأفلام على شاشة السينما. اتخيّلهم أمامي بلحم ودم، وليسوا بحروف مجتمعة. كنت أيضا اتمنى تخيل صاحب التاريخ "هيرودتس" وصلته بما غيّب عني بعمد عن "مكابيوس" الذي صرت ُ أبحث كصلةٌ مغلوبةٌ، يسطحها الأسى، ويمرّغها العدم.
فالذاكرة تسطحت تحت الفقر، والجهل، والتجربة المحدودة، ولم يكن لها أي عمق، ولكني بقيت أحاول المواصلة في جمع المعلومات.. بالرغم من شحة المصادر، حاولت أن أجمع حتى أذيال الكلمات، وبقاياها، وكل ما موجود في ذاكرة الذين معي، لم أهمل منهم أية كلمة في الموضوع ذاته، إلا ودوّنتها.
نظمتُ دفتراً، وبدأت فيه تدوين الملاحظات الشفهية، ورحت أفهرِّسها حسب تاريخها بدءاً من عودة العم "حسقيال"، وكل ما سمعته من حديث لفَتَني..
دونتُ في كل صفحة أوصاف كل شخصية من معارفي، ورأيت أن أكتب تحت كل جديد التاريخ، اليوم، والساعة، وكل معلومة جديدة قد أسمعها عن الموضوع.. سواء من محيطي داخل العائلة او من محيط "العمة أمينة" التي بخلُت عليّ معلوماتها عن مدى العلاقة الواضحة بين "أبراهيم ويهوده"، ومرة ذكرت لي عن شخص صديق مقرب لـهما اسمه "مير"(35) ، وتلك كانت فاتحة جديدة كان عليّ أن أجمع عنها معلومات علّها توصلني الى "مكابيوس".. حيث لم يكن قد ذكره أحد حتى ولم تظهر له أية صورة بين صور العائلة.
كذلك دوّنت المعلومات التي سمعتها من جدتي لأمي، ومع جدتي لأبي إضافة إلى وصف بعض الصور التي كانت في البومات العائلة..
عزمتُ على أن أفشي السر الذي عزلني به "أبي" بمعرفة حقائق عن صديقه.
كان من المفترض أن أعرف منه، كما يحدث مع آباء أصدقائي، يتحدثون بحرية مع آبائهم؛ أما أنا فلا أستطيع. كلما نويت إعادة السؤال أجد لساني متوقفا عن النطق اذ تضطرب أحوالي خوفا منه.
عندما نزل مني سائل البلوغ في سروالي أثناء النوم، ظننت به عارض مرض خطير.. إذ سمعت الأكبر مني يتحدثون عن "سيلان" ينزل من عضو المصاب، ولم أجرؤ يومها على الإنصات إليهم، حيث كنت لا أحمل أي فضول تجاه هكذا معرفة.. موضوعٌ قد سوَّرَتهُ التربية كالسور المنيع.. وقتها ظننت بأني قد وقعت في محظور لم أذهب إليه، كأنه مرض حلّ بي كما لعنة، وبقيت كلما نزل؛ زاد حزني، وخوفي، وزادت عزلتي.
فانزويت خائفاً منتظرا قدري. ولم أستطع أن أسال به أحداً، مخافة الظن بالسوء.. كم تمنيت أن أجد من يوضح ما كان يلمّ بي، خفت كثيرا من الأب، خفت كثيراً من الأم، من الجدة، والعمة، والخالة. وكذلك خفتُ من الصديق. لكني بعد ستة أشهر من هذا الخوف، والظرف النفسي السقيم استمعت مصادفة إلى تقرير تحدث فيه طبيب لإذاعة "B.B.C"، عما أوصلني الى ميناء خلاصي من ذلك الكابوس. يومها كنت بحاجة إلى من يرشدني، ويفهمني بأن الأمر طبيعي بعد أن بلغت مرحلة المراهقة..
كانت تلك إحدى أول أزماتي الكبيرة، وتبين لي بأنها لم تكن أصلا أزمة، ولكن طبيعة ظرفي جعلت منها أزمة.. حيث نأيتُ ببحثي عن "مكابيوس"، والذي تيقنت انه يعيش ضمن أفراد الحلقة القريبة مني..
دونت كل ما سمعته: -(ما لم يكن متزوجاً من "مسعودة"، فلا يحق له المطالبة بابنه)، -(ولدته أمه، وتوفيت عنه. أراد جده لأمّه ان يحرم أهل والده منه).. -(أراده بأي ثمن، لأنه ابن ابنته).. -(الابنةقررت البقاء في منفاها الاختياري بعيدة عن ابيها)..-(أبقى هناك، ولن أعود حتى تقبلان زواجي من "يهودا")..-("إبراهيم دندي" شاركه أزمته... بقيّ يسانده ويشاركه الهمّ أولاً بأول)..
- (أوصى الجد بالحفاظ على حصة الحفيد مكابيوس من الأرث)..
- (يعرف كامل القصة عن صاحبه بأدق التفاصيل، صديقان يذكران وكأنهما شخص واحد)..
راجعت ما دوّنتُه على اوراقي:- (أية حكاية مقنعة ستكون أكثر تشويقاً، كونها حكاية حقيقة ليست ملفقة، الحكاية قالت نفسها بكل جدية، وحزم بأن "يهوده"، قد ترك ابنه الوحيد منذ اليوم الأول، لولادته في عهدة أحد أصدقائه المخلصين جداً.. تحت ظروف قاهرة جعلته يقبل بالحل الذي كان يظنه مؤقتاً)..
- (الحكاية تريد أن تكون أكثر موضوعية لتقنع القارئ حتى يستمر معها للنهاية، وكلما كانت حجتها ضعيفة، مرتبكة، غير مترابطة، تجعل القارئ يملّ سريعاً، وربما يترك القراءة بحثاً عن قراءة أخرى يقرأ بها، قراءة لن تستخف به ولا تُسطّح عقله. القراءة ابنة اليوم الذي هي فيه، وليست اليوم الذي هي منه، كل حكاية وان كانت من الخيال لابد أن يكون لها جذور معلومة).. - (حتى وان عرف الأب بانها حبلى من ابنه، لم يبارك لهما الزواج).. -(أنجب من امرأة عشقها بجنون)..- (صار أمام أمر واقع آخر، بين نارين، لم يستطع أن يجد لذلك أي حل).. - (الطفل يحتاج إلى رعاية)..
***** ***** *****
بقيت عمتي "صبيحة" كسيرة، منذ أن فقدت عينها اليسرى، في حادث عابر اثناء عملها في بستان كان يملكه جدي(36). لم تخرج من البيت إلا في أحوال نادرة، وهذا قد سبب لها حالة عصبيّة، غالبا ما تكون متوترة، تكيل لي ولأمي الشتائم لأتفه الأسباب، ولكنها كانت امرأة طيبة..
بعد ذلك تأتي إلى غرفة معيشتنا وتلاطفني وتلاطف "أمي" حتى يكون الموضوع منسيا بين الطرفين، وربما يتكرر ذلك أربع مرات في اليوم نفسه، وغالباً ما يحضر الثلاثي مساء أمام التلفاز "أمي عمتي وجدتي"، قبل الساعة السادسة، موعد بداية ارسال المحطة، عمتي هي التي اشترته من مدّخراتها، نحلّق حوله بصمت لنشاهد تلك الخطوط المدرجة بالأبيض والأسود، وبعدها يغرّد عصفور البث.. حتى يتبعه الافتتاح بالقرآن الكريم لمدة ربع ساعة، وينهي بـ"صدق الله العظيم".. ثمَّ يبتدئ مشوار أفلام "الكارتون "(37)، ويمتد حتى السابعة والنصف، بعد ذلك يطلب مني أن أذهب الى النوم أو متابعة دروسي.
ذات مرة قلت لأمي بعد أن طالت فترة برنامج قراءة القرآن، قلت لها لماذا يا "أمي يقول قارئ القران "صدق الله العظيم"، قالت لأننا وجدنا التعاليم هكذا، فقلتُ لها: ولكنها ليست مكتوبة بالقرآن.. فقالت: الله هو القائل، فعلينا أن نصدق القول كلما ننهي قراءته، قلت لها؛ هل يحتاج الله إلى كلام حتى نصدق على قوله.. مادام الكلام كلامه فنحن كبشر لسنا بحاجة الى هذه اللازمة الزائدة، وما أن أنهيت جملتي البريئة وجدتها تناولت نعالها، وقذفت به تجاهي، ولم يصبني. لكنه أصاب الصورة التي كانت معلقة في منتصف الجدار، فسقطت وتهشم إطارها، كانت عمتي تقول عنها أنها صورة نبينا أبو الأنبياء "آدم"، ومعه أم الأنبياء "حواء" عليهما السلام.. مما أغاض أمي أكثر، ولم أستطع أن افلّت الى خارج الغرفة، لأني بقيت محصورا في عمق الغرفة، وجدت "امي" تنقضّ علي بالضرب حتى نزف أنفي، وكأنها أصيبَتْ بهستريا من جراء توكيدي على السؤال البريء، ثم قامت جدتي وحمتني بين احضانها.


35* شخصية لم اسمع عنها الا القليل
36* (تبين انه لم يسجل باسم جدي في دائرة العقاري، لما توفي جدي ظهر له انه مسجل باسم مالك آخرولم يؤول البستان الى الورثة الحقيقيين).
37* فترة برامج الأطفال كانت تسمى فترة أفلام الكارتون، والمقصود بها الفترة التي يعرض خلالها أفلام الرسوم المتحركة


ــــــ 
9

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى