مغاربة حاربوا في صفوف الثورة الفلسطينية.. قصة الحسين بنيحي، على لسان محمد بنيحي الطنجاوي رحمه الله

من بلاد طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين
من الحسين إلى الحسين، كل الطرق تؤدي إلى القدس.
قصة الحسين بنيحي والحسين بنيحي، على لسان
محمد بنيحي الطنجاوي رحمه الله
مغاربة حاربوا في صفوف الثورة الفلسطينية

كان الحسين بنيحي الطنجاوي مع رفاق له خليط من المناضلين والحالمين والضائعين يعزف في جوقة بميادين امستردام
في صباح يوم 29 نونبر 1974 صدرت صحف بيروت تعلن : استشهاد خمسة فدائيين ونجا واحد في عملية جريئة بالجليل الأعلى في فلسطين المحتلة. ونشرت صور الشهداء وكان أحدهم الحسين الطنجاوي والأربعة الآخرون : مصري، سوري، عراقي ومجاهد من عربستان.
قالت صحف بيروت إن إسرائيل ولأول مرة رمت بجثث الشهداء على الحدود في جنوب لبنان لترعب سكان القرى وتتوعدهم إن هم تسامحوا مرة أخرى مع الإرهابيين، وسهلوا لهم المرور إلى داخل الأرض المحتلة.
في 9 دجنبر أصدر مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط بيانا جاء فيه: "بسم الله الرحمان الرحيم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" صدق الله العظيم. يا جماهير شعبنا المغربي، يا جماهير أمتنا العربية، يوم 28 نونبر 1974 استشهد خمسة من ثوارنا الأبطال من خمسة أقطار من المغرب وفلسطين وسوريا والعراق وتركيا، كانوا في طريقهم إلى أداء الواجب المقدس في الأرض المحتلة حين اصطدموا مع قوات كبيرة للجيش الصهيوني واشتبكوا معه في معركة بطولية فذة واستشهدوا جميعا بعد أن أوقعوا في صفوف العدو خسائر كبيرة. وكان الشهيد الحسين الطنجاوي أحد هؤلاء الأبطال...
يقول عايش عيسى المستشار بالسفارة الفلسطينية في الرباط، الذي عايش متطوعين عربا في قواعد الثورة الفلسطينية، أن تطوع العرب في صفوف الثورة الفلسطينية بدأ في العام 1968، وبالنسبة للمغاربة بعد شتنبر 1970 بعد تعاظم الثورة الفلسطينية وتناميها، وكان لا بد من دعم الشعب الفلسطيني في ثورته المسلحة. وعن عملية التطوع بشكل عام يقول عيسى أنها لم تكن لها قوانين أو ضوابط محددة باستثناء أن يكون الإنسان مؤمنا بعدالة القضية الفلسطينية؛ فيتقدم مباشرة إلى مراكز القيادة الفلسطينية في دمشق أو في عمان أو في بيروت وأحيانا في القاهرة للتطوع في صفوف المقاومة. وتتراوح فترة التدريب بحسب محمد العربي المساري، الذي قام في أواخر الستينات بزيارة معسكرات الثورة الفلسطينية بين شهرين وثلاثة أشهر يكسب خلالها المحارب لياقة بدنية ومعرفة أساس لمختلف أنواع الأسلحة، بعدها ينتقل مباشرة إلى الواجهة النضالية أو إلى الواجهة العملياتية ضد العدو الصهيوني.

ولد الحسين الطنجاوي في مدينة تطوان العام 1945 بعد الكتاب التحق بالمدرسة الابتدائية بحارته "سانية الرمل" ثم الثانوي، كان نبوغه مبكرا في الرياضيات. بعد البكالوريا التي حصل عليها العام 1965 التحق بجامعة بلنسيا في اسبانيا، كلية الهندسة، وتخرج منها مهندسا في الطيران، كانت بلنسيا مرتعا لحركة طلابية يسارية وكان عدد الطلبة بها كبيرا، وخاصة الطلبة المغاربة والفلسطينيون، لم يكن اهتمام الحسين بالنضال السياسي والوطني وليد احتكاكه بالحركات الطلابية في اسبانيا؛ فمنذ صغره عاش وسط أجواء ذلك النضال من خلال عائلته ومن خلال رفاقه تلاميذ الثانوية بتطوان.
بعد بلنسيا ذهب في رحلة البحث عن الحلم الذي نسج عبر التجارب صورته في ذهنه... قادته الرحلة إلى أوربا، ايطاليا أولا، حينما كان الحزب الشيوعي الايطالي هو طليعة اليسار الأوربي، وانخرط في العمل السياسي في ظل هذا الحزب إلى أن اكتسب صفة العضوية، وهو شيء نادر أن ينال العضوية شخص من خارج المناضلين الايطاليين.
التحق لفترة أخرى بهولندا... وهناك تكشف البعد النفسي للحسين، فقد أظهر براعة كبيرة في العزف على القيثارة، وكان مع رفاق له خليط من المناضلين والحالمين الضائعين يعزف في جوقة بميادين أمستردام، فيكسب من ذلك ما يسد به رمقه المعيشي والفكري باقتناء الكتب والمجلات. اجتذبته أضواء المد اليساري في الستينات إلى أكثر من موقع ودائرة... ولكن الحسين كان يرى أن موقعه ليس في أوربا... بل هناك... مع الثورة الفلسطينية طليعة النضال العربي، وشعلته المتوهجة.
في بغداد التحق بالجامعة – كلية الحقوق – وقواعد التدريب على السلاح، ثم ما لبث أن تخلى عن الدراسة لينتقل إلى المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان العام 1973، وانخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) ثم يقوده الاختيار إلى قرار الانخراط في النضال المسلح. هناك تراجعت الايديولوجيا إلى الخط الخلفي لنضال وشخصية الحسين، في ذلك الفضاء اللا متناهي للثورة التي يجب أن تستمر، حتى يود الحق إلى أهله... والمظلومون إلى ديارهم. ومن المتطوعين المغاربة الذين يذكرهم عايش عيسى على سبيل المثال لا الحصر الشهيد مرزوق من أصيلا والشهيد البوشيخي الذي اغتيل في النرويج والشهيد مصطفى علال قزيبر – آخر الشهداء المغاربة، استشهد العام 1994 – والشهيد الحسين الطنجاوي. وهناك مغاربة لم تكتب لهم الشهادة وعادوا إلى المغرب يساهمون الآن في بناء المغرب، منهم محمد لومة. وذكر عيسى أن عددا من المغاربة شاركوا في حملات تطوعية عندما كانت تتعرض الثورة الفلسطينية أو لبنان لعدوان اسرائيلي كانوا يذهبون ثم يعودون إلى المغرب بعد شهرين أو ثلاثة. ويوجد الآن مغاربة في صفوف السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة أو في الضفة الغربية. (محمد الناسك)



فيما يلي شهادة محمد الطنجاوي أخ الحسين الطنجاوي ويحكي عن آخر لقاءاته به:

كنت قد توصلت بآخر رسالة منه، طمأنت والدتي وقلت لها :
- الحسين بخير، إنه يقبل كفيك ويطلب رضاك.
- وأين هو الآن... ومتى يعود؟ وندت عن صدرها زفرة مكلومة وأحكمت رباط منديل تجعله دائما عصابة حول جبهتها، وقالت كالمخاطبة نفسها :
- لقد طالت غيبته كثيرا هذه المرة.
- إنه في لبنان يا أمي، وقال لي في الرسالة إنه سيعود قريبا... قريبا جدا.
انزويت في ركن بالبيت، فتحت الظرف وأفرغت بباطن كفي ما بداخله، وأعدت قراءة الرسالة التي وصلتني من أخي الحسين :
"أخي محمد العزيز أبعث لك بذرات من تراب فلسطين، من الجليل الأعلى، لقد عدت ورفاق لي من عملية فدائية ناجحة داخل فلسطين، سبق لي أن ذهبت أربع مرات وسأعود مرات أخرى.
وفي صباح يوم 25 نونبر 1974 صدرت صحف بيروت تعلن : استشهد خمسة فدائيين ونجا واحد في عملية جريئة بالجليل الأعلى في فلسطين المحتلة. ونشرت صور الشهداء وكان أحدهم الحسين الطنجاوي والأربعة الآخرون : مصري، سوري، عراقي ومجاهد من عربستان. وقالت صحف بيروت إن إسرائيل ولأول مرة رمت بجثث الشهداء على الحدود في جنوب لبنان لترعب سكان القرى وتتوعدهم إن هم تسامحوا مرة أخرى مع "الإرهابيين" وسهلوا لهم المرور إلى داخل الأرض المحتلة.
أما أخي الحسين فقد سلك إلى فلسطين طريقا طويلا، من "بلنسيا" في إسبانيا حيث أتم دراسته بتفوق في هندسة الطيران، ثم إلى بلدان أوروبية كثيرة، ثم إلى العراق وأخيرا إلى قواعد الفدائيين في جنوب لبنان، وحينما كان يأتي إلى المغرب في فترات متقطعة كنت أراه إنسانا آخر غير الذي عرفت أو توقعت أن يكون، أراه مستغرقا في قراءة كتب بالفرنسية والانجليزية والايطالية يحملها معه حتى لأخال أنه نسي لغته، أو فقد الرغبة في الكلام معي ومع الآخرين. وذات يوم على شاطئ البحر في مدينتنا سألني :
- أنت أدركت الوالد أكثر مني، فهل تتذكر ما كان يحكى عن أخيه، أعني عمنا... ماذا كان اسمه؟
- الحاج الحسين...
- نعم الحاج الحسين، هل تتذكر ما كان يرويه والدنا عنه؟
- كان عمنا الحسين أكبر من الوالد، وبعد أداء فريضة الحج في سنة 1947 عرج كما المغاربة منذ مئات السنين على مدينة القدس للصلاة في المسجد الأقصى، فقامت الحرب العربية الفلسطينية، وحمل السلاح مع الفلسطينيين ، واستشهد في يوم ما في مكان ما من فلسطين. كانت معه أخته، عمتنا البتول، استطاعت الوصول إلى مصر، وأذكر أنها كانت تبعث برسائل إلى الوالد، وكان يحكى لنا أنها تزوجت في مصر وكانت تسكن بحي المغاربة في سيدنا الحسين. وقد اختار الوالد أن تحمل أنت اسم أخيه، وقبلك سمى بكره الحسين ولكنه مات طفلا.
وسألته مداعبا :
- هل تتوق أن تكون مثل عمك، تحج، ثم تعرج على القدس، فتحمل السلاح فتستشهد وتدفن في مكان ما في فلسطين؟
ويفتر ثغره عن ابتسامة ويسألني :
- لماذا لم تزر أنت القدس قبل أن تسقط في يد الصهاينة، لقد زرت الشرق العربي كثيرا بحكم مهنتك كصحافي، هل رأيت صهيونيا يحمل السلاح؟
- أما القدس فلم أزرها، وإني متألم لذلك، وفي زيارة للأردن بعد سقوط القدس ذهبت مع مجموعة من الصحافيين إلى جسر النبي، فرأيت الجنود الإسرائيليين على الطرف الآخر مدججين بالسلاح.
- ماذا كان شعورك؟
- أتريد أن تعرف إن ساورني الخوف من عيونهم أم من سلاحهم أم من غطرستهم؟
- كلا... كلا...
ويرفع كفه مؤكدا ما يفكر فيه:
- أردت أن أعرف إن امتلكك شعور بالرغبة في اجتياز الجسر بوجهه : أخرج من هنا هذه ليست أرضك، أو لتقتله فقد يكون أحد أبناء ذلك الصهيوني الذي قتل عمنا الحسين... لا... إن الحسين عمنا لم يقتل... لقد استشهد.
وأقول للحسين :
- ان حارتنا قبل أن تعمر بالبناء والسكان كانت أحراشا وبساتين، وكان سكان المدينة المعتصمون في بيوت منيعة داخل الأسوار القديمة يعتقدون أن حارتنا يسكنها العفاريت في الليل، وكان الوالد يتعمد لما يتدحرج الظلام من الجبال المحيطة بالمدينة فيطبق على حارتنا، أن يعطيك قرشا ويأمرك أن تذهب إلى بائع النعناع فتأتي بحزمة منه، وحينما تثور والدتك وتحتج لأنها قد ابتاعت مسبقا ما يكفي من النعناع ولا حاجة لنا به في تلك الساعة من الليل المدلهم، يقول لها والدك :
- أعلم أننا لسنا في حاجة إلى نعناع... ولكنني في حاجة إلى رجل لا يخاف، دعيه إني أدربه على الشجاعة ورباطة الجأش فقد يحتاج لها في يوم من الأيام.
هذا هو الابن الرابع الذي ترزأ فيه والدتي، فكيف لجسمها الواهن أن ينوء بثقل الفاجعة؟ وهل ما يزال في بحيرة أحزانها نبع من دموع؟ ففي حياة والدتي كانت فجيعتها فيما فقدت من أبناء وبنات فجيعة زوجة لها زوج يواسي، يحمي ويعوض، وينجب الصبر، يعجنه صلاة وجلدا وحمدا يملأ به شقوق الحائط الذي بناه سياجا لبيت أسرة تستيقظ على أذان الفجر، وتهجع بعد صلاة العشاء.
كان لي موعد في ذلك الصباح الذي قرأت فيه خبر استشهاد الحسين في صحيفة النهار، البيروتية، بعد ثلاثة أيام من صدورها، كان لي موعد مع الأخ الأستاذ فؤاد الحسيني وهو من الدبلوماسيين السعوديين الذين تركوا أطيب الذكريات في نفوس المغاربة، فلما أفضيت له بالخبر قال لي:
- لا تخبر والدتك الآن.
وفي المساء جاءني صوته عبر الهاتف:
- أحضر والدتك إلى الرباط غدا، واحمل معك جواز سفرها إلي في السفارة، فستذهب إلى الحج على نفقة الملك فيصل شخصيا. إنها أمنا جميعا والشهيد أخونا.
وبعد يومين كنت أودعها مع أخواتي في المطار وهناك في جدة تنتظرها أخت لي وزوجها الموظف بالسفارة المغربية وبعد أسبوع لحقت بها، أدينا الفريضة وذهبنا للمدينة المنورة، وهناك في أول ليلة بعد صلاة الفجر بالحرم النبوي وبينما هي مطرقة خاشعة ملتحفة بالبياض أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبلت كفها وهمست لها:
- ارفعي أكف الدعاء أن يبوئ الله ابنك الحسين المقعد الذي وعد به المجاهدين الشهداء.
وأخبرتها...
تهلل وجهها، وغشته سكينة هادئة، واتسعت حدقاتها كأنما لتذوبا في وهج الصفاء غيمة دمع تصعدت من القلب، والتقطت بكف مرصع بحناء من حصنها، ووست أناملها وهي تكر حبات السبحة، بما اعترى جسمها من اهتزاز، ولكن الإيمان كان أقوى بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب:
- يا رب خير من أعطى ومن أخذ أهدى الحسين ابني لرحمتك، يا رب لو أخذت ما بقي من أبنائي شهداء لكنت أسعد امرأة، يا رب أعني وجمد الدمعة في عيني فلا أبكي عليه، يا رب انصر أمة الإسلام وثبت أقدام المجاهدين.
واستمرت في صلواتها ودعواتها إلى أن خرجنا من الحرم النبوي الشريف، فالتقطت كفي وضمتها بقوة وقالت لي:
- كن صبورا ولا تحزن، وإياك أن تبكي فإن المؤمن لا يبكي على الشهيد، والشهداء يا ولدي يتألمون في مثواهم إن بكاهم أهلهم، آه لو كان أبوك حيا لتقبل التهاني بزفاف ابنه الشهيد.
يا لهذه الأيام الصابرة المؤمنة.
في جدة هرعت مسرعة إلى باب بيت لبنتها، ضغطت على زر المنبه مستعجلة، وجمعت كفها وقرعت الباب بقوة وحينما فتحته أختي أم كلثوم، هتفت بها فرحة:
- زغردي يا أم كلثوم... زغردي إن الحسين أخاك مات شهيدا في فلسطين.
شلت الدهشة جسم أم كلثوم الخيزراني، فغرت فاها وتجمدت واندفعت أمنا تجوب البيت وتزغرد، تنشر الزغردة في الأركان، ، ترشها زهرا وبخورا وعطرا.
- قالت أم كلثوم كمن لا تصدق ما سمعت:
- ولكن الحسين كان معنا هنا منذ شهر.
تداخلت أمامي الصور والذكريات، واللقطات كشريط ضغط مشغله على أزرار السرعة إلى الوراء وإلى الأمام، يبحث عن لقطة في الشريط يثبتها أمامه على الشاشة، يمحص تفاصيلها ويبطئ حركتها وحوارها، ليسمع، ليرى، ليسجل ملايين النسخ منها، فهي عنوان الشريط كله، وجوهر فكرته. تذكرت الحسين وحديثنا على شاطئ البحر في تطوان، كان قد عرف هدفه ورسم الطريق التي يسلكها إليه، من مكة والمدينة إلى القدس. وكل الطرق تؤدي إلى القدس، والجليل الأعلى ربوة تطل على القدس، وأينما تولوا فتم وجه الله.
وحكت أم كلثوم:
- جاء الحسين عندنا في جدة، كان ملتحيا، كم كان شديد الشبه بوالدنا، شعر أشعث كثيف في الذقن خفيف في الصدغين، قال لي: جئت لأداء العمرة والسلام على رسول الله "ص"، وزيارة كل الأماكن المقدسة، وبالطبع قال: جئت لرؤيتك فقد طال شوقي إليك، ولكنه لم يجلس معنا في جدة إلا يوما واحدا عند مجيئه ويوما قبل ذهابه، لم يعرف جدة ولا جاب أشواقها ولا تبضع شيئا له منها، كان يعلق على كتفه زكيبة أودع فيها القليل مما كان يحمل من متاع. في مكة المكرمة قضى أسبوعا، كان زوجي يفتقده بها فيجده معتكفا بالحرام. ثم رحل إلى المدينة المنورة حيث قضى أسبوعا آخر رافقه فيه زوجي بالسيارة. أدى العمرة وزار المواقع، جبل عرفات، المزدلفة، منى، وعند عودته من المدينة حرص على زيارة مكان موقعة بدر. سألته يوم مغادرته: إلى أين ذاهب بعدنا؟ أجابني: إلى لبنان. اعتقدت أن له في لبنان مأربا يريد قضاءه قد يكون له علاقة بدراسته لم أسأله ما يفعل في لبنان ولا هو حدثني عن ذلك، كان هادئا وديعا كما هو الحسين، يحب الأطفال، وكان يجلس صغيري هذا على فخده ويداعبه.
ومن جدة أخذت والدة الشهيد إلى بيروت نزولا عند رغبتها للترحم على ولدها، أما أنا فكنت منساقا لرغبة مني للانفلات من حالة علاقتي مع فقدان أخ وحيد لي كنت مسؤولا عن مستقبله لألبس حالتي الأخرى فأتعامل مع حادث استشهاد شاب مغربي في صفوف الثورة الفلسطينية. وكان خبر استشهاده قد نشرته الصحافة المغربية في صفحاتها الأولى بعبارات تنم عن اعتزاز المغاربة بضريبة الدم التي قدمها الحسين المغربي لهذه الثورة تزكية لأصناف الضرائب التي قدمها المغاربة دما ودمعا بتطوع وتطلع لفلسطين وللقدس الشريف على مدى مئات السنين.
وكنت أعلم أن قصة التحاق الحسين بصفوف الثورة الفلسطينية واستشهاده فوق أرض فلسطين لا تكتسي حادثا فريدا ومثيرا لو تعلق الأمر بدافع عاطفي هو القاسم المشترك بين جميع المغاربة، فكل مغربي فدائي للقضية الفلسطينية وللقدس ولعزة الإسلام وسؤدد أهله. ولكن هذا الفدائي، الحسين، التحق بصفوف الثورة الفلسطينية كأي مغربي إيمانا بها، وتجند في فصيل من فصائلها اقتناعا بخط مذهبي واختيارا لفكر ايديولوجي كمثقف بهرته الماركسية فجرته تياراتها في أجواء الجامعة ومنتديات ومنابر ذلك الهوس الفلسفي والفكري الذي كانت أوربا، في عقد السبعينات، تصطحب به وتلفظ به الأنفاس الأخيرة لعصرها الفلسفي قبل أن تسلم قيادها لعصرها الجديد.
كنت أتمنى أن أعرف في بيروت، كيف اكتشف الحسين نفسه ومعدنه، ذلك الطفل الذي كان يوقظه والده عند أذان الفجر ويصحبه معه إلى المسجد العتيق ومنه إلى الكتاب ليحفظ القرآن الكريم. كنت أريد أن أعثر في بيروت عن تلك المنطقة في ساحة حياته القصيرة وتجربته الغنية ومشاعره التي تدفقت دفعة واحدة، فواجه نفسه، وقرر العودة إلى النبع، فاعتمر، وصلى، واعتكف، وعاد ليقتحم ذات ليل الحدود والظلام ويزرع جسده في تربة فلسطين ليحمل لبلده كلها، لا حزمة نعناع، بل باقة عطر، ويستشهد في سبيل قضية استشهاد مؤمن بها، فداء لفلسطين، للقدس، لعزة الاسلام، لسؤدد المسلمين...
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون"
في بيروت زارنا بالفندق مناضل فلسطيني وقال لي:
- إن الحكيم ينتظرك وأم الشهيد على مائدة الغذاء اليوم.
وكان اللقاء مع الدكتور جورج حبش.
في الطريق إليه كنت أفكر في مشكلة لو حدثت لتحول فرح الأم إلى مأتم، وربما إلى كارثة تزلزل كيان "الحاجة زينب". وجدنا أنفسنا في قلعة محصنة بالرجال المدججين بالرشاشات والقنابل، رجال يحرسون البيت وآخرون منتشرون في زوايا الطرق المؤدية إليه، شباب قدوا من عزيمة تلمع في عيونهم، وظاهر بشرتهم تنبئ عن جلد صهر أجسادهم فلبسوا الخطر ينذرونه قبل أن يفاجئهم، وخلف هذه المتاريس من النظرات والتحفز والاستعداد للقتال، وجدنا أنفسنا وسط عائلة أحاطتنا بأجمل الابتسامات والمشاعر والرقة، وأجلس الحكيم أم الشهيد بجانبه وقال لها:
- كان الحسين عزيزا علينا، لقد فقدناه جميعا...
وقالت الأم: إنني وهبته إلى الله، لقد مات شهيدا في سبيل الاسلام والمسلمين. فجزاه الله خيرا، والله ينصركم ويعينكم على أعداء الاسلام والمسلمين.
وانتهى إلينا صوت مؤذن من مسجد مجاور، فرغبت الحاجة في أداء الصلاة فرافقتها سيدة، علمت أنها صاحبة البيت إلى المسجد، وفي غيابها قال الحكيم:
- كنا حريصين على حياة الحسين، ولطالما طلبنا منه أن يبقى بالقواعد فلا يغامر بحياته في عملية فدائية، فهو مؤطر ومفكر من خيرة شباب الثورة.
وتدخل حاضر فقال:
- لقد عرفته جيدا وكنت أحب الحوار معه، وذات يوم قال لي:
إنني لم آت للبنان لأعقد مناظرات ايديولوجية أو أضيع الوقت في التنظير السياسي، إنني جئت لأقاتل، لأمارس الثورة على الأرض، لا مكان للكلام وإنما للعمل.
وسألت إن كان ترك أغراضا أو حاجيات خاصة به فوضعوا أمامي زكيبة حينما تفقدت ما بها وجدت بضع دفاتر كان الحسين يسجل بها خواطره وأفكاره، جواز سفر، ومصحفا كريما، وبعض حوائجه مما كان يلبس، ومائة ليرة في ثنايا كتاب. واستضافت صاحبة البيت أم الشهيد معها ليومين، وبناء على رغبتها استقدمت مقرئا لتلاوة القرآن والدعاء بالرحمة للفقيد، وقال لي زوج تلك السيدة حينما أعاد والدتي إلى الفندق:
- لقد زار والدتك كثير من رفاق الشهيد وتأثروا بها بل إنهم أحبوها، فهي التي أنجبت ذلك المناضل الآتي من بلاد طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين.
وسألته:
ألم تحدث مشاكل؟
وشرحت ما أقصده، فابتسم وقال لي:
- لو بقيت الوالدة معنا مدة أطول لحدثت مشاكل من نوع آخر، ولربما تعرض النظام الأمني حول البيت إلى خلخلة بسبب التردد على المسجد مع الوالدة للصلوات الخمس.
وصمت قليلا ثم أضاف:
أحد رفاق الشهيد الحسين عندما زار الوالدة تحدث لنا عنه متأثرا وقال لنا إنه في الأيام الأخيرة كان شديد التمسك بالفرائض وكان يصلي ويختلي وحده تحت شجرة فيفتح المصحف ويستغرق في تلاوته بصمت.
ثم قال بتأثر:
- حقا ما أروع أن يكون المناضل مؤمن بالله.
وهممت أن أقول له:
- وهل يمكن أن يكون المناضل مناضلا إذا لم يكن مؤمنا بالله...؟
وقبل أن نغادر بيروت زرت الأستاذ بسام أبو شريف في مكتبه بالمجلة التي كانت تصدرها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكانت آثار الاعتداء الذي تعرض له ما زالت شديدة البروز في وجهه، كان حفيا بي، ودودا، غامرا بالعواطف، تحدثنا طويلا ففاجأني بقوله:
- ما رأيك في أن تسعى لدى المغرب للسماح بنقل جثمان الشهيد الحسين من هنا لندفنه في بلدته تطوان، إن ذلك سيكون رائعا لنقيم له في المغرب حفل تأبين يليق بتضحيته ووفقني الله أن قلت له:
- دعه هنا قريبا من عمه ومن إخوته شهداء المغرب في القدس، في الجولان، في سيناء... دعوا الشهيد حيث استشهد فمن يكون في استقبال شهداء المغرب الآتين بعده للصلاة وللشهادة؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى