أ. د. عادل الأسطة - تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف (1...20)

1 - محمود درويش : " هدنة مع المغول "

في الحرب التي تخللتها هدنة منذ فجر ٢٤ / ١١ / ٢٠٢٣ حضرت أشعار محمود درويش في الحرب والهدنة معا كما لم تحضر أشعار شاعر فلسطيني وعربي آخر ، تلتها أشعار مظفر النواب . أشعار الأول لأنها عبرت عن المأساة الفلسطينية كما لم تعبر عنها أشعار شاعر ثان ، ولأنها الأكثر حضورا في الوجدان الفلسطيني أيضا ، وأشعار الثاني لأنها عبرت عن خيبة أمله المبكرة من الأنظمة العربية ، وخيبته هي الخيبة التي تلم بالجماهير العربية كلما تعرض جزء من الوطن العربي لحرب ولم تتخذ تلك الأنظمة موقفا تنشده تلك الجماهير . هذا لا يعني أن أشعار شعراء فلسطينيين أو عرب آخرين لم تحضر . فأنا استحضرت نصوصا شعرية لإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي ومعين بسيسو وأحمد دحبور ومريد البرغوثي ، وغيري استحضر مقطوعات لنزار قباني وأحمد مطر وتميم البرغوثي وغيرهم .
مقاطع درويش في غزة حضرت في بداية الحرب حضورا لافتا ووجدت صدى كبيرا ، كما حضر نصه " صمت من أجل غزة " الذي كتبه في العام ١٩٧٢ ونشره في كتابه " يوميات الحزن العادي " ( ١٩٧٣ ) ، وهو نص يستحضر كلما اشتعلت الحرب في غزة منذ ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ ويبدو كما لو أنه كتب للتو . كان الشاعر كتب عن غزة في بداية سبعينيات القرن ٢٠ شعرا ونثرا ، وحفظ أبناء جيلي مقاطع من ديوان " محاولة رقم ٧ " ( ١٩٧٤ ) وأهمها سطر " وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب " وقد اخترت في بداية الحرب المقاطع التي ظهر فيها دال غزة من قصيدة " الخروج من ساحل المتوسط " وأدرجتها معا ، ليعاد نشرها في مواقع إلكترونية كثيرة أبرزها موقع " مبدعون فلسطينيون " الذي تديره روض الدبس - وأكثرت بدورها من إدراج مقاطع كثيرة من شعر الشاعر - وحول غزة في شعر درويش كتب الروائي إلياس خوري مقاله الأسبوعي في " القدس العربي " وكان عنوانه " غزة لا تبيع دمها " ( ٧ / ١١ / ٢٠٢٣ .
ولم يكتف الناشطون بإدراج مقاطع من شعر الشاعر ، فقد أدرجوا أيضا أشرطة قصائده ملقاة بصوته ومغناة بصوت مارسيل خليفة مثل قصائد " أحمد الزعتر " و " عندما يذهب الشهداء إلى النوم " .
ومن المقاطع التي كثر إدراجها بعد توقف القتال وبدء سريان الهدنة المقطع الذي ترد فيه عبارة " ونرقص بين شهيدين " من قصيدة " ونحن نحب الحياة " ، وسبب ذلك أن الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين رافقه فرح أهلهم بأبنائهم ومشاركة الناس لهم فيه . لقد تم الفرح في فترة ارتقاء ١٥ ألف فلسطيني وجرح ما لا يقل عن ٥٠ ألف آخرين ونزوح ما لا يقل عن ٨٠٠ ألف من شمال غزة إلى جنوبها وتدمير حياتهم ومساكنهم . كما لو أن الفرحة غير مكتملة .
في الهدنة عدت إلى قصيدة " هدنة مع المغول أمام غابة السنديان " من ديوان " أرى ما أريد " ( ١٩٩٠ ) لأقرأها من جديد وأواصل كتابة يومياتي عن الحرب بما يتناسب والواقع الجديد ؛ يومياتي التي لم تخل من تضمينات من أشعار الشعراء الوارد ذكرهم آنفا . إنها القصيدة الأكثر انسجاما مع واقع الهدنة التي ذكرتها وأنا أكتب عن قصة غسان كنفاني " الصغير يذهب إلى المخيم " مميزا بين زمني الحرب والاشتباك .
" هدنة مع المغول أمام غابة السنديان " التي تتشكل من ستة عشر مقطعا ينتهي كل واحد منها بدال السنديان تستعير من التاريخ غزو المغول للبلاد الإسلامية وتوظف رموزا مغولية ولكن زمنها الشعري لم يخل من تأثير الزمن الكتابي حيث ترد فيها مفردات معاصرة لم يعرفها المغول مثل " البندقية " و " البنادق " مما يجعل القصيدة تجمع بين زمنين هما القرن ١٣ م والقرن ٢٠ ، ويجعل منها قصيدة ذات دلالات رمزية تقول الراهن من خلال الماضي ، ولأنني قرأتها في زمن لاحق - أي في العقد الثالث من القرن ٢١ ، فإنني بكل بساطة يمكن أن أضيف إليها زمنا ثالثا هو زمن القراءة فأرى فيها قصيدة تعبر عن اللحظة الراهنة أيضا وتقول ما أريد قوله.
والسنديان كما في معجم حسين حمزة "الموتيفات المركزية في شعر درويش" يدل على التجذر وعلى الماضي الممتد في الحاضر، وهو رمز للثبات والصمود أمام المتغيرات، وهو المأوى البديل في المرحلة الأولى بعد التشرد ، وهو شاهد على الضحية والقاتل. إنه حاضر في الذاكرة الفلسطينية ومكون من مشهد الريف الفلسطيني (ص٣٢٢).
يتجسد الله في السنديان الذي يطيل الوقوف على التل ويصعد إليه الذين يتكلم الشاعر باسمهم كي يمدحوا الله ، فماذا سيحدث إن تركوا المكان ؟ يتطاول العشب إن لم يجد من يجزه وقد يهبط اللازورد السماوي من شجر السنديان إلى الظل فوق الحصون ، فمن سيملأ فخارنا بعدنا ؟
كل شيء يدل على عبث الريح والضحايا تمر من الجانبين " فلا بد من هدنة للشقائق في السهل كي تخفي الميتين على الجانبين " ، " والصدى واحد في الحروب الطويلة : أم ، أب ، ولد " ينتظرون ويسهرون عودة الخيول لعلها تحمل على ظهورها الابناء المقاتلين .
لا يمدح الشاعر الحرب ، علما بأنها تعلمنا أشياء إيجابية كثيرة ، وينشد السلام لنا ؛ للمرأة التي تنتظر زوجها وللأطفال ولهواة الحياة ولأولاد أعدائنا وأخيرا ؟؟
" وأخيرا صعدنا إلى التل . ها نحن نرتفع الآن
فوق جذوع الحكاية .. ينبت عشب جديد على دمنا وعلى دمهم " .
ومنذ ٧٥ والحرب لا تنتهي وماذا كانت النتيجة ؟
" ولم نجد أحدا يقبل السلم .. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا
البنادق مكسورة .. والحمام يطير بعيدا بعيدا
لم نجد أحدا ههنا ..
لم نجد أحدا ..
لم نجد غابة السنديان ! " .
وماذا لو استخدمت إسرائيل قنبلة نووية وأطلق حزب الله صواريخه على مصانع كيماوية قرب حيفا ؟
لن نجد أحدا ؛ لا هم ولا نحن ولا شجر السنديان !!
صباح الجمعة ١ / ١٢ انتهت الهدنة واستؤنفت الحرب . الحرب التي لا تنتهي .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ٣ / ١٢ / ٢٠٢٣ )
٢٨ / ١١ / إلى ١ / ١٢ / ٢٠٢٣

***

2- الأمراض والأوبئة ووقف الحرب ومكر التاريخ

ينهي محمود درويش قصيدته " هدنة مع المغول أمام غابة السنديان " بالآتي :
" لم نجد أحدا يقبل السلم .. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا / البنادق مكسورة .. والحمام يطير بعيدا بعيدا / لم نجد أحدا ههنا ../ لم نجد أحدا ../ لم نجد غابة السنديان " .
والسؤال هو هل ستنتهي الحرب بما هدد به يحيى السنوار قبل بدئها بأنه سيحرق اليابس والأخضر ؟ أو بما هدد به بعض أعضاء الكنيست بقصف غزة وتدميرها بقنبلة ذرية ؟ أو بما هدد به وزير الحرب بمسح لبنان عن الخريطة إن تدخل حزب الله ؟ أو برد حسن نصرالله مرارا على تهديدات مثل هذه بأن ما سيلم بلبنان سيلم أيضا بحيفا وتل أبيب ؟
في ٢٣ / ١١ / ٢٠٢٣ نشر الكاتب ( جدعون ليفي ) مقالا - ترجمته إلى العربية غانية ملحيس - يحكي فيه عن اقتراح ( جيورا آيلاند ) " أحد الضباط المفكرين الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي " . الاقتراح ، كما رآه ليفي ، وحشي وفكرته أن الأوبئة في غزة مفيدة لإسرائيل . ومما يقتبسه من اقتراح آيلاند الذي نشره في صحيفة ( يدبعوت احرونوت ) الآتي :
" في نهاية المطاف ، فإن الأوبئة الشديدة في جنوب القطاع ستقرب النصر وتقلل الوفيات بين جنود الجيش الإسرائيلي ، وما علينا إلا أن ننتظر حتى تصاب بنات قادة حماس بالطاعون ، وقد انتصرنا " .
وفي ٤ / ١٢ / ٢٠٢٣ نشر خبر عن نيويورك تايمز فحواه أن معسكرا على صلة بالسلاح النووي الإسرائيلي تضرر يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ، وفي تاريخ النشر نفسه نشرت جريدة ( يديعوت احرونوت ) أن بكثيريا ( الشيغيلا ) وأمراض معوية تنتشر بين جنود الاحتلال في قطاع غزة " ، وفي الفترة نفسها أيضا عمم أيضا أن إسرائيل أعدت مضخات ضخمة لإغراق أنفاق غزة بالماء ، ولكنها تخشى من أضرار بيئية . يضاف إلى ما سبق ما أعلنه الناطق باسم الأونروا مؤخرا بأن مرض الوباء الكبدي تفشى بين سكان غزة وهذا ما لم يعرفه القطاع من قبل . ( في ١٩٤٨ أراد الإسرائيليون تسميم مياه غزة )
أعادتني هذه الأخبار إلى فترات أسبق كتب عنها المؤرخون والروائيون عن تأثير الأمراض التي تسببها الحروب ، كما أعادتني إلى كتاب أمين معلوف " الحروب الصليبية كما رآها العرب " .
في روايته " أمريكا " ( ٢٠٠٩ ) يكتب ربيع جابر حوالي أربع عشرة صفحة تحت عنوان " الإنفلونزا الإسبانية يأتي فيها على انتشار وباء الإنفلونزا الذي اجتاح العالم ، ولم تنج منه غير بعض الجزر ، في أعقاب الحرب العالمية الأولى وقتل في القارات الخمس ، أثناء ١٩١٨ و ١٩١٩ ، أضعاف ما قتلته الحرب الكبرى ، بين ٢٠ مليونا و ٤٠ مليونا " ( صفحة ٣٠٢ ) ويذكر ما حل بمدينة فيلادلفيا في نهاية أيلول ١٩١٨ ونهاية أكتوبر " تركها منكوبة : بين مدن أميركا وقع في فيلادلفيا العدد الأكبر من الضحايا " .
في روايتين فلسطينيتين يعود زمنهما الروائي إلى نهاية القرن ١٨ وبداية القرن ١٩ ، أتى كاتباهما على غزو نابليون مدينتي يافا وعكا ومرض الطاعون الذي ألم بسكانهما وبجيش نابليون . ولا شك أن الروائيين ، وهما علاء حليحل ويحيى يخلف ، اطلعا على مصادر ومراجع قديمة وحديثة أتت على الموضوع .
في رواية الأول " أورفوار عكا " ( ٢٠١٤ ) صفحات عديدة عن مرض الطاعون الذي ألم بالسكان وبمن وقف معهم من الجيش الإنجليزي والضابط الفرنسي أيضا الذي وقف مع أهل عكا ضد الجيش الفرنسي ( دي فيليبو ) ، ويمكن أن يقرأ المرء " الوقعة الثالثة والعشرون : ٢٨ نيسان " ( ص ١٨١ ) لملاحظة تأثير المرض على السكان ومنهم اليهودي ( فرحي ) الذي سمع عن " أحاديث المسنين عن الطاعون وما يفعله بالبشر " الأحاديث التي " دبت الرعب فيه وهو طفل صغير يكبر في حضن أبيه ويستمع إلى هذه القصص المروعة ... إنه يفضل أن يلقي بنفسه إلى البحر أو من فوق السور لو مرض على أن يرمى كالكلب يبصق رئتيه دما ومخاطا ... " .
وفي رواية الثاني " راكب الريح " ( ٢٠١٦ ) يكتب عما ألم بجيش نابليون في يافا ، بعد اندحاره على أسوار عكا .
كانت بداية إصابة جنود نابليون بالطاعون في يافا فنقلوه معهم إلى عكا وفيها انتشر ، فتفشى المرض بين سكانها وتمكن أيضا من جنود نابليون الذي أمر الأطباء بمعالجته بالأفيون الذي كان مخدرا أكثر منه علاجا ، ولما كانت حالة بعض الجنود ميؤوس منها ، فقد طالب نابليون الأطباء زيادة الجرعة ليتخلص منهم ، وفي اليوم الستين لحصار عكا كانت خسائر القوات الفرنسية كبيرة " ورافق ذلك نقص في التموين وسرعة انتشار الوباء . في اليوم الحادي والستين أشعل الفرنسيون مشاعل هائلة على امتداد السور وبدأوا القصف ليلا من جميع المدافع بلا توقف . وأفرغوا كل ما لديهم من قذائف وقنابل . وفي صباح اليوم الثالث صمتت المدافع . أفرغوا ترسانتهم وتوقفوا . لقد أقروا بالهزيمة " ( صفحة ٢٩٧ ) .
وماذا عن كتاب أمين معلوف ؟
لم يأت أمين معلوف على أمراض ألمت بالجيشين المتحاربين أو بالمواطنين ، ولكنه أتى على ما جرته الحرب بين الطرفين من كوارث ومصائب حتى شعرا بثقلها وصارا يتطلعان إلى حل ما . اقتبس معلوف من بعض كتب المؤرخين مثل بهاء الدين بن الأثير ليصف ما آلت إليه الأوضاع " ومات رجالنا ورجالكم ودمرت البلاد وأفلت زمام الأمور تماما من أيدينا جميعا . أفلا تظن أن ذلك يكفي ؟ ومن جهتنا فليس هناك خلاف إلا على ثلاثة : القدس وصليب المسيح والأرض " ( ٢٦٤ ) ، وكاد الطرفان يتفقان على حل يتمثل بزواج الملك العادل شقيق صلاح الدين من أخت ريتشارد قلب الأسد الأرملة لولا رفضها ، وكانت الفكرة أن هذا الزواج قد يسفر عن ولادة أمير يؤول إليه حكم البلاد وتصبح كلها موحدة تحت حكمه ، ورحم الله محمود درويش وما كتبه في " حالة حصار " ( ٢٠٠٢ ) عن زواج فلسطيني من يهودية يخلفان طفلا يصبح حفيدا يهوديا للقاتل بحكم الولادة .
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٠ / ١٢ / ٢٠٢٣ )
الثلاثاء ٥ / ١٢ / ٢٠٢٣ .

***

3- الرواية الفلسطينية والنكبة :

عاد دال " النكبة " يتردد على مسامعنا من جديد ، علما بأنه لم يختف بعد هزيمة حزيران اختفاء تاما ، إذ غطى دال " النكسة عليه ، ليتراجع ولا يبقى يستخدم في الغالب إلا من دارسي الأدب الذين يتناولون نتاج الأدب الفلسطيني ما بين ١٩٤٨ و ١٩٦٧ .
تتالت الأحداث في ذيول هزيمة حزيران وصار الجديد منها يطغى على القديم حتى لكأنه يمحوه ويتسيد مكانه . هكذا انشغلنا بالحروب الأهلية في الأردن ولبنان وبحرب أكتوبر ١٩٧٣ ثم بالحرب الفلسطينية - الإسرائيلية في العام ١٩٨٢ ، وبعدها بسنوات بانتفاضة ١٩٨٧ فأوسلو فانتفاضة الأقصى ، وصار المهتمون بالأدب الفلسطيني يعقدون المؤتمرات لتناول الإنتاج الأدبي للمرحلة التي يعقد فيها المؤتمر .
كتبت كتب عديدة عن الأدب وهزيمة حزيران وأدب المقاومة وأخرى عن حرب أكتوبر وثالثة عن الحرب اللبنانية والحرب ورابعة عن حصار بيروت وخامسة عن الانتفاضة الأولى وسادسة عن أدب السلام وسابعة عن انتفاضة الأقصى وأخيرا عن أدب السجون.
قليلون من الأدباء من التفتوا إلى أدب النكبة ، حتى لكأنهم نسوها منذ بدأت فلسطين تختصر في الضفة الغربية وقطاع غزة ومنذ بدأ العرب يعترفون بدولة إسرائيل ويقيمون علاقات معها ، علما بأن بعض الروائيين العرب ، وأخص هنا إلياس خوري ، ذهبوا إلى أن النكبة مستمرة تتواصل منذ العام ١٩٤٨ وأنها لما تنته ، فهي حاضرة ما دامت القضية الفلسطينية لم تحل حلا جذريا عادلا وما دامت المخيمات الفلسطينية قائمة في الأرض المحتلة وفي المنافي.
في السنوات الأخيرة صار دال النكبة يتردد على لسان بعض الإسرائيليين المتطرفين الذين يطالبون بضم الضفة الغربية إلى الدولة الإسرائيلية ويصرون على اقتحام الأقصى وتهويده . صار هؤلاء يبشرون الفلسطينيين في القدس وغيرها بنكبة ثانية على الطريق وكل من يتابع أشرطة الفيديو المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لاحظها واستمع إليها وتوقف أمام عبارة " نكبة ثانية في الطريق " .
في الحرب الدائرة منذ ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ تكرر الحديث والكتابة عن التهجير والتوطين وطفا دال النكبة مجددا ، لدرجة أن صديقا لي من مصر طلب مني مقالا لجريدة الأهرام عن النكبة في الرواية الفلسطينية ، وكنت قاربت ذلك تحت عناوين عديدة منها " استحضار النكبة في الرواية الفلسطينية " و " الرواية الفلسطينية في المنفى " ، وقاربته أيضا وأنا أكتب عن روايات فلسطينية وعربية تناولت حرب ١٩٤٨ واللجوء الفلسطيني وحياة المخيمات في الوطن والشتات ، ( يحيى يخلف " ماء السماء " وإلياس خوري " باب الشمس " و " أولاد الغيتو : اسمي آدم " وسامية عيسى " حليب التين " و " خلسة في كوبنهاجن " ورشاد أبو شاور " وداعا يا زكرين " و " الحب وليالي البوم " وعمر حمش " مفاتيح البهجة ) .
لقد كتب روائيون كثر بعد العام ١٩٩٠ في فلسطين التاريخية وفي المنافي عن مدنهم وقراهم ، قبل هجرة أهلها منها وبعد إقامتهم ، إثر الهجرة ، في المخيمات ، كأنهم اكتشفوا أن ما كتب من قبل عن النكبة كان قليلا وقليلا جدا . فلو تأملنا الرواية الفلسطينية منذ حزيران ١٩٦٧ حتى العام ١٩٨٧ وبحثنا عن نكبة ١٩٤٨ فيها لقرأنا أقل القليل . قاربها إميل حبيبي في " المتشائل " وسلمان ناطور في " وما نسينا " ، ولم تقاربها سحر خليفة أو سميح القاسم فيما كتبا من روايات ، وقاربها غسان كنفاني في " عائد إلى حيفا " و " أم سعد " ، ولكنها مقارباتهم كانت قصيرة لا ترقى إلى مستوى النكبة ، وجاءت روايات يخلف وأبو شاور لتكتب في موضوعات آنية يطابق زمنها الروائي زمنها الكتابي ، وهنا أذكر رواية الأول " العشاق " ورواية الثاني " تفاح المجانين " .
والسؤال هو : ماذا عن الرواية الفلسطينية بين ١٩٤٨ و ١٩٦٧ ؛ الرواية التي كان كتابها يعيشون النكبة التي عانوا منها وكانوا شهودا عليها ؟
لم تصدر في الفترة المشار إليها روايات كثيرة ، فقد كان الفن الروائي الفلسطيني في بداياته ولم يكن عوده اشتد ، وإذا ما أحصينا الروايات التي صدرت ؛ في الأرض المحتلة وفي المنفى ، لاحظنا أنها بالكاد تعد على أصابع اليدين ومن أبرزها رواية توفيق معمر " مذكرات لاجيء أو حيفا في المعركة " وروايتا ناصر الدين النشاشيبي " حفنة رمال " و " حبات البرتقال " وأخريان لكنفاني " رجال في الشمس " و " ما تبقى لكم " ، والأخير هو من كتب عن ١٩٤٨ وما تلاها ، فالأول كتب عن سقوط مدينة حيفا في ١٩٤٨ والثاني تناول فترة ما قبل النكبة ، أما كنفاني فكتب عن اللجوء والمنفى .
وهنا يمكن القول إننا إن أردنا أن نقرأ عن النكبة في الأدب الفلسطيني فعلينا أن نقرأ الشعر والقصة القصيرة بالدرجة الأولى ، ( عبد الكريم الكرمي آبو سلمى في " المشرد " ، ونجاتي صدقي " الشيوعي المليونير " ، وسميرة عزام في قصصها " لأنه يحبهم " و " فلسطيني " و " عام آخر " و " الحاج محمد باع حجته " ، وكنفاني في كثير من قصصه القصيرة ، وتوفيق فياض في " الشارع الأصفر " .
لماذا لم تكتب النكبة في أدبياتنا ؟ وإن كان ما يحدث في غزة نكبة ثانية فهل سيكتبها كتابنا أم أن الصور والفيديوهات كتبتها لحظة بلحظة ؟
عموما كان فن الرواية في فلسطين ، بعد النكبة مباشرة ، في بداياته ، ولهذا غاب حضورها فيه بقدر حضورها على أرض الواقع ، والآن هناك روائيون كثر نأمل أن تكتب النجاة لمن يقيمون في غزة ليدونوا الحكاية من داخل الحدث نفسه ، وقسم من هؤلاء يمتلك باعا في كتابة الروايات .
( الاثنين والثلاثاء والأربعاء
٢٣ و ٢٤ و ٢٥ / ١٠ / ٢٠٢٣
مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ٢٩ / ١٠ / ٢٠٢٣ )

***

4- الاحتلال الإسرائيلي الرحيم والمريح

قسوة ردة الفعل الإسرائيلية الوحشية والبربرية على أحداث ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ أعادتني إلى ما ورد في العهد القديم عن قوانين الحرب وإلى ماكتبه أدباؤنا في سردياتهم عن الاحتلال الإسرائيلي .
نادرا ما أعود إلى العهد القديم أقرأ فيه إلا إذا قرأت نصا أدبيا تناص كاتبه مع نصوص العهد القديم . مثلا وأنا أقرأ مسرحية معين بسيسو " شمشون ودليلة " ، لأكتب عن صورة اليهودي فيها ، عدت إلى سفر القضاة ، وأما وأنا أقرأ " جدارية " محمود درويش فقد عدت إلى نشيد الإنشاد وجامعة .
مؤخرا وأنا أصغي إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي ( بنيامين نتنياهو ) سمعته يقتبس من يحزقيل ، وسمعت حاخاما آخر يتحدث عن قوانين الحرب ويستشهد بسفر التثنية ويحدد مكان ورود المقتبس ٢٥ : ١٩ و ٢٠ : ١٦ " تمحو عماليق من الوجود " و " ليس هناك رحمة . قد تظن أنك رحيم بالطفل . هذا الطفل سوف يكبر . لا تسمح لأي شخص بالبقاء على قيد الحياة " . عندما عدت إلى الترجمة العربية للعهد القديم لم أقرأ ما أوردته مطابقا ولكن قرأت كلاما قريبا .
وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أعلن منذ بداية الحرب حصارا شاملا على غزة فلا ماء ولا كهرباء ولا وقود ولا طعام وحجته أنه يحارب حيوانات .
أما الأديب الإسرائيلي الطاعن في السن ( عزرا ياخين ) فقال عن الفلسطينيين إنهم حيوانات يجب إبادتها . كل هؤلاء الحيوانات . وبلغ الأمر أن طالب وزير التراث الإسرائيلي ( عميحاي الياهو ) بإلقاء قنبلة نووية على غزة لمحوها من الوجود .
في التثنية الإصحاح العشرين قرأت " وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما " وفي الخامس والعشرين قرأت " فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا لكي تمتلكها تمحو ذكر عماليق من تحت السماء . لا تنس".
وأنا أشاهد منذ اليوم الثالث للحرب قصف البيوت على من فيها وتسويتها بالأرض أخذت أتذكر ما ورد في أدبيات أدبائنا عن الرحمة لدى الإنجليز واليهود الصهيونيين .
كان إبراهيم طوقان المتوفى في ١٩٤١ كتب :
" يا قوم ليس عدوكم ممن يلين ويرحم "
وحين أعدم الإنجليز محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي كتب قصيدته الشهيرة " الثلاثاء الحمراء " التي ورد فيها :
" لا تعجبوا فمن الصخور نبع يفور
ولهم قلوب كالصخور بلا شعور
لا تلتمس يوما رجاء عند من جربته فوجدته لا يشعر "
متكئا على قوله تعالى ( ثم قست قلوبكم بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ... ) " .
في العام ١٩٤٨ طردت إسرائيل ٦٥٠ ألف فلسطيني وكان عدد من ارتكبت بحقهم مجازر لا يتجاوز الآلاف . كان همها إفراغ الأرض من سكانها وكانت المحرقة النازية ( الهولوكست ) حديثة ، ولم تمانع في أن ينضم إلى برلمانها ( الكنيست ) عرب يعترفون بالدولة ويعيشون فيها مواطنين إسرائيليين ، وكان من بين هؤلاء إميل حبيبي صاحب " المتشائل " الذي اعترف في آخر أيامه أنه حين كتبها كتب عن تجربته . يورد حبيبي في الرسالة التي حملت عنوان " الإشارة الأولى من الفضاء السحيق " حوارا بين سعيد المتشائل المتسلل العائد إلى عكا وبين معلمه السابق في المدرسة يورد الآتي :
" والحقيقة يا بني أنهم ليسوا أسوأ من غيرهم في التاريخ "
فهززت رأسي استحسانا .
فقال : حقا إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم ، وشردوا أهلها ، ولكن ، يا ولدي ، إن في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم " ويذكر ما فعله الصليبيون في عكا في سنة ١١٠٤ .
وفي الرسالة التي عنوانها " حديث شطط في الطريق إلى سجن شطة " يورد على لسان محاوره الإسرائيلي الذي يعلمه كيف يتعامل مع السجان داخل السجن الآتي :
" ولذلك قال الوفنا الوزير إن احتلالنا هو أرحم احتلال على وجه الأرض منذ تحرر الجنة من احتلال آدم وحواء " .
وكان سعيد أخبر السجان أن السجون الإسرائيلية في معاملة المسجونين " هي من الإنسانية والرحمة " لا تختلف عن معاملة العرب خارجها ولكنه يسأل محاوره ساخرا :
- فبأي شيء تعاقبون العرب المذنبين يا سيدي ؟ .
في الجزء الثاني من سيرتها وعنوانه " الرحلة الأصعب " تأتي فدوى طوقان على لقاء مجموعة من رموز نابلس مع الحاكم العسكري ( فريدي زاخ ) الذي احتل مكانه قبل ١٩٨٧ ، وتورد حوارا جرى بينها وبينه .
أراد ( زاخ ) أن يستمزج آراء وجوه نابلس في الأوضاع فاستدعاهم إلى مكتبه ليستمع إلى وجهة نظرهم في الأوضاع السائدة ، وبادر فدوى بسؤالها :
- ما رأيك في الهدوء الشامل منذ ستة أشهر ؟
فأجابته بأنه مرفوض وممجوج وأن القمع هو سبب الهدوء وطلبت منه الا يصدق من يقول له إن الناس سعداء بهذا الهدوء فيهما المستوطنات تقام والأرض تنسحب من تحت أقدامنا .
وعندما يسألها عن رأيها في الحكم الذاتي يجيبه بأنه صيغة جديدة لكلمة " احتلال " ولا يغير من الواقع المرفوض شيئا ، وحين يسألها عن حل وإن كانت تفضل دولة اتحادية مع الأردن أم دولة فلسطينية ؟! تجيب :
- سواء لدي أكانت هذه أم تلك . الأكثر أهمية هو الخلاص من الاحتلال . فيقول :
- ألا ترين أنه احتلال مريح ؟
- لن يشعر أنه احتلال مريح من يمر بتجربة الجسر وحدها . الإذلال والتعري من الملابس والسير حفاة بلا أحذية ... .
لم تشهد فدوى طوقان التي توفيت في العام ٢٠٠٣ ما شهدناه منذ عشرين عاما وما نمر به ، ولا أعرف إن كان فريدي زاخ ما زال على قيد الحياة فنستمع إلى رأيه !!!
٢٠ / ١١ / ٢٠٢٣
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية في ٢٦ / ١١ / ٢٠٢٣ )

***

5- غزة وأبناؤها وغزاتها : هل تتواطأ الأرض مع الفلسطيني ؟

منذ بداية الحرب في ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ كثر الحديث عن مستقبل غزة بعد انتهاء المعارك وكثرت المشاريع التي تفكر فيها إسرائيل كما لو أنها متأكدة من النتيجة .
شخصيا لم أكن أبدي رأيا لقناعتي بأن النهاية التي ستؤول الحرب إليها هي ما سيقرر مستقبل القطاع وسكانه ، وفي مساء الاثنين ٦ / ١١ / ٢٠٢٣ سمعت الرأي نفسه من السياسي الفلسطيني منير شفيق من على فضائية الجزيرة .
كان السؤال الذي يراودني منذ بداية الحرب البرية هو :
- هل ستتواطأ الأرض مع أبنائها فتكون مقبرة لدبابات الغزاة ؟
في ١٠ / ١٠ / ٢٠٢١ نشرت مقالا في جريدة الأيام الفلسطينية تحت عنوان " زكريا الزبيدي وإخوانه : قراءة غسان كنفاني في زمن مختلف " توقفت فيه أمام هروب زكريا ورفاقه الخمسة وأثرت أيضا السؤال نفسه مسترجعا ما كتبه كنفاني في روايته " العاشق " والفدائي الفلسطيني عبد الكريم وملاحقة الضابط الإنجليزي الكابتن ( بلاك ) له وعدم نجاحه في إلقاء القبض عليه وعودته يخاطب نفسه شاعرا بالخيبة والمرارة والتعب " إن الأرض ذاتها هي المتواطئة والشريكة ، وأنك كي تقبض على عبد الكريم عليك أولا أن تلقي القبض على الأرض " . ويبدو أن إسرائيل تدرك هذا وتصر عليه ولذلك لم تكتف بقصف غزة وتدميرها وتهجير مواطنيها جوا ، فلكي تنهي حكم حماس وتلقي القبض على مطلوبها رقم ١ يحيى السنوار أو عبد الكريم المعاصر ، عليها أن تلقي القبض على الأرض.
فكرة تواطؤ الأرض مع أبنائها ودورها في كسب الحرب فكرة راودت فلسطينيين كثرا وأوردها كتاب عديدون في نصوصهم القصصية والروائية ، وغالبا ما لفتت انتباهي وأنا أقرأ تلك النصوص ، بل وأنا أقرأ أيضا ما كتبه دارسو روايات كنفاني ، مثل رضوى عاشور وفاروق وادي عن الفرق بين صحراء الكويت في " رجال في الشمس " وصحراء النقب في " ما تبقى لكم " . قتلت الأولى الفلسطيني ولم تتعاطف معه بخلاف الثانية .
كان المثل الذي يكرره الفلسطينيون ، بعد أن يئسوا من تحرير الدول العربية لفلسطين ، هو " ما بحرث الأرض غير عجولها " ، ورأوا أن الفلسطيني هو من يفهم أرضه ، فيعاملها بحنو وحدب ، وبالتالي تعطيه غير ما تعطي غيره . برز ذلك في رواية إميل حبيبي " المتشائل " وفي إحدى قصص جمال بنورة أيضا .
في " المتشائل " مثلا يكتب حبيبي عن عمل الفلسطينيين عمالا ومزارعين في المستوطنات فتعطي الأرض الخير الكثير ، لأنهم ذوو صلة بتربتها ، والطريف أن ( إيلان بابيه ) يفتتح كتابه " الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي ١٩٤٨ " بالكتابة عن المستوطنين الأوائل الذين جاؤوا إلى فلسطين ، فوفر لهم السكان المأوى وعلموهم أيضا الزراعة " بل قدموا لهم النصائح في مسائل الزراعة والحراثة ، وكانت معرفة أهل صهيون بهذا الموضوع ضئيلة إن لم تكن معدومة " . كان سكان مستوطنة ( زخرون يعقوب ) راضين بالمزارعين العرب الذين يعملون في الحقول ، مع أن هذا أغضب اليهود الذين يؤمنون بالعمل العبري النقي ، كما يرد في " المتشائل " .
جمال بنورة وظف المثل في أحد نصوصه وهو يكتب عن مظاهرات الطلبة ضد جنود الاحتلال ، والطريف أنه أورده على لسان جندي إسرائيلي تفهم سبب إصرار الفلسطينيين على مقاومة المحتلين وشجاعتهم في ذلك ، ولم يكن بنورة القاص الوحيد الذي وظف هذا المثل .
في الروايات الفلسطينية التي كتبت عن انتفاضة الأقصى وتناولت اجتياح البلدة القديمة في نابلس ، ومنها رواية سحر خليفة " ربيع حار " ، تجري بين الشخصيات حوارات عن مدى قدرة المقاومين على صد جنود الاحتلال ومنعهم من اجتياح المدينة ، ويرد على لسان أحدهم :
" نحن هنا أبناء البلد نعرف تفاصيل أزقتنا ومداخلها ومخارجها وأسرار المخابيء والحارات . هم سيكونون مثل الصيع في هذا اللغز لأن أزقتنا والزواريب هي فعلا لغز ، ولا يقدر على اللغز إلا أهله . فليستعدوا للقاء الموت ... سنفاجئهم من خلف الدور ومن العتمة ومن فوق لتحت نقفز كالجن وسنريهم الموت ونجوم الظهر " . هذا الكلام الذي ورد في الرواية لم يتحقق على أرض الواقع ، فخلال شهر تقريبا تمكن الإسرائيليون من اجتياح المدينة . هل سيحدث الشيء نفسه في قطاع غزة أم أن الأنفاق التي أقيمت تحت الأرض والقتال بين أنقاض البنايات التي هدمها الطيران الإسرائيلي سيحقق مقولة إن الأرض تتواطأ مع أبنائها ، وأنه لا يمكن المقارنة بين نابلس وغزة ، وبين ما جرى مع زكريا الزبيدي وإخوانه حين هربوا من السجن ، فالأرض حيث كانوا تغيرت تماما وهودت وصار الإسرائيليون منذ ٧٥ أكثر دراية بها ؟
غزة ما زالت بأيدي أبنائها وكانت لعقدين من الزمان تحت سيطرتهم بالكامل ، ومن حافظ على سرية قرار الهجوم في ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ قادر على الحفاظ على سرية مخطط الإنفاق .
منذ بداية الحرب وهناك كثيرون يتساءلون إن كان مقاتلو المقاومة الفلسطينية تسللوا إلى غلاف غزة عبر الأنفاق ، وكلما نجحت مجموعة منهم ، في أثناء المعركة ، التسلل إلى مغتصبات العدو اندهش من طريقة تسللهم ، وفي الحرب الدائرة أيضا انقلبت دبابة إسرائيلية في الجولان السوري فنقل صحفي الخبر وعقب " الأرض بتكرههم " .
من سيحسم المعركة ؟ وهل ستتواطأ الأرض مع أبنائها فتكون مقبرة لدبابات الغزاة ؟

( مقال الأحد لجريدة الأيام الفلسطينية في ١٢ / ١١ / ٢٠٢٣ ) .

***

6- التهجير والإبادة

مساء الثلاثاء ١٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ قصفت الطائرات الإسرائيلية مشفى المعمداني في غزة . أسفر القصف عن مقتل وجرح المئات من المرضى والمستجيرين بالمشفى من المدنيين الذين يبحثون عن مأوى آمن بعد أن دمرت منازلهم ومحيت أحياء بكاملها . هذا المحو وهذه الإبادة عبر عنهما ( ليبرمان ) الذي أراد الانضمام إلى حكومة الطواريء الإسرائيلية ، فقال " إنها حرب إبادة . إما أن نبيدهم أو يبيدونا " .
أغلب الظن أن قوله تعبير عما يكمن في اللاوعي الإسرائيلي الذي قام عليه المشروع الصهيوني وهو طرد السكان الفلسطينيين من فلسطين وإقامة الدولة العبرية اليهودية ، وما يجري هو انتصار للتيار الصهيوني الدموي الذي رأى أن إقامة الدولة يتم بالسيف والنار ، لا بالتضييق على السكان ، من أجل أن يرحلوا ؛ التضييق كان الخيار الذي عملت به تيارات صهيونية أقل دموية .
كان الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان المتوفى في العام ١٩٤١ تنبه مبكرا إلى سياسة الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية وعبر عنها بقوله :
" أجلاء عن البلاد تريدون فنجلو أم محونا والإزالة ؟ "
وقوله:
" أمامك أيها العربي يوم تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات وبالحسنى تنفذ والرصاص "
وهذا ما تنبه له أيضا لاحقا الأدباء الفلسطينيون ، في المنفى وفي الأرض المحتلة ، ووقفوا في وجهه بالحث على البقاء في الأرض وعدم مغادرتها لأن الحياة في المنفى فيها من القسوة والإهانة والذل ما فيها .
عبر أدباء المنفى عن قسوته وذل الإقامة بعيدا عن فلسطين وفضلوا الموت على الحياة في بلدان الشتات . من سميرة عزام إلى غسان كنفاني فمحمود درويش فأحمد دحبور ، على لسان شخصياتهم وعلى لسانهم هم أيضا .
وفي الحرب الدائرة منذ ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ بدأ الحديث ، منذ بدء قصف أحياء سكنية على رؤوس سكانها ، عن ترحيل الفلسطينيين وتوزيعهم على البلدان العربية ؛ مصر والأردن والسعودية وبقية دول الخليج ، ورأى أحد الإسرائيليين أن هذا ممكن بناء على تجارب سابقة ، فالأردن مثلا أقام مخيمات للاجئين السوريين ومن قبل استقبل عراقيين ولبنانيين ، وهذا تناغم مع ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي ( بنيامين نتنياهو ) في بداية الحرب ، إذ قال إن ما بعد ٧ / ١٠ لن يعود إلى ما كان عليه قبلها وأن الحرب ستغير خارطة الشرق الأوسط كله .
في غزة نشط ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي في حض الناس على مقاومة السياسة الإسرائيلية التي تنتهجها وتطبقها وحث الناس على البقاء والصمود ، مبينين قسوة حياة اللجوء ومذكرين بما حدث في العام ١٩٤٨ ، ودعا هؤلاء الناشطون إلى ضرورة البقاء حتى لو أسفر عن موت محتم .
إن ما يطرح الآن من مشاريع للتهجير وتوطين المهجرين في سيناء أو في البلدان العربية هو مشروع قديم كانت بداياته الفعلية في ١٩٤٨ وأراد الأمريكان والإسرائيليون تكراره في العام ١٩٥٥ خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي ( ايزنهاور ) ، وقد تصدى له أهل غزة وتظاهروا ضده وأفشلوه وكتب عن هذا في الأدب معين بسيسو في كتابه " دفاتر فلسطينية " :
" كتبوا مشروع سيناء بالحبر
وسنمحو مشروع سيناء بالدم "
و
" ولا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان "
ومنذ النكبة تعززت الكتابة عن المنفى وقسوة الحياة فيه والحنين إلى الوطن السليب وتصويره على أنه الجنة المفقودة التي يتطلع إليها كل فلسطيني طرد من أرضه أو ولد في مخيمات اللجوء ، وتعززت الكتابة في الأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة نفسها عن البقاء والصمود ورفض فكرة الرحيل .
منذ سميرة عزام رائدة القصة القصيرة الفلسطينية بدأنا نقرأ عن ذل حياة المنفى وقسوته ، حيث فقد الفلسطيني بفقدانه أرضه كرامته وتحول إلى لص وقواد وبغي ومخبر صار الكل يتجرأ عليه حتى الجرذان .
وفي رواية كنفاني " رجال في الشمس " يتذكر أبو قيس وهو ذاهب إلى الكويت الأستاذ سليم الذي مات في قريته قبل سقوطها بليلة واحدة ويغبطه أنه دفن في تراب بلده : " يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم ! يا رحمة الله عليك ! لا شك أنك كنت ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود ... يا الله ! أتوجد نعمة إلهية أكبر من هذه ؟ ... وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار".
أحمد دحبور الذي كان عمره عامين قبل النكبة تمنى لو أن أباه طلب ذبح ابنه ولم يرحل :
" ما الذي كان أبي يخشاه حتى ارتكبت أخطاؤه فعل السنونو ؟/ ليته قال : اذبحوا طفلي / ولم يرحل".
وماذا عن أدباء الأرض المحتلة من توفيق زياد واميل حبيبي ومحمود درويش وغيرهم وغيرهم ؟
اشتهرت قصيدة الأول " هنا باقون " وذاع صيتها وغناها المغنون وصارت أيقونة لدى كثيرين ، ومثلها أيضا قصيدته " أناديكم " . في القصيدتين يفضل زياد الحياة في الوطن على حياة المنفى حتى لو كان نادلا في المطعم يغسل الصحون ، وبإباء وعزة وشموخ يقول إن هذا لا ينتقص من كرامته " أنا ما هنت في وطني " . أما حبيبي ففضل البقاء في حيفا على الرغم مما قدمه من تنازلات رأى أنه إنما قدمها حتى لا تصبح فلسطين أندلسا ثانية ، فحافظ بذلك على عروبة قسم من فلسطين وعلى لغتها العربية وكلنا يعرف وصيته الداعية إلى كتابة عبارة " باق في حيفا " على شاهد قبره .
هل اختلف محمود درويش ؟
وهو في الوطن قبل هجرته حث على البقاء وحين هاجر ندم ندما شديدا عبر عنه في ديوانه " محاولة رقم ٧ " وفي كتابه النثري الأخير " في حضرة الغياب " :
"- لماذا نزلت عن الكرمل ؟"
في الحرب الدائرة حاليا تمارس إسرائيل إبادة أهل غزة ، بل ومحوهم ، ويا لك يا إبراهيم طوقان من شاعر .
" أجلاء عن البلاد تريدون فنجلو أم محونا والإزالة " .
ونتمنى أن نموت مثل الأستاذ سليم في رواية " رجال في الشمس " على أن نرحل .
الأربعاء والخميس ١٨ و ١٩ / ١٠ / ٢٠٢٣
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية في ٢٢ / ١٠ / ٢٠٢٣ )

***

7- مناشدة الأنظمة العربية وذاكرتنا العذراء

" ذاكرتنا العذراء " عبارة أوردها إميل حبيبي في مسرحيته " لكع بن لكع " ونعت بها الذين لا يستفيدون من تجاربهم السابقة وظلوا يكررون أخطاءهم بادئين من حيث بدأوا في معالجة كل أمر يجد : " هل قيض لهذا الشعب المبتلى ، الممتحن .. المطوح ، المضرس ، المغدور ، أن يعود على التجربة من أولها ؟ هل ينسى ؟
- المهرج : لا ينسى وطنه "
غالبا ما أسترجع العبارة وأبني مقالا عليها كلما " دق الكوز في الجرة " أو كلما " نفخنا في قربة مثقوبة " أو كلما عشنا حالة سيزيفية أو انتظرنا " غودو " العربي الذي لا يأتي .
في الحرب الدائرة حاليا في غزة ناشد المواطنون الغزيون الحكام العرب والمسلمين طالبين منهم أن يقفوا إلى جانبهم فيتخذوا موقفا لنصرتهم أو لوقف الحرب أو لإدخال المساعدات إليهم . ومثل المواطنين الغزيين تظاهر المواطنون العرب والمسلمون في بلادهم وعززوا مطالب الغزيين ونشدوا الوقوف إلى جانبهم ولكن دون جدوى ، فلم يسفر مؤتمر القمة العربية والإسلامية عن قرارات ذات جدوى ما دفع ناشط فيسبوكي إلى أن يكتب " تمخض الجبل فولد فأرا " ، فلم توقف قرارات المؤتمر الحرب ولم تدخل المساعدات إلى المحاصرين المنكوبين ، وتدوول كلام نسب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يحذر فيه الحكام العرب ويطلب منهم - بل يأمرهم - التزام حدودهم .
أعادني ما سبق إلى الأدبيات الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن ٢٠ ؛ إلى قصيدة الثائر عوض الشعبية وإلى أشعار أبي سلمى عبد الكريم الكرمي منذ ١٩٣٦ حتى تاريخ وفاته وإلى أشعار شعراء المقاومة الفلسطينية وشعراء عرب معروفين مثل مظفر النواب ونزار قباني وأحمد مطر ، وأشعار الثلاثة الأخيرين ، ومعهم أشعار محمود درويش ، كانت عموما هي الأكثر تردادا وتناقلا ، فلم تخل منها وسائل التواصل الاجتماعي في يوم من أيام الحرب الدائرة منذ ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ .
لخص عوض رأيه في الملوك والحكام العرب في زمنه بقوله :
" ظنيت لنا ملوك تمشي وراها رجال
تخسا الملوك إن كانوا هيك انذال
والله تيجانهم ما يصلحوا لنا نعال
إحنا اللي نحمي الوطن ونضمد جراحه "
ولم يختلف عنه أبو سلمى في قصيدته النارية " لهب القصيد " التي ذكر الحكام العرب فيها ، في تلك الفترة ، واحدا واحدا مبينا ما هم عليه ، وقد أجمل قوله في نهايتها بقوله :
" يا من يعزون الحمى / ثوروا على الظلم المبيد
بل حرروه من الملوك وحرروه من العبيد "
وواصل بعد النكبة هجاءه لهؤلاء الحكام ساخرا منهم قائلا :
" زعماء دنسوا تاريخكم
وملوك سلموكم دون حرب
و
دول تحسبها شرقية
فإذا أمعنت فالحاكم غربي " .
مع تكرار محاصرة الفلسطينيين وكثرة المجازر التي ارتكبت بحقهم وملاحقة ثورتهم وطردهم من مكان إلى آخر واتساع منفاهم تكرر الطلب نفسه ، كأن من ناشدوهم في السابق وقفوا إلى جانبهم ولم يخذلوهم ، وهذا ما دفع مريد البرغوثي في قصيدته " طال الشتات " إلى القول :
" أهذا صوتك المخذول نادى؟
أم أنك قد يئست من المنادى؟
أم أنك في المدى آنست نارا ،
وحين قصدتها حالت رمادا ؟
لقد خذلوك حيا ثم ميتا
بما خافوا انتباهك والرقادا
ويأسك لم يهز لهم قناة
وقد هز المقابر والجمادا
ولا تطع القرابة في عدو
وعاند من " تريد " له عنادا " .
لقد خذل الملوك والرؤساء العرب في حصار بيروت ١٩٨٢ الفلسطينيين المحاصرين ، وبدا ذلك في معظم الأشعار التي كتبها الشعراء الفلسطينيون في تلك الفترة ، وتعد قصيدة محمود درويش " مديح الظل العالي " الأكثر شيوعا وانتشارا والأكثر اقتباسا منها ، ولم تكن عموما الأولى له في هذا المضمار ، ففي حصار مخيم تل الزعتر ، في ١٩٧٦ ، وتسويته بالأرض كتب قصيدته الشهيرة " أحمد الزعتر " وفيها قال :
" ومن الخليج إلى المحيط ، من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدون الجنازة
وانتخاب المقصلة "
وبعدها خاطب الحكام العرب :
" أنا لا أريد دعاءكم
أنا لا أريد سيوفكم
فدعاؤكم ملح على عطشي
وسيفكم علي "
وعلا قوله " كم كنت وحدك " و " يا وحدنا " وشاع .
ولم يكن عنوان سربية سميح القاسم " خذلتني الصحارى " ببعيد .
الشاعر العراقي مظفر النواب كان واضحا منذ البداية ، فلم يهادن ولم يجامل ولم يلجأ إلى التورية في أشعاره ومثله الشاعر العراقي أيضا أحمد مطر .
في قصيدة النواب " تل الزعتر " نقرأ هجاء لاذعا للحكام العرب ، بل إنه لم يكتف بالهجاء ، فتخيل إجراء محاكمة لهم على تقاعسهم وخذلانهم إخوتهم ، وأخذ يسخر من أجوبتهم في الدفاع عن أنفسهم . ببساطة رأى فيهم تابعين للغرب الرأسمالي الذي لا يكترث لدمعة يذرفها الشرق البائس حتى لو زحف هذا الشرق ينشد العطف ويعلن الولاء ويمعن في إبداء التأييد .
ومع أن الفلسطينيين والشعوب العربية التي تقف إلى جانب عدالة قضية الأولين كرروا مقاطع من القصيدة الساخرة لمظفر " قمم قمم " إلا أنهم - وهذه مفارقة - لم ييأسوا من مناشدة الزعامة العربية علها تقدم على خطوة ما تجاه العدو الإسرائيلي ، كأن يطردوا السفراء أو يقطعوا العلاقات الدبلوماسية أو يوقفوا ضخ النفط أو يجرأوا على تقديم المساعدات الإنسانية للمحاصرين المنكوبين في قطاع غزة .
قبل ألف عام قال أبو العلاء المعري :
" لقد أعييت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي "
ويبدو أن ذاكرتتا ما زالت عذراء ، والعبارة كتبها إميل حبيبي في العام ١٩٨٠ . وكم من حرب حدثت بعد العام المذكور ؟! وكم من نداء واستغاثة وجههما الفلسطينيون للزعامة العربية دون جدوى ؟!
هل أخطأ مظفر النواب حين قال في " وتريات ليلية " ١٩٧٣ :
" تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة " ؟ .
الأربعاء ١٥ / ١١ / ٢٠٢٣
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٩ / ١١ / ٢٠٢٣ )

***

8- الفلسطيني اللاجيء... الفلسطيني المقاوم: تداعيات الحرب في غزة

خربط٧ت الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية في غزة حياتنا وقلبتها رأسا على قدم ، فما قام به المقاومون الفلسطينيون في ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ ذكر كثيرين بحرب ١٩٧٣ ، ودفعهم إلى التساؤل إن كان ما يشاهدونه واقعا أم خيالا ، والواقع والخيال وتحول أحدهما إلى الآخر شاع في الأدبيات الفلسطينية ، وربما كان محمود درويش أبرز كاتب فلسطيني خاض فيه ، فقد كتب في جداريته :
" فالأسطورة اتخذت مكانتها / المكيدة
في سياق الواقعي " .
وفكرة الخيالي الذي يمكن أن يغدو واقعيا فكرة تأسست على أساسها دولة إسرائيل ، وأول رواية صهيونية تخيلت إقامة دولة لليهود هي رواية ( ثيودور هرتسل ) " أرض قديمة جديدة " التي حملت عنوانا فرعيا هو " إذا أردتم فإنها ليست خرافة .( ١٩٠٢ ) ، وأظن أنها توراة اليهود المعاصرة التي ساروا عليها وما زالوا ، بخصوص تهويد فلسطين كلها ؛ أرضها ومدنها وعلى رأسها القدس ، فالأرض تشترى من العرب والقدس تفرغ من السكان لتتحول إلى مدينة يهودية يؤمها السواح من العالم كله . وإذا ما بقي عرب فيها وأرادوا البقاء فإنهم يبيعون أرضهم برضا إلى اليهود ، كما فعل رشيد بك في الرواية ، ويستأجرونها منهم .
كانت رواية هرتسل بذرة لروايات صهيونية لاحقة كتبها يهود ومسيحيون أوروبيون صهيونيو التوجه مثل ( ليون أوريس ) صاحب رواية " اكسودس / الخروج " التي صدرت بعد تأسيس دولة إسرائيل ، فصفحاتها الأخيرة تأتي على اللاجئين الفلسطينيين في غزة وتكتب عنهم ، كما في القسم الرابع من الكتاب الخامس وهو الكتاب الأخير من الرواية .
في هذا القسم يكتب أوريس عن اللاجئين وينعتهم بالعجز واللصوصية والقتل والعيش عالة على صدقات الأمم المتحدة ، وأنهم لا يفهمون سوى لغة القوة ، ويبدو أن نتنياهو وحكومته وما يفعلونه بغزة خارج من معطف هذه الرواية . وهو ما يمكن ملاحظته في الفقرة الآتية :
" جرائم العصابات أوصلت في النهاية إلى معيار كهذا هو أن إسرائيل لم يبق أمامها إلا اللجوء إلى الإبادة . الجيش الإسرائيلي أوضح بأنه يجب قتل عشرة عرب مقابل كل يهودي يقتل . الإبادة بدت للأسف هي اللغة الوحيدة التي فهمها العرب " .
الفلسطينيون في غزة كما يكتب أوريس عنهم هم عصابات مجرمين يتسللون عبر الحدود من أجل السرقة . إنهم عاجزون لا يفعلون ينظمهم المصريون ويرسلونهم عبر الحدود ليحرقوا الحقول ويقتلوا الإسرائيليين ، ولا يكتب أوريس أن هؤلاء كانوا في أرضهم وفي مدنهم وقراهم مزارعين وحرفيين مهرة ، وأن الإسرائيليين هم من جعلوا منهم متسللين لهم حق يطالبون به .
ما سبق رد عليه غسان كنفاني في روايته " عائد إلى حيفا " التي كتبت لدحض الرواية الصهيونية . صحيح أن سعيد . س في الرواية كان ، بعد ١٩٤٨ ، عاجزا ولا يفعل شيئا من أجل استرداد بيته ، ولكن ابنه خالد انتمى للفدائيين ومثله سعد في رواية " أم سعد " التي تعد جزءا يكمل ما انتهت إليه " عائد إلى حيفا " . الفلسطيني العاجز صار مقاتلا .
ترى ماذا سيقول هرتسل واوريس لو رأيا ما حدث في قطاع غزة منذ ١٩٦٧ ؟
الذاكرة تعيد القاريء إلى ما كتبه معين بسيسو في كتابه " يوميات غزة " ( ١٩٧٠ ) وإلى كتب أخرى كتبت في الفترة نفسها كرواية هارون هاشم رشيد " سنوات العذاب " التي كتبت عن الفدائي في أثناء احتلال قطاع غزة في العام ١٩٥٦ ومجدته باعتباره بطلا .
ولطالما ركز بسيسو على الفلسطيني المقاوم واستحضر شخصية شمشون الإسرائيلي الذي ذلته غزة ، وعلى الفلسطينية دليلة التي وقفت إلى جانب شعبها فأفشت سر زوجها شمشون ليتم أسره . وشمشون الذي استحضره بسيسو في مسرحيته " شمشون ودليلة " وفي يومياته " يوميات غزة " حضرت الكتابة عنه في رواية أوريس باعتباره بطلا أوقف البوابة ؛ بوابة غزة ، على اصبعه ، وها هو الإسرائيلي الجديد يتتبع خطى سلفه القديم .
إن " يوميات غزة " يؤرخ ما شهدته غزة منذ ١٩٤٨ ويكتب عن الفلسطيني المقاوم الذي أذل شمشون وربطه وجعله يدير الطاحونة . كان سر قوة شمشون في شعره ، وأما سر قوة إسرائيل في هذه الحرب فيكمن في سلاح جوها الذي دمر مباني غزة ومسح أحياءها ، لأنه لم يستوعب ما قام به المقاومون الفلسطينيون ، وسواها بالأرض كما فعل في الضاحية الجنوبية لبيروت في العام ٢٠٠٦ ، وهو ما يذكر بما قام به الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لكي ينهوا الحرب ، إذ مسحوا مدينتين ألمانيتين عن وجه الخريطة هما ( دريسدن ) و ( أوغسبرج ) باعتبارهما مدينتين صناعيتين تصنعان السلاح الذي يمد الجيش الألماني .
كتب بسيسو في يومياته عن تحولات غزة إلى مدينة مقاومة منذ ظهور الفدائي في احتلال المدينة الأول في ١٩٥٦ وفي احتلالها الثاني في ١٩٦٧ ورأى في الفدائي " رسول الفلسطينيين الجدد .. أحفاد الفلسطينيين القدامى إلى شمشون الإسرائيلي الجديد .. إلى ذلك الوحش الذي ليست قوته في شعره ، ولكن في عضلات جنازير دباباته .. لم يكن رسول غزة الجديدة هو " دليلة " ابنتهم الجميلة العذراء - بل كان رسولهم " دليلة أخرى " .. هي القنبلة ، اصبع الديناميت .. ومشط الرصاص " .
هل اختلف الواقع بعد وفاة بسيسو في ١٩٨٤ ؟
منذ ١٩٨٧ والفلسطيني في غزة يقاوم الاحتلال والحصار ويواصل جيل جديد من مواليد اللجوء ما بدأه الأجداد .
في رواية يحيى السنوار " الشوك والقرنفل " (٢٠٠٤ ) تصوير لتحولات الطفل الفلسطيني اللاجيء اوصل إلى ما نشاهده والسبب ؟؟؟
لا أظن أنه بحاجة إلى كتابة ، فأهل غزة ونحن نعيشه !!
الثلاثاء والأربعاء والخميس ١٠ و ١١ و ١٢ / ١٠ / ٢٠٢٣
مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٥ / ١٠ / ٢٠٢٣

***

9- ألعاب الأطفال التي تتحول إلى حقيقة : ألعاب يحيى السنوار في طفولته

هل تتحول ألعاب الأطفال إلى واقع ؟
هذا هو السؤال الذي يراودني كلما زرت ، في العيد ، مخيم بلاطة أو مخيم عسكر الجديد ، أو كلما شاهدت أطفال أبناء إخوتي أو أبناء جيراني يشترون بعيدياتهم أسلحة بلاستيكية يلعبون فيها ، وغالبا ما أعقب :
- هؤلاء هم مقاتلو الحرب القادمة ووقودها .
لم تكن طفولتنا تختلف كثيرا ، فقد كان قسم منا يشتري أيضا المسدسات والبنادق البلاستيكية ويخيف الآخرين بها ، وقد يلعب مع رفاق طفولته لعبة الحرب .
الآن تجري الحرب في غزة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، ومنذ ١٩٤٨ تشهد فلسطين حربا متواصلة تتخللها فترات هدوء . تتوقف الحرب ثم تبدأ من جديد .
احتل قطاع غزة في العام ١٩٥٦ وفي العام ١٩٦٧ وشهد انتفاضتي كانون الأول ١٩٨٧ وأيلول ٢٠٠٠ - انتفاضة الأقصى - وحين كنس المحتل منه وأزيلت المستوطنات لم تنته الحرب .
منذ الانسحاب الإسرائيلي من القطاع ومنذ العام ٢٠٠٧ حين أصبح تحت حكم حركة حماس اندلعت حروب عديدة ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ و ٢٠١٢ و ٢٠١٤ و٢٠١٨ و ٢٠٢١ والحرب الحالية ؛ حرب ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ . ومع انتهاء كل حرب يؤجل حل المشكلة الفلسطينية حلا عادل ويزداد حصار قطاع غزة وتتواصل انتهاكات اليهود للأقصى وتتوسع المستوطنات في الضفة الغربية وتتواصل معاناة الفلسطينيين هنا وهناك .
في بداية الحرب تردد ذكر أسماء مسؤولين فلسطينيين كان لهم أصابع مشهودة فيما يجري ومنها يحيى السنوار ( أبو إبراهيم ) المولود في العام ١٩٦٢ ، فهو الآن يدخل عامه الحادي والستين .
قبل الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية في العام ٢٠٢١ كان أبو إبراهيم يعرف أنه سجين سابق وقائد سياسي في حركة حماس ، ولم يكن أحد من متابعي المشهد الروائي الفلسطيني يعرف أنه أصدر رواية عنوانها " الشوك والقرنفل " كتبها في العام ٢٠٠٤ وهو في سجن بئر السبع / ايشل فلسطين . رواية بدأ كتابتها في زنازين سجن بئر السبع واكتملت بفصلها الثلاثين و " لكن لا زالت مأساة كاتبها ورفاقه مستمرة في اقبية سجون الاحتلال "( صفحة ٣٣٥ ) ، لم يكن أحد يعرف أن له رواية حتى أخبرنا بالأمر الشاعر زكريا محمد وهو يكتب عن حرب ٢٠٢١ ، فالتفت في حينه إليها وكتبت عنها سلسلة خربشات في الفيس بوك وذكرتها في غير مقال لي في جريدة الأيام .
قدم أبو إبراهيم لروايته بالآتي :
" هذه ليست قصتي الشخصية وليست قصة شخص بعينه رغم أن كل أحداثها حقيقية ، كل حدث منها أو كل مجموعة أحداث تخص هذا الفلسطيني أو ذاك ، الخيال في هذا العمل فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه ، وكل ما سوى ذلك حقيقي ، عشته وكثير منه سمعته من أفواه من عاشوه هم وأهلوهم وجيرانهم على مدار عشرات السنوات على أرض فلسطين الحبيبة .
أهديه إلى من تعلقت أفئدتهم بأرض الإسراء والمعراج من المحيط إلى الخليج ، بل من المحيط إلى المحيط " .
الراوي / الروائي يقص في الفصلين الثاني والثالث عن ألعاب الأطفال التي كان وأبناء مخيمه يلعبونها ومنها لعبة " عرب ويهود " :
" أحيانا يلعب الأولاد ( عرب ويهود ) ، حيث ينقسمون إلى فريقين : فريق العرب وفريق اليهود وكل فريق يحمل قطعا من الخشب أو الحطب على شكل بنادق يطلقون منها النار على بعضهم البعض وهم يصرخون ( طاخ أنا طخيتك ) ، فيصرخ الآخر لا أنا طخيتك قبل ، وفي كثير من الأحيان تتحول إلى مشاجرة خلافا على الذي ( طخ ) الثاني قبل صاحبه ، ولكن الأغلب أن فريق العرب كان يجب أن ينتصر على فريق اليهود ، حيث أن الكبار أو الأقوياء من الأولاد هم الذين يحددون أعضاء كل فريق ويكونون في فريق العرب "( صفحة ١٤ ) .
هذه الألعاب التي كان الأطفال يلعبونها كان لها على أرض الواقع في غزة ما يوازيها . ما إن يبدأ الاحتلال حتى يبدأ في الوقت نفسه بعض مجندي أفراد جيش تحرير فلسطين ممن لم يغادروا قطاع غزة في ١٩٦٧ بتنظيم أنفسهم ليقودوا المقاومة .
الراوي ابن السادسة صحا على هذه الأجواء . صحا على منع التجول واعتقال الشباب المقاومين وسجنهم أحيانا وأحيانا على نجاحهم في ملاحقة العدو وقتله وجرحه والنجاح في الاختفاء ، وصحا على غزة محتلة في النهار ومحررة في الليل ، وعرف أن مخيم جباليا صار يسمى مخيم الثورة وكانت الأخبار " تسري في المخيم سريان النار في الهشيم ، فتزيد الناس سعادة وترفع من المعنويات ، ونحن كأطفال انعكس ذلك على لعبنا ( عرب ويهود ) ، فقد صرنا نلعبها يوميا وأصبحت القاعدة السائدة أن العرب سيغلبون ويقتلون أعداءهم . " .
هل ظلت لعبة عرب ويهود في مخيلة الراوي ومن ورائه الكاتب ؟ وهل لصق في الذهن قول محمود درويش في قصيدته " مديح الظل العالي " ؟ :
" هيروشيما هيروشيما
وحدنا نصغي إلى رعد الحجارة ، هيروشيما
وحدنا نصغي لما في الروح من عبث ومن جدوى
وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقودية ؟
يا هيروشيما العاشق العربي أمريكا هي الطاعون ، والطاعون أمريكا ... " .
ربما يعد ما شاهده يحيى السنوار في طفولته في الأعوام ١٩٦٧ إلى ١٩٧٢ ، قياسا إلى ما يجري الآن ، ضربا من ألعاب الأطفال التي طورت أميركا فيها هداياها ؛ من بقج للاجئين إلى لعب للموت عنقودية !!
الأربعاء ١ / ١١ / ٢٠٢٣
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ٥ / ١١ / ٢٠٢٣ ) .

***

10- صورة اليهودي الصهيوني الإسرائيلي

هل أحدثت الحرب الدائرة حاليا تغييرا في صورة اليهودي الصهيوني الإسرائيلي ؟
تتطلب الإجابة عن السؤال استعراض الصورة التي ظهرت له في الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية و الأدبيات العربية أيضا ، وهذا ما لا تستوعبه مساحة هذا المقال ، فقد كتب في الموضوع كتب ودراسات ومقالات تناولت الأدبيات المكتوبة بالإنجليزية والعبرية .
ولأن الأدبيات التي تظهر صورته في الحرب الحالية لم تكتب فإن استخراجها يعتمد على أشرطة الفيديو التي تدرجها جهات متعددة مختلفة متحاربة ، وعلى تسريب مكالمات صوتية بين قسم من الجنود الإسرائيليين وأهلهم ، وعلى ردود أفعال مسؤولين إسرائيليين عندما وصلتهم أخبار الحرب البرية الأولى وما قاله بعض رجال الدين الإسرائيليين في حديثهم عن الحرب .
ابتداء أشير إلى الفرق الكبير بين الصورة التي قدمها الأدب الصهيوني لليهودي ، كما في أعمال أدبية صهيونية درسها غسان كنفاني ومعين بسيسو ، وفي أعمال أدبية لكتاب يهود أنجزوها بالعبرية ، والصورة التي قدمتها الأدبيات الفلسطينية والعربية له كما في كتابات هارون هاشم رشيد ومعين بسيسو وغسان كنفاني في نصوصهم الإبداعية ، لا في دراساتهم التي أنجزوها عن أعمال كتبها الآخر وقدم فيها تصوره لذاته ، وفي نصوصهم أظهر الثلاثة صورة مختلفة . إنها تصور الآخر لآخره .
كان كنفاني أول من درس الروايات الصهيونية المكتوبة بالإنجليزية في كتابه " في الأدب الصهيوني " وفيه خصص فصلين للكتابة عن اليهود " شخصية اليهودي التائه : نشأتها وتطورها " و " "العصمة " اليهودية أمام "عدم جدارة" الشعوب الأخرى " .
في الأول كتب عن تذمرات اليهودي التائه وتحولاته من رجل كل اهتماماته منصبة على طلب الغفران إلى رجل متذمر يتحدث عن الفقر والتشرد ، وفي الثاني يكتب عن اليهودي الصهيوني المستوطن الذي رأى أن الحياة التي تركها في أوروبا كانت مخيفة وأن فلسطين هي الأرض الوحيدة في العالم التي يجد فيها الفرد اليهودي الحرية والكرامة . هذا اليهودي يذهب دائما إلى حيث يحتاجون أكثر ، يتبع هاجسا داخليا حين يترك المنظمة ويعمل في الزراعة ، ثم يعود إلى واجبه كحارس حين تدعو الحاجة لذلك .. " إنه يتطوع من تلقائه لرشوة الجيش التركي الفاسد لمجرد أنه يريد القيام بواجبه كي يكون قدوة للآخرين " . إنه يستطيع بسهولة شراء أي تركي وينظر إلى العربي على أنه عاجز يهجر قريته لأنه خير من الملك عبدالله بين أن يقاتل ، الأمر الذي لا يريده ، وبين أن يهرب ، الأمر الذي نفذه ، ويجلس قرب حدود وطنه عاجزا ينتظر الخلاص . اليهودي متفوق والعربي متخلف ويستطيع الأول بسوطه أن يسيطر على قرية عربية ويتحكم بها دون أن يجرؤ سكانها على مقاومته .
في مسرحيته " شمشون ودليلة " وفي كتابيه " يوميات غزة " و " نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة " ؛ الأعمال التي كتبها بسيسو بعد حرب حزيران حيث غلب على الإسرائيليين شعور طاغ بالعظمة والغرور يكتب عن المقاومة الفلسطينية في غزة التي انبثقت بعد الهزيمة وغالبا ما يتوقف أمام تضحياتها وبطولاتها التي أخذت تهشم تلك العظمة وذلك الشعور بالغرور ويربط ذلك بالتاريخ ليعود إلى زمن الفلسطن الذين أجبروا شمشون أن يدير دولاب الساقية وأذلوه ويرى أن أبناء غزة بعد ١٩٦٧ يواصلون ما قام به .
منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وقادة الدولة الإسرائيلية يتحدثون عن سحق المقاومة ، ويظهر جنودهم وهم يذهبون إلى ساحة القتال ضربا من الاستخفاف بالفلسطيني اعتادوا أن يظهروه وهم يقتحمون مدن الضفة الغربية ، ولقد أظهرت أشرطة فيديو كثيرة صورها الإسرائيليون وهم في غزة قدرا كبيرا من هذا الاستخفاف . يسبحون على الشط . يجولون في البيارة ويأكلون البرتقال الغزي ويستمتعون وينكتون . يقصفون الجوامع ويهدون أفعالهم إلى أطفالهم في عيد ميلادهم . يؤدون العبادات ويقرأون التلمود في قاعات الجامعات الفلسطينية التي دخلوا إليها . يلعبون بلعب الأطفال في المخازن المحلات التي كسروا أبوابها ويسخرون في منشوراتهم التي يلقونها على المواطنين ، طالبين منهم الهجرة ( فأخذهم الطوفان وهم جاهلون ) ، على أن هناك جنودا عادوا من أرض غزة وقالوا إنهم كانوا يواجهون مقاومين شرسين جدا وإن الحرب كانت محتدمة ، وخير دليل هو عدد القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي ، بل إن هناك أنباء أشارت إلى رفض قسم من الجنود الإسرائيليين العودة إلى أرض غزة ، وهناك بعض أشرطة فيديو صورت بعض حنود وملابسهم مبتلة . يدعم هذه الأشرطة شريط بثه الإسرائيليون أنفسهم عن أحد قادتهم يخاطب جنوده عن نوعية الحفاضات التي سيزودونهم بها . وإذا ما عدنا إلى نصوصنا الأدبية واقتبسنا منها مقاطع تظهر صورة للجندي الإسرائيلي فإنها تتطابق وما ورد في الأشرطة المشار إليها آنفا . من الروايات مثلا رواية يحيى السنوار " الشوك والقرنفل " ( ٢٠٠٤ ) التي يكتب فيها عن جنود إسرائيليين تم اختطافهم وأخذ أسلحتهم ويصور انعكاس ذلك عليهم " ويرتجف الجندي ويبدأ بالبكاء ، وهو يستنجد بأمه ( بالعبرية ايماما ) ويسيل بوله ليبلل بنطاله " ( ٢٢٦ ) .
في الأيام الأخيرة روى جندي إسرائيلي جريح أن مجموعته كلها لم تنج وكان الجريح الوحيد بينها ، ما يدل على مقاتل فلسطيني شرس تنقض صورته الصورة التي أظهرها ( ليون أوريس ) في روايته " اكسودس " فلم تهرب غزة كلها حين اقتحمها الجندي اليهودي الصهيوني الإسرائيلي بكرباجه ، وتصريحات قادة الكيان بأن العملية العسكرية الإسرائيلية يتطلب إنجازها أشهرا هو الرد الواضح على التصور الصهيوني للذات اليهودية الصهيونية من ناحية ولتصورها للعربي من ناحية ثانية ، ويعد معين بسيسو في " شمشون ودليلة " و " يوميات غزة " أول من نقض صورة اليهودي الصهيوني الإسرائيلي المتخيلة ، وها هي الأحداث في قطاع غزة تعزز تصوره وتصور من كتب عن بيروت في العام ١٩٨٢ .
المساحة محدودة والكتابة تطول .
( ١١ و ١٢ و ١٣ / ١٢ / ٢٠٢٣
مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٧ / ١٢ / ٢٠٢٣ )

***

11- تداعيات حرب ٢٠٢٣ أربعة رؤوس بمليون دولار: الصهيونية واحتقار العربي

في اليوم السبعين من الحرب ألقت الطائرات الإسرائيلية على أهالي قطاع غزة منشورات تعرض فيها عليهم جوائز بقيمة مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تسهم في إلقاء القبض على يحيى السنوار وأخيه محمد ورافع سلامة ومحمد ضيف، موزعة على النحو الآتي:
٤٠٠ ألف للأول و٣٠٠ للثاني و٢٠٠ للثالث و١٠٠ للرابع.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن إسرائيل عرضت في منتصف تسعينيات القرن ٢٠ المبلغ كله على من يسهم في إلقاء القبض على المهندس يحيى عياش الذي تمكنت من اغتياله في العام ١٩٩٦، ويقال إن من قام بالمهمة وأبلغ عنه لم يستلم قيمة الجائزة.
بعد توزيع المنشورات اقترحت أجهزة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن تضمن سلامة يحيى السنوار مقابل أن تتم إعادة الأسرى الإسرائيليين الباقين. أي استخفاف هذا بالإنسان العربي الفلسطيني وأي احتقار له؟!
عموماً فإن هذا الاحتقار لا يقتصر في الأدب الصهيوني على العرب، كما لاحظ غسان كنفاني، ففي «العمل الفني الصهيوني تتعرض كل شعوب العالم للاحتقار بدرجة أو بأخرى، فالبولونيون جبناء، والألمان برابرة، والأتراك مرتشون، واليونانيون أذلاء، والعرب فرارون وخونة، والانكليز متواطئون، والأميركييون انتهازيون... إلخ».
ومن أصغى إلى بعض أشرطة فيديو تكلم فيها إسرائيليون يتأكد مما أورده كنفاني، ومن يتابع تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين حول الحرب، بل ومن يتابع ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة، يلحظ مدى استخفافهم بالعالم كله استخفافاً لدرجة الاحتقار.
بعد سبعين يوماً من قصف قطاع غزة وتدمير أحياء مدنه وبناه التحتية، وبعد أسابيع من الحرب البرية التي سقط فيها الآلاف من الطرفين وجرح أيضاً عشرات الآلاف، بعد هذا كله تلجأ إسرائيل إلى سلاح الإغراء المادي، وهو سلاح لطالما استخدمته من ضمن الأسلحة التي استخدمتها، وقد أتى عليه الدارس الإسرائيلي (هلل كوهين) في كتابه «العرب الصالحون» وهو الجزء الثاني من كتابه «جيش الظل»، ولمن يريد أن يتوسع في الموضوع فما عليه إلا أن يعود إلى الكتابين اللذين نقلا إلى العربية.
سوف أقتبس من «العرب الصالحون» فقرة تعزز ما ذهبت إليه، ثم سأتتبع هذه الفكرة في الأدبيات الفلسطينية والعربية الكتابية والشفوية، وأعود بها إلى بداياتها في الأدبيات الصهيونية.
في «العرب الصالحون» نقرأ عن مواطن من قرية عارة «أبلغ الشرطة عن جاره الذي ذهب إلى برطعة لتهريب البضائع، نصب كمين للجار وقبض عليه، أوصى المسؤول في الشرطة عن العميل الواشي أن يدفع له ما يعادل ثمن البضاعة التي قبض عليها وكان 444 ليرة إسرائيلية» (صفحة ٧٨).
ولكن ما يجب أن يتذكر في حالة السنوار والعرض الذي قدم له شخصياً هو ما كتبه (هلل) تحت عنوان «عودة المحارب»، والمحارب هو محمد نمر الهواري الذي خاض حرب العام ١٩٤٨ كقائد للنجادة في مدينة يافا - المنظمة شبه العسكرية التي شاركت في القتال ضد اليهود في فلسطين.
عاد الهواري، مع أسرته وبعض أعوانه، إلى فلسطين متسللاً بعد حصوله على السماح له بالعودة في العام ١٩٤٩عن طريق الحدود اللبنانية، وبعد سجنهم لمدة أسبوع أوصى مكتب رئيس الوزراء بإعطاء المجموعة إذناً بالإقامة المؤقتة، وتم نقلهم إلى عكا.
تعرض إسرائيل على السنوار، كما أوردت آنفاً، الحرية والخروج من غزة مقابل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، فأي استخفاف بالقيادات الفلسطينية هذا، ويبدو أنها تقيس على تجارب سابقة حققت فيها نجاحاً وشكلت لديها قناعة، يكثر الكتابة عنها في الأدبيات الصهيونية وتحفر عميقاً في الذهنية الإسرائيلية، وهي أن الفلسطيني يحرص، أول ما يحرص عليه، على مصالحه وسلامته الشخصية ولا يهتم بالصالح العام، ويبدو أن النظام العربي القائم على الحكم الفردي والتسلّط وتسخير الوطن كله لخدمة الحاكم وعائلته، يبدو أن هذا هو الذي يحرك إسرائيل في التعامل مع العرب وإبداء الاقتراح.
كان المحققون الإسرائيليون، كما يروي السجناء المفرج عنهم وكما كتب بعض الأدباء السجناء، يرددون أمام المعتقلين المثل الآتي «سبعين عين تبكي ولا عين أمي» وكانوا يغرونهم بالمال وإتاحة الفرص أمامهم، وقد خصص الأسير وليد الهودلي مجموعة قصصية كتب فيها عن هذا، وهي مجموعة «كيف أصبح جاسوساً» وغيره كتب كثيرون، بل إن السنوار نفسه الذي سجن لفترة طويلة يأتي في روايته «الشوك والقرنفل» (٢٠٠٤) على طرق الإسقاط التي يعتمدها الإسرائيليون ويلجؤون إليها، ومنها بالتأكيد المكافآت المادية.
لم يكن الكتاب الفلسطينيون وحدهم من أشار إلى الإغراء المادي ليغدو الفلسطيني واشياً يقدم المعلومات للإسرائيليين، فقد أتى عليه أيضاً كتاب إسرائيليون قسم منهم عمل في جهاز المخابرات الإسرائيلي وقسم رصد الظاهرة.
في كتابه «الزمن الأصفر» كتب (دافيد غروسمان) فصلاً عنوانه «الواسطة» أتى فيه على الخدمات التي قدمها المخبرون إلى رجال المخابرات، وفي كتاب (كوهين) «جيش الظل» نقرأ الآتي: «إن العرب الذين ساعدوا الأجندة السياسية الصهيونية وخدموها كمخبرين وأدلاء، وطالبوا أيضاً بالمقابل. كان المال، في الواقع، دافعاً مهما للمتعاونين....» (صفحة ١٠٤ من الترجمة العربية).
ويبدو أن الحركة الصهيونية قد لجأت إلى سلاح المال منذ خططت للاستيلاء على فلسطين، وهو عموماً ما تنبه إليه أدباء فلسطين كسليمان التاجي الفاروقي وإبراهيم طوقان، وهو ما كتبت عنه مراراً.

عادل الأسطة
2023-12-24

***

12- تداعيات حرب ٢٠٢٣: تشابه التجربة.. اجترار الكتابة

«كم مرة ستسافرون وإلى متى ستسافرون ولأي حلم؟ وإذا رجعتم ذات يوم فلأي منفى ترجعون؟ لأي منفى ترجعون؟» (محمود درويش)].
في العام ١٩٩٧ كتبت في «الأيام» مقالات عن أدب النكبة جمعتها في كتاب «سؤال الهوية: فلسطينية الأدب والأديب» (٢٠٠٠) وفيه كتبت أيضاً تحت عنوان «تشابه التجربة .. تشابه الكتابة».
منذ بداية الحرب الدائرة - وطلب الجيش الإسرائيلي من مواطني شمال القطاع النزوح إلى جنوبه وهجرة قسم كبير من السكان - ردد ناشطون دال «التغريبة الفلسطينية» وأضافوا إليه «الجزء الثاني» و»الثانية»، بل إن قسماً منهم أدرج مقاطع من المسلسل بخاصة المعبرة عن حالة شبيهة أو المغناة.
لم تحضر التغريبة وحسب، فلقد حضر، في وسائل التواصل، أكثر منها، نصوص كتبها أدباء سابقون تشابهت تجربة أهل غزة بالتجارب التي مروا بها وعبروا عنها؛ من تجربة النكبة إلى تجربة بيروت ١٩٨٢، تماماً كما حضرت أغنيات مارسيل خليفة وأحمد قعبور وغيرهما.
هذا الاستحضار دفع إلى التساؤل إن كان هناك عقم لدى الكتاب الحاليين. من ذلك مثلاً أنني كتبت في صباح اليوم ٧٩ للحرب، تحت عنوان «خيمتنا الأخيرة.. نجمتنا الأخيرة» واقتبست من قصيدة محمود درويش «بيروت»، فعلق قارئ بالآتي:
«ما زلنا نجتر الماضي!!!!! هل السبب يعود لعقم المحدثين من الأدباء والشعراء أم أن الأحداث والمسميات متشابهة؟».
التساؤل أعادني إلى مقولات نقدية يكثر تردادها كلما قرأ قارئ نصاً جديداً تشابه مضمونه مع نص قديم. من تلك المقولات «ما أرانا نقول إلا معاداً مكروراً» و»هل غادر الشعراء من متردم؟» ومقولة (غوتة) «إن الأدباء الكبار ليسوا أدباء كباراً لأنهم أتوا بأفكار جديدة، وإنما هم كذلك لأنهم أظهروا الأشياء كما لو أنها تكتب لأول مرة»، ومقولة البنيويين «إن الثنائيات في الأدب محدودة وثابتة» وإن الكتابة كتابة على الكتابة، ولطالما اقتبست من (يونغ) مقولته في الأعمال الأدبية: «إنها صدى لأساطير قديمة تتردد في حياة البشر».
إن ما يعيشه سكان غزة، الآن، مر به قسم منهم في العام ١٩٤٨، ومن لم يمر به في حينه يعيش تجربة الأجداد: الخروج من البيت واللجوء والإقامة في خيمة وبؤس الواقع وشظف العيش والشعور بالخذلان والحنين إلى البيت والمكان.
ولسوف أتذكر نصوصاً كثيرة تعبر عن اللحظة الحالية، وهذا ما دفعني للكتابة تحت عنوان «مناشدة الزعامة العربية وذاكرتنا العذراء»، ولم تكن الحرب، يومها، قد استفحلت والنزوح من شمال قطاع غزة ووسطه قد تفاقم، بل ولم تكن الخيام قد نصبت ليغدو اللاجئون القدامى وأولادهم وأحفادهم لاجئين جدداً.
على سبيل المثال فقد كنت أتابع يوميات الروائي عاطف أبو سيف وزير الثقافة في السلطة الوطنية الفلسطينية، وكان ما زال يقيم في مخيمه جباليا مع أهله، ولم يكن غادره بعد ليقيم في إحدى الخيام في أحد المخيمات الجديدة ويكتب عن حياته فيها، هو الذي ولد في مخيم في غرفة إسمنتية، لأب ولد في خيمة، بعد النكبة الأولى بثلاث أربع سنوات، أب فضل أن يظل في بيته في المخيم على أن يعود ليقيم، من جديد، في خيمة جديدة.
وسيكتب عاطف يومياته عن حياته وحياة أهله ومعارفه وجيرانه وأصدقائه وبيته في الحرب.
سيكتب كتابة تذكرنا بما كتبه محمود درويش عن حرب بيروت ١٩٨٢ في كتابه «ذاكرة للنسيان .. سيرة يوم .. الزمان آب. المكان بيروت» وفي قصيدته «مديح الظل العالي» (١٩٨٢)، ويبدو أنه كان يكتب مقاطع يومية منها في أثناء الحرب.
في حرب غزة من العام ٢٠٠٨ كتب الشاعر خالد جمعة، الذي كان يقيم هناك، تحت عنوان «هل تريدون أن تعرفوا ما يجري في غزة؟ اقرؤوا كتاب محمود درويش «ذاكرة للنسيان» وأدرج رابط الكتاب مع مقاله، وفي ٢٧/ ١٢/ ٢٠١٢ وصف ما جرى تحت عنوان «الرصاص المكتوب».
ليست نصوص درويش وحدها هي النصوص التي استعيدت، فهناك نصوص أخرى لكتّاب آخرين، وأظن أن قراءتها الآن هي التي دفعت إلى القول إن الكتاب الآن يجترون كتابات السابقين كما لو أن الحاليين مصابون بالعجز والجدب.
خذوا مثلاً رواية كنفاني «ما تبقى لكم» ١٩٦٦ وما ورد فيها من إعدام سالم، ورواية هارون هاشم رشيد «سنوات العذاب» ١٩٧٠ ومقاومة الغزيين للاحتلال في ١٩٥٦، وسيرة معين بسيسو الذاتية «دفاتر فلسطينية» ١٩٧٨ وكتابيه «يوميات غزة» و»شمشون ودليلة»، ورواية غريب عسقلاني «الطوق» ١٩٧٩ والأمثلة عديدة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولأن الشبيه يستحضر الشبيه، فغالباً ما تستدعي كتابتنا في التعبير عما يجري الآن الكتابات السابقة التي كتبت في أحداث سابقة مشابهة، وعلينا أن ننتظر كتابات أدبائنا الحاليين لتنجز فنكتب عنها ونوازن ونقارن ونبين المتشابه والمختلف والمتكرر أسلوباً والمتميز فناً، وبذلك لا نجتر الماضي.
غير أن هناك قضية أدبية أخرى تتمثل في أن الكتابة هي كتابة على الكتابة وأن كل كتابة جديدة لا تخلو من نصوص الآخرين، فكيف إذا كان الكاتب يرمي أيضاً، فوق وصف الواقع ونقله إلى القارئ، إلى تثقيفه ومده بزاد معرفي يثري معلوماته؟!
من المؤكد أن غزة ولادة والشعب الفلسطيني ليس عاقراً، ومما شاهدته مقابلة مع الفتى عبد الله أبو سلطان من غزة يتحدث عن رواية كتبها بمساعدة أستاذه مجد عزام الذي استشهد في الحرب وأنه الآن يعكف على كتابة رواية عنوانها «أشلاء» تصف ما يجري.

عادل الأسطة
2023-12-31

***

13- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : النكبة تستحضر النكبة . كأنني أعيش طفولتي

في صباح الأحد الماضي قال د . أنس مهنا ، في إذاعة أجيال ، لمحاورته ميسون المناصرة إن غزة هي الوحيدة في العالم العربي التي تملك قرارا مستقلا ، أما الدول العربية فقرارها ليس بيدها ، ومن يحكمها هو السفارات الأمريكية فيها .
أدرجت ما قاله مهنا على صفحتي فأثار جدلا وعقب عليه صديق كاتب لا يقف إلى جانب ما جرى في ٧ أكتوبر حيث يراه أخطر ما ألم بالشعب الفلسطيني وستكون آثاره عليه وخيمة ، وصار يعدد أشكال معاناة أهل القطاع من الترحيل والتهجير والإقامة في الخيام والبحث عن رغيف الخبز والوقوف على الدور لقضاء الحاجة في الحمام إلى فقدان " شقى العمر " ، وعيرني بأنني لا أعاني مما يعاني منه الغزيون ، مثلي مثل المثقفين الذين يدهم في الماء لا في النار .
وعموما فإن المثقفين والكتاب الذين يكتبون عن غزة من بعيد كانوا موضع هجاء وسخرية ، حتى من غسان كنفاني نفسه ، وغالبا ما يدرج له الفيسبوكيون من قصته " ورقة من الرملة " ، من مجموعته " أرض البرتقال الحزين " ( ١٩٦٢ ) فقرة يبدي فيها موقفه منهم . وهو شبيه برأي المتنبي :
" وتوهموا اللعب الوغى ، واللعب
/ في الهيجاء غير اللعب في الميدان " .
في الحرب الدائرة حاليا أخذ الروائي عاطف ابوسيف يكتب يومياته عن الحرب في جباليا أولا ، حيث كان في أثناء اندلاع الحرب هناك ، وفي مخيمات اللجوء حين أقام فيها بعد مغادرته مخيم جباليا ، وكنت أتابع يومياته وأسهم في إعادة نشرها ليقرأها القراء ، باعتبارها كتابة من داخل الحدث نفسه لكاتب يعيش الحدث . وقراءة ما يكتب من المكان الذي يجري فيه الحدث تهمني جدا ، لأرى الفرق بين ما يكتب عنه من الداخل وما يكتب عنه من الخارج ، وقد لفت نظري إلى هذا الكاتب ، في فترة مبكرة ، الفرنسي ( جان جينيه ) ، حين كتب عن مجزرة شاتيلا وصبرا في نصه " أربع ساعات في شاتيلا " ، وغالبا ما توقفت أمام رأيه وثمنته واعتمدت عليه في جدلي مع الكتاب الذين كتبوا عن عوالم وأزمان لم يعيشوا فيها .
كنت أكتب عما يجري في غزة وكان أبو سيف يكتب أيضا عما يجري فيها . كنت أكتب اعتمادا على ما أسمع وأشاهد من خارج الحدث ، فيما كان يكتب على ما يمر به ويعيشه من الداخل ، وهذا جعلني أتأمل الظاهرة وأكتب عنها بضع خربشات .
وأنا أقرأ ما كتبه عاطف تذكرت ما عشته في طفولتي أيام كنا نقيم في المخيم . أنا من مواليد العام ١٩٥٤ - هذا يعني أنني مررت بالتجربة نفسها التي يمر بها أبناء غزة ممن ولدوا قبل الحرب بسنوات ، وحين يصف عاطف معاناته ومعاناتهم وطريقة حياتهم أتذكر أنني مررت بالتجربة نفسها .
أنا من مواليد الخيام وقد عشت فيها أربع سنوات - أي من ١٩٥٤ حتى ١٩٥٨ ، وكما عرفت فإن وكالة غوث اللاجئين شرعت ببناء غرف للاجئين في العام ١٩٥٨ ، وما زلت أتذكرها جيدا وبعضها ما زال قائما حتى يومنا هذا ، بل وما زلت أتذكر غرف الزينكو التي أقيمت إلى جانبها لينام فيها الأبناء الجدد ، وقسم من غرف الزينكو كان مغطى بالشوادر ، بل إن المساحة بين الغرفة والغرفة كانت في أيام الشتاء تغطى بالشوادر . وفي السنوات الأخيرة سمعت من صديقي شعبان مطر أنهم أقاموا ، بعد ١٩٤٨ ، لسنوات في مغارة في جبل جرزيم قبل أن ينتقلوا إلى السكن في مخيم عسكر القديم .
ما زلت أذكر توزيع المؤن على اللاجئين ولطالما استلمت حصتنا ، وما زلت أذكر أيضا توزيع بقج الملابس بين الفينة والفينة ، وأكثر من ذلك فلن أنسى مطعم الوكالة الذي كنا نذهب إليه لتناول الوجبات .
غير ما سبق لن أنسى الحمام العام الذي أقيم في المخيم ليستحم فيه اللاجئون ، فقد خلت الخيام وبيوت الصفيح من الحمام ، بل وأذكر المراحيض العامة التي أقيمت للسكان وخصص قسم منها للرجال وقسم آخر للنساء .
في تلك الأيام أيضا كان قسم من اللاجئين يهيمون في البراري يبحثون عن النبات والأعشاب ليطبخوها ؛ من الهندبة إلى الزعمطوط إلى اللسينة إلى الخبيزة إلى ... وكانوا في فصل الصيف إن كان قربهم حقل تين يأكلون منه .
وتجربة ١٩٤٨ عاشها ثانية الفلسطينيون الذين نزحوا إلى الأردن في إثر هزيمة حزيران ١٩٦٧ . لقد زرت مخيمي البقعة وشنلر ما بين ١٩٧٢ و ١٩٧٦ . لقد كانت البيوت من الصفيح تماما ولم تكن هناك بيوت اسمنتية أقيمت .
يدنا التي هي الآن في الماء كانت في يوم من الأيام في النار ، ولمن يريد أن يقرأ عن قسوة تلك الأيام فليعد إلى من عاشوها وكتبوا عنها لاحقا ، مثل يحيى يخلف في روايته " ماء السماء " و رشاد ابوشاور في روايته " الحب وليالي البوم " - وقد كتبت عنهما في هذه الزاوية - ومحمد الأسعد في روايته " أطفال الندى " ومحمد القيسي في شعره ونثره ، بل وحتى يحيى السنوار نفسه في روايته الوحيدة " الشوك والقرنفل " .
لم نولد في القصور وإنما ولدنا في الخيام وأعرف المشاكل التي نجمت بيننا وبين جيراننا لضيق المساحة ولتسامح قسم منا مع إخوانه اللاجئين . أذكر مثلا أن أبي كان طيب القلب لا يحب الأثرة ، وأذكر أنه منح من المائة متر التي خصصت له جزءا للاجئين لم يحصلوا على مساحة من الأرض جاؤوا إلى المخيم متأخرين ، ومع مرور الأيام أقاموا مرحاضا ضايقت رائحته أهلي ، إذ كانت تهب على بيتنا ، وكادت المشاكل بيننا وبين الجيران تقع ، لولا أن اختصر أبي المشكلة وسد النافذة التي تنفذ منها الرائحة ، فمنع عنا في الصيف الهواء العليل . ورحم الله أبي ورحم جارنا " أبو فؤاد سمحة .
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن اغتيال المرحوم صالح العاروري ( أبو محمد ) في ٢ / ١ / ٢٠٢٤ ، في بيروت ، ذكرني باغتيال المرحوم خليل الوزير ( أبو جهاد ) في ١٦ / ٤ / ١٩٨٨ ، في تونس .
حالة سيزيفية يعيشها الفلسطينيون منذ العام ١٩٤٨ وربما منذ ١٩٣٦ .
( الاثنين والثلاثاء والأربعاء
١ و ٢ و ٣ / ١ / ٢٠٢٤ )
( دفاتر الأيام ، ٧ / ١ / ٢٠٢٤
مقال الأحد )
عادل الاسطة

***

14- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : العرب وتصحير فلسطين ؛ إسرائيل وتحويل غزة إلى جنة

في بداية العام زار الوزير الإسرائيلي ( بني غانتس ) معسكر حوارة وقال إن ما ألم بخانيونس سوف يتكرر في القصبة في نابلس إن حدثت فيها تفجيرات .
لم أصغ إليه ، ولكني سمعت ما نسب إليه أولا من صديق في ظهيرة يوم الأحد ٧ / ١ / ٢٠٢٤ ، وقرأته في المساء في صفحة صحفي . الأول قال إن ( بني غانتس ) زار جبل جرزيم وهناك قال ما قال ، والثاني أجابني على سؤالي :
- متى قال ذلك وأين ؟
بأنه قاله قبل أربعة أيام ، ولما سألته عن مرجع يعتمد عليه أحالني إلى نص الخبر في جريدة ( يديعوت احرونوت ) العبرية ، في ٤ / ١ / ٢٠٢٤ ، مترجما إلى العربية ، وقد عقب قاريء آخر قائلا إن ( بني غانتس ) قال الكلام أيضا قبل شهر ، ولكن الصيغة كانت مختلفة في التقديم والتأخير . قاله في المرة الأولى وهو يتحدث عن خانيونس ، مشيرا إلى أن ما سيلم بها لن يختلف عما ألم بحي القصبة في نابلس ، وقاله في المرة الثانية بأن مآل حي القصبة في نابلس لن يحتلف عن مآل خان يونس إن كان هناك إرهاب ( ؟ ) ، فحيث يكون هناك إرهاب ( ؟ ) سيحل الدمار .
ولما بحثت في ( غوغل ) وجدته منشورا في موقع 124NEWS بتاريخ ٤ / ١ / ٢٠٢٤ . ( بني غانتس في الضفة الغربية : حكم القصبة في نابلس سيكون كحكم خانيونس . حيث يوجد إرهاب تجب إزالته).
ما قاله الوزير وما فعله جيشه في غزة استثار في ذهني مقولات صهيونية قرأتها ، أولا ، في الدراسات التي تناولت صورة العربي في الأدب الصهيوني ، كما في كتاب غسان كنفاني " في الأدب الصهيوني " وكتاب غانم مزعل " الشخصيةالعربية في الأدب العبري الحديث " ، وثانيا في بعض الروايات الصهيونية مثل رواية ( ثيودور هرتسل ) " أرض قديمة جديدة " ( ١٩٠٢ ) ورواية ( ليون أوريس ) " اكسودس " ( ١٩٥٣ ) ، بل وفي روايات فلسطينية تكلمت فيها شخصيات يهودية وهي تتحاور وشخصيات فلسطينية ، مثل رواية إميل حبيبي " المتشائل " ، وربما صار هذا الكلام مألوفا لكثرة تكراره . ومن هذه المقولات أن فلسطين كانت أيام العبرانيين مزدهرة وحل بها الخراب عندما آلت إلى العرب ، فالعرب أبناء الصحراء وهم المسؤولون عن إفقارها وإقفارها ، فحيثما حلوا حل الخراب والتصحر .
( هرتسل ) مثلا كتب في روايته عن زيارة شخصيتها اليهودية إلى القدس ، فهالها ما رأت ، وقارن صورة المدينة البائسة التي رآها بالصورة التي كانت عليها متشكلة من قراءاته للعهد القديم ، ثم تخيل كيف ستغدو عليه خلال ٢٠ عاما من سيطرة اليهود ، من جديد ، عليها . ( راجع مقالي في الأيام الفلسطينية " القدس في رواية هرتسل في ٢٥ / ١ / ٢٠١٥ و ٢ / ٦ / ٢٠١٣ ) . وتغنى ( أوريس ) بازدهار الأرض الصحراوية منذ قيام الدولة الإسرائيلية واخضرارها ، ومثله ( آرثر كوستلر ) في روايته " لصوص في الليل " حيث كتب عن محاصيل وفيرة وغلال كثيرة .
ما قاله ( بني غانتس ) هو ما ألم بالمكان الفلسطيني على يد إسرائيل ، منذ ١٩٤٨ ، وهو ما عكسته نصوص أدبية فلسطينية عديدة كتبت عن يافا وما صارت عليه بعد نكبة العام ١٩٤٨ ، كما في قصيدة راشد حسين " الحب والغيتو " وعن بعض القرى الفلسطينية التي سويت بالأرض عددها حبيبي في " المتشائل " وكتب عنها محمود درويش في " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " وفي " طللية البروة " و " على محطة سكة قطار سقط عن الخريطة " ( ديوان " لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ) .
هذه المرة ، وفي الحرب الدائرة حاليا منذ ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ تنوب الصورة ، محل الوصف في النصوص الأدبية ، خير مناب .
وأنا أكتب المقال أدرج أحد الصحفيين الفلسطينيين صباح ٨ / ١ / ٢٠٢٤ شريط فيديو نقلا عن فضائية الجزيرة لجندي إسرائيلي يخاطب المحكمة العليا الإسرائيلية ، التي يرى أنها ستقسم الشعب الإسرائيلي بخصوص الجرائم ضد المدنيين وتدمير بيوتهم ، قائلا :
- إلى المحكمة العليا التي تحاول أن تقسم الشعب وتؤثر على قتالنا إن هناك حلا واحدا لغزة هو ... وكان خلفه برج سكني من طوابق عديدة يفجر ويتهاوى .
ونظر الجندي إلى الخلف حيث صورة البرج وهو ينهار . يعني أن الحل الوحيد لغزة هو التدمير وتسوية مبانيها بالأرض وتهجير سكانها .
من هم حقا الذين أفقروا فلسطين وأقفروها وحولوها إلى صحراء ؟ الفلسطينيون أم معظم يهود إسرائيل في القرن ٢١ م ؟
لم يدمر الجيش الإسرائيلي الثكنات العسكرية للفلسطينيين ولم يهدم أسوارها ويأسر مقاتليها ، بل دمر الجامعات والمشافي ودور العبادة وبيوت المواطنين الآمنين والمباني الأثرية والمتاحف والمراكز الثقافية وقتل الصحفيين ، والصور وأشرطة الفيديو شاهدة ولا تحتاج إلى دليل ، وافتخر قادته وقسم من صحفييه بذلك ، بالصوت والصورة وعبر شاشات الفضائيات ، وكان بعض قادته هددوا لبنان ، من قبل ، بأن يعيدوه إلى العصر الحجري ، بل وصاروا يعايرون أهل بيروت الآن - إن بدأ حزب الله الحرب - بما آلت إليه غزة .
في كثير من الأدبيات الفلسطينية عن يافا قبل ١٩٤٨ وصف لازدهارها ومظاهر المدنية والحضارة فيها ، ويدعم هذه الأدبيات ألبومات صور توثق ما كانت عليه ، وتحتلف صورة يافا في نصوص كتبت عنها في ٦٠ القرن ٢٠ ، مثل قصيدة راشد وتقرير سميح القاسم المنشور في سيرته الذاتية . " كانت يافا مدينة مهنتها تصدير برتقال ، وصارت مدينة مهنتها تصدير لاجئين . صارت مدينة يقتلها الذباب والضجر " ، وصورة غزة قبل ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ وصورتها الآن أقسى بآلاف المرات ، وهذه هي بركات الصهيونية التي تحدث عنها الأب الروحي لها تحل علينا : تحويل فلسطين إلى جنة .
الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ / ١ / ٢٠٢٤
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٤ / ١ / ٢٠٢٤ )
عادل الاسطة

***

15- تداعيات حرب ٢٠٢٣ - ٢٠٢٤ : سؤال الهوية ... سؤال رابطة الدم

في الحرب كادت معركة تنشب على الجبهة الثقافية بين الشعراء الفلسطينيين ، والحمدلله أنها لم تتقد .
فقد الشاعر سليمان دغش ابن قرية المغار حفيده سفيان الذي ذهب ليقاتل ، في غزة ، مع الجيش الإسرائيلي .
أقامت الطائفة الدرزية في القرية لسفيان جنازة شارك فيها جنود وضباط إسرائيليون ، وألقى الجد كلمة ، نشرها لاحقا في صفحته ، أعرب فيها عن حزنه ، وقال إنه كان يعتقد أن حفيده هو من سيسير في جنازته ، لا أن يسير هو في جنازة الحفيد ، وأظن أنه متأثر بما أورده محمود درويش في " حالة حصار " ( ٢٠٠٣ ) على لسان الأب الذي سار في جنازة ابنه " كيف تبدلت أدوارنا يا بني ؟" ، وليس هذا هو بيت القصيد .
أنهى سليمان كلمته بنشدان السلام وتمنى أن تكون هذه الحرب الحرب الأخيرة .
لم يمر الحدث دون رد فعل ، فقد استنكر اتحاد الكتاب الفلسطينيين ووزارة الثقافة مشاركة الشاعر في الحفل وإلقاء كلمة ، أمام الضباط والجنود ، وطالب المستنكرون سحب الجوائز التي منحت له ، كما استنكرها كتاب آخرون ، نشروا مقالات في الصحف أو على صفحاتهم ، وخاضوا في أمر الجوائز التي تمنح لكثيرين جزافا ، وهذا كله دفع بالشاعر إلى أن يرد ردا قاسيا نال من الجهات التي انتقدت سلوكه ومن يقف وراءها وكتب عن تاريخه الوطني الشخصي .
سليمان دغش فلسطيني درزي رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي ، فسجن أربع سنوات ، وشجع أبناءه على عدم الخدمة ، فلبوا طلبه وسجنوا مثله أيضا لفترات ، وقد حاول منع حفيده فلم ينجح والتحق الحفيد بالجيش ليلقى حتفه .
هل يحاكم سليمان على أنه الدرزي الذي رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي فسجن ، ومثله أبناؤه ، أم ينظر إليه على أنه في مقتلة غزة شارك في جنازة جندي إسرائيلي ورثاه وأبدى حزنه عليه ؟
لم أشارك في الجدل واكتفيت بالإشارة إلى الحادث تلميحا لا تصريحا ، ولو كنت في وضع الشاعر لفضلت عدم المشاركة في التأبين ، وما هو مهم لي كمتابع للأدب الفلسطيني هو كيف انعكس الموضوع من قبل فيه - أي الأدب .
بعد العام ١٩٤٨ شهدت الحركة الأدبية والثقافية في الأرض المحتلة ١٩٤٨ تقاطبات محتلفة ، فقسم من الأدباء والمثقفين رفض أن ينشر في الصحف والمجلات التابعة للأحزاب الصهيونية الحاكمة ، وقسم آخر نشر فيها ، ودبت خصومة بين الطرفين خون فيها طرف الطرف الآخر . وعندما التفت الدارسون العرب خارج فلسطين إلى الأدب الفلسطيني في داخلها أشادوا بأدباء الحزب الشيوعي ( راكاح ) ولم يلتفتوا إلى الأدباء الذين نشروا في منابر صهيونية إلا قليلا ، ويستطيع المرء أن يتأكد من هذا إن هو قرأ دراسات أحمد أبو مطر وصالح أبو إصبع وواصف أبو الشباب وعبد الرحمن ياغي .
ومع ما سبق فإن أدباء المقاومة الذين نشروا في مجلات راكاح وصحفه وانضووا تحت لواء الحزب الشيوعي ، لم ينجوا من انتقادات وجهت إليهم في مواقف معينة شبيهة بموقف سليمان ، ومنها مثلا رفع محمود درويش وسميح القاسم ، في مؤتمر الأحزاب الشيوعية العالمية في صوفيا في العام ١٩٦٨ ، العلم الإسرائيلي ، ومنها أيضا تسلم إميل حبيبي جائزة الإبداع التي تمنحها الدولة الإسرائيلية لكتابها ، وقد جاء تسلمه لها في نهاية انتفاضة الحجارة في العام ١٩٩٢ ؛ الجائزة التي تبرع بقيمتها لأطفال غزة .
هذه الأحداث التي ناقشها الكتاب والنقاد ، واختلفوا حولها ، كان من اوائل من كتبوا عن بعضها رجاء النقاش في كتابه " محمود درويش ، شاعر الأرض المحتلة " ( ١٩٦٩ ) ، هذه الأحداث ومثلها ، وخاصة ما يتعلق بالهوية ، حضرت أيضا في النصوص الأدبية الفلسطينية ، وكان أول من كتب عنها غسان كنفاني في روايته " عائد إلى حيفا "(١٩٦٩) .
إن الطفل الفلسطيني الذي تركه والداه في غمرة حرب ١٩٤٨ ، خلدون ، وربته العائلة اليهودية التي التقطته وتبنته ، حارب في الجيش الإسرائيلي ، وحين التقى به أبوه سعيد . س وأمه صفية ، بعد ٢٠ عاما ، لم يتخل عن هويته الجديدة ، وهذا لم يجعل أبوه يغفر له ويرجح رابطة الدم ويسامحه ويجد له عذرا ، وهكذا انحاز سعيد . س إلى ابنه الثاني خالد ، وهي الفكرة التي طورها كتاب آخرون في روايات أخرى تقابل فيها الأخوان وتقاتلا " إن دوف هو عارنا ، وأما خالد فهو شرفنا الباقي " .
من الروايات المبكرة بعد رواية كنفاني التي عالج كاتبها سؤال خدمة أبناء الطائفة الدرزية الفلسطينية في الجيش الإسرائيلي رواية سلمان ناطور " أنت القاتل يا شيخ " ( ١٩٧٦ ) .
سهيل عز الدين الجندي في الجيش الإسرائيلي يقتل نديم أخا زوجته سناء على الجبهة السورية في حرب ١٩٧٣ ، فوالد سناء الذي حارب في عام ١٩٤٨ ضد العصابات الصهيونية بقي في فلسطين تاركا زوجته وابنه في سورية ، وقد تزوج وخلف سناء التي ستصبح زوجة سهيل . ويقر والد سناء بأنه المسؤول لأنه أسهم في الموافقة على خدمة أبناء الطائفة الدرزية في الجيش الإسرائيلي في العام ١٩٥٦.
روايات أخرى لا تخلو من مواقف شبيهة هي رواية سوزان أبو الهوى " بينما ينام العالم " ( ٢٠١٢ ) ورواية راوية بربارة " على شواطيء الترحال "( ٢٠١٥ ) ورواية كميل ابو حنيش " مريم .. مريام " ( ٢٠٢٠).
في الأولى حين يعرف دافيد أن أمه عربية ، هو الذي خدم في الجيش الإسرائيلي ، يتساءل :" هل كنت قتلت اقربائي بنفسي في الحروب التي خضتها من أجل إسرائيل ؟" (ص ٣٧٥ )
وفي الثانية سيضطر فؤاد ابن إبراهيم المسلم وسارة اليهودية التي أسلمت أن يخدم في الحيش وقد يقتل أقرباء أبيه المقيمين في الضفة الغربية .
وفي الثالثة يتكثف سؤال الهوية للشاب الذي يولد لزواج مختلط " وهذا أنا أمامك ابن لعربي ويهودية ، ولدي أقارب من الطرفين ، وأنت شقيقتي يهودية ، وأنا عربي مسلم ، هل ترين فارقا بيني وبينك ؟" ويتساءل " وايهما أكثر قوة : رابط الدم والأخوة والإنسانية أم رابطة الدين ؟ " ( أنظر مقالي في الأيام الفلسطينية في ٢٠ / ١٠ / ٢٠١٩ ).
المساحة محدودة والكتابة تطول .

( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ٢١ / ١ / ٢٠٢٤ )
الاثنين والثلاثاء والأربعاء ١٥ و١٦ و ١٧ / ١ / ٢٠٢٤
عادل الاسطة

***

16- تداعيات حرب ٢٠٢٣ - ٢٠٢٤: التشبّث بالوطن: «وإذا رجعتم فلأيّ منفى ترجعون؟»

ربما يبدو التساؤل الأجدر، الموجه الآن لأهل غزة وربما لأهل الضفة، هو تساؤل محمود درويش في قصيدته «مديح الظل العالي» (١٩٨٢): «كم مرة ستسافرون؟ وإلى متى ستسافرون؟ ولأيّ حلم؟».
ويبدو أن أهل غزة قرروا التشبث بها، وإفشال خطة إسرائيل بتهجيرهم وتوطينهم خارج فلسطين.. خطتها القديمة الجديدة التي بدأت في العام ١٩٥٥ بما عرف بـ»مشروع آيزنهاور» وتصدى له الغزيون، وعلى رأسهم الشاعر الغزي الفلسطيني الشيوعي معين بسيسو (ت ١٩٨٤)، ورفعوا شعار «لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان»، ومن يحب الأدب فيمكن أن يقرأ عن الموضوع في سيرة «دفاتر فلسطينية» لمعين.
كان الفلسطينيون منذ وعد بلفور، بل وقبل ذلك بسنوات، أدركوا الخطر الصهيوني الهادف إلى امتلاك أرض فلسطين وإقامة الوطن القومي اليهودي الصهيوني عليها والتخلص من سكانها، وكان نجيب نصار أول من تنبّه لذلك في العام ١٩٠٥(ت ١٩٤٨)، حين قرأ مقالاً عن الصهيونية، وحذر منه بعد سنوات الشاعر سليمان التاجي الفاروقي (١٨٨٣- ١٩٥٨)، حين نبّه الخليفة العثماني بقصيدة وجهها إليه، وتوقف أمامه كثيراً شاعر فلسطين الأبرز إبراهيم طوقان (١٩٠٥ - ١٩٤١)، مدركاً أن ما يرمي إليه أعداؤنا هو المحو والإبادة - إن لم ينجح مشروعهم في إجلائنا:
«أجلاء عن البلاد تريدون
فنجلو أم محونا والإزالة»
وأسهم طوقان في حض شعبه على الصمود والبقاء وعدم بيع الأرض:
«يا بائع الأرض! لم تحفل بعاقبة،
أما علمت بأن الخصم خدّاع
فكّر بموتك في أرض نشأت بها،
واحفظ لقبرك أرضاً طولها باع».
وكانت النكبة في العام ١٩٤٨، واكتشف اللاجئون عمق المأساة وقسوة الحياة في المنافي.
كان غسان كنفاني في روايته «رجال في الشمس» (١٩٦٣)، وإميل حبيبي في «المتشائل» (١٩٧٤) وفي مقالاته الأخيرة في «مشارف» وفي وصيته، كان الاثنان ركّزا على أهمية التشبث بالأرض وضرورته، وأن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الفلسطينيون في ١٩٤٨، الخطأ الذي يرقى لدرجة الخطيئة، هو ترك البلاد.
في صحراء الكويت يتذكر أبو قيس الأستاذ سليم الذي توفي قبل سقوط قريته بليلة واحدة ودفن فيها، فيغبطه على تلك النعمة (كنفاني)، ويختار سعيد المتشائل في ختام رواية حبيبي الجلوس على الخازوق، ويفصح حبيبي نفسه في مقال له، نشره بمجلة «مشارف» في ١٩٩٦، عن خياره الصحيح وهو البقاء وتفضيل خازوق فلسطين على بقية خوازيق الغربة، وقبل أن يموت يكتب وصيته، وهي أن يدفن في حيفا ويكتب على شاهد قبره «باقٍ في حيفا».
في الفترة التي كتب فيها الروائيان، كتب شعراء فلسطينيون كثر في الأرض المحتلة قصائد عبروا فيها عن تشبثهم بالأرض، وقد كتبت عنها هنا في هذه الزاوية واقتبست منها («الأيام» الفلسطينية، تموز وآب ٢٠١٧ عن زياد والقاسم وعقل). كما كتب قاصو الأرض المحتلة ١٩٤٨، مثل توفيق فياض ومحمد نفاع وغيرهما، يدعون إلى البقاء ويذمون حياة المنفى. وربما تعد قصة فياض «الكلب سمور»، من مجموعته «الشارع الأصفر» (١٩٦٨)، لاذعة جداً بحق أولئك الذين هاجروا ولم يعودوا. إن الكلب سمور لم يطق حياة التشرد والبعد عن القرية، ولذلك عاد ذات صباح إليها، تاركاً صاحبه وأسرته مشردين في الحقول.
جيل الأدباء الفلسطينيين الذي تلا جيل المذكورين وعاش هزيمة حزيران ١٩٦٧، وترعرع أدبه بعدها، تأثر بالجيل السابق والتزم بما التزم به أكثر الجيل الذي سبقه وسار على خطاه، ودعا مثله إلى الصمود في الأرض والتشبث بالإقامة فيها وعدم مغادرتها.
في العام ١٩٨٢، أنجزت رسالة ماجستير عن القصة القصيرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بين ١٩٦٧ و١٩٨٢، ولاحظت أن التشبث بالأرض والدعوة إلى الصمود والبقاء موضوع رئيس من موضوعاتها، فقد كتب فيه كتاب كثر مثل محمود شقير وجمال بنورة ومحمد أيوب وزكي العيلة وأكرم هنية. هنا يمكن التوقف أمام قصص الأخير التي صدرت بين ١٩٧٩ و١٩٨٦، وهي عديدة، ويمكن التوقف أمام قصتين منها هما «تلك القرية.. ذلك الصباح»، و»مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداء هاماً».
في الأولى وقد ظهرت في مجموعة القاص الأولى «السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير» (١٩٧٩)، يبعث أبو محمود القاسمي من قبره على صوت الجرافات الإسرائيلية وهي تجرف المقبرة باعتبارها أرضاً يهودية يريد الإسرائيليون مصادرتها واستيطانها، ويحتج فهي أرض أهله وقد دفن أجداده كلهم فيها. يلقي الجنود القبض عليه ويبعدونه إلى الأردن، ولكنه يلقي بجسده في نهر الأردن رافضاً المنفى.
وفي الثانية، وقد ظهرت في مجموعة «هزيمة الشاطر حسن»، ترفض الأجنة الخروج من رحم الأمهات ما لم يعد الآباء الذين تركوا أرضهم ووطنهم إلى المنافي، «عودوا» هذا هو ما قرّ عليه مؤتمر فعاليات القرية الفلسطينية.
في العام ١٩٩٧، زار الشاعر العائد أحمد دحبور فلسطين التي ولد فيها وهجر منها وكان عمره عامين، ولما رآها كتب قصيدة «وردة للناصرة»، وأتى فيها على لعنة الخروج والهجرة في عام النكبة وقال:
«كنت ملفوفاً بعامين من الكرمل والنسناس،
حين انفجرت، في شجر الكينا، الرياح الأربع
ما الذي كان أبي يخشاه حين ارتكبت أخطاؤه فعل السنونو،
ليته قال: اذبحوا طفلي،
ولم يرحل».

عادل الأسطة
2024-01-28

***
17- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : "قسوة المنفى وتفضيل خازوق البلاد"

كتبت في الأسبوع الماضي عن التشبث بالوطن واقتبست من محمود درويش سؤاله للمنفيين " وإذا رجعتم فلأي منفى ترجعون .. لأي منفى ترجعون؟ " وأشرت إلى غسان كنفاني وإميل حبيبي إشارة مختصرة ، والصحيح أن الوقوف أمام بعض الروايات لهما ضروري لإيضاح أهمية التشبث بالأرض وعدم مغادرتها رفضا للتهجير ومقاومة للمشروع الصهيوني القائم على فكرة " أرض بلا شعب ، لشعب بلا أرض " ، وهو مشروع جسده الأب الروحي للصهيونية ( ثيودور هرتسل ) " في روايته " أرض قديمة جديدة " ( ١٩٠٢ ) وصور فيها العربي ، ممثلا برشيد بك ، مبتهجا لقدوم اليهود إلى البلاد ، باعتبارهم الضوء الذي سيشع على هذه الأرض .
لم تكد تمضي ستة وأربعون عاما على صدور رواية هرتسل حتى تحقق حلمه ، فأقيمت الدولة الإسرائيلية ، وطرد أهل رشيد بك أكثرهم وتفرقوا أيدي عرب وتشتتوا وعانوا من قسوة المنفى ، وهذا ما جسده كنفاني في رواياته مفصحا عن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الفلسطينيون في العام ١٩٤٨ حين لم يتشبثوا بأرضهم ويموتوا فيها .
في " رجال في الشمس " ( ١٩٦٣ ) يعيش الفلسطينيون الذين فقدوا أرضهم ظروفا قاسية ، إذ يصبحون عالة على وكالة غوث اللاجئين . لقد فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم ، فعاشوا في الخيام وبيوت الصفيح وأخذوا يبحثون ، في العالم العربي ، عن فرص عمل لم تتيسر لهم بسهولة ويسر ، واضطروا إلى الابتعاد ، عن فلسطين ، أكثر وأكثر ، فماتوا في المنافي .
لعل ما قاله أبو قيس ، إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية ، وهو يعيش حياة الذل في المنفى ، عن الأستاذ سليم الذي توفي قبل سقوط قريته بليلة واحدة ، لعل ما قاله هو خير تجسيد لأهمية التشبث بالأرض والدفاع عنها وعدم التفريط بها :
" يا الله ! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه ؟ ... صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك .. ولكنك على أي حال بقيت هناك .. بقيت هناك ! وفرت على نفسك العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم .. ترى لو عشت ، لو أغرقك الفقر كما أغرقني ... أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز ؟ " .
وتعد روايات كنفاني الثلاثة اللاحقة استطرادا للكتابة عن قسوة حياة المنفى وخطأ ترك الأرض . لقد أورث هذا السلوك الفلسطيني العار ، وهي الكلمة التي استخدمها أبو قيس وهو يتذكر الأستاذ سليم ويخاطبه . العار الذي عاشه حامد بطل " ما تبقى لكم " والعار الذي عاشه أبو سعد والعار الذي لحق بسعيد . س . حين خاطبه ابنه خلدون / دوف بما خاطبه به " كان عليكم ألا تخرجوا " .
هل تعد روايات حبيبي الذي بقي في حيفا ، وكتب الرواية بعد استشهاد كنفاني بعامين ، استكمالا لأفكار غسان ورؤية لها ، لكن ممن بقي في الأرض لا ممن غادرها وعاش في المنفى وخبر بؤس حياته ؟ هل من رابط مشترك ؟ وهل دعا إلى البقاء في الأرض التي لم يغادرها ؟ وهل رأى المنفى كما رآه كنفاني ، علما بأنه لم يعش حياة المنفى كما عاشها الأول ؟ وهل ما كتبه الاثنان يعني الكثير أو القليل لأهل غزة في مقتلة غزة وحرب الإبادة هذه ؛ المهلكة ؟
تنتهي رواية " المتشائل " ( ١٩٧٤ ) بجلوس شخصيتها الرئيسة سعيد على الخازوق " مسك الختام : الإمساك بالخازوق " ويتشبث به " وتشبثت بخازوقي " - أي البقاء في البلاد ، وحين يكتب حبيبي وصيته يوصي بأن يدفن في حيفا وأن يكتب على شاهد قبره " إميل حبيبي : باق في حيفا " وقد حقق فكرة البقاء في البلاد التي تغنى بها أدباء المقاومة في الأرض المحتلة وعلى رأسهم الشاعر توفيق زياد صاحب القصيدة الشهيرة المغناة " هنا باقون " التي عبر فيها عن رفض الرحيل ، فصارت لازمة يتغنى بها كل فلسطيني يؤمن بفكرة البقاء والصمود وعدم الهجرة .
قبل وفاته بفترة وجيزة عاد حبيبي وأكد على فكرة البقاء في البلاد وعدم الهجرة مبينا السبب . لقد كتب في نصه الأخير " سراج الغولة هذا " لعلكم تذكرون أني لم أجد من موئل لسعيد أبي النحس المتشائل ، في وطنه ، سوى رأس خازوق ، ولم يدر في خلدي ، في ذلك الزمن السحيق ، أن الخازوق هو مكان عال يصلح منه الإشراف على آفاق قرن جديد وألف جديدة من السنين ، بل لم يدر في خلدي أن لا يجد شعبي مكانا في وطنه ، بعد هذا العمر الطويل ، سوى رأس خازوق " .
ويضيف :
" ولكن حتى لو كانت هذه هي صورة الواقع الحقيقية فإننا نفضل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها ، فقد وجدناها ، كلها ، حرابا وفراشها أشبه بفراش فقير هندي : رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة على قدر المقام " .
في العام ١٩٨٢ انتهت الحرب بخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت وتم توزيعهم على البلدان العربية ، فكتب درويش قصيدته " نزل على بحر " وأتى فيها على المؤقت الذي دام : المنفى ، فقد طالت نباتات البعيد وتزاوج الفلسطينيون والفلسطينيات من غيرهم " كم قمرا اهدى خواتمه إلى من ليس منا " وولد فلسطينيون كثر في المنافي وظل هؤلاء وهؤلاء يحلمون بالعودة إلى أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم ، فالمنفى قاس وموحش .
في هذه المقتلة والمهلكة ، ومنذ بداياتها ، تطلب إسرائيل من سكان شمال قطاع غزة وسكان وسطه الرحيل إلى جنوبه بحجة أنه أكثر أمنا ، ثم .. ثم تقصفهم وتحول حياتهم هناك إلى جحيم .
ترى لو كان الأدباء الأربعة المذكورون على قيد الحياة وعاشوا في غزة ، فماذا سيكون موقفهم ؟! أيبقون أم يرحلون ؟؟؟!!! .
الشيء الذي لا اشك فيه هو أن درويش سيكرر لازمته في قصيدته لمدح المقاومين :
" لا تعطنا يا بحر ما لا نستحق من النشيد " .
( مقال دفاتر الأيام الفلسطينية ٥ / ٢ / ٢٠٢٤ )
الاثنين والثلاثاء ٢٩ و ٣٠ / ١ / ٢٠٢٤
عادل الأسطة

***

18ــ تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «حيونة الفلسطيني وشيطنته في الشعر الإسرائيلي»

لم أقرأ ترجمات لقصائد عبرية كتبت في الحرب هذه أنجزها الفلسطينيون المهتمون بالشعر العبري إلا قليلاً.
قبل عقود اهتم بعض الشعراء أمثال راشد حسين ومحمد حمزة غنايم وفاروق مواسي وسلمان ناطور وأنطوان شلحت وآخرين مثل أنطون شماس مترجم إميل حبيبي، اهتموا بالشعر العبري وترجمته.
الآن يتابع الترجمة نبيل طنوس، ومؤخراً ترجم ثلاث قصائد ألقيت في بيت الكرمة في حيفا في ٢١/ ١٢/ ٢٠٢٣، وترجم أيضاً قصائد لشعراء وشاعرات من الأرض المحتلة في ١٩٤٨، إذا ما قورنت موضوعاتها ونغمتها بالشعر الفلسطيني الذي كتب في حرب ١٩٦٧ بدت مختلفة كلياً، ولا أظن أن محتواها وصيغتها يمكن أن تزج بقائليها في السجون أو تعرضهم إلى المساءلة، كما حدث مع أسلافهم توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم و...، وهذا عموماً موضوع آخر.
ما قرأته من مقاطع، من قصائد عبرية قيلت في الحرب، قرأته في مقال كتبه يحيى عبد الله أستاذ الدراسات الإسرائيلية في جامعة المنصورة تحت عنوان «شيطنة الشعب الفلسطيني وتجريده من إنسانيته في الخطاب الشعري الإسرائيلي» (٢٩/ ١/ ٢٠٢٤)، وقد لاحظ أن الشعراء الإسرائيليين نشطوا في الكتابة منذ بداية الحرب، حيث واكبتها قصائدهم، ونعتوا مقاومي حماس بما نعته به قادتهم السياسيون، وهو ما تداولته وسائل الإعلام «مسخ ومخرب وعاهر وجبان وحيوان ومفترس وأرنب شرير وانتهازي جبان... إلخ» وأنه قتل الأطفال وبقر بطون الحوامل وقطع الرؤوس أيضاً.
مضمون ما قرأته ذكرني بقصيدة الشاعر (رئوبين) التي كتبها قبل ١٩٤١ وعنوانها «أنشودة النصر» ونشرها في جريدة (دوار هايوم) العبرية، ورد عليه في حينه إبراهيم طوقان (نص القصيدتين أوردته، مع كتابة عنهما، في كتابي «الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني» ١٩٩٣).
ويبدو أن حيونة الفلسطيني وشيطنته بدت أوضح في تلك القصيدة التي ترجمها الفلسطينيون، فاستفزت شاعر فلسطين الأبرز في تلك الفترة إبراهيم طوقان ورد عليها بقصيدته التي غالباً ما خلت منها بعض طبعات دواوينه - خلوها من شعره الماجن الذي حفظه النابلسيون عن ظهر قلب وتداولوه فيما بينهم مشافهة - والقصيدة عنوانها «في الرد على رئوبين شاعر اليهود» ومطلعها:
«هاجر أمنا ولود رؤوم
لا حسود ولا عجوز عقيم».
وتقول الموازنة بين ما ورد في القصائد التي اقتبس منها يحيى عبد الله وما ورد في قصيدة (رئوبين) إننا منذ ٣٠ القرن٢٠، حتى الآن، ما زلنا نراوح في الدائرة نفسها، باستثناء بعض الأصوات التي تعزف خارج سيمفونية العداء وتبدو نشازاً، ولها ترجم طنوس ثلاث قصائد ألقيت في لقاء مشترك للعرب واليهود الرافضين للحرب.
وفي كل حرب عموماً تخرج أصوات يهودية تحتج وتسخر من القيادات القائمة عليها.
في حرب ١٩٦٧ مثلاً ذاع صيت (حانوخ ليفين) الذي تأثر بنتاجه محمود درويش، فكتب تحت عنوان «أنا وأنت والحرب القادمة».
طبعاً بالإضافة إلى أصوات أخرى ظهرت بعد ١٩٧٣ وفي أثناء حرب ١٩٨٢ كتب عنها سلمان ناطور مطولاً في كتابه «كاتب غضب».
في مطلع قصيدة (رئوبين) نقرأ الآتي:
« أحاط بنا الأعداء، ألبوا علينا المدينة والقرية، وفتحت الصحراء فاها
خرج الفلاحون من أوكارهم، من دير ياسين مأوى الذئاب
من المالحة التي تبنى بأموال اليهود، من قالونيا، من شعفاط
من بيت صفافة، ومن صور باهر مكمن اللصوص
تجمعوا من منازلهم، وجاؤوا بالعصي يتظاهرون،
وكان السلاح الناري، مخبوءا تحت عباءاتهم
تقاطروا من أنحاء البلاد: أشرار يافا نفاية البحر العكر
وجاء وحوش الصحراء للبلد من جبال اليهودية ومن سهول أريحا
جاؤوا للتنكيل والتدمير والسلب.
حاربنا أعداءنا على أبواب القدس، وماجت الجموع في مسجد عمر،
حتى كأن المسجد مغارة قطاع طرق، أو بيت معد لعشرات الألوف
من قاذورات سكان فلسطين».
رد إبراهيم طوقان جاء أيضاً قاسياً. كأنك حين تقرأ القصيدتين، إن كنت من قراء الشعر العربي القديم، كأنك تقرأ قصائد لشعراء النقائض في العصر الأموي، حيث كل شاعر يفخر بحسنات قومه ويقلل من الأقوام الآخرين الخصوم.
عندما درس البروفيسور (شموئيل موريه) مدرس الأدب العربي في الجامعة العبرية في ٧٠ و ٨٠ و ٩٠ القرن العشرين صورة اليهود في مرآة الأدب العربي قال إنه «في فترات الحرب غالباً ما ينظر كل طرف إلى الآخر بمرآة مقعرة تضخم الصورة وتشوهها»، ومنذ ٧٥ عاماً والصراع هو الصراع ولم تسهم فترة السلام القصيرة في تحسين صورة الآخر في أدب كلا الطرفين القومي.
لقد ازدادت في كلا الجانبين قوة التيار الديني تأثيراً، وغالباً ما تأثر الشعراء بما ورد في الكتب القديمة، وقد بدا هذا في الحرب الدائرة حالياً جلياً لدى الطرف الإسرائيلي.
في ١٩٨٨ كتب محمود درويش «عابرون في كلام عابر» وترجمها الإسرائيليون فشيطنوه واتهموه بأنه يطالب اليهود بالرحيل، وأن يأخذوا معهم أيضاً جثث موتاهم.
رأى الكاتب التشيكي اليهودي (فرانز كافكا) في قصته «بنات آوى وعرب» أن العداوة بين الطرفين هي في الدم. هل شيطن اليهود، هو الذي كتب إلى أبيه لائماً ومعاتباً وقاسياً، بل وكارهاً، فلم تكن علاقته بأهله ودية، أم أنه انتقص من قيمة العرب حين جعلهم وبنات آوى في قصة واحدة واختار لها العنوان المذكور؟

عادل الأسطة
2024-02-11

***

20- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : " التشبث بالوطن في الرواية الفلسطينية قبل العام ١٩٤٨ "

هل بدت فكرة التشبث بالأرض ، في الرواية الفلسطينية قبل ١٩٤٨ ، واضحة ؟
صدرت قبل ١٩٤٨ روايات عديدة أولاها " الوارث " لخليل بيدس ( ١٩٢٠ ) و " الحياة بعد الموت " لإسكندر البيتجالي ( ١٩٢٠ ) ، تلتها روايات تاريخية واقعية ورمزية . كتب الأولى نجيب نصار ، فأصدر " في ذمة العرب " و " شمم العرب " ، وكتب نفسه الثانية " مفلح الغساني " و " أسامة العدناني " وكتب جمال الحسيني " على سكة الحجاز " و " ثريا " ومحمد العدناني " في السرير " ، وكتب الثالثة إسحق الحسيني " مذكرات دجاجة " .
وباستثناء روايتي " على سكة الحجاز " ( ١٩٣٢ ) و " مذكرات دجاجة " ( ١٩٤٣ ) يمكن القول إن الرواية لم تقارب موضوع الأرض . وإذا ما عرجنا على المسرحية فإنها قاربته ، وهنا أشير إلى " الملاك والسمسار " لمحمد عزة دروزة ( ١٩٣٥ ) وقد ضاعت ، و " وطن الشهيد " لبرهان الدين العبوشي ( ١٩٤٦).
عندما صدرت " الوارث " و " الحياة بعد الموت " لم تكن فكرة فقدان الأرض تدور في خلد الفلسطينيين إلا أقلهم ، وربما نظروا إلى فكرة تهجيرهم منها على أنها ضرب من الخيال الأقرب إلى الخرافة . لقد اختار بيدس القاهرة مكانا لروايته ولم يكتب عن الصراع الفلسطيني الصهيوني ، وكتب البيتجالي عن فلسطين تحت حكم الدولة العثمانية في سنوات الحرب العالمية الأولى .
مع صدور وعد بلفور وازدياد الهجرة اليهودية وشراء الأراضي وتفاقم الأوضاع في عشرينيات القرن ٢٠ بدأ الخوف يدب في قلوب بعض الكتاب والأدباء فكتبوا في الموضوع .
أبرز رواية أتت على خطر التفريط بالأرض هي روابة " على سكة الحجاز " . اختار جمال الحسيني قرية ستة الفلسطينية التي باعها صاحبها الإقطاعي إميل بك إلى اليهود مكانا ، القرية التي هجر سكانها المزارعون ، في نهاية الأمر ، منها ، ليهيموا في المدن ويتحسروا على أيامهم ، وليعود بائع الأرض في أيامه الأخيرة ، وقد قارب الجنون ، إليها ، ليزورها فيراها عالما آخر .
لقد ظلت هذه الرواية من ١٩٤٨ حتى العام ٢٠٠٠ تقريبا ، حيث أعيدت طباعتها ، ذات تأثير شبه معدوم في الأدب الفلسطيني لضياعها وقلة اطلاع الكتاب عليها ، وحين قرأ الشاعر علي الخليلي طبعتها الجديدة ولاحظ عدم احتفاء دارسي الرواية بها شط بعيدا وزعم أن السبب يعود إلى خوف النقاد من الاقتراب منها ، بسبب موضوعها الخطير ، ولا أذهب إلى ما ذهب إليه . لقد ضاعت الرواية إلى حين حتى اكتشفت ، شأنها في ذلك شأن أعمال روائية فلسطينية أخرى لم تحظ بالدراسة ، مع أن موضوعها لا يشكل خطورة على من يقاربه.
إبراهيم الابن الشرعي لإميل يحب أخته غير الشرعية من أبيه دون أن يعرف أنها أخته ، وحين يريد الزواج منها ويعرف الأب يصارحه بالحقيقة ، فيكتشف أنه " إنما هو ضحية من ضحايا والده . بل ذبيحة تقدم للتكفير عن ذنوبه . هذا ما كتب له . هذا حظه في الدنيا . هل كان أسوأ حظا من أولئك الفقراء التعساء الذين أخرجهم أبوه من ديارهم وناولهم إلى يد البؤس والشقاء ؟ إذن فمصيبته في والده ، وظلم والده ، وكيد والده ! ومتى كانت هذه المصائب ؟ ومتى كان هذا الظلم ؟ ومتى بدأ هذا الشقاء ؟ يوم أن باع ستة ، ويوم أن نثر بأهل ستة بالفضاء الواسع فإذا كل منهم يدعو الله
عليه ويطلب الانتقام منه...".
الرواية الثانية هي " مذكرات دجاجة " التي حظيت بانتشار واسع وتلق لافت توزع بين معجب بها وناقد لطروحاتها حد الاتهام بالخيانة ، كما ذهب الناقد فاروق وادي ، على الرغم من رمزية الرواية التي تقول الواقع من خلال معادل رمزي له في عالم الدجاج وصراعه فيما بينه على المأوى - أي فلسطين .
ثمة دجاج غريب طاريء ودجاج مقيم ، معادلان لليهود الغربيين والفلسطينيين ، وما تقترحه الدجاجة هو التخلي عن المأوى وإصلاح العالم كله وبذلك تحل المشكلة .
الطرح السابق لا يختلف عن رؤية رشيد بك في رواية ( ثيودور هرتسل ) " أرض قديمة جديدة " ( ١٩٠٢ ) حيث يبيع أرضه دون إكراه لليهود ليستأجرها منهم ، ويعيش معهم ، فهم الشعب الذي جلب النور إلى فلسطين.
لنقرأ في " مذكرات دجاجة " :
" سيحوا في الأرض ، وتوزعوا بين الخلق ، وانشروا بينهم المثل العليا ، والمباديء السامية . وإني لواثقة بأننا سنلتقي في مأوانا هذا بعد أن نطهر العالم أجمع - لا وطننا الصغير فحسب - من هذه الضلالات " ( الصفحة قبل الأخيرة ) ، والدجاجة الحكيمة ستسلك مسلكهم بعد " وإني لن أتخلف عنكم فسأعمل كما تعملون " .
في العام ١٩٦٢ كتب ناصر الدين النشاشيبي رواية " حفنة رمال " وأتى فيها على ما جرى ، في قرية النعامي قرب الرملة ، قبل العام ١٩٤٨ . إن الرواية من حيث زمنها الروائي ترتد في كثير منها إلى ما قبل ١٩٤٨ ، خلافا لزمنها الكتابي الذي لم يكن بعيدا .
تعرض العصابات الصهيونية على ثابت أن يبيع أرضه . يرفض إغراء المال ، فترسل له العصابات سارة ، يهودية الأم عربية الأب ، لتغويه ، فيتحرك فيها دمها العربي وتعلمه بالحقيقة وتقف إلى جانبه ، ومع ذلك يقتله اليهود في أرضه ويجرون جثته إلى أرض المستوطنة ، زاعمين أنه تسلل إليها واعتدى على سارة.
وعموما يمكن القول إن الرواية الفلسطينية لم تقارب هذا الموضوع ، قبل العام ١٩٤٨ ، مقاربتها له بعد النكبة حيث حضر حضورا لافتا وهو ما لاحظناه لدى غسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهما ، ولدى الشعراء والقصاصين .
ولعلني أواصل الكتابة ، فالتهجير هو مطلب الدولة الإسرائيلية في هذه المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة الدائرة.


(.مقال الأحد لجريدة الأيام الفلسطينية في ١٨ / ٢ / ٢٠٢٤ )
السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء ١٠ و ١١ و ١٢ و١٣ و ١٤ / ٢ / ٢٠٢٤ .
عادل الاسطة

***
ـــــــــــــــــــــــــ
1- محمود درويش : " هدنة مع المغول "
2- الأمراض والأوبئة ووقف الحرب ومكر التاريخ
3- الرواية الفلسطينية والنكبة
4- الاحتلال الإسرائيلي الرحيم والمريح
5- غزة وأبناؤها وغزاتها : هل تتواطأ الأرض مع الفلسطيني؟
6- التهجير والإبادة
7- مناشدة الأنظمة العربية وذاكرتنا العذراء
8- الفلسطيني اللاجيء... الفلسطيني المقاوم: تداعيات الحرب في غزة
9- ألعاب الأطفال التي تتحول إلى حقيقة : ألعاب يحيى السنوار في طفولته
10- صورة اليهودي الصهيوني الإسرائيلي
11- أربعة رؤوس بمليون دولار: الصهيونية واحتقار العربي
12- تداعيات حرب ٢٠٢٣: تشابه التجربة.. اجترار الكتابة
13- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : النكبة تستحضر النكبة . كأنني أعيش طفولتي
14- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : العرب وتصحير فلسطين ؛ إسرائيل وتحويل غزة إلى جنة
15- تداعيات حرب ٢٠٢٣ - ٢٠٢٤ : سؤال الهوية ... سؤال رابطة الدم
16- تداعيات حرب ٢٠٢٣ - ٢٠٢٤: التشبّث بالوطن: «وإذا رجعتم فلأيّ منفى ترجعون؟»
17- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : "قسوة المنفى وتفضيل خازوق البلاد"
18- كأنّي ألقي عليها نظرة الوداع: "في وداع حارسة الظلال"
19ــ تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «حيونة الفلسطيني وشيطنته في الشعر الإسرائيلي»
20- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : " التشبث بالوطن في الرواية الفلسطينية قبل العام ١٩٤٨ "


.
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى