د. أحمد الحطاب - المنظومة التربوية.. -ملف[1]- (1...11)

1- المنظومة التَّربوية، بنيةٌ معقَّدةٌ

قبل الدخول في صُلب الموضوع، لا بدَّ من الانكباب على توضيح مفهوم "المنظومة التَّربوية" وتشريح محتواه. وفي هذا الصدد، كم هي كثيرة المفاهيم التي نستعملها في مختلف أوجُه الحياة اليومية من حدبثٍ متداول ونقاشات وقراءات وتواصل وتعليم وبحث ولقاءات علمية وإعلام… لكن، من المؤكَّد أننا لا نعيرُ إي اهتمام، في حياتِنا اليومية، للمحتوى الدلالي contenu sémantique لهذه المفاهيم ولتطوُّر هذا المحتوى تماشيا مع ظروف هذه الحياة اليومية. نظن أننا أدركنا جيدا هذا المحتوى الدلالي بينما كل واحدٍ منا يفسِّر هذه المفاهيم و يُدمِجها في رصيده من المعارف العلمية، الثقافية والمبسَّطة حسب طريقة خاصة به. وحتى إن حفظنا دلالتَها عن ظهر قلب، فإننا نستمر في تفسيرها حسب طريقتِنا الخاصة. لكن قد يحين وقتٌ من الأوقات ليصبحَ من الضروري أن تُوضَّحَ هذه المفاهيم حتى تتمكَّن مجموعةٌ من الناس، وبالأخصِّ، الاختصاصيون، من إدراكِها بنفس المنظور. وهذه المجموعة من الناس يمكن أن يكونَ لها طابع اجتماعي، ثقافي، سياسي، اقتصادي، ديني…

إن مفهومَ "المنظومة التَّربوية" يندرج في هذا الاتِّجاه حيث أن كثيرا من الناس يستعملونه، انطلاقا من دائرة المسئولين إلى الفلان الفلاني monsieur untel. لكن، قليلون هم الناس الذين يدركون، عن جدارةٍ، ما لهذا المفهوم وما عليه. كل ما يحدث هو أننا نُكوِّن نطرةً سطحيةً عن هدا المفهوم ونختزله إما في المؤسسات التَّعليمية أو في التَّعليم أو في المجموعات البشرية التي يتألَّف منها : مدرسون، متعلِّمون، طواقِم إدارية…

وحتى في الوسط المدرسي، نادرون هم المدرٍّسون الذين ينشغلون بمدلولِه والمدى الذي ينطوي عليه. إنهم يعرفون أنهم، هم وأنشِطتُهم التَّربوية، جزءٌ لا يتجزَّأ منه، لكن أن يُشرٍّحونه فكريا، اجتماعيا واقتصاديا، فهذا شيءٌ لا يخطر ببالِهم.

فيما يخصُّ مفهوم "المنظومة التَّربوية"، تجدر الإشارةُ إلى أنه لا يوجد تعريفٌ معياري définition standard أو تعريفٌ كوني définition universelle خاص بهذا المفهوم. هناك تعاريفٌ تقترحها شبكات التَّواصل الاجتماعي أو الهيئات الرسمية. لكن، في نظري الشخصي، كل هذه التَّعاريف لا تذهب بعيدا لتكونَ على درجةٍ مهمة من الوضوح والإدراك. كل هذه التَّعاريف تتخندق في العموميات، وبالتالي، لا تمكِّن من الوقوف على تعقيد هذه المنظومة. ما سيأتي من آراءٍ في هذه المقالة، هو ثمرة جُهدٍ فكري خاص.
المنظومة التَّربوية هي عبارة عن مجموعة متناسِقة من الهيئات والبٍنيات التي تنتمي إلى القطاعين العمومي والخاص والتي تُمكِّن أعمالُها وتفاعُلاتُها من صياغة وتنفيذ السياسة الوطنية في مجالات التَّعليم والتَّربية والتَّكوين.

وتتمثَّل هذه الهيئات والبِنيات في :

-السلطات العمومية التي تهيِّىء السياسة الوطنية في مجالات التَّعليم والتَّربية والتَّكوين والتي تلعب دورَ الجهاز المنظِّم appareil régulateur لهذه السياسة من خلال التَّشريع، التَّقنين، التَّنسيق، التَّخطيط، البرمجة، التَّمويل وتقييم أنشطة التَّعليم والتَّربية و التَّكوين؛
-البِنيات المكلَّفة بتنفيذ السياسة الوطنية في مجالات التَّعليم والتَّربية والتَّكوين (الإدارة المركزية والإدارات الجهوية، هيئة التَّدريس والهيئة الإدارية، مؤسسات التَّعليم والتَّكوين العمومية و الخاصة)؛
-بنيات تقييم السياسات التَّعليمية والتَّربوية والتَّكوينية وكذلك تقييم أنشطة الإداريين وهيئة التَّدريس؛
-بنيات الدَّعم والتَّتبُّع والتَّنمسيق : المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الأحزاب السياسية، المُنتَخَبون، النقابات، المجتمع المدني، القطاع السوسيواقتصادي…

كل هذه المُكوِّنات التي تتألَّف منها المنظومة التَّربوية تربطها علاقاتٌ متبادلة mutuelles وتراتُبية hiérarchiques على المستويات القانوني، السياسي، التَّنظيمي، الاجتماعي والاقتصادي، وذلك من خلال انسيابٍ سهلٍ وفعالٍ للمعلومات ومن خلال تعبئة الموارد البشرية، المادية والتَّمويلية.

المنظومة التَّربوية ليست فقط التَّعليم والتَّربية والتَّكوين. المنظومة التَّربوية شديدة التَّعقيد نظرا لكثرة مكوِّناتها ولتشابك العلاقات بين هذه المكوِّنات. فأين يوجد التَّعقيد الذي يجعل من هذه المنظومة وحدةً معقَّدة؟

يوجد هذا التَّعقيدُ على مستوى تدبير gestion العلاقات القائمة بين مختلف مكوِّنات المنظومة التَّربوية. بالفعل وبِما أن المهمة المركزية لهذه المنظومة هي تعليم وتربية وتكوين الأجيال الصاعدة، من الضروري التَّحكُّم في تدبير هذه العلاقات من طرف جميع المُكوِّنات المعنية بالاشتغال الجيِّد لنفس المنظومة.

وبما أن التَّعليمُ والتَّربية والتَّكوين هم ركائزُ مهمة أية منظومة تربوية، فإنهم لا يُشكِّلون إلا الجزء الواضح للعِيان la partie visible de .l’iceberg غير أن نجاحَ هذه المهمة رهينٌ كذلك بالجزء غير الواضح للعيان. وداخِلَهما، أي الجزء الواضح للعِيان والجزء غير الواضح، تتزاحم مكوِّنات عديدة من طواقم تعليمية وإدارية، ومال، وبنيات تحتية، وتدبير وحكامة، وتنظيم، وتشريع، ولامركزية، وبرامج ومحتوياتٌ تعليمية، ومتعلٍّمون، وتكافؤ الفرص، و وسائل تعليمية وتكنولوجيات التَّربية، والبيداغوجيا، وعلم النفس التَّربوي، والتَّعلُّمات، والتَّقييم، والامتحانات، والنجاح والرسوب، والهدر المدرسي، والشهادات، والتًّأهيل، والاندماج في الحياة الاجتماعية والعملية، وأخلاقيات المهنة، والتَّفاعل بين المدرسة والأسرة وبين المدرسة والمجتمع، والتَّكوين الأولي والمستمر للمدرسين،… يُضاف إلى كل هذه المعطيات أن تعقيدَ المنظومة قد يتأثَّر بالعامل الديمغرافي الذي يجعل من هذه المنظومة مكانا يتساكن فيه مئات الآلاف من الإدارينن والمدرسين وملايين المتعلِّمين.

ومن جهة أخرى، من الضروري أن تشتغلَ المنظومة التَّربوية ككلٍّ شاملٍ un tout global له القدرة على الحِفاظ على ترتيبه الداخلي ordre intérieur، وفي نفس الوقت، ربط هذا التَّرتيب بمحيطه الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي. وبما أن هذا المحيط تحدث فيه تحوُّلات مستمرة، فإن أية منظومة تربوية مطالبةٌ بأن تتكيَّفَ مع هذه التَّحوُّلات. وحين نتحدَّث عن التَّكيُّف، فالأمر يتعلَّق بإصلاح المنظومة التَّربوية. غير أنه لا يمكن إصلاحُ هذه المنظومة كل سنة. وإذا كان من الضروري إصلاحُها، يجب أن يستغرقَ هذا الإصلاح مدةً زمنية معيَّنة ويشمل، على الأقل، السِّلكَ الأساسي cycle fondamental الذي يدوم من 8 إلى 10 سنوات. وهنا، لابدَّ من التَّذكير أن الإصلاحَ لن يكونَ ناجِعا إلا إذا شمِلَ آخرَ سنة من هذا السِّلك.

وهنا، يتَّضِح أن التَّحوُّلات التي تحدث في المجتمع تشكِّل، في حد ذاتِها، عنصراً يزيد من تعقيد تدبير المنظومة التَّربوية. بالفعل، إذا تغيَّر المجتمع باستمرار، فإن المنظومة التَّربوية لا يمكن أن تُوازيَ هذا التَّغيير. فهناك فجوةٌ décalage بين ما يحدث من تغييرٍ في المجتمع وبين ما يجري من تعليمٍ وتربية وتعلُّمات داخلَ المنظومة التَّربوية. ولا داعيَ للقول أن العديدَ من المنظومات التَّربوية، إذا لم تتطوَّر، فإنها تصبح فرائسَ سهلة للجمود immobilisme والصلابة sclérose.

والتَّعقيد لا يتوقَّف عند هذا الحد. بل إنه يتفاقم عندما تتعرَّض المنظومة التَّربوية للتّجاذبات السياسية، الحزبية والنقابية، التي، غالبا ما تأخذ هذه المنظومة كرهينة لإيديولوجياتها وشعاراتها وعقائدها doctrines. وهنا، تتواجه الأفكارُ والمصالح، وخصوصا منها، السياسية، وتتواجه كذلك الرُّؤيات visions، والأفكار المسبقة présupposés والأفكار المنمَّطة stéréotypes… فكيف يمكن أن تتقاربَ وتتصالحَ كل هذه التَّوجُّهات؟ يمكن، في هذه الحالة، اللجوء إلى الحِوار الذي يمكن أن يستغرقَ وقتا طويلا، كما يمكن اللجوءُ إلى مبدأ "خير الأمور أوسطها"، أو اللجوء إلى التَّوافق، إلى التَّنازلات… الأمر ليس سهلا!

وقد يزداد التَّعقيدُ قوَّةً عندما يتعلَّق الأمرُ باتِّخاذ قرارٍ يخصُّ المنظومة التَّربوية باعتبارها كل شامل un tout global. وهنا، سأخذ كمثالٍ إعادةَ النظر في غايات finalités هذه المنظومة. فأين يكمن التَّعقيدُ هنا؟
التَّعقيد يكمن هنا في كون اتِّخاذ القرار يهمُّ بلدا بأكمله، ومستقبلَ هذا البلد وكذلك مستقبلَ الأجيال الصاعدة. اتِّخاذ القرار هنا، من الضروري أن يكونَ جماعيا، علما إن إعادةَ النظر في غايات منظومة تربوية، تُعدُّ مسئوليةٌ كبرى. وبما أن صياغةَ هذه الغايات لا يمكن أن تكونَ محطَّ إجماعٍ، فمن الضروري أن تتمَّ هذه الصياغة في جوٍّ تتقارب وتتصالح فيه الأفكار والرؤيات والتَّوجُّهات والإيديولوجيات والمصالح… فالحلُّ هنا هو البحث عن التَّوافق consensus.

وما ينطبق على الغايات، ينطبق على جميع القرارات المتعلِّقة باشتغالِ المنظومة التَّربوية باعتبارها كلا شاملاً. فكل خطوةٍ زائغة عن الصواب، قد تكون سببا، طال الزمن أم قصُر، في ظهور مشاكل لم تكن في الحُسبان. ذلك بأن المنظومة التَّربوية لا يمكن أن تستجيبَ لجميع تمثُّلات المعنيين بالأمر. كما لا يمكن أن تستجيبَ فقط لأي حزب من الأحزاب أو لأية جهة من الجهات… سواءً كانت داخلَ أو خارجَ المنظومة التَّربوية، علما أن هذه الأخيرة، في حدٍّ ذاتِها، كمفهومٍ وبِنيةٍ، عبارة عن حلٍّ وسطٍ! وقد لا أبالغ إذا قلتُ "إن التَّعقيدَ هو، في الحقيقة، وجهٌ منسوبٌ إلى طبيعة المنظومة التَّربوية نفسها.
وعليه، إن اتِّخاذَ أي قرارٍ يُدخِل تغييراً في منظومة تربوية، لا يمكن أن يتمَّ على عَجَلٍ. وهنا، لا بدَّ من التَّذكير أن بنيةَ أية منظومة تربوية ترتكز على قاعدة صلبة وغير قابلة للتَّغيير، تتمثَّل في قيمِ ومبادىء أمة nation بأكملها، وكذلك في المواطنة وحب الوطن. يمكن صياغةُ هذه القاعدة بأسلوبٍ مغايرٍ، لكن القاعدةَ تبقى محافظةً على صُلبها كهويةٍ لهذه الأمة. غير أن المنظومةَ التَّربويةَ، رغم محافظتها على قاعدتها الصلبة، من الضروري أن تتجدَّدَ باستمرار وإلا فمآلها الفشل والتَّقهقر.

وفضلا عن التَّعقيدات السابقة الذكر، إن غيابَ النُّضج السياسي يضاعف تعقيدَ المنظومة التَّربوية. وهذا هو ما يحدث في البلدان التي لا تشكِّل فيها الديمقراطية واقعا ملموسا أو تكون هذه البلدان في حالة تحوُّلٍ ديمقراطي أو تكون أحزابُها منقوصةَ النُّضج السياسي اللازم لشفافية أفكارها وممارساتها. في هذه البلدان، المنظومات التَّربوية ليست، لا أقل ولا أكثر، إلا مطيات يؤدي ركوبُها إلى كراسي السلطة. وعندما يتحقَّق الوصول إلى السلطة، المنظومات التًَّربوية التي هي مِلكٌ للأمة، تصبح سجينةَ إيديولوجية معيَّنة. إن غيابَ أو نقصَ النُّضج السياسي يزيد في الوضع تعقيدا. فعلاوةً على التَّعقيد المتضمَّن في المنظومة التَّربوية كمفهوم وبِنية، يُضاف له تدبيرٌ مُأَدلَجٌ عوض تدبيرٍ جماعي، واضح المعالم، ملائم وناجع.
فمن غير المعقول أن منظومةً تربويةً التي هي ثروة أمة بأكملها، والتي من المفروض أن تُنتِجَ الثروات، أن تكونَ مُحتجزةً من طرف جهةٍ دون الجهات الأخرى، باسم الديمقراطية! لا أحدَ يملك الحقيقة! والذين يدَّعون أنهم يملكونها، لهم أغراضٌ مغايرة لتلك التي تسعى إلى تحسين إنجازات المنظومة التَّربوية. هذه الأخيرة، من الضروري أن تُجسِّدَ وتُظهِرَ أملَ وتطلُّعات كل المجتمع الدي، من حقِّه، أن يطمحَ لتقدُّمٍ وتنميةٍ بشرية، أولا، ثم اجتماعية واقتصادية.

ولا داعيَ للقول أن السياسة السياسوية تزيد المنظومات التَّربوية غرقا في التَّعقيد. بالفعل، في العديد من البلدان، وبالأخصِّ تلك السائرة في طريق النمو، تتعاقب على كراسي السلطة أحزابٌ سياسيةٌ لها إيديولوجيات متناقضة. كما تتعاقب على المنظومة التَّربوية إصلاحاتٌ تُدخِل على هذه المنظومة تغييرات في روحها وفي اشتغالها. الإصلاحُ الأول لم يأتِ أُكلَه، يليه إصلاحٌ آخر وهكذا. تتوالى الإصلاحاتُ دون أن تُحدثَ التَّجديدَ المنتظرَ. لماذا؟

لأن هذه الإصلاحات لا تذهب إلى عمق المشاكل، ولأنها تستجيب فقط لصراعٍ قائمٍ بين إيديولوجيات ولمزايداتٍ سياسوية، عوضَ أن تستجيبَ لحاجةٍ إلى النجاعة والمردودية وإلى الجودة. وغالبا ما تتمُّ هذه الإصلاحات على عَجَلٍ وبدون القيام، مسبقا، بتشخيصٍٍ للوضع القائم المرادُ إصلاحُه. فيتمّ مثلا تغييرُ لغة التَّدريس أوتغيير المضامين التَّعليمية أو طبع مراجع مدرسية manuels scolaires جديدة أو يتمُّ تغييرالأساليب البيداغوجية أو بُعاد النظرُ في نظام الامتحانات… بكل تأكيد أن المشاكلَ ستبقى بدون حلولٍ في وضعٍ يطغى عليه الفكر السياسوي. في هذه الحالة، فإن الأمرَ لا يتجاوز تراكبَ superposition مشاكل الساعة على مشاكل يُظَنُّ أنها وجدت حلولا بفضل الإصلاح السابق. المنظومة التَّربوية عبارة عن كلٍّ شاملٍ، بمعنى أنها تَشكِّل جسدا أعضاءه مترابطة. وكل محاولة إصلاحٍ تطال المنظومة التَّربوية، من الضروري أن تأخذَ بعين الاعتبار هذا التَّرابط.

وهنا، لا بدَّ من التَّوضيح أن أيَّ إصلاحٍ هو، في الحقيقة، بمثابة حقنِ دواءٍ لجسمٍ مريضٍ. وحتى يكون الحقنُ ناجعا، يجب أن يشملَ هذا الحقنُ جميع أعضاء الجسم. وبعبارة أوضح، ليس هناك مكوٍّنٌ يمكن أن يحيا في معزلٍ عن المكوِّنات الأخرى. وإذا أصاب إحدى هذه المكوِّنات عطبٌ أوخللٌ، ينعكس ذلك على الاشتغال الجيِّد للمكوِّنات الاخرى. وقد نُشبِّه المنظومة التَّربوية بمنظومة بيئية écosystème يكون توازُنُها رهينا بصحة ونجاعة العلاقات القائمة بين مكوِّناتها. إن هذا الوضعَ مُضِرٌّ للمنظومات التَّربوية حيث الإصلاحات، عوض أن تُقوٍّمَ ما أُفسِدَ، تُحدِث عدمَ استقرار أو خللا أو ضُعفا في إنجازات المنظومة التَّربوية، علما أن الضحايا الأوائل لهذا الضُّعف هم الأطفال والمراهقون والشباب.

إن المنظومة التَّربوية يجب أن تكونَ فوق كل هذه التَّجاذبات السياسية. دورها الأول والأساسي هو تعليم وتربية وتكوين فلذات أكباد progénitures المواطنين، كدافعين للضرائب contribuables. إنه حقٌّ كوني تضمنه دساتير البلدان. أما السياسة، فلا معنى لها إلا إذا تمركزت حول التَّنمية البشرية والاجتماعية. وبعبارة أوضح، يجب أن تكونَ مبادىء السياسة مرتكزةً على نُكران الذات، وفي نفس الوقت، تُعطي الأولوية للصالح العام أولا وقبل كل شيء. وعليه، فالسياسيون، من المفروض، أن يكونوا في خدمة بلدانهم متَّخذين من المواطنة وحب الوطن خيطا ناظما لأقوالهم وأفعالهم.

وكل عمل سياسي تحوَّلَ إلى عملٍ سياسوي، فإنه يحيد عن معناه الأصلي، وفي نفس الوقت، يقتل المواطنة. وإذا لم تساهم السياسة في رفعِ مردودية المنظومة التَّربوية وتحسين أدائها، فإنها سياسية غير مُواطِنة. والسياسة السَّيِّئة النوايا تميل إلى قتل روح المواطنة وتدفع المواطنين إلى تبنٍّي ثقافة الفردانية individualisme. إن المنظومة التَّربوية، كجلِّ مرافق الحياة العامة، تعاني من تقهقُرِ القيم المواطِنة الضرورية لصالح هذه المنظومة. ويشهد على هذا التَّقَهقُر التَّشكيكُ، في أيامنا هده، الذي أصبح يُراوِد شريحةً عريضةً من المواطنين فيما يخصُّ قيمةَ المدرسة العمومية.

وباختصار، السياسة، بمعناها النَّبيل وكيفما كانت اختلافاتها الإيديولوجية، يجب أن تكونَ الضامنَ ورافعةً لجودة حكامة المنظومة التَّربوية، عوضَ أن تكونَ عاملا لتفادي خطورة تعقيدها. وبعبارة أخرى، المنظومة التربوية، استجابةً لمصلحة الجميع وعلى الإطلاق، يجب أن لا تُسَيَّسَ أو يجب أن لا تكون عُرضةً للتَّسييس.

***

2 - المنظومة التَّربوية والاقتصاد

عندما نقول إنه من واجب المدرسة أن تكوِّن مواطنين قادرين على الاندماج بسهولة في المجتمع، في عالم الشغل، في الحياة العملية، الخ.، هذا يعني أنها من خلال هؤلاء المواطنين، ستساهم في التنمية الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية للبلاد. وبعبارة أخرى، يجب القول أن التعليم يجب أن يُربطَ بكيفية وثيقة بالتنمية بصفة عامة وبالتنمية الاقتصادية والتكنوبوجية بصفة خاصة.

فكلما حاولت الاسترتيجيات الحكومية في مجال التنمية أن تحسِّن مردوديةَ المنظومات التربوية، كلما كانت لهذه المنظومات مسؤولية في تكوين مواطنين قادرين على المساهمة في الإنتاج وفي خلق الثروات وفي تحسين المستوى الفكري والمادي (رفاهية) للمواطنين. وفي هذا الصدد، قد بيَّنَت الدراسات أنه كلما رفعت المنظومات التًَّربوية مستوى تكوين مواطنين قادرين على المساهمة في الإنتاج وفي خلق الثروات، كلما ارتفعت حظوظ هؤلاء المواطنين للحصول على رواتب محترمة في سوق الشغل.

وهذا يعني أن المنظومات التربوية، نظرا لضخامة الأموال التي تمتصها، من المفترض أن تُعتبر هذه المنظومات منشآت ترتفع منتجاتها إلى مستوى هذا الامتصاص. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الدراسات التي يقوم بها، مثلا، البنك الدولي أو منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، بيَّنت أن الغالبية العظمى من الدول تخصِّص ما يُناهز 20% من ميزانياتها السنوية لقطاع التَّربية والتَّكوين. وقد تصل هذه النسبةُ إلى 25% بالنسبة للمغرب.

ورغم الاهتمام الذي توليه سياسات التنمية لاشتغال fonctionnement ونجاح بعض المنظومات التربوية، وبالأخص، السياسات التربوية في البلدان السائرة في طريق النمو أو تلك التي تطمح أن تصبحَ بلدانا صاعدة pays émergents، فإن منتجاتِها ومردوديتَها تبقيان دون انتظارات الحكومات والمجتمع والمستفيدين من خدماتها. ولاعتبارات عديدة، إن المنظومة التربوية المغربية لا تُستَثنى من هذا الوضع.

ولا داعي للقول أن التعليم والتربية والتَّكوين يُعتبرون، بالنسبة لبلادنا، كخدماتَ موجَّهة للاستهلاك. لكنهما، من الناحية الاقتصادية، من المفترض، أن لا يكونا فقط موادَ استهلاك غير نافعة لأن حجم المال الذي تضخه الدولة في المنظومة التربوية (تكوين، رواتب، معدات تعليمية، بنيات تحتية، تسيير، صيانة، الخ.)، هو بمثابة استثمار يُنتَظَرُ أن يكونَ له تأثيرٌ إيجابي على تنمية البلاد وعلى تقدُّمها. استثمارٌ يهدف إلى إفراز نتائج قياسية من حيث تكوين الرأسمال البشري على المستويين الكمي والكيفي. صحيح أن الاستثمار في مجال التربية يتطلب وقتا طويلا ليفصحَ عن نتائجه. ومع ذلك، ومنذ عقود، والمنظومة التربوية تفرز نتائج دون ما كان يُنتظر نظريا من هذا الاستثمار.

أين توجد إذن مكامن الاختلال؟ هل هي راجعة إلى :

1.عدم تلاءم الحاجيات والتمويل؟
2.التنزيل غير الملائم للسياسات التربوية وترجمتها إلى خطط عمل؟
3.التطبيق غير المتقن لخطط العمل على أرض الواقع؟
4.ضعف في المهنية professionnalisme الخاصة بالتدبير المالي؟
5.البيروقراطية وتمركز القرارات؟
6.ضعف الإحاطة بعلاقات الثالوث تعليم-تربية-إنتاج؟
7.ضعف أو عدم التجديد والابتكار على جميع مستويات المنظومة التربوية؟ إذا كان الأمر هكذا، فكيفما كان التَّمويل، لا يمكن أن يكون استعمالُه وتعبئتُه ناجعين في محيط متجمِّد بالرتابة والبيروقراطية والتمركز وغياب المهنية؟
8.هيئة تدريس تكوينُها متجاوز وبعيد كل البعد عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟
9.هيئة تدريسٍ مهمَّشة اجتماعيا، وبالأخص، ماديا؟
10.التغيير المتسارع لمتطلبات سوق الشغل؟
11.ممارسة تربوية متصلَّبة sclérosée لا تُتيح أيةَ فرصة للتَّحرر والتَّفتح الفكريين؟…

فعلا، إن الاقتصاد له تأثير كبير على التعليم من خلال الاهتمام الذي توليه له مخططات التنمية. وبالمقابل، على التعليم والتربية أن يوليا أهميةً كبرى للتكوين الفكري والمهني للمتعلمين، وذلك من خلال ما يُعدَّانه لهم من برامج تعليمية وتربوية جيدة. فعندما يغادر المتعلمون المدرسةَ، يكون همُّهم الرئيسي هو العثور على شغل يتناسب مع تكوينهم. لكن المفاجأة هي أن سوق الشغل لها متطلبات وشروط غالبا ما لا توفِّرها الشواهد التي حصلوا عليها بعد نهاية دراساتهم. وهذا راجع، بالتأكيد، إلى عدم ملاءمة التكوين الذي توفِّره المدرسة مع خصوصيات سوق الشغل، الشيء الذي يساهم في تعميق الهوة التي تفصل هذه المدرسة والمجتمع.
فالمنظومة التربوية، نظرا لجموديتها immobilisme وخمولها léthargie، تجد نفسَها عاجزةً على مواكبة التطور الاقتصادي علما أن البلدان النامية تعلق عليها آمالا كبيرة من أجل :

1.محاربة الأمية،
2.تنمية التفتح الفكري،
3.توعية المواطنين بمسئولياتهم المدنية والاجتماعية،
4.تكوين يد عاملة عالية الجودة،
5.التصدي للرهان التكنولوجي الذي له علاقة بمختلف مظاهر الحياة اليومية…

انطلاقا من هذه الاعتبارات، يتَّضح أن التَّعليمَ والتربيةَ والتكوينَ والتنمية عوامل أساسية ضرورية لتقدم وتطور مجتمع ما، علما أنه ليس هناك تنمية بدون تعليم وتربية وتكوين. وبالمقابل، فإن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة لا يمكن أن تلعب دورها إلا إذا أعطتها استراتيجيات التنمية اهتماما كبيرا.

إن المنظومة التربوية، نظرا لالتهامها قدرا كبيرا من الأموال، لا يجب أن تُعتَبر خدماتُها حصريا كمادة للاستهلاك و وسيلة للتمدرس، أي معدة لاستقبال وامتصاص أكبر عدد من الأطفال الذين بلغوا سن الدخول إلى المدرسة. يجب أن تتجاوز المنظومة التَّربوية هذه المرحلةَ ذات الطابع الكمي لتنتقل إلى مستوى أعلى يتسم بجودة التعليم والتربية والتكوين.

عكس ذلك، ستبقى المنظومة التربوية هُوَّةً ماليةً un gouffre financier تُثقِل ميزانية الدولة budget de l'État ودافعي الضرائب les contribuables. الاقتصاد الوطني في حاجةٍ إلى منظومة تربوية قوية وعالية المردودية في وقت يَعرفُ فيه هذا الاقتصادُ انطلاقَ استراتيجيات تنموية ضخمة وطموحة (صناعة، طيران، سيارات، سياحة، فلاحة، صيد بحري، صناعة تقليدية، طاقات متجددة شمسية وريحية، الهيدروجين الأخضر، نقل بري سككي بحري، لوجيستيك، رياضة، ترحيل الخدمات offshoring، موانىء، الخ.) تحتاجُ و ستحتاج إلى يد عاملة عالية التأهيل.

مما لا شك فيه أن المغربَ، كسائر بلدان العالم، يطمح إلى تغيير وضعه الاقتصادي من حسنٍ إلى أحسن. وبعبارة أخرى، يريد أن ينتقلَ من وضعِه كبلد سائر في طريق النمو pays en voie de développement إلى بلد صاعد pays émergent ولِمَا لا، بعد عقود قليلة، إلى بلد نامي pays développé.

وحتى تستطيع البلادُ من تحقيق هذا الطموح، يجب أن يتذكَّرَ السياسيون أن المنظومة التَّربوية هي من صُنع المجتمع وتعمل بداخلِه ومن أجله. وبعبارة أخرى، المنظومة التَّربوية هي الأداة التي تُساهم، بواسطة خِرٍّجيها أو الرأسمال البشري، في تجديد المجتمع. والشُّغلُ هو الركيزة الأساسية في هذا التَّجديد. لهذا، فمن الضروري ربطُ علاقات متبادلة بين المنظومة التَّربوية وعالم الشغل أو عالم المقاولات أو ما يُصطلح عليه ب"منظومة الإنتاج" système productif". وهذا يعني أن المعارف التي يتلقَّاها المتعلِمون داخل المدرسة يجب أن تتلاءمَ مع الطريقة التي يتم، من خلالها، تنظيمُ الشغل داخلَ منظومة الإنتاج. وهنا، يجب أن لا ننسى أن هذه الأخيرة تُساهم، هي الأخرى، في تجديد المجتمع، من خلال ما تُوفِّره من مناصب شغلٍ و من إنتاجٍ للثروات.

لكن العلاقات المشار إليها أعلاه بين المنظومة التَّربوية ومنظومة الإنتاج تكاد تكون منعدمةً لأسباب عديدة.

من بين هذه الأسباب، أذكر ،أولا، الفصل بين التَّكوين المهني والتَّعليم العام على المستوى السياسي/الحكومي، علما أن هذا التَّكوين هو الذي تعتمد عليه منظومة الإنتاج لممارسة أنشطتها المختلفة. ثانيا، منظومتنا التَّربوية تولي اهتماما بالِغا للتَّعليم العام enseignement général على حساب التَّكوين المهني. ثالثا، التَّكوين المهني لا يحظى بتقديرٍ داخلَ المجتمع لأنه ضحية لأحكامٍ مسبقة préjugés تجعل منه عنصرا لا يلجأ له إلا الفاشلون من المتعلمين في دراستِهم، وبالتالي، فإن المتفوِّقين من هؤلاء المتعلِّمين يفضِّلون اختيارَ مسالكَ أخرى. رابعا، حتى التَّكوين المهني نفسُه لا يسايِر عن كتبٍ التَّطوُّر التَّكنولوجي المتسارع الذي يحدث في العالم، وبالتالي، فإن خريجيه يجدون صعوبةً في التَّأقلم مع هذا التَّطوُّر عندما يلتحقون بمقاولات منظومة الإنتاج. خامسا، منظومتنا التّربوية منعزلة عن المجتمع، فما بالك أن تستجيبَ لمتطلبات الاقتصاد، ومن خلالِه، لمتطلَّبات منظومة الإنتاج؟

ما أختم به هذه المقالة، هو أن المنظومة التَّربوية يجب أن تكونَ لها علاقة وطيدة بالاقتصاد. فهذا الاقتصاد هو الذي يُوفِّرُ لها الموارد المالية التي تحتاجها من أجل القيام بمهامها. بينما المنظومة التَّربوية هي المصدر الأساسي لتزويد منظومة الإنتاج بالرأسمال البشري التي هي في حاجة إليه. هذه العلاقة شيءٌ مفروغٌ منه. فهي ضرورية لأية تنميةٍ ولأي تقدُّمٍ ولأي ازدهار. وإذا فشلت منظومتنا التَّربوية في تلقين متعلِّمي التعليم الأساسي مبادىءَ القراءة والكتابة ومبادىءَ الرياضيات والعلوم، فكيف لها أن تخدمَ اقتصادَ البلاد؟

وهذا الفشل بيَّنته الدراسات التي تقوم بها، على الخصوص، منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، من خلال برنامج تتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA. وهذه المنظمة تقوم بتقييم هذه المكتسبات كل 3 سنوات. ونتائج آخر دراسة برسم سنة 2018، تم نشرُها مؤخرا. وضعُ المتعلِّمين زاد سوءً فيما يخصُّ فهمً النصوص باللغتين العربية والفرنسية وفيما يخصُّ المكتسبات المبدئية في مجالي الرياضيات والعلوم. المغرب يوجد في آخر التصنيف الذي شمل 81 بلدا، علما أنه تقهقر بتسع مرتبات في أسفل هذا التَّصنيف.

***

3 - المنظومة التربوية والمجتمع

إذا كانت المنظومة التربوية متجذرةً في المجتمع، يجب عليها، رغم هذا التَّجدُّر، أن تُتبِث أو أن تبرِّرَ وجودَها في هذا المجتحع الذي يستفيد من خدماتها. وبالمقابل، فعلى المجتمع أن يوضِّحَ علاقتَه معها. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن وجود أية منظومة تربوية في مجتمع ما يرتكز على أسس نظرية، بدونها، لا سبيل لذكر هذا الوجود. وهذا يعني أن المنظومة التَّربوية، ككِيانٍ ملموسٍ، نابعة مسبقا من أُسسٍ نظرية، المجتمعُ هو الذي بناها.

وهذا جانب نوعي (فكري) لا يمكن إغفالُه أو تجاهُلُه في كل تحليل أو إعادة نظر تخضع لهما المنظومة المذكورة. ورغم أن هذا الأمرَ، أي الجانب النوعي (الفكري/النظري) لا يُدرَك في أول وهلة، يبقى هو العامل الأول الذي يُحدِث تأثيرا على توجُّه الممارسة التربوية، في حالة القيام بإصلاحِها. فمن المفروض أن تتمحور التحاليلُ حول هذا الجانب النوعي من أجل إيجاد عناصرَ تفسيرٍ للهوة التي تفصل بين بعض المنظومات التربوية والواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه. وتوضيحاً لهذا الأمر، فعندما يُراد إصلاح منظومة تربوية ما، فهذا معناه أن الأسسَ النظرية التي ترتكز عليها هذه المنظومة أصبحت متجاوزة وتستدعي إعادةَ النظر فيها.

فعلا، إن أية منظومة تربوية هي إنتاجٌ نابعٌ من المجتمع، ولكن بالمقابل، فإنها تُساهم في بناء هذا المجتمع. وبعبارة أوضح، يجدر القول بأن أية منظومة تربوية، هي في الحقيقة، صورةٌ للمجتمع الذي يحتويها وأن المجتمع هو صورة لمنظومته التربوية. وحتى يبقى هذا التَّماثلُ قائم الذات بين هاتين الوحدتين (المنظومة التَّربوية والمجتمع)، من الضروري أن يكون بينهما تفاعل دائم ومستمر يجعل من كل وحدة إنتاجاً ومُنتِجةً للأخرى.

تحت تأثير بعض العوامل، وعلى الخصوص، منها تلك التي تترتَّب عن العولمة mondialisation وعن التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا، يعرف العديدُ من المجتمعات النامية تغييراتٍ وتقلباتٍ في أنمأط فكرها وعيشها. وما يؤسف له هو أن المنظومات التربوية لهذه المجتمعات تتكيَّف ببطء شديد، أو قد لا تتكيف كليا مع هذه التغييرات التي تطال الواقع الاجتماعي، وبالتالي، تستمر هذه المظومات التربوية في العمل على فكر وأسسٍ نظريةٍ ومبادئَ وقيمٍ أكل الدهر عليها وشرب. مثل هذه المنظومات تعيش على هامش المجتمع، أو بالأحرى، تعيش في انعزالٍ تامٍّ عن هذا المجتمع. إضافةً إلى أنها تمتصُّ الأموالَ بدون فائدة.

فعوض أن تُساهمَ في التنمية البشرية، الاقتصادية والاجتماعية لهذه المجتمعات، فإن هذه المنظومات تصبح العائق الرئيسي لهذه التنمية. وهذا يعني أنها تدور في حلقة مفرغة cercle vicieux بمعنى أنها تنغلق على نفسها، وبالتالي، تصبح فريسةً للجمودية immobilisme والخمول léthargie. وبما أن هذه المنظومات لم تستوعب التغييرات التي تحصل في المجتمع وفي العالم، فإنها تتحوَّل إلى آلاتٍ ضخمة لتفريخ حاملي الشهادات ملتجأة من أجل ذلك لطُرقٍ وأساليب وتعليم تتماثل معها وأنهكها التقادم والإهمال.

ومن جهة أخرى، عندما نتحدث عن الواقع الاجتماعي، فإن الأمر لا يتعلق بوحدة مستقلة عن الفكر وتفرض نفسَها على العقل البشري. الواقع الاجتماعي هو مجرد إفرازٍ بناه الإنسان فكريا ثم عمليا. إنه ناتج عن تفاعل نفسي-اجتماعي-لغوي réactivité psycho-socio-linguistique بين أفراد مجموعة ما (مجتمع محدد). كل ما يتم فعلُه في إطار هذا التفاعل يتم بناءُه من طرف العقل البشري بكيفية فردية، وفي أغلب الأحيان، جماعية. وبعبارة أوضح، الواقع الاجتماعي هو بمثابة نظامٍ تفاعلي يشمل أشياءَ تتطابق معها معارف حصل في شأنها توافق من طرف أفراد المجتمع. وهذه المعارف، التي تم بناءُ جميع أجزائها من طرف العقل البشري، تمكِّن من التواصل communication داخل هذا المجتمع، وبالتالي، تسمح وتسهِّل اشتغالَه وعملَه.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الاشتغال هو، في الحقيقة، محكوم بنوعين من المعارف. من جهة، هناك المعارف الشائعة connaissances de sens commun، ومن جهة أخرى، هناك المعارف المعدة بدقة أي الناتجة عن البحث المنظم والمنسق connaissances scientifiques. إن هذا النوع الأخير من المعارف، عندما يتحوَّل إلى تطبيقات ملموسة، هو الذي يحدث تأثيرا على اشتغال المجتمع على المستويات الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي والعلمي والثقافي، الخ.

غير أنه في عصرنا الحاضر، فإن هذا النوع من المعارف لم يعد محصورا، كما كان الأمرُ في الماضي، على بعض الأشخاص المنعزلين. بل بالعكس، إنه موضوعَ إنتاجٍ منتظمٍ واجتماعي بكل ما للكلمة من معنى من طرف مؤسسات اجتماعية عالية التنظيم (جامعات، مراكز بحث). وهذه المعارف، بمجرد انتقالها بطريقة أو أخرى إلى المنشآت والمستوطنات البشرية (جماعات، أوساط سياسية، مقاولات، إدارات، قطاعات الإنتاج، قطاعات الخدمات، الخ.)، هي التي تُحدِث تغييرا في المنظر الاجتماعي. غير أن التأثير الذي تمارسه المعارف على هذا المنظر ليس أحادي الاتجاه لأن المؤسسات التي تُنتجه تستمد وجودها من المجتمع. وبعبارة أخرى، إن إنتاج المعارف الدقيقة ظاهرة اجتماعية تستجيب لحاجيات المجتمع من أجل تحسين اشتغاله، أي ليتمكَّنَ من الانتقال من طور تنموي إلى آخر يتميز بجديد أو قيمة مضافة أو تطوير أو تحسُّن، الخ.

وهكذا، فعندما نتحدث عن تغييرات الواقع الاجتماعي، فالأمر يتعلق بظاهرة بُنِيت كل أجزائها من طرف المجتمع. فالتغييرات المذكورة ناتجة إذن عن حركيةٍ أو دينامية اجتماعية dynamique sociale تنتهي بإدخال تجديدات وتقلُّبات وإعادات في النظر في مختلف قطاعات الحياة اليومية وفي أنماط عيش وفكر الناس. وخلاصة القول، فإن حركيةَ المجتمع تُفرز معطيات جديدة، الشيء الذي يكون سببا في ظهور حاجيات في التكوين للإحاطة بهذه الوضعية.

المشكل كل المشكل هو أن المجتمع يعمل ويسير ويتحرك حسب نموذج نشيط ومتسارع، بينما بعض المنظومات التربوية تشتغل حسب نموذج تطبعه الجمودية (سكوني، مقاوم أو رافض للتغيير). إذا كان المجتمع يجدِّد معارفَه التي بواسطتها يخلق تغييرات في الحياة اليومية، فتلك المنظومات التربوية تجد صعوبات كبيرة في التكيف مع هذا الوضع. وهذا معناه أن المنظومات التربوية الجامدة تتقوقع حول مضامين تعليمية تعود لعدة سنوات مضت وذلك في تباعد تام مع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية.

من هذا المنطلق، تجدر الإشارة إلى أن التَّعليم والتربية والتكوين وظائفٌ تحظى بالاهتمام المركزي للمنظومات التربوية بما في ذلك المنظومة التربوية المغربية. علما أنه، من المفترض، أن تُعتبرَ هذه الوظائف كسياق اجتماعي، أي كنظام تمت إقامته من طرف، من أجل و داخل المجتمع. و بعبارة أخرى، فإن هذه الوظائف، من المفترض، أن يكون لها، فضلا عن دورها في التثقيف، دور اجتماعي يكون بمثابة جسر يربط بين المدرسة والمجتمع.

غير أن العديدَ من المؤشرات يبيِّن أن هذا الجسر يسير نحو التلاشي إن لم نقل نحو الاندثار ليحلَّ محلَّه دورٌ آلي (ميكانيكي) يتمثل حصريا في تبليغ وتراكم المعرفة المنعزلة عن الواقع الاجتماعي. ومما لا شكَّ فيه أن هذا الدور الآلي، هو الآخر، يدفع المدرسةَ إلى التقوقع والانعزال، أي إلى التمأسس المُفرِط institutionnalisation excessive الذي يذهب إلى حد القطع الحاسم مع كل ما يجري أو يمارس في الحياة اليومية.

لإلقاءِ الضوء، من جهة، على انعزال المدرسة حيث المعرفة تكتسي طابعا تجريديا، ومن جهة أخرى، على انعكاسات هذا الانعزال على تكوين المتعلمين، يكفي أن نلاحظ الفرقَ الشاسعَ بين ما يتلقونه من معرفة داخل المدرسة وما يصادفونه من وضعيات في حياتهم اليومية.

أمام هذه الوضعيات، غالبا ما يجدون أنفسَهم عاجزين عن رد الفعل وإن حصل هذا الرد، فالتَّردُّد tâtonnement هو الذي يقوده في أغلب الحالات. ولا داعي للقول أن الأمثلة التي تُبرهِن على عقم المعارف المبلَّغة للمتعلِّمين عديدة ومتنوعة. هذه بعض النماذج منها :

1.في مجال الجيولوجيا، يتلقى المتعلم سيلا من المعارف عن مميزات وخاصيات الصخور، التي لا يجد لها أي مبرر عندما يصادف نفس الصخور في الطبيعة.

2.في مجال البيولوجيا، يَدرُس المتعلم تركيبَ وشِراحة anatomie وإيكولوجيا écologie ذلك النبات أو ذلك الحيوان، لكنه بعد خروجه من المدرسة، غالبا ما نراه يخرب الأول و يعتدي على الثاني.

3.في مجال التاريخ، تزخر ذاكرة المتعلم بالتواريخ المتعلِّقة بالأحداث والحروب والغزوات، الخ.، لكنه لا يعرف شيئا عن تاريخ المعرفة وعن النظريات والاكتشافات العلمية، الخ.

4.في مجال الفيزياء، يتلقَّى المتعلمُ الكثيرَ من المعلومات عن الظواهر الطبيعية كالحرارة والضغط والجاذبية والقوة والطاقة، الخ.، لكنه يعجز عن الجمع بين هذه الظواهر ليفسر مثلا تكوينَ السحاب أو الريح أو المطر، الخ.

5.في مجال الكيمياء، يتمُّ تبليغُ الكثير من المعارف للمتعلم عن المادة، عن حالاتها الثلاثة، عن الأملاح sels والأحماض acides والقواعد bases والعناصر الكيميائية éléments chimiques وعن كيفية تفاعلاتها وخاصياتها، الخ.، لكنه لا يعرف أي شيء عن الصابون الذي يغسل به جسدَه وعن المعجون الذي ينظِّف به أسنانَه أو العِِطر الذي يطيب به وجهَه ويديه.

لا يمكن للتَّعليم والتَّربية والتَّكوين أن يكونوا أدواتٍ للتحرُّر émancipation أمام مدرسة متحجرة sclérosée، منعزلة عن محيطها الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، أي مدرسة منغلقة على نفسِها ومُمَأسسة بإفراط. إن التَّحرُّرَ يتطلب مدرسةً متفتِّحةً على الحياة، أي تتفاعل مع محيطها على كل المستويات.

والتفتُّح على الحياة هو أن يُعتَبرَ المحيطُ كمختبر دائم تستمد منه المدرسة أسباب وجودها. إنه كذلك إنشاء جسر بين هذه المدرسة والحياة العملية لتمكين المتعلمين من الاندماج التدريجي في هذه الأخيرة.

وبعبارة أخرى، إن الوظيفة الاجتماعية المسندة للتَّعليم والتَّربية والتكوين يجب أن تذهب عادة إلى أبعدَ من مجرَّد التثقيف والتعليم، أي أن تُمكِّن المدرسةَ من أن تُربِّي وتكوِّن الشخصيةَ وتساعد المتعلمَ على استقلالية التَّعلُّم، الخ. وبإيجاز، أن تعلِّمَ المتعلمَ كيف يتعلَّم (التعلم الذاتي autoapprentissage) وتُعدُّه لاندماج فعال في المجتمع.

التَّعليم والتربية والتكوين والأنشطة المترتِّبة عنهم والأشخاص الذين يسهرون على تفعيلهم، يجب أن يُعتبَروا مكوِّنات متفاعلة لعالم اجتماعي مصغَّر الذي هو الممارسة التربوية التي، هي بدورها، جزء من نظام اجتماعي أوسع يتألف من القسم والمؤسسة والجماعة والمحيط الاقتصادي، البيئي، الخ.

وفي الختام وانطلاقا من التَّحليلِ السابق، من المؤكَّدِ أن المنظومةَ التَّربويةَ يراها المجتمع كأحد محرِّكات التنمية بجميع مظاهرها، وبالأخص، هي الضامن للنُّهوض بالتنمية البشرية. وإضافةً لهذا وذاك، المنظومة التَّربوية هي عامل من العوامل التي تقف وراء التَّحوُّلات التي تحدث في المجتمع. وكلما تحوَّل أو تطوَّرَ المجتمع من حسنٍ إلى أحسنَ، كلما ألحَّ على المنظومة التَّربوية أن تُسايرَ هذا التَّحوُّل أو التَّطوُّر. كما سبق الذكرُ، المجتمع صورة لمنظومته التَّربوية والمنظومة التَّربوية صورة لمجتمعها.

***

4- المنظومة التربوية والسياسة

لا معنى للسياسة إن لم يكن من بين أهدافها التنمية البشرية والاجتماعية. وهذا معناه أن هذه السياسة يجب أن تُحرِّكَها مبادئ أساسية تتجلى في نكران الذات وإعطاء الأسبقية القطعية للمصلحة العامة قبل المصلحة الشخصية. السياسة معترف بها ك"الطريقة التي يتم بها تسيير الشأن العام وتُدار بواسطتِها شؤونُ بلد ما".

فمن المفترض إذن أن يكرِّس السياسيون عملَهم لخدمة بلدِهم ويكون الصالح العام هو الخيط الناظم لأقوالهم وأعمالهم. غير أنه عندما تصبح السياسة وظيفةً سياسويةً، فإنها تنحرف عن معناها الأصيل، مُوجِّهةً في نفس الوقت ضربةً قويةً وقاضيةً للصالح العام. وهذا لا يعني أن السياسة لا يجب أن تتدخَّلَ في أمور المنظومة التربوية. بل من واجب السياسة أن تهتمَّ، من خلال أحزابها، ببناء وبتطوير وتحسين جودة وأداء هذه المنظومة.

وبعبارة أوضح، لا يجب على الإطلاق أن تُسجنَ المنظومة التَّربوية في حلَبة تطاحن إيديولوجياتِ الأحزاب السياسية خدمةً لمصالحها الضيقة. مصلحة البلاد وبناء مستقبلها رهينان بمنظومة تربوية عالية المستوى والجودة وفوق كل الإيديولوجيات الحزبية مهما كانت توجهاتُها. المنظومة التَّربوية أُنشِئَت لتقدِّمَ خدماتٍ لجميع المواطنات والمواطنين وليس لإرضاء إيديولوجؤات الأحزاب السياسية. ما هو مطلوب من الأحزاب السياسية هو تَركُ إيديولوجياتها جانبا وتقديم الحلول والمقترحات والبدائل للرُّقي بهذه المنظومة لتصبح رافعةً فعليةً للتنمية بجميع تجلياتها.

فإذا لم تساهم السياسة في تطوير المنظومة التربوية، وفي تحسينها ونجاحها في أداء مهامها، فإنها ليست سياسة مواطِنة. وإذا كانت هذه السياسة سيئة المقاصد، فإنها تسير نحو القضاء على روح الصالح العام وتدفع المواطنين إلى الانخراط في ثقافة الفردانية المادية. وهذا هو ما يجب تجنُّبُه عندما يتعلَّق الأمر بالمنظومة التربوية. وكنتيجةٍ لهذا السلوك السياسي غير المواطِن وغير المسئول، فإن المنظومةَ التَّربويةَ، كما هو الشأن بالنسبة للعديد من القطاعات العامة، تعاني من تدنِّي قيم المواطنة، الشيء الذي ينعكس على أدائها وجودتها وسمعتها واحتلالها مراتبَ متأخِّرة في التَّصنيفات العالمية. والدليل على ذلك، عدم الثقة الذي أصبح يخالج شريحةً كبيرةً من المواطنين إزاء المدرسة العمومية.

يجب أن تبقى المنظومة التربوية بعيدةً عن وفوق كل هذه التجاذبات السياسية. هدف المنظومة التربوية هو ضمان تعليم وتربية وتكوين ذريات progénitures المواطنين بصفتهم دافعو الضرائب contribuables. إنه حق يكفله دستور البلاد. والمؤسف في هذا الشأن، هو أن المنظومة التربوية، مند استقلال المغرب، كانت ولا تزال موضوع مزايدات مُضِرة آلت إلى إصلاحات لم تتصدَّ إلى عمق المشكلات. وفضلا عن ذلك، تاركة وراءها سلبياتٍٍ ورواسبَ تترسخ في الشأن التَّعليمي والتَّربوي وتنتقل من جيل إلى آخر.

في غالب الأحيان، كانت هذه الإصلاحات تتم على عجل بدون تشخيص مسبق ومعمَّق للوضع المراد إصلاحُه في المنظومة التَّربوية. من حينٍ لآخر، يتمُّ التَّركيزُ على لغة التدريس أو يتم استبدال مضامين التعليم بمضامين أخرى أو تؤلف مراجع مدرسية جديدة أو يتم الارتكاز على البداغوجيا أو يُعاد النظر في نظام الامتحانات، الخ. بدون تقييم مسبق. ولا داعي للقول أن أكبرَ ضحايا هذه التقلُّبات هم المتعلِّمون.

ما يمكن قولُه في هذا الصَّدد، هو أن مشكلات المنظومة التربوية لن يتمَّ التَّوصُّل إلى حلول لها في هذا النوع من الارتباك. بل بالعكس، لن يتم إلا تكديس المشكلات وإضافتها إلى تلك التي يُعتقَد أنه تم إيجاد حلول لها. المنظومة التربوية كل لا يتجزأ بمعنى أنها تشكل وحدة وظيفية unité fonctionnelle. كل محاولة لإصلاح هذه الأخيرة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الخاصية. بقاء واستمرار وجودة كل مكوِّن من مكوناتها رهين بوضع المكونات الأخرى. فإذا كان هذا المكون معطَّلا أو موضوعَ عجزٍ، فإن هذا التعطيل ينعكس على المكوِّنات الأخرى. المنظومة التربوية عبارة عن نظام بيئي يكون توازنه رهينا بسلامة وصحة العلاقات التي تربط بين مكوناته. دور السياسة هو تعزيز هذا التَّوازن وتقويتُه وتحصينُه من المُزايدات الإديولوجية الحزبية.

غير أن السياسيين وأحزابَهم، عوضَ أن يجعلوا من المنظومة التَّربوية عاملا من عوامل تقدُّم البلاد وازدهارها، فإنهم يغتنمونها فرصةً تصبح معها المنظومة التَّربوية عُرضةً للمزايدات والمساومات. كل حزبٍ يدَّعي بأنه من سيد العارفين ليُعزِّزَ مكانتَه في المشهد السياسي. وكل حزبٍ يدَّعي أنه أكثرَ مواطنةً من غيره لتبقى المنظومة التَّربوية رهينةَ سياسة سياسوية لا تغني ولا تُسمن من جوع. والدليل على ذلك أن منظومتنا التَّربوية خضعت، طيلةَ عقود ومنذ استقلال البلاد، لعدَّة إصلاحات ولا إصلاحٌ منها أتى أُكلَه. بل بالعكس، تعقَّدت الأمورُ وتراكمت المشاكل لتشكِّلَ حاليا غولا يصعب التَّصدِّي له. وما يُبيِّن ذلك، المراتب المتأخِّرة في التَّصنيفات العالمية ونتائج التَّحصيل المزرية التي يفصح عنها كل ثلاثة سنوات البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

وعوضَ أن تقودَ الأحزابُ السياسيةُ نقاشا فكريا، هادئا، رزينا ومسئولا، فإنها فضَّلت وتُفضٍّل، إلى يومنا هدا، أن تجعلَ من المنظومة التَّربوية وسيلةً لتحقيق أغراضٍ ضيِّقةٍ لا تفيد لا البلادَ ولا العبادَ ولا خروج المنظومة التَّربوية من ركودها المُزمن. وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن الأحزابَ السياسيةَ، عن طريق وسائل إعلامها، عوضَ أن تبرزَ أهميةَ المنظومة التَّربوية بالنسبة للبلاد، فإنها تدافع عن وِجهة نظر أحزابها وتقدِمها على أنها هي الصواب. كل النقاشات السياسية حول إصلاح المنظومة التَّربوية ليست عقلانية، أي ليس للعقل فيها مكان، حيث أن هذا العقلَ، من المفروض، أن يبيِّنَ للسياسيين أن مصلحة البلاد فوق كل اعتبار مهما كان.

والدليل على ذلك أنه لم نرَ،إلى يومنا هذا، حزبا سياسيا واحدا قدَّم لنا مشروعَ مجتمعٍ projet de société يُبيٍّن فيه، من ضمن أشياء أخرى، رؤيتَه sa vision لمنظومةٍ تربويةٍ مندمجة في المجتمع ونابعةٌ منه، عالية الجودة والمردودية. كل ما نجحت ولا تزال تنجح فيه أحزابُنا السياسية هو تحويل المنظومة التَّربوية من قضيةٍ مرتبطٌ بها مستقبلُ البلاد، إلى قضية سياسوية.

وهذا لايعني أن المنظومة التَّربوية يجب أن تبقى بعيدةً عن السياسة. لا أبدا! لأن المنظومة التَّربوية، كباقي قطاعات البلاد، يخضع تسييرُها لتدبير الشأن العام، أي أنها لا يمكن أن تخرجَ عن هذا السِّياق. لكن إذا كان من اللازم تسييسُها، فهذا التَّسييسُ يجب أن ينبعَ من المواطنة وحبِّ الوطن، لا أقلَّ ولا أكثر!

***

5 - أيةُ منظومةٍ تربويةٍ نريد؟

من أهمِّ المؤشِّرات التي تدفع الدُّولَ والحكومات إلى التَّفكير في إصلاح المنظومات التَّربوية، يأتي في المقام الأول البرنامج الدولي لتتبُّعِ مكتسبات التلاميذ Programme international pour le suivi des acquis des élèves PISA.

إن هذا البرنامج يُعدُّ بمثابة أداةٍ لقياس منجزات المنظومات التربوية والمكتسبات الأساسية التي يجب أن يتوفَّر عليها التلاميذُ على المستوى المعرفي بعد انتهاء مسارهم الدراسي الإجباري.

فعندما تكون المنجزات والمكتسبات تحت ما هو منتظرٌ، فهذا مؤشِّر إنذارٍ وتنبيهٌ يحثُّ على أن المنظومات التَّربوية تعاني من اختلالات يجب الوقوف عليها لإيجاد حلولٍ لها. وبعبارة أخرى، يجب إعادةُ النظر في خدمات المدرسة، في مهمتها، في كيفية اشتغالِها وبالأخص، في علاقتها مع المجتمع.

بالفعل، إن استعمالَ رائزَ PISA لا يهدف فقط إلى قياس حجمِ المعارف التي اكتسبها المُتعلِّمون ولكن كذلك كيف يتعاملون مع هذه المعارف في حياتهم اليومية. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للمعارف المدرسية (النَّظرية) أن تُصبحَ عناصر تُفسِّرُ الأوضاعَ التي يصادفُها المتعلِّمون في حياتهم اليومية. وهذه بعض أهداف برنامج PISAض:

-قياس إنجازات التلاميذ.
-دراسة مدى تحضير التلاميذ لحياة الكِبار
-الوقوف على العوامل الخارجية (الظروف الاجتماعية والاقتصادية) التي تؤثِّر على إنجازات التلاميذ...

غير أن نتائجَ برنامج PISA، رغم أهمِّيتِها في الوقوف على نجاعة ومردودية المنظومات التَّربوية، قد تكون غير كافية لإعادة بناء هذه المنظومات. وهنا، يجب أن لا ننسى أن المنظومةَ التَّربويةَ عبارة عن بِنيةٍ معقَّدة، وبالتالي، لا يمكن اختصارُها فيما يجري داخلَ الأقسام، أي حَصرُها في أنشطة التَّعليم والتَّعلُّم.

إن المنظومةَ التَّربوية عبارة عن نظامٍ سياسي-اجتماعي، هي الأخرى جزءٌ من نظام أوسع متمثِّل في الدولة. سياسي لأنه جزءٌ من السياسة العامة لهذه الدولة في مجال التَّنمية. اجتماعي لأنه أًنشِيءَ من طرف، في ومن أجل المجتمع. إنه إذن نظامٌ منبثقٌ من مجتمعٍ ينتظر من المدرسة أن تضمنَ استمرارِيتَه وتطوُّرَه.

ولهذا، فإن بناءَ أو إعادةَ النظر في منظومةٍ تربويةٍ ما، يجب أن ينطلقَ/تنطلقَ من ضرورة اعتبار هذه المنظومة ككُلٍّ متكاملٍ الأجزاء علما أن الهدفَ الأساسي هو تجديدُ هذه الأخيرة.

فما هي الشُّروطُ التي ستقود إلى هذا التَّجديد؟

فيما يلي، هذه بعض الشروط التي أعتبرُها شخصيا حاسِمة :

1.الشرط الأول: القطع نهائيا مع ممارسات وأساليب المنظومة السابقة لا من حيث أنشطة التَّعليم والتَّعلُّم ولا من حيث الحكامة.

وهذا يعني تبنِّي مدرسة جديدة لها مكانتُها في المجتمع علما أنه، بدون هذا التَّبنِّي، قد تعود الممارسات والأساليب القديمة للميدان، الشيء الذي قد يُعيقُ، كليا أو جزئيا، جدوى محاولات البناء والتَّجديد. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن العديدَ من البلدان عرفت مثلَ هذا الوضعَ من جراء المواجهة بين المتمسِّكين بما هو تقليدي traditionalisme ومَن ينادون بالحداثة modernisme.

2.الشرط الثاني: ما هي المكانة التي يجب أن تحتلَّها المدرسة في المجتمع؟

أو بعبارة أخرى، ما هي المدرسة التي نريد؟ هل نريد مدرسةَ التَّحرُّرِ والتَّفتُّح الفكريين والاجتماعيين والثقافيين وتكافؤٍ فعلي للفُرص أم مدرسةً تُنتِج أشخاصاً منمَّطين مع انعدامٍ لتكافؤ هذه الفرص؟ مدرسة تتفاعل مع المجتمع وبالأخص، مع التَّغييرات التي تحدث فيه، أحيانا بسرعة فائقة؟ مدرسة منفتِحة على محيطها القريب والبعيد تنهل منه سرَّ وجودها؟ مدرسة يتساكن فيها، بنجاعةٍ، التعليم والتربية والتَّعلُّم والتَّكوين؟ مدرسة تساهم في التنشئة الاجتماعية وفي تعلُّم المواطنة وحب الوطن؟

3.الشرطُ الثالث: أي مجتمع نريد؟

إذا افترضنا أن المجتمعات المتطوِّرة والمتقدّمة تتوفَّر على منظومات تربوية جيِّدة الأداء، الدول الأسكندينافية كمثال، يمكن أن نقولَ أن هذه المجتمعات نِتاجٌ لهذه المنظومات. كما يمكن أن نقولَ أيضا أن المنظومةَ التربويةَ صورةٌ للمجتمع الذي يحتضنها.

ولهذا، ليس بإمكاننا أن نُقارنَ بلدا نسبةُ الأمية فيه مرتفعة ببلد آخر نسبة المتعلِّمين فيه تقارب 100%! وهذا يجرُّنا إلى القول بأن المنظومة التربوية لها تأثيرٌ على تطوُّر (حضارة، تقدُّم) المجتمع. فبناءُ أو تجديدُ منظومةٍ تربويةٍ يقتضي أن يندمجَ المجتمعُ في هذه المنظومة والعكس. لكن مجتمع متوازن، مُنصف، متسامح، متضامن، متماسِك، مُتعلِّم، مثقف، مُتربِّي، ينقل قيماً إسانيةً، يُنتِج الثروةَ والقيمات المضافة، الخ. وباختصار، لبناء أو تجديدِ منظومة تربوية ما، يجب، بكل بساطةٍ، التَّوفُّرُ على مشروع مجتمع بما للعبارة من معنى.

4.الشرط الرابع: أي مواطن نريد؟

هنا حجر الزاوية لأن المواطنين الذين تُنتِجُهم المدرسة هم مَن يبنون المجتمعَ. فعلى المدرسة أن يتجسَّدَ فيها المجتمعَ كما يريده الجميع. تجسيدٌ يشمل محاسنَها وقيَمَها وقدراتِها بتنشئتها للمُتعلِّمين الذين هم مواطنو المستقبل. فما هي إذن مواصفات profil التي يجب تبنِّيها أو، بعبارة أخرى، على أية مواصفات يجب أن تُركِّزَ المدرسةُ لبناء مجتمع كما تمَّ وصفُه أعلاه؟

في نظري، مواصفات المواطن الذي نريد يجب أن تتمحورً، على سبيل المثال، على الاعتبارات التالية :

-تكوين مُتعلِّمٍ يتعامل مع المعرفة التي يتلقَّاها ليس كحقائق مطلقة ولكن كتفسيرٍ للواقع réalité وللظواهر المحيطة به.
-اعتبارُ المتعلِّم كفاعِلٌ/رافعةٌ للتنمية مستقبلاً وكأمل لمجتمعٍ نشيط.
-تكوين شخص حرٍّ، مُحترِما نفسَه والغيرَ ويتحلَّى بروح المسئولية.
-شخص يتمتَّع بحقوقه ويؤدي واجباتِه (مواطنة، حب الوطن والصالح العام).
-شخص متعلِّم، مثقف، متربي، متحرِّر، مُتفتِّح ويتوفَّر على فكر نقدي.
-شخصْ حاملٌ لقيمٍ اجتماعيةٍ كالتسامح ويميل إلى العمل الجماعي والتضامن.
-شخص مُنتِجٌ للقيمات المضافة، للثروة، للتَّقدُّم…

5.الشرط الخامس: أي نوعٍ من الممارسة التعليمية/التربوية نريد؟

انطلاقاً من نوع المجتمع والمواطن اللذان نريد، نحن ملزمون بتبنِّي ممارسة تعليمية/تربوية :

-تجمع، بامتياز، بين التعليم والتربية والتَّعلُّم والتّكوين.
-تكون منصِفةً وتُقلِّص أو تقضي على تفاوتات التَّعلُّم، وبالتالي، تضمن نجاحَ الجميع.
-مُسخَّرة للمتعلِّمين وليس العكس.
-تكون فيها المعرفة متفتِّحةً ليس فقط على الحياة ولكن كذلك وسيلة لتطوُّرِ ونموِّ المَلَكات الفكرية للمتعلِّمين.
-تُحفِّزُ على الفضول وأخذ المبادرة وعلى الاكتشاف…
-يكون فيها المتعلِّمُ شخصا نشيطاً، جريء و لِِمَا لا قوة اقتراحية.
-تسود فيها ثقةٌ متبادلةٌ بين المُدرِّس والمُتعلِّم.
-فيها نفعٌ للمدرسة، للمدرسين، للمتعلِّمين، للمجتمع، للبلاد…

لكن الممارسة التعليمية/التربوية تكون أكثرَ نفعاً إذا بدأ تفتُّحُ المتعلّمين وتحرُّرُهم منذ الصِّغر وبالضبط، أثناء مرورهم من مرحلة التعليم الأولي الذي يسبق مرحلةَ التَّمدرس الإجباري. في هذه المرحلة، فضلاً عن النمو النفسي الحركي، فإن الطفلَ يبني، من خلال اللعب، عاداتٍ تسير في اتجاه تنشئته الاجتماعية المقبلة كتطلُّعِه للاستقلال وقَبول الآخر وقَبول الاقتسام والاندماج في مجموعات والتَّعوُّد على الإبداع واكتساب العناصر الأولى للغة (التواصل)...

ولهذا، فإن المنظومةَ التربوية ستكون مُربِحةً إذا ما جعلت من مرحلة التعليم الأولي جزأً لا يتجزَّأُ من التَّمدرس الإجباري. في هذه الحالة، فإن الطفلَ، عندما يصل إلى المرحلة الابتدائية، يكون قد خطا خطواتٍ نحو تنشئتِه الاجتماعية ويكون له الاستعدادُ ليخطوَ نحو آفاقٍ جديدة من المعرفة والتَّعلُّم والتربية وبالأخص، نحو تقوية شخصيتِه.

6.الشرط السادس: أية مواصفات مُدرِّسٍ نريد؟

المدرِّسُ هو حجر الزاوية في بناء أو تجديد المنظومة التّربوية. فعندما نقول : "أية مدرسة نريد؟" و"أي مجتمعٍ نريد؟" و"أي مواطن نريد؟" و"أية ممارسة تعليمية/تربوية نريد؟"، فهذه اعتباراتٌ يجب أن تتجسَّدَ في المدرِّس من خلال تدخُّلاتِه في القسم ومن خلال علاقاته بالمتعلِّمين.

المدرِّس هو الجزء الأساسي الذي يمكِّن المدرسةَ من أداء مهمَّتِها على أحسن وجهٍ. إنه هو الذي يضع اللبنات الأولى لمجتمعٍ منصِفٍ، عادلٍ، متسامحٍ… من خلال ممارستِه التعليمية/التربوية وما تحملُه وتنقله من قِيمٍ. إنه هو الذي يسهر على تهييء المتعلمين ليكونوا مواطني الغد. إنه هو الذي يجعل الممارسة التعليمية/التربوية جذابةً، مفيدةً وذات نفعٍ. وفي هذا الصدد، لم يعد المدرس مجردَّ وسيلة لنقل المعرفة لكن كذلك باني حقيقي للمتعلِّم، لشخصيته، لمستقبلِه واندماجِه في المجتمع. وتوفيراً لِمَا يتطلَّبُه بناءُ أو تجديدُ المنظومة التربوية، المدرس هو ذلك الشخص الذي :

-يحمل التَّغيير ويؤمن بأهمِّبته.
-يتصرَّف في مدرسةٍ مواطِنة كمواطنٍ تتخلَّلُه نبرةُ حب الوطن والصالح العام، أي يتصرَّف كمثالٍ يُحتدى أو كقُدوةٍ بالنسبة للمتعلِّمين.
-يكون واعياً بأن دورَه لا يمكن أن يًختَصرَ في نقل المعارف. إنه، أولا وقبل كل شيء، مربِّي وناقلٌ للثقافة والقِيم.
-يكون على اطلاعٍ بالوظيفة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية للتعليم والتربية.
-يعتبر نفسَه كواحدة من الرافعات التي تساهم في التّنمية.
-له درايةٌ بخيوطِ مهنتِه من خلال تكوينٍ رفيع المستوى وبالأخصِّ، على درايةٍ بعلاقة هذه المهنة بالمجتمع، بالمنظومة التربوية، بمؤسسة انتمائه، بالأسرة، بالأخلاقيات، بالمسئولية…
-يتخلَّصُ من وضعِه المُعتاد الذي يجعل منه مالِكا للمعرفة، أي الشخص الذي يعرف وينطق بالحقيقة، الشيء الذي يساعِد على بَسطِ مناخ تسود فيه الثقة والحوارُ بينه وبين المتعلِّمين.
-يتقمَّصُ دورَ المنشِّط والمنسِّق والمًحفِّز والمسهِّل…
-يجعل من جودة خدماتِه داخِلَ القسم الخيطَ الناظمَ لممارستِه التعليمية التربوية.
-يأخذ مسافةً إزاء مهنتِه، تعليمِه وتدخُّلاتِه داخل القسم (تقييم ذاتي).
-يسعى دائما إلى تحسين تعليمِه وصورتِه بتَحيين ممارستِه معرفيا وتربويا.
-يتعوَّد على استعمال تكنولوجيات الإعلام والتواصل، وبالأخص، تلك التي تقوِّي جودةَ ونجاعةَ ممارسته التعليمية التربوية…

***

6- المنظومة التربوية والحكامة

بصفة عامة، تُعرَّف الحكامةُ gouvernance ك"الطريقة التي تُدبَّر، تُدار، تُسيَّر وتُقاد بها الشؤون العامة لبلد ما، لجماعة ما، لمقاولة ما، لوحدة ما، الخ."

والحديث عن حكامة المنظومة التربوية هو، في هذا السياق، "تدبير الشؤون العامة الخاصة بهذه المنظومة." وإذا كان هناك عجزٌ في الحكامة، من المفترض أن يتجلى حتما على مستوى تدبير الشؤون العامة السابقة الذكر. وهذا يعني أن التدبيرَ لم يتم حسب قواعده بسبب ضعفِ أو غيابِ المِهنية professionnalisme. وهذا هو ما يؤثر سلباً وبقوة على سيرورة واشتغال fonctionnement المنظومة التربوية، و بعبارة أخرى، على تدبير الشؤون العامة التي تتميز بها هذه المنظومة.

والشؤون العامة للمنظومة التربوية، بالتأكيد، عديدة وتراتبية hiérarchiques. وكيفما كان المستوى الذي يتموقع فيه هذا التدبير (سلطة عمومية، هيئات التنظيم، بنيات التنفيذ، الخ.)، فإن جودتَه يجب أن يكون هدفُها الرئيسي، ضروريا وإجباريا، هو تطوير وتحسين الممارسة التَّعليمية/التربوية، وذلك لسبب بسيط يتمثل في كون هذه الممارسة هي المكان الذي يتشكل فيه نجاحُ أو رسوبُ المتعلم الذي هو، من المفترض، الاهتمام المركزي للمنظومة التربوية. والمكان الذي يتشكَّل فيه نجاحُ أو رسوبُ المتعلِّم هو المؤسسة التًّعلمية.

في هذه الحالة، يُعدُّ تدبيرُ (ضمان حكامة جيدة) الشؤون العامة ضمانا لاشتغالٍ جيدٍ للمؤسسة التَّعليمية على الصعيد الإداري مع الأخذ بعين الاعتبار تفاعلاتها مع محيطها الاجتماعي، علما أن هذه المؤسسة التعليمية هي أهم مستوى لتنفيذ السياسة التربوية، أي لتطبيقها على أرض الواقع.

فيما يخصُّ المنظومة التربوية المغربية، يترتَّب العجزُ في الحكامة، داخلَ المؤسسة التَّعليمية وفي غالب الأحيان، عن إدراكِ وتمثُّلِ représentation مفهوم "الإدارة" في الوسط المدرسي. بصفة عامة، يتم إدراك هذا المفهوم كعلاقة تراتبية hiérarchique بين "مدير" directeur له سلطات و"مُدارين" administrés بينما من المفترض أن يُنظرَ لهذا المفهوم كمُكوِّنٍ للحكامة الجيدة حيث التراتب la hiérarchie ضرورةٌ يقتضيها التنظيم.

إن هذا الوضع، كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك، ناتجٌ عن غياب المِهنية أو التأهيل qualification خصوصا عندما يتعلَّق الأمرُ بالمديرين (المسؤولون عن المؤسسات التعليمية). الحديث عن غياب المهنية أو التأهيل يساوي غياب تكوين ذي صلة.

الملاحظُ هو أن تدبيرَ شؤون المؤسسات التعليمية يُسند، في غالب الأحيان، إلى مدرسين اعتمادا على معايير تعطى فيها الأسبقيةُ إلى الأقدمية، علما أنه إذا كان الشخصُ مدرِّسا مقتدرا، فهذا لا يعني أنه، في نفس الوقت، إداري جيد. إن المهمة الأساسية للمؤسسات التعليمية هي توفير خدمات في مجال التربية والتعليم والتعلم لذريات progénitures المواطنين. لكن ما هو أساسي أكثر، هو نجاحُ هذه المهمة علما أن صفةَ "مدرس جيد" ليست كافية إذا اقتصرت على تكوين بيداغوجي محض.

في هذا الصدد، من الضروري أن يكونَ أي مسؤول عن مؤسسة تعليمية ملمّاً ومحيطا بمقتضيات ومواصفات مهنته. إنه ليس فقط مدير بالمعنى التَّراتُبي، الحصري والتَّقليدي للكلمة. إنه كذلك بيداغوجي، مربي، مُرشد، حَكَمٌ، الخ.
و فضلا عن تكوينه في مجال التدريس، من المفيد جدا أن يُدعَّمَ هذا التكوين بأهم أبجديات مختلف مجالات علوم التربية (ما هي المنظومة التربوية، ديداكتيك، علم اجتماع وفلسفة التربية، علم النفس التربوي، التقييم، التنطيم والتشريع المدرسيان، الخ.). الكل يجب أن يُتوَّجَ بتكوين في التسيير (علم الإدارة : تدبير المال، الوقت، الموارد البشرية، الحياة الثقافية، الصراعات، العلاقات مع التراتبية hiérarchie، مع المحيط الخارجي، أباء وأولياء التلاميذ، تقنيات التواصل، تسيير الاجتماعات، التنشيط، الخ.).

ومع ذلك، فإن وظيفةَ التسيير يمكن أن تكون غير ناجعة إذا كانت المهام والأدوار والتخصصات والمسؤوليات غير واضحة. وللتذكير، فإن الإدارات الجهوية والمؤسسات التعليمية تعد أدوات عمومية مكلفة بتطبيق السياسة التربوية، من خلال المدرسين. يجب أن يكون لكل أداةٍ من هذه الأدوات مجالُ تدخُّلٍ محدَّدٌ بتدقيق، تفاديا للتداخلات interférences التي قد تكون سببا في الاختلالات وفي ذوبان المسؤوليات (الكل مسؤول ولا أحد مسؤول).

وفضلا عن ذلك، فإن صفةَ مدبِّر (مدير) تقتضي أن يمتلك هذا الأخير صفاتٍ، من ضمنها، أخذ المبادرة، الإبداع والابتكار. وحتى يتمكَّن من استثمار هذه الصفات، من الضروري، أن يكون للمدبِّر هامشُ من الحركة (من الاستقلالية، من تقاسم اتخاذ القرار) ليتمكَّن من إنجاز مهامه كمدير لمؤسسة تعليمية. ولهذا، فإن الحياةَ المدرسيةَ، بمعناها الواسع، لا يمكن أن تخضعَ كلِّيا وحصريا لتعليمات وقرارات رسمية/مركزية. فلا بدَّ إذن أن يتمتَّعَ مديرُ المؤسسة التعليمية بهامشٍ من الاستقلالية في اتِّخاذ المبادرات. فإذا كانت المؤسسة التعليمية مكانا للتَّعليم والتَّعلُّم والتَّربية والتَّكوين، فيجب، كذلك، أن تكونَ مكانا لتفتُّح وتحرُّر المتعلمين (تحرير الطاقات، إظهار القدرات، تنمية المهارات والكفاءات، ميولات رياضية، فنية، الخ.). ومدير المؤسسة التعليمية، باتخاذ المبادرات وبتكاملٍ مع المدرسين، له دورٌ في هذا الشأن.

ولا داعيَ للقول أن وظائف التعليم والتَّفتح والتحرُّر لا يمكن القيامُ بها على أحسن وجه إلا إذا حظي المسؤولون عن المؤسسات التعليمية بمساعدة طاقم إداري مقتدر (إدارة بمعنى الحكامة، التسيير التربوي والمالي، الحياة المدرسية وتسيير الموازية، الدعم النفسي التربوي، الانفتاح على العالم الخارجي، علاقة الأسرة-مدرسة، الخ.) تُوزَّع عليه المهام بالتدقيق.

المؤسسات التعليمية عبارة عن أماكن يُشكَّل فيها مستقبلُ المتعلمين. من هذا المنطلق، يجب تعبئةُ كل الوسائل لضمان نجاحهم (تمويل ملائم، موارد بشرية عالية التأهيل، وسائل عمل مناسبة وكافية، تحفيزات، حياة مهنية جذابة، الخ.) علما أن أولياء التلاميذ، عندما يُرسِلون بناتِهم وأبناءَهم إلى تلك المؤسسات، لا يتصورون بديلا آخر عن النجاح.

ولهذا السبب، من المفروض والضروري أن تُشكِّل الحكامةُ الجيدةُ أولويةً في السياسات التربوية. وعليه، من المفترض أن لا تُعتبرَ قط وظيفةُ تسيير (وظيفة مدير) المؤسسات التعليمية كترقية للمدرسين (أقدمية). بل يجب أن تُعتبَرَ كوظيفةٍ قائمةٍ بذاتها يقوم بها المدرِّسون الأكفاء، لكن بعد الخضوع لتكوين أساسي من مستوى جامعي يُتوَّج بشهادة خاضة. كما أنه يتوجَّب على السياسات التربوية أن تثمِّن هذه المهنة من خلال وضع نظام للرواتب وخطة لحياة مهنية يستقطبان كفاءات من مستوى عالي.

ومما لا شكَّ فيه أن المغربَ، كسائر بلدان العالم، يطمح إلى الرُّقي بوضعه الاقتصادي من بلد سائر في طريق النمو pays en voie de développement إلى بلدٍ صاعدٍ pays émergent ولِمَا لا، بعد عقود قليلة، إلى بلد متقدِّم pays avancé. ومما لا شكَّ فيه كذلك أن مستوى جودة حكامة المنظومة التَّربوية يستمدُّ وجودَه من جودَه حكامة المؤسسات التَّعليمية. وجودة حكامة المؤسسات التعليمية، تعليميا وتربويا، تُثمر متعلمين من المستوى الرفيع فكريا ومعرفيا. الكل له دورٌ حاسمٌ في تحوُّل المغرب من وضعٍ اقتصادي حسن إلى وضعٍ أحسنَ منه.

***

7 - المنظومة التربوية والمأسسة

كل شيء يخضع للمَأْسَسَة institutionnalisation في المنظومة التربوية، انطلاقا من السلطات العمومية التي تسهر على تنظيمها إلى أدنى تفاصيل الممارسة التربوية. حتى المعرفة التي تنقلها المدرسة مُمأسسةٌ حيث يتم تقديمها على شكل برامج ومراجع مدرسية منمطة ومفروضة من طرف الجهات الوصية.

إن هذه المأسسة، بطبيعة الحال، ضروريةٌ ما دامت تهدف إلى توحيد معايير تدبير المنظومة التربوية وإعطائها طابَعا و وُجودا رسميا وقانونيا. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن المأسسة المُفرِطة يمكن أن تشكِّل عقبةً أمام التغيير كما يمكن أن تكبحََ أو أن تقتلَ الابتكار والإبداع واتِّخاذ المبادرة.

مع مرور الوقت وإذا لم يحصل أي تغيير، وتحت ضغط الرتابة routine، يمكن للمأسسة أن تُفرزَ عاداتٍ وأعرافاً وطرقَ عملٍٍ وسلوكاتٍ وردودَ أفعال نمطية ولاإرادية غير مرغوب فيها تترسَّخ في المنظومة التربوية حيث قد تنتهي بإلحاق أضرار بالسيرورة الجيدة لهذه الأخيرة.

إن الأمرَ لا يتعلَّق بتاتا بتبخيس المأسسة ولكن بجلب الانتباه أن هذه الأخيرة، إذا تمَّ اللجزءُ لها بإفراطٍ، يمكن أن تكبح روحَ المبادرة والإبداع اللذان هما فعلا ضروريان لتشبيب المنظومة التربوية ولتجديد الممارسة التعليمية/التربوية. وعلى سبيل المثال، إن تمركزَ اتخاذ القرار يخلق مشكلةً تسيء للسيرورة الجيدة لهذه المنظومة وتُخضِِعها إلى ممارسات بيروقراطية غير مجدية تؤدي إلى ضياعٍ في الوقت وهدرِ الوسائل. وفضلا عن ذلك، إن التَّمركزَ يحد من مدى المسؤولية جاعلا إياها مقتصرة على سلطات الوصاية (متخذو القرار) حيث أن المكوِّنات الأخرى للمنظومة تشعر أنها أقلَّ مسؤولية، وبالتالي، أقل مبادرة وأقل ابتكار.

والابتكار وروحُ المبادرة والإبداع مميزات تتطلب منظومةً تربويةً مرِنةً لها القدرة على التكيُّف بصفة مُرضية مع التغيُّرات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا يعني أن هذه المنظومةَ، من المفترض، أن يُعاد فيها النظر بانتظام لتُحسِّن تموقعَها بالنسبة للمجتمع، لعالم الشغل، للإقتصاد، الخ. وإعادة النظر هذه يمكن أن يترتَّب عنها العديدُ من التساؤلات من ضمنها الأمثلة الآتية :

1.هل العلاقات القائمة، من جهة، بين المكونات التربوية والبنيات الإدارية، ومن جهة أخرى، بين هذه الأخيرة والسلطة التنظيمية، مُرضية؟
2.هل اتخاذ القرار سيظل مركزيا أو سيتم اللجوء إلى لاتمركز جزئي وتدريجي؟
3.ما هو مستوى الاستقلالية (إداريا، تربويا، ماليا، الخ.) الذي يمكن تخصيصُه للبنيات المكلفة بتنفيذ السياسة التربوية لتضطلع بأكبر قدر من المسؤولية وتحفيزها على أخذ المبادرة؟
4.ما هو الدور الذي من الممكن أن تلعبَه الجماعات المحلية في المساهمة في تحسين أداء المنظومة التربوية؟
5.هل من الممكن أن تكون الجهوية مفيدة للمنظومة التربوية؟ إذا كان الجواب إيجابيا، كيف يمكن أن تُترجَمَ هذه الفائدة على أرض الواقع؟
6.هل ستبقى المدرسة منغلقة على نفسها أو أنها ستنفتح على العالم الخارجي وبالأخص، على الأوساط التربوية الأخرى والأسرة؟
7.هل ستحتفظ البنيات التربوية بشكلها الحالي من حيث 1) علاقات مدرسون-متعلمون 2) جودة البرامج والطرائق البيداغوجية والتقييم؟ 3) كيفية التعامل مع البرامج؟ (هل سيحتفظ بالحواجز التي تفصل التخصصات (المواد) أو سيتم الاتجاه إلى تكامل هذه التخصصات؟)
8.ما هي الإجراءات التي يلزم اتخاذُها لإعادة المتعلم (كإنسان، مواطن المستقبل المسؤول وليس كفرد عابر) إلى صلب العملية التعليمية-التعلمية؟ الخ.

كل واحد من هذه التساؤلات يتطلب لوحده دراسة بأكملها. كل ما يمكن قوله هو أن المأسسة المفرطة هي، بكيفية أو أخرى، مسؤولة عن الخمول والبيروقراطية اللذان يصيبان بعض بنيات المنظومة التربوية، وبالأخص، تلك التي تدبِّر الحياةَ اليوميةَ للمدرسة.

أقول وأُعيد وأُكرِّر أن الغرضَ من هذه المقالة ليس الطَّعن في المأسسة. هذه الأخيرة ضرورية لتنطيم المنظومة التَّربوية وجعلها تخضع لمعايير وقوانين موحَّدة، وجعلها كذلك تتماشى مع متطلَّبات السياسات التَّربوية ومع متطلَّبات وطموحات وتطلُّعات المجتمع. لكن، كما سبق الذِّكرُ، لا يجب أن يتمَّ اللجوءُ لها بإفراط. والمقصود هنا، هو أن يُعطَى للمؤسسات التَّعليمية وللمدرِّسين هامشٌ من الحركة أو، بالأحرى، هامش من التَّصرُّف لتفجير قدرات المُشرفين على المؤسسات التَّعليمية والمُدرّْسين على اتِّخاذ المبادرة وعلى الإبداع والابتكار. ويتعلَّق الأمرُ هنا باقتراح أنشطة تستجيب لرغبات وتطلُّعات المتعلِّمين سواءً كانت فكرية، معرفية، تربوية، ثقافية، اجتماعية، ترفيهية، بيئية، فنية… على أن لا يُمتحنوا فيها.

وعندما أتحدث عن اقتراح أنشطة، فالمقصود ليس الأنشطة الموازية activités parascolaires. المقصود هو تخصيص حيِّزٍ من الزمن يُقتطَعُ من الزمن المخصص للأنشطة التَّعلمية التَّعلُّمية داخلَ الأقسام.

ومما لا شكَّ فيه، والتَّجربة بيَّنت ذلك، أن هذه الأنشطة لها وقعٌ إيجابي على مردودية المتعلَّمين وعلى تنشئتِهم الاجتماعية. بل قد تؤدِّي إلى اكتشاف مواهب talents لم تكن في الحُسبان. وفضلا عن اكتشاف المواهب، إن هذا النوعَ من الأنشطة يقود إلى إغناء معارف المتعلِّمين وصقل كفاءاتهم وتعويدهم على تحمُّل المسئولية. علما أن كلَّ ما يختاره المتعلٍّمون عن طيب خاطر وغير محسوب على البرامج التَّعليمية المُقرَّرة، سيوفِّر لهؤلاء المتعِلمين قسطا من الأوقات المُمتِعة.

هنا، لا بد من التَّذكير أنه، بالنسبة للمتعلِّمين، لا شيءَ يُساوي شعورُهم (فرحتُهم) بالرغبة في التَّعلُّم le plaisir d'apprendre، سواءً أثناء الأنشطة التَّعليمية/التَّعلُّمية المقرَّرة أو سواءً أثناء ما أقتَرحُه من أنشطة أخرى. وتزداد فرحتُهم إذا وجدوا مَن ينقلهم من مرحلة "الرغبة في التَّعلُّم" إلى مرحلة "مسرَّة أو فرح الفهم والإدراك". هنا، يبرز دور المدرس والمدرسة.
المدرس، عليه أن يستعملَ كل الوسائل المتاحة، أولا، لتقوية "الرغبة في التَّعلُّم"، ثانيا، لنقل المتعلم من هذه الرغبة إلى فرحة الفمه والإدراك. أما المدرسة، فدورها هو توفير الظروف الازمة لاستدامة هاتين الرغبة والفرحة.

***

8- المنظومة التَّربوية والمردودية

تتمثَّل مردوديةُ rendement/rentabilité أية منظومة système (مالية، صناعية، تجارية، فلاحية، خدماتية، اجتماعية، تعليمية، ثقافية…) في تناسب proportionnalité مُدخلاتها inputs، أي ما تستهلكه من أموال وطاقات بشرية وعمل و وقت…، مع ما تفرزه من نتائج أو مُخرجات outputs عند نهاية فترة من الزمن. وعندما تكون المدخلات متناسبة proportionnelles مع المخرجات، نقول "إن المنظومة لها مردودية مُرضية rendement satisfaisant. ولقياس مردودية المنظومة التَّربوية، تلجأ الوزارة الوصية إلى البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA كل ثلاثة سنوات، بالنسبة لتلاميذ مرحلة التعليم الإجبارية التي تشمل التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي.

المردودية الجيدة للمنظومة التربوية رهينة بترابط دواليبها (مكوناتها) علما أن العنصر البشري يلعب دورا حاسما في جودة و نجاعة هذا الترابط. وهذا يعني أن العنصرَ البشري، السابق الذكر، من المفترض أن تُحرِّكَه، أثناء القيام بمهامه، قِيم التنافس والتسابق وحب الصالح العام بعيدا عن كل اعتبارات سياسية-سياسيوية وعن كل صراعات و شِجارات انحيازية.

المنظومة التربوية المغربية مِلك لجمبع المواطنات والمواطنين. إنها الضامن لتربية وتكوين الأجيال الحاضرة والآتية وكذلك لتحرُّرهم الشخصي. لا أحدَ له الحق في عرقلة مهمتها السامية من خلال مُصادرتها لأغراض إيديولوجية، فئوية أو عقائدية. إنها قيمة القيم يرتبط بها مستقبلُ وتقدمُ الوطن وتنميتُه الاقتصادية والاجتماعية. والدليل على ذلك، الأهمية الكبيرة التي توليها الدولة المغربية للتربية والتكوين باعتبارهما الأولويةَ الثانيةَ بعد الوحدة الترابية للبلاد.

مؤمنة بنُبل هذه القضية، ضخَّت ولا تزال تُضِّخ الدولة المغربية أموالا طائلة في المنظومة التربوية. ومع ذلك وعلى امتداد عقود، بدا واضحا أن التمويل وحده غير كاف لضمان سيرورة جيدة لهذه المنظومة. هناك اعتبارات ذات طابع كيفي (نوعي) لها وقع، وإلى أبعد حد، على نجاح هذه السيرورة. وإذا عانت المنظومة من عجزٍ في الحكامة أو من اختلالٍ في العلاقات التي تربط مكوناتِها أو أيضا من غيابٍ في شفافية السياسات التَّعليمية/التَّربوية، فإنها لن تفرز النتائج التي ينتظرها الجميع (سلطات، شعب، مجتمع، أُسَرٌ، متعلمون…).

وبكل أسف، هذا هو ما حدث ويحدث بالمغرب منذ عدة عقود علما أن حجمَ الأموال التي تمتصها المنظومةُ ضخمٌ وقد يبلغ، من سنة إلى أخرى، ربع ميزانية الدولة. إن هذا المجهود المالي الهائل يُعتبر كاستثمار من المفروض أن يُترجمَ إلى رسملةٍ capitalisation على مستوى تكوين كفاءات قادرة على الاندماج في النسيج الاقتصادي والاجتماعي وذلك بخلق قيمات مضافة وثرواتٍ تصبُّ في تنمية البلاد.

وما يُلاحَظ رغم الانخراط المالي الهائل للدولة، هو التباعدُ الصارخُ بين المُدخلات inputs التي تغذي المنظومة والمخرجات outputs المُفرَزة التي هي دون الانتظارات وبكثير. و لا داعي للقول أن هذه المخرجات تُتَرجم على أرض الواقع بإنتاج جحافل من حاملي الشهادات غير مؤهلين لدخول سوق الشغل، الشيء الذي يجعل منهم عبئا ثقيلا على المجتمع والأسر، علما أنهم، كذلك، يُشكِّلون هدرا كبيرا في الرأسمال البشري. وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن المنظومة التَّربوية تُفرز هدرا آخر يتمثَّل في مغادرة أعدادٍ هائلة من المستفيدين من خدماتِها (أطفال، مراهقون، شباب) قبل نهاية دراستهم ودون الحصول على أية شهادةٍ.

إن أسباب هذا الهوة، التي أقل ما يُقال عنها أنها غريبة، بين المجهودات المبذولة في عالية amont المنظومة والنتائج المحصَّل عليها في سافلتها aval، كثيرةٌ، معقَّدة ومتداخلة لها علاقة وطيدة بعجز déficit في الحَكامة gouvernance الذي قد يكتسي (أي العجز) طابعا سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، مفاهيميا، مؤسسيا، ديداكتيكيا، الخ.

السياسة وأحزابُها، في هذا البلد السعيد، أفسدت كل شيء. ورائحة هذا الفساد تُشمُّ من بعيد. وأينما حلَّت وارتحلت تنقل معها هذا الفساد. ولو كانت هذه السياسة وأحزابُها مواطِنةً وتعمل من أجل صالح الوطن، لانتهينا من إصلاح المنظومة التَّربوية منذ زمان وتفرَّغنا، فقط، لتحسين جودتها ومردودِيتها سنة بعد سنة. إلى حد الآن، لم تفلح السياسةُ في إصلاح المنظومة التَّربوية إصلاحا ينعكس إيجابا على مردودية هذه المنظومة.

على المستوى الاجتماعي، العجز في الحكامة تسبَّب في تراجع سمعة المدرسة العمومية لدى شريحة عريضة من الشعب المغربي. كما تسبَّبَ هذا العجزُ في تراجع قيمة المدرِّس داخلَ الجتمع. والأدهى والأمَرُّ هو أن هذا التَّراجُعَ خلَقَ نوعين من الأنظمة التَّعلمية : نظام تعليمي عمومي مجاني ونظام تعليمي خصوصي يُؤدَّى عنه. وقد أدى هذا التَّقسيم إلى اعتبار الأول من نصيب الفقراء أو لمَن يفتقرون إلى الموارد المالية للاستفادة من خدمات التَّعليم الخصوصي. أما الثاني، فهو من نصيب الأغنياء أو الناس القادرين على تحمُّل نفقات التَّعليم الخصوصي، علما أن جزأً من هؤلاء الأغنياء أو الميسورين فقدوا الثقةَ في النظامين. فراحوا يُرسلون بناتِهم أبنائهم إلى مدارس البعثات الأجنبية أو إرسالهم إلى الخارج. إلى حد الآن، سمعة المدرسة العمومية وسمعة المدرس تزداد سوءً.

على المستوى الاقتصادي، تسبَّب العجز في الحكامة في انعزال المدرسة عن محيطها، بصفة عامة، وعن محيطها الاقتصادي، بصفة خاصة. فعوض أن تُكوِّنَ أجيالاً حاملين لفكرٍ نقدي ومُنتِجين للثروة ولقيمات مضافة، فإنها تُنتِج أفرادا غرباء عن هذا المحيط وغير قادرين على الاندماج فيه. وعوض أن تُنتجَ رؤوسا جيِّدةَ التَّركيب têtes bien faites، فإنها تحشو هذه هذه الرؤوس بمعارفِها الجافة التي لا تصلح إلا للامتحانات. اقتصاد البلاد لا يسير ولا يُسيَّر بمثل هذه المعارف الجافة. اقتصاد البلاد في حاجة إلى عقول نيِّرة ومستنيرة قادرة على على الابتكار والإبداع والتَّكيُّف مع تقلُّبات هذا الاقتصاد. فعوض أن تكونَ المدرسةُ رافعةً levier للتنمية، من خلال خِرِّجيها، فإنها أصبحت هوَّةً مالية gouffre financier تلتهم الأموالَ بدون فائدة. إلى حد الآن، لا تزال الهوة، الفاصلة بين اقتصاد البلاد والمنظومة التربوية، كبيرةً.

على المستوى المفاهيمي، حدِّث ولا حرج! وفي هذا الصدد، كم هي عديدة المفاهيم التي تستعمل صبحَ مساء دون الإلمام الدقيق بمضمونِها. وعلى رأس هذه المفاهيم، يأتي "التَّعليم" enseignement و"التَّربية" éducation و"التَّعلُّم" apprentissage. هذه المفاهيم الثلاثة هي ركن الزاوية في أية منظومة تربوية. بل هي أساس وجود المدرسة وجوهر العملية التَّعليمية التَّعلُّمية، أي ما يجري داخلَ الأقسام. التَّعليم ينطلق من المدرس في اتِّجاه المتعلِّم، ويمكن اختزالُه في نقل المعرفة من المدرس إلى المتعلِّم. والتَّربية هي كل عمل يقوم به المدرس، من خلال عملية نقل المعرفة، لبناء شخصية المتعلِّم. أما التَّعلُّم، فهو كل جُهد يقوم به المتعلِّمُ لاكتساب المعرفة والكفاءات والمهارات والسلوكات… صحيح أنه لا يمكن التَّمييز بين هذه المفاهيم الثلاثة أثناء قيام المدرس بمهمَّته داخلَ القسم، لكن، من الضروري ومن واجب هذا الأخير أن يكونَ على علمٍ بمعنى ومضمون كل مفهومٍ على حدة. ويزداد الأمر تعقيدا عندما يتمُّ الخلطُ بين التَّربية éducation والبيداغوجيا pédagogie، أو بين البيداغوجيا والديداكتيك didactique.

التَّربية، كما سبق الذِّكرُ، تُساهم في بناء شخصية المتعلِّمين، بينما البيداغوجيا هي مجموع التدخلات interventions والسياقات processus والطرائق méthodes التي يقوم بها المدرس داخل القسم ليجعل التعليمَ يلعب، ليس فقط، دورَه التثقيفي، لكن كذلك وبالأخص، دورَه التربوي. أما الديداكتيك، فهي فرع من فروع علوم التربية. وبمعنى آخر، يمكن أن نعرِّفَها كعلم تدريس التخصصات (المواد) أو منهجية تدريس هذه التَّخصُّصات. ولكل تخصُّص ديداكتيك خاص به، فنقول مثلا ديداكتيك العلوم، ديداكتيك الرياضيات، ديداكتيك اللغات… بالطبع، إن هذا الخلطَ ينعكس، بطريقة أو أخرى، على مردودية المنظومة التَّربوية.

وخلاصة القول، إن المردودية المُرضية للمنظومة التَّربوية رهينةٌ بمستوى جودة الحكامة التي تُدارُ بها مختلف مكوِّنات هذه المنظومة. فعندما يحدث عجزٌ في هذه الحكامة، سواءً على المستوى التنظيمي أو التنفيذي أو الإداري أو التَّعليمي (تكوين المدرسين متجاوز أو غير مكتمل)، فإن مردوديةَ المنظومة التَّربوية تتأثَّر سلبا بهذا العجز. والنتيجة يُبيِّنها لنا برنامج PISA المشار إليه أعلاه، كل ثلاثة سنوات.

***

9 - المنظومة التربوية ومفهوم الإصلاح

المنظومة التربوية عبارة عن كلٍّ غير قابل للتجزئ بمعنى أنها تشكِّل وحدة وظيفية unité fonctionnelle تتداخل وتتفاعل مكوِّناتُها فيما بينها. القيام بإصلاح هذه المنظومة أخذاً بعين الاعتبار فقط مُكوِّنا واحدا أو عدة مكوِّنات بمعزل عن العديد من المكوِّنات الأخرى، هو بمثابة الخوض في عملٍ بإمكانِه أن يخَيِّبَ الظنَّ إن عاجلا أو آجلا.

والدليل على ذلك، منظومتنا التَّربوية خضعت، منذ استقلال البلاد إلى يومنا هذا، لعدة إصلاحات. ولا أحد من هذه الإصلاحات استطاع أن يُجوِّدَ أو أن يُحسِّنَ مُخرجات (نتائج) هذه المنظومة. وهو الشيءُ الذي يمكن تفسيرُه بأن هذه الإصلاحات، إما كانت انتقائية، بمعنى أنها تصدَّت لبعض المشاكل على حساب مشاكل أخرى قد تكون أكثر أهمِّيةً من الأولى. وإما أنها لم تذهب إلى عمق كل مشكلة على حدة وأهملت التَّرابط القائم بين هذه المشكلات سواء داخل المنظومة التَّربوية أو ارتباطا بالوسط أو المجتمع الذي تعمل فيه هذه المنظومة. على سبيل المثال، الهدر المدرسي له أسبابٌ قد تجد تفسيرا لها داخل ما يجري في الأقسام، لكنها قد تجد، كذلك، تفسيرا لها في ما هو اجتماعي واقتصادي.

الإصلاح لا يمكن أن يقتصرَ على تدخلات متقطعة، عَرَضِية وسطحية. الإصلاحُ عبارةٌ عن تغييرٍ في العمق. والتَّغييرُ في العمق يتطلَّب من المُصلحين أن يذهبوا إلى كُنهِ مكوِّنات المنظومة التَّربوية لوضع الأصبع على مكامن الخلل والانكباب فيما بعد على إيجاد حلول لها. ولا داعيَ للقول أن أية منظومة تربوية تستمد وجودَها من أسُسٍ نظرية، وإن صحَّ القولُ، من أسّسٍ فكرية تتمثَّل في توضيح غايات finalités هذه المنظومة.

فعندما يُراد إصلاحُ هذه الأخيرة، فإن الأمرَ يتعلَّق، بالأحرى، بانتقالٍ من أُسُسٍ نظرية متجاوزة كانت ترتكز عليها، في الماضي، المنظومة التَّربوية، إلى أُسُسٍ نظرية جديدة تتلاءم ومتطلًّبات الساعة. وغايات المنظومة التَّربوية هي، في الحقيقة، بمثابة أسُسٍ نظرية تحدِّد ماهيةَ ما تقوم به هذه المنظومة من مهام. كما تحدِّد علاقة المنظومة التَّربوية بالمجتمع وبالاقتصاد بجميع تجلياتهما. وفضلا عن كل هذا، فإن غايات المنظومة التربوية هي التي تحدِّد نوعية المواطن الذي يتوفَّر على كفاءات تليق بتطوُّر وتقدُّم المجتمع.

وفي هذا الصدد، فإن أية منظومة تربوية تسعى، حتما، إلى تكوين مواطن صالح ينفع نفسَه وينفع مجتمعَه. مواطن قادرٌ ، من خلال ما سيكتسبُه من كفاءات (معارف connaissances، تقوية الاستعدادات renforcement des aptitudes، مواقف attitudes)، تُساعده على الاندماج الناجع والناجح في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وفوق كل هذا وذاك، أن يكون مواطنا قادرا على أن "يتعلَّمَ كيف يتعلَّم".

ولا داعيَ للقول أن هناك كفاءات أخرى يجب أن تتوفَّرَ في مواطن المستقبل الذي تُنتِجه المنظومة التَّربوية، أذكر مثلا : القدرة على التَّواصل باللغة الأم وباللغات الأجنبية، المبادئ الأساسية في الرياضيات والعلوم والتِّكنولوجيات، الإلمام بكل ما هو رقمي numérique والذكاء الاصطناعي intelligence artificielle. غير أن أم الكفاءات هي التَّوفُّرُ على فكر نقدي esprit critique وعلى روح المبادرة والإبداع والابتكار esprit d'initiative, de créativité et d'innovation والتَّكيُّف مع الأوضاع adaptation aux situations …

وهو ما يُحتِّم على المُصلحين أن يُقاربوا الإصلاحَ بتبصُّر وبُعد نظرٍ وليس بشكل متسرِّعٍ يتمثَّل في التَّعاطي الآلي mécanique مع بعض مكوِّنات المنظومة التربوية وإهمال الأخرى. ولتجاوز هذه النظرة الآلية للأصلاح، يجب بكل بساطة مقاربةُ هذا الأخير بنظرة شمولية une vision globale وبَعْدَ تشخيصٍ متأنٍّ للوضع المُرادُ إصلاحُه دون إغفال التَّفاعلات والعلاقات القائمة بين مكوِّنات المنظومة التَّربوية، وبين هذه الأخيرة ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي.

من هذا المنطلق، يجب أن لا تُعتبرَ المنظومة التربوية ككِيانٍ مستقلٍ بذاته، وبالتالي، يمكن إصلاحُه من خلال فحصِه حصريا من الداخل. وللإشارة، فإن هذا النَّمط من الإصلاح هو الذي ساد في الماضي وأفصح، بعد مرور الوقت، عن عيوبِه وعن عدم نجاعته وذلك لأن الوضعَ الذي يُراد إصلاحُه، أي المنظومة التربوية، كانت غالبا ما تُعتبر كنظام مغلق وكتيم imperméable تنحصر مكوناته في الوسط المدرسي (بنيات تحتية، برامج تعليمية، مدرسون، معرفة، طرق ومعينات تعليمية، مراجع، امتحانات، متعلمون، تقييم، الخ.).

إن أي إصلاح لا يمكن أن يكون مقبولا على المستوى المفاهيمي إلا إذا استجاب، أولا، للحاجيات الداخلية لمنظومة ما، وثانيا، للإطار الواسع الذي تتواجد فيه هذه المنظومة، إذ لا يجب أن يغيبَ عن الأذهان أن هذه الأخيرة إفرازٌ اجتماعي، بمعنى أنها أُنشِئَت من طرَف المجتمع، فيه ومن أجله. وعليه، فإن الإلحاحَ على إصلاح المنظومة التربوية من الداخل فقط، هو بكل بساطة دوران في حلقة مفرغة لا تلبت، من وقت إلى آخر، أن تَلفظَ عيوبَها ونواقصَها.

وللإشارة، فإن كل نظام منعزل un système isolé، وهذا قانون فيزيائي (المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية deuxième principe de thermodynamique)، يسير نحو توازن يتمثل في الأنتروبيا القصوى entropie maximale، أي في أكبر مستوى من الفوضى désordre أو لاَنِظام حيث أن هذا النظام يصبح غير قادر حتى على الإبقاء على ترتيبه الداخلي.

هذا هو حال المنظومة التربوية المغربية التي، إذا أرادت أن تعود إلى حالة الأنتروبيا الدنيا entropie minimale، يجب أن تجدِّدَ ترتيبَها الداخلي علما أن هذا التجديد لن يكونَ فعالا إلا إذا خرجت المنظومة من عزلتها لترتبط بالترتيب الخارجي الذي يشملها والتي حتما تتفاعل معه. وبعبارة أخرى، للقيام بأي إصلاح، يجب أن توضَعَ المنظومة المذكورة في إطارها الحقيقي، أي أن تُعتبرَ كجزء من منظومة أكبر ومعقدة (المجتمع، النظام السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، الخ.) حيث ستخرج هذه المنظومةُ من عُزلتِها وتتفاعل مع إطارها الكبير الذي هو المجتمع.

ومما لا شكَّ فيه أن نواةَ أية منظومة تربوية هي المدرسة أو، بالأحرى، القسم وما تدور فيه من أنشطة تعليمية تعلُّمية هدفُها الأساسي هو تحقيق ما تمَّ رسمُه من غاياتٍ وكفاءاتٍ. وداخل هذا القسم، يتشكَّل تدريجيا مستقبل المتعلّمين، من بداية التحاقهم بالمدرسة إلى أن يُغادرونها مُحمَّلين بشهاداتٍ تُثبث جدارتَهم الكفيلة باندماجهم في الحياة الاجتماعية والعملية. وهذه الجدارة هي، في الحقيقة، نتيجةٌ للتفاعل القائم بين مُتعلِّمٍ، يُرادُ تكوينُه معرفيا وتربويا، ومدرسٍ يلعب دورَ مُبلِّغٍ للمعرفة، ومنشِّطٍ للعملية التَّعلمية التَّعلُّمية، وفي نفس الوقت، مُربِّي يساهم في بناء شخصية ذلك المتعلِّم.

ولهذا، فجودة أداء المنظومة التَّربوية لمهامها من جودة ما يجري داخل الأقسام من تفاعلاتٍ تعليمية، تعلُّمية وتربوية بين المدرس والمتعلٍّمين. وما يجري داخل الأقسام من تفاعلات هادفة وبنَّاءة، رهين إلى أبعد حدٍّ، بتكوين المدرسين تكوينا رفيع المستوى ومتعدِّد الجوانب، إضافةً إلى الاهتمام بهم معنويا، اجتماعيا وماديا.

فكل إصلاح لا يركِّز اهتمامَه، أولا، على ما يجري داخل الأقسام من نشاط تعليمي، تعلُّمي وتربوي، وثانيا، على تكوين المدرسين تكوينا رفيع المستوى ومتعدِّد الجوانب، يكون قد أهمل رَّكيزتين من أنجع ركائز نجاح المنظومة التَّربوية في أداء مهامها على أحسن وجه.

***

10- المنظومة التَّربوية والبحث في مجال علوم التَّربية

المنظومة التربوية عبارة عن مؤسسة اجتماعية. أُنشِِئَت من طرف ومن أجل وداخل المجتمع لتستجيب لحاجياته التَّعليمية والتَّربوية. وبما أن هذه الحاجيات تتطوَّر باستمرار بتطوُّر المجتمع، فعلى المنظومة التربوية أن تتكيَّف مع هذا التطور. وهذا يعني أن هذه المنظومة مطالبةٌ بتحسين أدائها بانتظام تمشِّيا مع هذا التَّطوُّر. وتحسين الأداء عبارة عن عملية تتطلب، عند تطبيفها على أرض الواقع، معرفةً معمَّقةً للمنظومة المذكورة. وتعميق معرفة المنظومة يتطلَّب، هو الآخر، تعبئة وسائل بشرية كفأة وأدوات عمل وتشخيص وتحرٍّ ملائمة.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المعرفة المعمَّقة للمنظومة التربوية هي مهمة طبيعية مُناطةٌ بالبحث في مجال علوم التربية. إن هذا البحث هو الذي يسبُر، أي يتوغَّل في أعماق وفي أغوار هذه المنظومة، أودعونا نقول يختبِرُها، ليبرز ما هي جوانب عجزَها ونواقصَها وثغراتِها. إنه، بامتياز، الوسيلة التي يجب أن يلجأ إلى نتائجها كلُّ المهتمِّين بصياغة السياسة الوطنية في مجال التَّعليم والتَّربية والتَّكوين، وكذلك المهتمين بتمويل هذه السياسة وتنظيمها وتنسيقها وتقنينها وتطبيقها على أرض الواقع…، أي المانحون (المُمَوِّلون) والمنظِّمون والتربويون والمُشرِّعون والمدرسون والمكلَّفون بالتقييم والسياسيون... لدعم وتبرير تدخُّلاتِهم لصالح المنظومة التربوية علما أن هذا البحث يجب أن يتم قبل اتخاذ القرار وبعد القيام بعمل ما لتنفيذه.
والبحثُ في علوم التَّربية هو فرعٌ من فروعِ البحث في مختلف مجالات العلوم الإنسانية. هدفُه الأساسي هو معرفةُ المنظومة التَّربوية معرفةً دقيقةً من أجل تحسين أدائها ومردوديتِها وإنجازاتها، وجعلها تستجيب لمتطلَّبات المجتمع بما فيها تنميتُه ثقافيا، اجتماعيا، أخلاقيا، إنسانسا، حضاريا، اقتصاديا، علميا، تكنولوجياً… وبعبارة أخرى، البحث في مجال علوم التَّربية يتناول بالدراسة مختلفَ جوانب التَّعليم والتَّربية والتَّكوين، وذلك، من خلال تخصُّصاتِه كتاريخ التَّربية histoire de l'éducation، وعلم اجتماع التٍَّربية sociologie de l'éducation، وفلسفة التَّربية philosophie de l'éducation، والإبستيمولوجيا épistémologie، وعلم النفس التَّربوي psychopédagogie، والتَّربية المُقارنة éducation comparée، والديداكتيك أو منهجية تدريس المواد didactique، والإدارة المدرسية administration scolaire، والسياسة التَّعليمية/التَّربوية politique de l'éducation، اقتصاد التَّربية économie de l'éducation، والتَّكوين المهني formation professionnelle، والتَّكوين المستمر formation continue، والتَّعليم والتَّربية الخاصان enseignement et éducation ،spécialisés والتَّقييم évaluation، وكل ما له علاقة بالممارسة التَّعليمية التَّعلُّمية التي تجري أطورُها داخلَ الأقسام…

وعلى ذكرِ ما يجري داخلَ الأقسام من تفاعلات بين المدرِّس والمُتعلِّمين، فالبحث في مجال علوم التَّربية هو الذي يتناول، بالدراسة والتَّمحيص، أساليبَ التَّدريس أو ما يُسمَّى بنظريات التَّعلُّم théories d'apprentissage التي يعتمد عليها كل ما هو بيداغوجي وديداكتيكي.

والبحث في مجال علوم التَّربية هو الذي يتناول، كذلك، بالدراسة والتمحيص، مَلَكَات الطفل والمراهق من حيث نموِّه الفكري developpement intellectuel ومن حيث قدرته على التَّعرُّف cognition، ناهيك عن علاقة المنظومة التَّربوية أو المدرسة بالمجتمع، بالأسرة، بمحيطها الاقتصادي…

بعد هذه التَّوضيحات، السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : ما هي المكانة التي يحتلُّها البحث في مجال علوم التًّربية في بلادٍ منظومتُها التَّربوية في حاجة ماسة إليه؟

فيما يخص المغرب، الجواب على هذا السؤال بسيطٌ للغاية : لم تُعطِ السلطةُ الوصيةُ والمُشرفون على السياسات التربوية، لا في الماضي ولا في الحاضر، للبحث في مجال علوم التربية الاهتمامَ اللازمَ حيث أن المنظومة التربوية ليست موضوع دراسات وأبحاث رسمية ومنتظمة بطلب من السلطات العمومية. وهذا وضعٌ يُعَدُّ غير عادي لأن المنظومة التربوية المغربية تفيض بالمشاكل والاختلالات في جميع مستويات اشتغالها son fonctionnement من حيث التنظيم واتخاذ القرار والتدبير والحكامة، الخ. إلى حد تفاصيل الممارسة التربوية، مرورا بتكوين مسؤولي المؤسسات المدرسية والمدرسين وطبيعة التقييم وتكامل المدرسة والمجتمع، والمدرسة والأسرة، الخ.

هل يُعقلُ أن تقومَ الدولةُ المغربيةُ بإصلاحٍ منظومتِها التّربوية في ظل غيابٍ تامٍٍّ للبحث في مجال علوم التًّربية أو بدون مساهمتِه؟ لماذا؟ لأن اتخاذ أي قرار، في إطار إصلاح هذه المنظومة، يكتسي أهمية بالغة، وفي نفس الوقت، يَعدُّ مسؤولية كبيرة. علما أن كلَّ قرار غير مستنير وغير مدعَّم بأدلة علمية مستمَدَّة من البحث قد يصبح، إن عاجلا أو آجلا، غير ملائم إن لم نقل مُضِرا بالمنظومة.

وما يثيرُ الاستغرابَ هو أن السلطةَ الوصية لم تتساءل أو لم تُكلِّف نفسَها عناءَ التَّساؤل عن سبب أو أسباب فشل الإصلاحات المتتالية التي خضعت لها المنظومة التَّربوية! وعوض أن تطلُب من الباحثين أن ينكبوا على سبب أو أسباب هذا الفشل، فإنها قرَّرت تراكُبَ superposition الإصلاحات متجاهلةً وجودَ شيءٍ اسمُه البحث في مجال علوم التًّربية. فكيف للدولة أن تمرَّ من إصلاح إلى آخر دون أن تعرفَ سببَ فشلِ الإصلاح الذي قبله؟ والنتيجة المأساوية هو بقاء المنظومة التَّربوية على حالِها، هذا إن لم تتراجع إلى الوراء. وهو ما تبيِّنه، بانتظامٍ، المرتبات المتأخِّرة التي تحتلُّها منظوتُنا التَّربوية في التَّصنيفات العالمية. وهو، كذلك، ما يُبيِّنه البرنامج الدولي لتتبُّع مكتيبات التلاميذ PISA، من ضعفٍ في مُكتسبات التلاميذ المغاربة في مجالات القراءة والكتابة وفَهمِ النُّصوص والمبادئ الأولية في الرياضيات والعلوم.

ما أعرفُه أنا شخصيا، هو أن البلدان التي تتوفَّر على منظومات تربوية جيِّدة الأداء والنتائج، تتوفَّر، كذلك، على كليات ومعاهد ومدارس عليا متخصِّصة في البحث في مجال علوم التّربية، تُعدُّ الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها الدولةُ كلما أرادت أن تُدخِلَ تغييراتٍ على منظوماتها التَّربوية. وعلى رأس هذه البلدان، تأتي كندا ثم بلجيكا ثم سويسرا وفرنسا والولايات المتحدة.

قد يقول قائلٌ إن بلادنا تتوفَّر على "كلية علوم التَّربية". نعم وبكل تأكيد! لكن هذه الكلية لم يسبق أن تمَّ إشراكُها، من خلال البحث وبصفة رسمية، من طرَف السلطة الوصية في ما تُعانيه المنظومة التَّربوية من مشاكل. هذه الكلية، كان بالإمكان، أن تكونَ هي الداعِمُ الرَّسمي لِما تقوم به السلطة الوصية من إصلاحات، وكذلك، لِما يقوم به المجلسُ الأعلى للتربية والتَّكوين والبحث العلمي من أعمال.

وفضلا عن كل هذا، فإن هذه الكلية، كان بإمكانها أن تكونَ رائدا فيما يخصُّ تكييفَ المنظومة التَّربوية الوطنية مع كل ما يحدث من تقلُّبات وتحوُّلات في المجتمع المغربي على المستويات الاجتماعي، الاقتصادي والتَّكنولوجي…

باستثناء بعض البحوث التي يقوم بها بعض طلبة كلية علوم التَّربية على مستوى الماستر والدكتوراة، بمساعدة الأساتذة، فإن البحثَ في مجال علوم التَّربية، كمساندٍ للرَّفع من مستوى مردودية المنظومة التَّربوية وتجويد أدائها، غائبٌ، وفي نفس الوقت، مغيَّبٌ.

غائب لأنه لا يحظى بأي اهتمامٍ وتمويل من طرَف السلطة الوصية. ومغيَّبٌ لأن نفسَ السلطة لا تعيره أي اهتمام من أجل التَّدعيم العلمي لِما تقوم به من أعمالٍ وتغييرات وإصلاحات لصالح المنظومة التَّربوية. البحث في مجال علوم التَّربية، شأنُه شأنَ البحثِ في مختلف مجالات العلوم الأخرى، الدقيقة منها، الطبيعية والإنسانية، الذي لا يحظى باهتمام السياسات التنموية لا من حيث الإرادة السياسية ولا من حيث التمويل.

وغيابُ الإرادة السياسية ينعكس على تمويل البحث العلمي إذ، في أحسن الأحوال، لا يتجاوز هذا التَّمويلُ 1% من الناتج الداخلي الخام produit intérieur brut PIB، علما أن أكثرَ من 80% من هذا التَّمويل تذهب لأجور الأساتذة الباحثين. وإذا كان البحثُ العلمي الذي هو، في الحقيقة، رافعةٌ levier من رافعات التَّنمية بجميع مظاهرها وتدور جلُّ أطواره في مختبرات الجامعات المغربية، لا يحظى باهتمام السلطات العمومية، فما بلك بالبحث في مجال علوم التَّربية الذي لا يشكِّل إلا جزأً ضئيلا بالمقارنة مع البحث العلمي الجامعي! فهل حرَّك حزبٌ سياسيٌّ واحدٌ ساكنا؟ سؤالٌ لا يحتاج إلى جواب!

***

11- المنظومة التربوية وأخلاقيات المهنة

المنظومة التربوية، كمفهوم، عبارة عن مجموعة متناسقة من الهيئات والبنيات والوسائل المنتمية للقطاع العام والخاص والتي تمكِّن أعمالُها وتفاعلاتُها من صياغة وتنفيذ السياسة الوطنية في مجال التَّعليم والتربية والتكوين علما أن المؤسسات التعليمية والمدرسين يُعتبرون حجر الزاوية في هذه المجموعة.

والمؤسسات التعليمية عبارةٌ عن وسطٍ تنشط وتتفاعل بداخله باستمرار جماعاتٌ بشريةٌ تتمثَّل في هيئة الإدارة، في هيئة التدريس وفي المتعلمين. كما أن هذه الجماعات البشرية تتفاعل بدورها مع محيطها، وبالأخص، مع أسر هؤلاء المتعلمين وجمعيات آباء وأولياء هؤلاء المتعلمين.

وحتى تقومَ بأدوارها على أحسن وجه، فرضت الجماعات السالفة الذكر على نفسِها ما يُسمَّى بمساطرَ أو قواعدَ (قانون) المهنة code de .déontologie ومجموع هذه المساطر أو القواعد هو، في الحقيقة، عبارة عن مجموع حقوق و واجبات تُسيَّر بواسطتها إدارةُ وممارسةُ مهنةِ التَّعليم وتُحدِّد سلوكَ الجماعات البشرية المتفاعِلة فيما بينها في الوسط المدرسي تفادياً للتجاوزات والاختلالات والانحرافات. قواعد ومساطر تخدم الصالحَ العام المدرسي وتتطلب من الجماعات البشرية المتفاعِلة فيما بينها أن يسودَ بينها احترام متبادل.

غير أن الواقعَ، داخل المؤسسات التعليمية، غالبا ما يختلف عن ما هو مطلوب من احترام متبادل حيث تظهر، من حين لآخر، تجاوزات واختلالات وانحرافات يكون وراءها أحدُ الأطراف المتفاعلة في الوسط المدرسي.
والحديث هنا عن مساطر أو قواعد السلوك لن يتعلَّقَ بالصفات والقيم مثل المواطنة، الإخلاص، التضحية، الانضباط، الحيوية، احترام الآخر، روح الواجب، نكران الذات، الخ. التي يجب أن تميز الهيئة الإدارية وهيئة التدريس، والتي هي ضرورية، لا محالة، لإنجازٍ جيِّدٍ لمهام هؤلاء وأولئك. سيتعلق الأمر، بصفة خاصة، بالَتجاوزات والانحرافات التي تسيء لسُمعة ومصداقية المنظومة التربوية.

وفي هذا الصدد وللتذكير، إن مهمة المُدرِّس لا تنحصر، فقط، في التثقيف ونقل المعارف. المدرس، أولا وقبل كل شيء، مربي (بمعنى أنه يساهم في بناء شخصية المُتعلِّم) من خلال تعليمه. فبِواسطة سلوكه كمربي، إنه يساهم في تحسين صورته وصورة مؤسسة الانتماء وكذلك صورة المنظومة التربوية.

ولعل أحسن قاعدة يجب أن يتميَّزَ بها سلوك المدرس، كمربِّي، احترامُه لمبدأ تكافؤ الفرص الذي هو ركيزة من ركائز المنظومة التربوية والذي على المدرس، بصفته مربيا، أن يدافع عنه بقوة قولا وفعلا. وتحقيقا لهذا الدفاع، عليه أن يبذل المجهودات الضرورية لوضع المتعلمين على قدم المساواة من خلال تعليمه. ولهذا الغرض، فهو إذن مطالبٌ أن تكون لديه معرفةٌ شخصيةٌ عن المتعلمين ليتمكن من مساعدتهم عندما تصادفهم صعوبات في مسارهم التَّعليمي والتَّعلُّمي.

غير أن واقعَ الوسط المدرسي بيَّن ويبيِّن، ومنذ عدة سنوات، أن مبدأ تكافؤ الفرص لم يعد محلَّ احترام، كما كان في الماضي، لعدَّة أسباب منها على الخصوص تنامي ثقافة الدروس الخاصة (الإضافبة).

عادة، وهذا حق مشروع، أولياء التلاميذ هم الذين يَدعون المدرسين لإعطاء دروس شخصية لبناتِهم ولأبنائهم. لكن عندما يكون المدرسون هم الذين يحثون، يدفعون إن لم نقل يُجبرون المتعلمين على الخضوع لمثل هذه الدروس، إن الأمر يصبح مُقلقا. مقلقا، لأن الظاهرةَ أصبحت تكتسي طابعا بنيويا وتوجِّه ضربةً قاضية لسمو ونبل مهمة المدرس، وفي آن واحد، لمبدأ تكافؤ الفرص.

وبما أن الأسرَ الميسورة هي التي لها القدرة على تسديد واجبات هذه الدروس، إن هذه الممارسة تخلق عدم توازن في التَّحصيل داخل الأقسام من خلال المس بمبدأ تكافؤ الفرص. وفضلا عن ذلك، إن هذا الوضعَ المخالفَ للأخلاق والأدبيات، ترسَّخ و تجذَّر في المشهد المدرسي إلى حد أنْ أصبح يؤرق الأسرَ، وبالأخص، تلك التي لا تملك الوسائل المادية للولوج إلى هذه الدروس.

إن الوسط المدرسي، الذي هو أصلا حاملٌ وناشرٌ لقيمٍ إنسانيةٍ وسامية بامتياز، أصبح مكانا للمتاجرة واستغلالٍ دنيء للظروف الاجتماعية للمتعلمين. في هذه الحالة، نوعان من التعليم يتساكنان في نفس المؤسسة التعليمية : التعليم العمومي، المشروع، النظامي والمفتوح للجميع مجانيا وباسم تكافؤ الفرص، وتعليم خاص، غير نظامي وغير مشروع (ليس هناك قانونٌ ينظِّمه)، مفتوح حصريا لأولائك الذين لهم الوسائل لشرائه. حينها، يُفتَح البابُ لخطرِ حلول المحسوبية والتفضيلية بالوسط التَّعليمي، واللتان قد تصبحان معاييرَ للنجاح المدرسي.

إن هذا الوضعَ، المنافي لغايات ومبادئ المنظومة التربوية، هو خرقٌ لأخلاقِيات ولأَدبيات المهنة ولنُبل وظيفة التعليم. فعِوض أن يأخذ المدرس، أثناء أداء مهمته، بعين الاعتبار الفوارقَ بين المتعلِّمينن، فإنه يقويها. وعوض أن يتتبَّع عن كتب المسارَ الدراسي للمتعلمين، فإنه يقويه عند البعض على حساب البعض الآخر. وباختصار، يضحي بمبدأ تكافؤ الفرص تفضيلا للجشع والطمع.

ما العمل إذن أمام هذا الوضع الذي يُفسِد، نوعا ما، المنظومةَ التربوية؟ أو بعبارة أخرى، في أي مستوى يوجد الضُّعفُ أو الخللُ الذي يسمح باللجوء إلى الدروس الخاصة؟ هل على مستوى المنظومة التربوية نفسِها أو جودة التعليم أو تكوين المدرسين أو مواصفات المتعلم، أو علاقة الأسرة بالمدرسة، الخ.؟

إن التصدي لهذه الظاهرة قد يكون أو يكاد من باب المستحيل نظرا لتجذُّره في الحياة المدرسية وفي المجتمع. إنها مهمة صعبة حيث تحظى بتواطؤ بين الوسط المدرسي وآباء وأولياء التلاميذ.

ومن جهة أخرى، فمن باب العِناد أن لا يتم الاعترافُ بفائدة الدروس الخاصة وانعكاساتها الإيجابية على المسار الدراسي للمتعلمين. ويمكن، إلى حد ما، القول بأن هذه الدروس تساهم في تخفيض الرسوب المدرسي. لكن ما يُزعِج في هذا الوضع، هو الطريقة غير المنصفة المتَّبعة التي، أحيانا، تنتسب إلى الابتزاز. إنها ممارسة تُقوي، تُديم وترسِّخ الفوارق الاجتماعية.

وتحميل مسئولية الظاهرة لطرف دون الآخر، يكون بمثابة عدم الاعتراف بتعقيد هذه الأخيرة. إن هذه المسؤولية متقاسمة بين جميع الأطراف (منظومة تربوية، تعليم، مدرس، متعلم، أسرة، مجتمع، الخ.).

وهنا، تجدر الإشارةُ إلى ضرورة الاعتراف كذلك بأن أداء المنظومة التربوية غير مرضي. هدرها ضخم. وهي كذلك منبع تأرقٍ للأسر التي لها الاستعداد للتضحية من أجل نجاح بناتِها وأبنائها علماً أن التعليم لم يصل بعدُ إلى الجودة المطلوبة. إنه، لا محالة، يعاني من نواقص على مستوى التعلُّم. وتكوين المدرسين لا يزال غير مرضٍ من الناحيتين الديداكتيكية والتربوية النفسية.

هل هؤلاء المدرسون قادرون على تكييف تعليمهم مع الاختلافات الاجتماعية والنفسية للمتعلمين؟ هل هم قادرون على اكتشاف صعوبات التعلُّم عند المتعلمين ومعالجتها ببذل جهود خاصة على المستوى التربوي؟ هل التعليم مكيَّفٌ مع الحاجيات الحقيقية للمتعلمين؟ أم إنهم هم الذين يستجيبون لمتطلبات هذا الأخير؟ كيف يتصور المتعلمون العلاقة "مدرسون/متعلمون"؟ هل التعليم الموجَّه لهم فيه شيءٌ من الإكراه؟ أو هل يسمح لهم بالإفراج عن قدراتهم وطاقاتهم، الفكرية منها، على الخصوص؟ هل يوجَّه اللوم إلى كون الامتحانات نخبوية، الخ.؟

لقد حان الوقت لتُؤخذَ هذه الظاهرةُ مأخذ الجد من طرف المسؤولين، من متخذي القرار، من السياسيين، من النقابات، من الوسط التربوي، من الأسر ومن المجتمع المدني.

يجب لا محالة الاعتراف بأن الحلول ليست سهلة المنال حيث يُخشى أن تتساكنا معا منظومتان تربويتان، الأولى رسمية ونظامية ومجانية، والثانية متخفية وغير نظامية ويؤدَّى عنها، وخصوصا، أن حجمَ المال المُضخِّ في هذه الأخيرة لا يستهان به بدون شك.

هل تجب الزيادة في أجور المدرسين لإقناعهم بالتخلي عن هذه الدروس؟ ومما لا شكَّ فيه أنه ليس من المؤكد أن يكون هذا الحل جيدا لأن الجشع لا حد له من جهة، ومن جهة أخرى، إن المنظومة التربوية تشكل أصلا هُوَّةً مالية gouffre financier. وفضلا عن ذلك، إن التخفيض من النفقات العمومية شيءٌ ضروري في الظروف الاقتصادية للبلاد. هل سيتم اللجوء إلى تكنولوجيات الإعلام لدمقرطة هذا النوع من الدروس؟ هل يتم تصور طريقة أو وسيلة متوافق عليها لتنظيم وترتيب الظاهرة، وخصوصا، أنها غير ملموسة. باختصار، إنها إشكالية يتطلب حلُّها مساهمة الجميع.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المنظومة التَّربوية، بنيةٌ معقَّدةٌ
2- المنظومة التَّربوية والاقتصاد
3- المنظومة التربوية والمجتمع
4- المنظومة التربوية والسياسة
5- أيةُ منظومةٍ تربويةٍ نريد؟
6- المنظومة التربوية والحكامة
7- المنظومة التربوية والمأسسة
8- المنظومة التَّربوية والمردودية
9- المنظومة التربوية ومفهوم الإصلاح
10- المنظومة التَّربوية والبحث في مجال علوم التَّربية
11- المنظومة التربوية وأخلاقيات المهنة

أحدث المراجعات

مشكور السي مهدي نقوس على هذا الملف. إنها مبادرة طيبة ما دامت المنظومة التَّربوية هي جوهر هذا الملف. تحياتي الخاصة لك السي مهدي.
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

تحيات طيبات أخي السي أحمد الحطاب

شكرا على لطفك
الموضوع راهني جدا ، ويشكل المشكل الاساسي في واقعنا الاجتماعي والتعليمي المتردي، امام تعنت الحكومة وعنجهيتها وغياب المسؤولية في ايجاد حلول ناجعة ترضي رجال التعليم الذين تود الحكومة الاجهاز على مطالبهم، وغمط حقوقهم المشروعة في العيش الحسن، والتقاعد المريح، والمردودية الايجابية، في الوقت الذي يستفيد فيه أنصاف المتعلمين من برلمانيين وعسكر من الريع الذي يغدق عليهم الهبات والاتاوات. وذلك كخطة مبيتة للقضاء على المدرسة العمومية وتصفيتها تدريجيا لصالح التعليم الخاص، اسوة بالمنظومة الصحية التي رهنت بموجبها حكومتنا الفاسدة صحة المواطنين في عناية ذوي الجيوب المتسخة.. ارضاء لاملاءات وضغوطات خارجية
كل التقدير والاحترام
 
أعلى