محمد بودويك - عمر بن جلون.. سيد أعالي الحنكة والتواضع، ووردة الفكر الاشتراكي اليانعة

لم يكد ينتهي عقد من الزمان المغربي، وينقفل طرفاه الواصلان بين أواسط السينات، وأواسط السبعينات من القرن الماضي، حتى أعلنتها الفُجاءةُ الغادرةُ واقعةً ملموسةً ومُنفَّذَة، واقعة مضرجة بالدم الطاهر لمغربيين كبيرين قائدين تَشَرَّبا الوطن إلى أقصى ذرات دمهما، وتَمَاهَيا معه حتى تخوم الفداء والتضحية بالروح والجسد، والفكر الدينامي، والحلم الوثاب، والرهان الحاسم من أجل غد شعبي ديمقراطي عادل وكريم. دم المهدي المخطوف، والمخبوء والمهرب إلى اليوم، ودم عمر السائل المسفوك والمسفوح غيلة وغدرا ذات ظهيرة رمادية كابية شهدتها الدار البيضاء التي سَوَّدَها فعل الجرم الجبان، والقتل العمد، وسودها حقد ” إسلاموي “، بلا ضفاف، حقد تربص بعمر بن جلون كما تربص بمناضلي ومناضلات اليسار قاطبة في تلك الأيام العصيبات المُرْتعبات الجَهْمَات الموسومات، صِدْقاً، بأيام الموت، والجمر، والرصاص.

وإذا كان ملف المهدي بنبركة لايزال مفتوحا، ودمه مُرَحَّلاً بين الفضاءات، والأضابير، والثكنات، ودهاليز المخابرات، وجثته ” مرفوعة “، أو متذررة في مكان ما داخل وطنه أو خارجه، فإن جريمة قتل عمر بن جلون، وإن عرفتْ أركانها، وعُرِفَ مدبروها من لدن ” المغرر” بهم، وهم أعضاء في الشبيبة الإسلامية سيئة الذكر، إلى قياديين إسلاميين نافذين معروفين بأسمائهم، فإن القتلة الفعليين الذين أشاروا على ” الصغار ” المسخرين ممسوحي الذهن والروح والشخصية، بتصفيته يوم 18 دجنبر 1975، لم ينالوا ماينبغي أن ينالوه من متابعة حقيقية، وعقاب مستحق، وتعرية وكشف وجه، وإظهارهم للرأي العام، وللنخب السياسية والثقافية في البلاد. فوراء هذا الطمس المتقصد والمتعمد، رامٍ آخر أطلق القوس، وأصاب الدريئة التي هي الجسد، لكنه لم يصب الفكر، والعقل والقيادة والحنكة والشعبية ، والأثر السائر، والحب الجماهيري الذي تمتع به عمر كما لم يتمتع به أحد غيره.

تقدم شهر دجنبر مختنقا باكيا على عمر وهو يَغِيبُ ويُغَيَّبُ بفعلة فاعلين: فاعل مباشر، وفاعل يدبر السياسة في الوطن، ويقرر في أمر البلاد والعباد، والذي لم يكن ليرتاح ـ وقد علا نجم الاتحاد الاشتراكي ـ إلا بإخراس أصوات عالية صنعت صدقيتها، وقوتها، وحضورها، من تواضع وفاعلية ارتباطها بالعمال والفلاحين والطلبة والعاطلين، صنعت مجدها النضالي، وكرست موقفها وإسمها من مَعِينِها الفكري والنضالي، وانتمائها التحتاني للفقراء، والمعوزين، والمسروقين، ومعذبي الأرض. يستوي في ذلك المهدي كما عمر كما ثلة خيِّرة وشريفة من أبناء وبنات الوطن. ثلة آلت على نفسها خدمة الشعب المغبون والمسحوق، من خلال الفكر الخلاق، والالتحام اليومي به، مايعني كشف أخادع، وأكاذيب، وأضاليل ” المخزن ” العميق الضارب والمستبد، وفضح المدونة الدينية الموظفة، والمستخدمة، والموجهة لتخدير الجماهير، وإلهائها بالميتافيزيقا، والماوراء، والأوهام، والحور، والخيرات بعد الموت.

لقد كان الصراع محتدما مفتوحا، وعلى أشده، بين معتركين: معترك الزج بالشعب في أتون الغيبيات، والانتظار، وتبرير الفقر والإملاق، ومعترك المنحازين للشعب، والمفتِّحين أعينه وبصائره على لصوص عرقه، ومصاصي دمائه.. المستغلين الجشعين، ما أفضى إلى ” ترصيع ” المعركة الفكرية الصافية الديمقراطية بالنبل ، طبعا، وبالدم المسفوح غيلة وغدرا وظلما، بالقتل المفوض، أو بالدفع إلى وحشة المنافي، أو بالرمي وراء القضبان والجدران الباردة الموبوءة لإبعاد الوجوه، والأسماء ” ذات الرنين الخاص”، والكلمات، والأفكار، والاحتكاك اليومي الذي كان يصنع خبز النضال المستمر، والطلب الملحاح لمغرب ديمقراطي يأكل من خيراته كل أبنائه بالتساوي، والتعايش، والتساكن، والنظر الواحد المتطلع إلى غد أوفى كرامة، وأمضى وحدة وطنية.

علمنا عمر حب الناس : ” الغَلاَبَة “، حب الفقراء، والدفاع عنهم بالفكر والروح والجسد. وعلمنا الإنصات العميق لشكاواهم، وآرائهم، ووجهات نظرهم، والصبر مع الاستماتة في مصاحبتهم، و” تعليمهم” ما يشحذ مطالبهم، ويرفع من درجة وعيهم، ويمحق أميتهم المفروضة والمشروطة بسياسة معلومة لاشعبية ولا ديمقراطية، سياسة تخاف من التعليم والثقافة والفكر والوعي العام.

هذا ما تعلمته من عمر بن جلون، وغيره كثير، ملموما في تواضعه الجم، وتأمله العميق كناسك، ومُرْعِداً مُزْبِدا كأنما به مسٌّ إذا أحس بلسع ” الزنابير”، وقد كانوا كُثْراً، معلَنين ومندسين،. تلك ” الثورة” التي كان يعقبها تفكير وتخطيط وتدبير، يعلن عن نفسه في الغبش أو عند السحر، أو في رابعة النهار، من خلال التموقف المبدئي، ومن خلال ما يدبجه قلمه” الفلسطيني”، و” المغربي”، وما تبلوره رؤيته السياسية والمذهبية، وشعبيته، وعلاقته الحميمة الملتصقة بالطبقات المغبونة، وبأوسع الناس فيها. ولا زلت أذكر، وانا الطالب ” المناضل” أيامئذ، كيف كان الرجل يتحول إلى رجالات، والمفكر العضوي إلى مفكرين، والقائد المحنك إلى مناضل متواضع محشور بيننا في ردهات، وأروقة، وقاعات المؤتمر الاستثنائي للحزب في يناير: 10 ـ 11 ـ 12 يناير 1975 بقاعة الأفراح بالدار البيضاء التي شهدته نَصْلا ملتمعا لايلين لظلام ولا لوعثاء، ووردة فواحة مطفأة ذات خميس أسود .

كتلة من لهب نضالي، وحركة دؤوبة، وحضور راسخ متوهج وصاعق، وتَدَخُّلٌ في معترك النقاشات الفكرية، والإيديولوجية، والسياسية، والتنظيمية التي لاتكاد تنتهي. تَدَخُّلُ من جمع فأوعى الفكر الماركسي اللينيني، والغرامشي، والفكر الإسلامي المستنير في شخص بعض ممثليه الأفذاذ، وقادته الوضيئين المخترقين. ومن ثم، كان عمر وراء التعديلات الفكرية والمعرفية التي طالت التقرير الإيديولوجي والذي كان يتسمى أيضا ب ” التقرير المذهبي”، المقدم للمؤتمر الاستثنائي بوصفه وجه وفلسفة الحزب الجديد/ القديم. وكانت له اليد الطولى في تحبيره، وتعضيده بواقع حال المغرب والمغاربة، والوطن من حيث الوضع الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي، والثقافي والحقوقي، إلى جانب المفكر مهندس التقرير: محمد عابد الجابري. فالاشتراكية العلمية التي كانت مناط النقاش والسجال، والإرغاء والإزباد بما هي هوية الحزب وتميزه، رُبِطَتْ ب” تَمَغْرِبيتْ ” بما تحمله هذه الكلمة من إشراق وقوة، وما تحيل عليه من هوية واجتهاد، وتفتح في الآن ذاته. والخيار الديمقراطي أصبح راية وخلفية، متكأ ومدماكا، ورهانا، منذئذ، على خوض غمار المعارك السياسية، والإيديولوجية، والثقافية، والانتخابية.

كان عمر جسدا وروحا، خفقا وظلا، حاضرا وازنا، قويا مُصَعِّداً ومتنازلا، متواضعا في صرامة القائد، ومنصتا كتلميذ يتعلم، وأستاذ ، من طراز رفيع، يُعَلِّمُ.

فهل كانت لحظة سنية متفردة تلك ؟، هل كانت قاعة الأفراح حقيقة ومجازا، قاعة للأفراح واقعا وحقيقة، ؟ وأين اختفى كل أولئك الرائعين الذين أثتوا المشهد الثقافي والنضالي، والعرس الفكري الإيديولوجي؟ أينهم؟. أين عبد الرحيم بوعبيد، والحبيب الفرقاني، وبنمنصور، وعمر بنجلون، وعبد اللطيف، والقرشاوي، ولحبابي،وولعلو، وبونعيلات، وأحمد المجاطي، والجوماري، ومحمد برادة، وأحمد السطاتي، ومحمد زنيبر، وبوعللو، وأحمد المديني، ومحمد الأشعري، وغيرهم كثير، وهم موزعون على لجان حارَّة ، نشيطة، فائرة، تغلي بالنقاش، والفكر، والفلسفة، وتشريح الواقع: لجنة التقرير الإيديولوجي، واللجنة التنظيمية، واللجنة السياسية، ولجنة البيان العام، وأنا وسطهم ، في شرخ الصبا، علبة الأحلام في جيوبي، والمدينة الفاضلة قدَّامي. وسط احتفالية وهتافات، تصك الجدران، يتردد صداها بين السهول والجبال والوديان، فيعود صداها إلى المحتفلين العرسان ليزيدهم تصميما على تصميم، وعنفوانا على عنفوان، وعهدا يتجدد كما لم يتجدد بالكلمات، وينشحذ بالعمل والفعل.

رافقت عمر إلى مدينة جرادة، المدينة العمالية، وكان فتحا لنا وعلينا من حيث التأم شمل العمال، وصار إطلاق حزب الاتحاد الاشتراكي في المدينة العمالية، أيسر من شربة ماء، وتنشق عطر، هو الذي استعصى على الولادة من قبل. ورافقته مستفيدا، ومصححا لأفكار كنت أتَحَصَّلُها من هنا وهناك، مُزْدَرِدا منافحا عنها، ومتحمسا للدفاع عما صارلي، كجندي صغير وضعوا رشاشا بين يديه، ورأى إليه كلعبة مصقولة تلمع في عين الشمس، وفي عين الطائر.

وهل لي أن أذكر ما قمنا به في الشبيبة الاتحادية، والكتابة الإقليمية بوجدة ، عقب اغتياله، حين استضفنا الشاعر عبد المعطي حجازي ليلقي قصيدته الشهيرة فيه. كانت القصيدة مدوية في وجه خفافيش الظلام، ووجه المخزن المخبوء والمفضوح، وبيانا إبداعيا رفيع اللغة والنسج والحياكة، صادق العاطفة، مشبوب القلب والوجدان، دوت لها قاعة سينما” فوكس “، التي فاضت عن آخرها، وضاقت بما رحبت. كان زهوي مع صديقي عبد الله البوشتاوي، لايوصف إذ كلفنا بتقديم الشاعر للجمهور الوجدي وغير الوجدي ..العريض الذي حج إلى القاعة السينمائية لينصت إلى القصيدة البديعة والأليمة، والتي عنوانها : ” عرس المهدي”. وكان العرس عرسين: عرساً زف فيه الشهيد عمر إلى عروسه المغرب، والتاريخ، والوجدان الجمعي العام. وعرسا جماهيريا وقف طويلا يصفق ، في مشهد قيامي، ويبكي ويهتف، شاهدا على هول الجريمة، عارفا، وكيف لا؟، مرتكبيها، ومن زين لهم شرهم، ومكنهم من قتل رجل لمَّا يبلغ الأربعين، رجلا لايزال مقيما بيننا، وسيظل إلى أن يقبض الله روح الأرض.

وهل لي أن أشير ، في الأخير، إلى الديوان الشعري الجماعي الذي أصدرناه في أعقاب الاغتيال الجبان، والجريمة الفاجرة النكراء، معتزا بنشر نص شعري لي فيه بالمناسبة المأساوية، والخطب الجلل، إلى جانب ثلة من شعراء المغرب البررة.

ــ السلام عليك عمر
ــ وعليك السلام
ــ تتألم ؟
ــ لا. لم يعد وقته.
ــ تَتَنَعَّمْ ؟
ــ لا. لم يَحِنْ وقته.
أنا بين المساء وبين السحر
أتردد، لا زلت، بين الشروق
حتى تزدهر وردته في الحجر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى