مقتطف محمد الأحمد - متاهةُ أَخيرِهمْ The maze of the last one .. رواية (11)

11

"قرطاسُ لحظكِ سيفيض ألقاً،
وأن لا تعذلي".
لكنها قالت: "ما الكتابة والعذل يا صاح..حتى ليلي لم أنَمْه: بعدما سمعت حفيف ورق الخريف"..
***** ***** *****
كانت الإضاءة ليلاً جيدة جداً وتفترش على مساحة الحديقة العامة التي تحاذي النهر وشارعيه، والممتدة من قنطرة "خليل باشا".. حتى تقاطع ساحة "سارية". كانت تلك الأضواء مع نسيم بارد تغري معظم الطلبةتتواجدتحت سطوعها بغرض المذاكرة استعدادا لامتحانات الصفوف المنتهية.. بعضهم كان يذهب إلى قاعات الانتظار المكيّفة التابعةالى محطة السكك الحديد، والبعض الآخر، كان يذهب إلى الشارع العام القريب من البيت القديم "المحافظ"،حيث كثرت كشافات الضوء الكبيرة، حوله وجعلت من ليله نهاراً. سمعت من المؤمل ان ينقلوا اليه محتويات المكتبة المركزية، ولكن اغلب المساحات فيه فارغة وتحتاج الى انشاء قاعات أكبر، من القاعة التي تتوسطه.. كان المكان المضاء مرتعا لكل من ليس لديه مأوى، ولكل من شرب حتى الثمالة ونام في مكانه حتى الصباح. توطدت علاقتي بـ"عباس زرزور"، أثناء مذاكرتي الليليةفي حديقة نهر "خريسان".. كنت كل ليلة ألتقي به خمس دقائق، وأمضي عنه إلى كتبي وأوراقي. أتركهُ يفترش كومة جرائد، ويمضي على العشب الطري دون نوم متأملا نجومه التي يكلّمها عن حاله، وعادة ما يكون قد شرب حصته اليومية المجانية من العرق التي يتصدّق عليه "ميخائيل". كنت اعرف عنه انه كائنٌ طيبٌ ومسالم. عهدت "ابي" يقدم له كل يوم ما يحتاجه من وجبات طعام.. كان عزيز النفس، لا يطلب من أحد، ولا يأخذ من أحد فلسا واحدا، يقبل بالطعام عندما يكون جائعا، ويقبل بالشراب عندما يكون في حاجة اليه. محترم ونظيف الملبس، برغم انه لا يمتلك أي مأوى سوى الحديقة صيفاً والخربة[55] شتاء. بقيّ "أبي" يعطيه في كل مرة كفايته من الأكل، ويوصي كلّ العاملين معه، به. اذ كان "ابراهيم دندي" كريماً إلى أبعد حدّ مع كل المُعدمين، والمُدمنين، الذين ينتشرون في أنحاء الولاية، ويقول عنهم أنهم "ملائكة تائهون قد أضاعتهم أهاليهم". يجيد قراءة وجه كل محتاج، ويميّز ما بين المسالم، والعدواني.. يكرم كل قاصي وداني منهم. اذ كانوا يعدون على الأصابع، ولا يبتعدون عن محيط نهر المدينة، الا في النادر. يتفقدهم أحيانا حسب أسمائهم "رزوقي ابو الكش"[56]، "حسين أرمني"[57] ، "فؤاد طرزينة "[58]، "كاكه نام دار "[59]، "عناد الطويل"[60]، "عزوز"[61]...
كنت أميلُ الى التكلم مع "عباس زرزور" ذلك الرجل الذي عمل طويلاً في مرآب السيارات مع "سعدون دلال"، وبقي يعيش معه في غرفة واحدة.. ولما تُوفِيَ بقيّ يجول في الفنادق، اذ عمل فترة في السينما، بعد أن تركها "أبي"، ولم يرق له الحال فيها، فاكتفى "عباس" أن ينام على إحدى الأرائك الخشبية الموضوعة خارج مقهى "مناتي"، وتارة يغير مكانه إلى الحديقة.. تعود عليه أولاد معارفه، يمازحونه، ويعيدون عليه جملته التي غالباً ما يرددها، فيعيدها عليهم مبدلا حرف السين بالشين. "السلامُ عليهم يوم يبعثون"! (كنت على يقين بانه لو سألته عن "يهودا" لقال لي ما لم يقله أحد، ولكني كنت أحرص على ان تأتيني المعلومة لوحدها. كنت أميل للتعامل مع متعلقات تلك الحكاية بحذر بالغ)، لقد نال الرجل بعزّة نفسه احترام الجميع، فلم يثقل بطلب على أحد. كنت أحاول ان اعطيه بعض ما في جيبي من نقود.. لا يأخذها. كأن قاموس حياته فيها مفردة "المال" ابدا.فقط يقبل الطعام مني وكأنه يعلم جيدا أني احمله من أجله. ذات مرة سمعته يمتدح "أبي"، يقول: - "أبوك بطل حقيقي، لا يقدر على قهره أربعة رجال"، وجعلني ذلك أتهكمُ عليه ساخراً: - "جان فالجان "[62].. لحظتها لم يعجبه عدم تصديقي له، فأراد ان يوقف ذلك بقوله لي بأنه "قرأها أيام زمان"، وفعلاً توقفت عنده حيث قرأ في وجهي استغراباً حقيقياً.فأقسم "بروح جميع الأرواح الطاهرة" أنه قرأها، وراح يؤكد اثباته قائلا:-"جزاء سرقته رغيفاً واحداً من الخبز دفع بقية عمره كلها متنقلا بين المآسي"!
جوابه أحدث دهشة لي، ورغبتُمنه ان اعرف المزيد، أين قرأها؟، ومتى؟ جوابه نمَّ عن اهتمامٍ دقيق لم أكن اتوقعه في شخصٍ بائسٍ، ومغلوبٍ على أمره. تأملتُ ما قاله جيداً، كأنهُ يقول لي: انا من تبحث عنه.
توقفت مع نفسي، كأنه سلمني مفتاحا سوف يفتح لي الأبواب المغلقة التي تتستر خلفها تلك الشخصيات البائسة التي تجوب الطرقات على غير هدى، وتتلحفُ الفضاء. تبدو في الظاهر مهمّشة، ولكن لها موقفها من الحياة جعل منها تبدو هكذا، هذا الرجل - لقنني الدرس الأول في إعادة النظر فيمن حولي، شخصية لها ابعاد أخرى بالغة التعقيد، استنتج منها، تخفي وراء ما اراه صورة أخرى تتطلب مني إعادة النظر. (بعد الامتحانات سوف اتقصى كل منهم بقصته، وادوّن عنهم ملاحظاتي).. كأنما امتدّ جدلاً طويلاً بيننا، ظنّ بي أني لم أصدقه، وأيضا يقسم من جديد، ويؤكد لي "هكذا أبطال لهم وجود حقيقي في كل زمان ومكان"..
مسح فمه ثم واصل القول:-"مثلا الحوذي "عباس ياسه".. هل سمعت يوما عنه؟
- "نعم أعرفهُ"!.
- "مرة انزلقحصانه الذي كاد ان يموت وجرّ العربة التي ينقل بها مواد البناءالى حفرة قرب مدرسة "الحكمة" للبنين وصارت فوق الحصان،شاهدته ذلك الحادث بأم عيني،لم يكن قد أصاب الرجل اذى حتى بعد أن دخل الحفرة ورفع العربة عن حصانه لوحده..ثمّ سحب حصانه إلى خارجها"!. بقيت ابتسامتي عريضة، قبل أن أتركه، قال ايضاً:-"تظنني أجاملك"؟.. ألم يحدِّثك أبوك عن إنقاذهِ لعائلة "ناجي يعقوب" كلها من الغرق"؟، اضطربت أوصالي، كما لو دقّ جرس البدء، وقررت ان أبقى.لكنه باغتني:-أبوك رجل طيّب.. على سجيّته.. اذهب إلى مذاكرة دروسك ودعني أنام"!، لم أشأ الاستسلام، فقررت ملاطفته "لا تتركني يا عم عباس.. بالله عليك أخبرني ما قصة "السلام عليهم يوم يبعثون"؟[63]، بديلة عن "السلام عليكم". يبتسم ويردف قائلا: "دعني أنامُ يا وَلَدْ".. يضحك ويقول:"الجواب لدى إبراهيم دندي" !
ليته يحدثني يوماً عن حياته.. كبقية الآباء، أسمعُمنه بدلا من أن اسمع عنه من البعيد والقريب، ويعرفني عن نفسه. الرجل قليل الكلام، لم يقصّر معي في مأكلٍ أو ملبسٍ، ولكني أفتقد فيه الصديق.. أغلب زملائي يتباهونبمغامراتهم الطيّبة مع آبائهم، وعن الأجوبة الشافية، حظيت بالمحظورات تلوّ المحظورات، ولم أعرف ما المسموح بينهم. كأنما الدرب الوحيد لم يكن الا حبل مربوط بين قمتين، ومن تحته نار تسعر. لقاء ترك بقيّة الأسئلة النائمة تشتعل..(ليس من الضعف أن تظهر شخصية البريء الساذج، الطّيب.. يجب أن تعلمنا بمصائر بقيّة الناس الذين كتبت عنهم، أن تعطينا الكيفية التي وصلوا بها الى نهاياتهم، حيث المعلومة الدقيقة هي التي تجعلنا نصدق ما آل إليه حالهم)[64].
***** ***** *****
لم يكن "صفاء" شيوعياً كأبيه، بل كان متأثراً بتلك الأفكار التي يسمعها منه، وإذ صار يتكلم بالمفردات الخاصة بالشيوعية، فذلك ليس دليلاً. وكان يكشف انه يرفض الانتماء إلى حزب البعث في المدرسة، سيبقى يسمي نفسه مستقلاً.. على عكس "ماجد ميخائيل" الذي هو أكبر منا بسبع سنين يفتخر بكونه شيوعي كأبيه الذي كان من أول المنتمين للحزب، وان والده أعلن انسحابه من الحزب مبكراً، من بعد وفاة قائده الروحي "فهد"، وكأنه لا يتوافق مع توجهات الوالد حول "الحزب عندما يتغير قائده يتغير حتى جوهره، بقضّه وقضيضه، ويبقى الاسم ذاته حتى وان تغير محتوى محور نضاله، لأجل ألا ينفض أحد عنه بحجة تغيّر الى حزب آخر". بقي "ماجد" منتمياً يعلن دون خوف، كان يحضر طوعاً الى منزل العمات الثلاث بصفةالجيرةويدرّبنا على العزف لمعرفته الواسطة بآلة الجيتار.. حيث توهم الاخرون "أنه يحاول كسبنا الى الحزب المنتمي إليه". وذات مرة ذهبناالى بيتهم، كان لديهمفيه عدة آلات موسيقية بينها آلة الكمان، جذبتني رغبة العزف عليها، ولم أستطع، فلم يسبق الي لمسها من قبل. شرح لنا الرجل دروسا في كتابة النوتة، وكيفية قراءتها. لم يمض على ذلك ثلاثة أيام حتى وصلت عنا وشاية "مستقلون يجري كسبهم الى الحزب الشيوعي". علم "ابي" بالموضوع من أحد أصدقائه، ذهب إلى بيت شقيقه، وبالصوت العالي هدد "سعيد"، إن لم يسحب تقرير وشايته، سيكون الأمر وبالاً على كل من معه في البيت.. بعد ذلك اليوم تقرر منعي من ملاقاة"صفاء"، وعدم الالتقاء به في كل الأحوال.
***** ***** *****
(ألقمتُها ورقة بيضاء، ورحتُ أرقن دون حبر ما وردني من جديد).. اخترتُالاسمُالذي لنيكشف هويتي الدينية السابقة، تقيّة يختبئ خلفها اسم "عزرا" !!، ولم اختر لقب "زرزور" أُلحِقَ بيَّ بسبب قصر قامتي ونحافة بنيتي، وسمار بشرتي الشديدة، وشبهوني بذلك الطير الأسود من عائلة العصافير، لصق بي اللقب لتفرقة الاسم "عبّاس" عن غيره اسم يحمله الكثيرون.
يوم جئت لم أكن قد شربت العرق في حياتي قط، شربته من اجله.. ضحك، وضحكت ثم واصل القول.. شربته حتى يقبلني معه في العمل والسكن، "سعدون دلال" يعشق العرق، وكان رحمه الله يشرب يوميا، له جدول يومي له استعدادات خاصة، كنت اعرف جيدا ما عليّ فعله. حتى أصبح العرق نقطة التقاء الساكنين كما العرب. تعودنا على عرق "ميخا" كما يتعوّد العاشق معشوقه. وجدتُ في العرق مساحة من الحلم، تصلني الى النوم المستقر. وجدتهسلاحا أهزمُ به الحنين الذي كان يهاجمني بين الحين والآخر اول ايامي في هذه المدينة. كل قصة عشق ولابد وأن تمرّ بنكسة، هزّة قوية تجعل من المنسيّة تطفو على السطح، وتكون على كل لسان. مَنْ منّا لم يمرّبنكسة. لن يحتسب كعاشق، علمني الشرب لأن أطفوَّأكون ابن يومي، ويتفتت الماضي. اتفلسف لا أهذي، وأفكر معك بصوت عال. بعد أن ضاعت حياتي مني.نعم انا أول من تتبع ذلك الأثر "يهودا"، وما وجدته حتى وجدتني قد فقدت أثر ابن "مسعودة" الذي تسبب في ضياعي. دعني احكي لك التفاصيل، حتماَ سوف تجعلك تفهم كل ما قلت لك من كلام. ضاع الأثر، بل مُحي، بعد أن كنت أتصوره سيكون في قبضة أصابعي. تلك النكسة هي التي جعلتني أعيد النظر، بالأشياء والمعتقدات. بالحقائق، والأوهام. مؤخرا يا صديقي اكتشفتُ أني أضعت عشقاً حقيقياً. لم تجرّب العشق لتعرف مقصدي، العشق قضية أكبر قضية يؤمن بها الأنسان، أمل يقربك من الرب المقدس. العرق يثقل اللسان، ويبعد الخوف.. كلما شربت تقترب إلى ذهنك أمور، أنت تريدها، وعند الصحو. يقترب منك غول الحقيقة، والواقع. -"هههههه".. يضحك. ويواصل القول، واصغي له بكل انتباه: بدأتُ أفقد السيطرة على الكلمات. صارت الكلمات تأتي لوحدها، جاهزة. الكلمات التي طالما هربت منها، مستقرة في عقلي الباطن، تودّ مواجهتي، العرق يحميني منها، عندما كنت أحدث "سعدون" عن كل ذلك لا يقول لي هذه فلسفة العرق الجميلة.. هذه ليست فلسفة، بل هذيان، ولا اريدك ان تخبر أحداً بها، اذهب الى درسك ودعني أنام، صادفني رجل ما، قبل مجيئك، جلس بجانبي، وحدثني باكياً عن امرأة يحبها، المسكين لم يكن يعرف أننا معشر الرجال "كلنا في الهوى سوا". ليس كل من أحتسي نخباً واحداً، أو أثنين؛ جلس يبكي على ليلاه. "الليل يا ليلى يعاتبني ويقول لي سلّم على ليلى". استمتعت بحديث الرجلالذي صار يبكي، وبكيت معه.
البكاءُ غسلنا، ونهضنا كل منّا الى حال سبيله..وانت يا ولد عُد إلى درسك. امتحان البكلوريا غداً، وأنت تريد أن تعرف قصتي، اليس كذلك"؟ بعدها سكت ثم لفّ نفسه بشرشف جديد نظيف، وتمدد فوق ورق الجرائد، وغطى رأسه، ثم نام...
***** ***** *****
تجمّع أغلب أولاد المحلة في الزقاق الذي كان فيه بيت "حسنة الخبازة" بعد أن وصلت أصوات عالية فيها صراخ فيه تهليل، ودعاء، وتكبير،ثمّ شرّعت أبواب بيتهم، ببسملةٍ، وحوقلة...مصحوبةٌ بالدفوف،ثمة خطب عظيم قد حدث. سبقني إلى المكان "فؤاد"، متوغلٌ الى عمق البيت.. الى غرفة الضيوف. مبهورٌ كغيره. لم أستطع اختراق خجلي، ولا فضولي. لذلك بقيت متلهفاً أن يلتفت إليّ، كي اسأله بالإشارة عما يحدث. راحت صينية الحلويات، وجرادل العصائر تصل إليّ، وأنا في مكاني قريب من الجميع، حدث مفرح، لم اتبينه. لم ينتبه الى ابن عمي حتى أردت ترك المكان، وأن أعود الى البيت، ولكن الناس كانت تدخل الى البيت دون اية دعوة.ثم حضر "صفاء"، أخذ يديّ ودخلنا مع الداخلين، حيث تشجّعت على الدخول معه، دون دعوة من أحد.
كان البيت مؤثثاً من الداخل على أكمل وجه. وقَفْنّ بناتها، وحضرنّ بأجمل زينة، تفوح منهنّ أطيب العطور الصناعية. أما بقيّة أولاد المحلة كانوا مندهشين مما يرون، ويسمعون، رأيت كرسيّاً كبيراً يرتفع عن بقية الكراسي، بشكل واضح، واعتلتهُابنة حسنة الخبازة الصغرى،بكامل زينتها، والتي نعلم جميعنا عنها بانها تخرجت من كلية الفنون الجميلة - العام الماضي. تجلس بأنفة مرتدية ملابس رجالية، وتضع في رأسها عمامة، متكئة على عصا غليظة، وكأنها قاضي القضاة، وكانت تتعمّد رفع يدها المُثقلة خواتم عديدة، فصوصها كبيرة كأنها أحجار كريمة. وايضاً على جيدها علقت أكثر من قلادة، وأقراطاً كبيرة معلقة في أذنيها يزداد ُ بريقهما كلما حركت راسها بتعمّد الى الشمال واليمين. وثمة صبيان أسمران يقفان على شمالها، ويمينها، يبدوان كعبدين مطيعين.. شبكا أيديهما إلى أمام، وبقيت أعينهم تخزر الناس، كحارسينلوالي الولاة، كما تروي القصص التاريخية. قاعة الضيوف أخذت تمتلئ بالناس لتقول ما تريد قوله،وراحت رائحة البخور تضرب الأنوف، وراح شاب آخر يرشّ على الحاضرين، ماء الورد، كأنها إشارة حتى تبدأ بإلقاء خطبتها، فشدّت كل العيون إليها. وتعلن قولهاالمُعد سلفاً..
بينما تواصل الناس الى الداخل حتى اختنق المكان بهم، كان "فؤاد" ينظر مثل بقية الناس بانبهار وخشوع. نظرتُ الى "صفاء" أن يقول لي شيئاً، ولم يقل. وددت ان افهم ما أرادت أن تفهمنا إياه.
بعد حين آثرت أن أخرج من المكان المزدحم، وتركت "صفاء"، مع "فؤاد" وعهدتنفسي خارج البيت، أتنفس الهواء مع بقية الناس التي تجمعت في الخارج.
شاهدت صبيين آخرين كانا يضربان بالدف ثلاث ضربات، ورابعة، ثم يلحقاها بالصلاة على النبي. جعلني ذلك اتيقن ان الأمر برمته لا يخلو من تمثيل، خاصة بعد أن خرجت واحدة من بناتها، وهي تقول بصوت مرتجف:
- انظروا النسر يمرّ من فوق الدار.. البشارة..
ولم يكن حتى عصفور. أي خيال ينظمكل هذا؟ مضت الدقائق سريعاً ما بين مؤيد ومعارض، ومصدق ومكذّب لكل ما يراه، ثمة مسرحية فاشلة، لم تعتمد المادة التي يقتنع بهاالجمهور.
سمعتُ امرأة تقول: (روح طيبة تلبست ابنتهم، وأكسبتها مشيئة الله طاقة سوف تشفي كل مريض، وترضي الأقرع والأعرج، والأعمى، والأخرس)..
***** ***** *****
-"سيكون لك أخولن تكون وحيداً"!.
ذلك ما أكدته لي "عمتي"
***** ***** *****
(انحدرُ من مدينة "قادش"، ويوم غادرتها لم أكن أعلم باني سوف أغادرها للمرة الأخيرة. جئت مدينتكمفي مهمّة ليست بالهينة، كلفني بها "والد مسعودة"،للبحث عن حفيده من ابنته. جئتها قبل أكثر من اربعةَ عشرَ عاماً، بغيّة تتبعه، ولم نعرف عنه شيئاً سوى اسم مسجل باسم (مكابيوس بن يهودا ناجي، وأمه مسعودة) في سجل تابع لأحد المعابد في مدينة "ميلان"[65]، مثبت مع تسلسله العائلي: الأب بالاسم الثلاثي، والأم باسمها الثلاثي. ولكننا لم نجد للولد أية وثيقة أخرى تحت نفس الاسم في السجلات الرسمية التابعة لدائرة النفوس العراقية. بغرض الحقوق التي كان جده ينشدها منه واليه. عهدنا ان عائلة "يهودا ناجي" أخفته لتجعله بعيدا عن جده لأمه، ولأجل ذلك؛ تطوّعت لمهمة البحث عنه، بعد فقدان أثره، هناك وهناك. كان والد "مسعودة" في تمام الاستعداد للاستحواذ على الولد من ابنته بكل السبل، وكان أيضا يبّيت عن سبق إصرار حرمانهم منه الى الابد كعقاب عمّا اقترفا من جرم بحقّ ابنتهم، ضحية العناد والتكبر.. الطرفان كان بينهما تحدي. وعندما تمّ علمهم بتلك المخططات، اتخذوا الاجراء المناسب تحسبا لما تخفيه الصدور الغليلة، سبقوهم، ونقلوا الولد الى مكان لا يعلم به الا الله.
لم تنته مراسم العزاء في ابنته "مسعودة"، حتى كلفني بمهمة السفر، والاستقرار والتكتّم حول ذلك حتى مع أقرب الناس اليه. وقع اختياره عليّ، ظنا منه باني خير شخص تتوفر فيه الشروط المناسبة، وتمّ الاتفاق ان استقر في أقرب نقطة من دار أهل "يهودا".. اراقب عن قرب كل صغيرة وكبيرة من أجل معرفة مكان الولد المخفي عن أهله. عملت في طفولتي مع خالي الذي يسكن "بغداد" وسبق ان عملت في سوق العطارين، ثم تنقلت بين أماكن عدّة وساعدتني اللهجة بإتقان مخارج الاحرف على التخفي، وعدم اثارة الشبهات. كنت أعلم جيدا ان مثل تلك المجتمعات لا تقبل بالغرباء، والناس فيها يتناقلون الأخبار أسرع مما يتشرّب "الكيروسين" في فتيلة من قطن. أخترت بعدها وصلت ونزلت المدينة أول الأمر، بحجة البحث عن عمل، سألوني كثيراً عن أصلي وفصلي. أخبرتهم كذبتي بأني انحدر من "أفغانستان"، وعائلتي أصابها الطاعون، ولم يبق منها سواي. فما أسهل ان تكذب بين الناس حتى يصدقك الأغلبية، بقيت أشرح لهم كيف كان اثر ذلك المرض الفتاك على أهلي وعشيرتي، "كنت اسهب في الشرح" عن الوباء الخطير الذي كان يفتك بالناس. كنت أمضي صادقاً في سرد تفاصيل ما رأيت، الثرثرة مع الناس تجعلهم يأمنون شخصك. تفاصيل بعض الأحداث التي تحكيها للناس يجعلها تتقبلك سريعا، وتنأى بنفسك عن كل شك. تعودت ان اتجنب النظر الى عيني كل متحدث الي، لأجل ان امنحه الثقة في نفسه، وان لا تفلت نظرة مني تبعث في نفسه الارتياب. كنت على يقين ان الناس الطيّبة تسمع دون ان تمحص، والكلام الطيب جواز مرور الى كل القلوب الطيبة. أجيب عن أي سؤال، وكأني قد ربيت واعرف كل صغير وكبير. تعمدتُ ان لا أقرب كل اثارة للشبهة، ثمة بطانة اجتماعية لا يعبرها ابن المجتمع الذي ينتمي اليه، وأردتُ ان احقق معادلة البقاء في النقطة التي ستوصلني الى غايتي. تدريجيا أصبحت ابن الزمان والمكان، وبقيت اشارك الجميع اتراحهم قبل افراحهم.
سرعان ما وجدت أكثر من عمل، وتشبثت بالعمل في المرآب تحت يد "سعدون دلال"، لان ذلك التواجد كان يجعلني على معرفة تامة بمن يدخل، أو يخرج من المدينة. عمل يتطلب مني تسجيل المركبات القادمة من "بغداد" في دفتر نوتة، وتأشيرها عند المغادرة، تنظيم السيارات الداخلة، وليلا تنظيف الباحة ومن ثم تدوين ارقام السيارات الى سجل رئيسي يدققه كل حين "موظفون من وزارة النقل والمواصلات" وذلك يجعل مني متواجدا عند بوابة المرآب، وفي الوقت نفسه اتابع الباب الرئيس لأهل البيت. تأقلمت جيدا مع المكان، ومع الناس منذ الأيام الأولى كرجل فقير الحال، خفيف الظل، ومتآلف مع الجميع.
بالمناسبة؛ ثمة لازمات من الكلام تعلق بأذهاننا، تلك اللازمات تتصاعد في اذهان الذين يقاومون الماضي والحنين اليه، فتخرج من افواههم جملة مكررة، حلاوتها انها تربط اللسان بها، وغالبا ما تكون طائفة قريبة من اللسان، لتغطية عن اضطراب، أو هوس بذكريات يتعمد صاحبها ان يطمسها، ويظهرها، جملة جاهزة تطفو فوق اللسان، يلفظها المرء منا دون تفكير ان كانت في محلها أو كانت في غير. حيث لا زمتني منذ الصغر جملة لها رنين ووقع خاص، علقت في ذهني، وبقيت أرددها مع نفسي، كثيراً، بمناسبة أو غير. "السلام عليهم يوم يبعثون"، كنت الفظها بحرف "الشين"، وأشير بها إلى جهة مقبرة اليهود التي لا تبعد عنا سوى مئة متر، كأني أقول: "شالوم للموتى" دون أن اكشف غاياتي، خصوصاً أنني قد تركت الصلاة بلا رجعة مخافة أن يفتضح أمري، أوتُثار حولي الشبهات.. كي أحافظ على نفسي بينهم، بعد أن تأكد لي بيقين شخصيان الدين مهما كان فلن يغير من إنسانية الإنسان شيئاً. تعلمت القراءة والكتابة في كنيس، وقرأت العديد من الكتب المتنوعة، احببتها وحسب، وما تسليت بقدر قراءتي لكتب قصص الحب، فما صادفت في حياتي امرأة تفهمني - او دعني اخبرك: جربت الفشل في الحب ولم اكرر التجربة ثانية، هكذا نأيت بنفسي ناذرا نفسي للبحث عن الابن المفقود. ربما- بسبب مظهري الذي يشبه "الزرزور" لقبوني الناس بذلك، ربما لأني بقيت ليومي هذا منطوياً لا أجيد إكمال بضع كلمات، وأربطها جوابا إن سألتني امرأة، بسبب عزلتي الطويلة في الكنيس، وعدم الاختلاط..
***** ***** *****
لم يغادر أي منهم إلى مكان خارج المدينة. قلما يتحركون. كل ظني بسبب حرصهم على الولد الصغير، كنت احسب انه يعيش بينهم في البيت كفرد من أفراد الاسرة،ويحتاج الى عناية كحاله اقرانه الأطفال. يحرصون عليه ولايخرجون به حتى إلى الحديقة، يؤمنون عليه من خطر جده لامه. ولم يكنفي حساباتي بأن الولد مُؤَمَّنْفي مكان آخر. وجاء اكتشافي لذلك الخطأ الجسيم متأخرا، حيث كانوا مستعدين لمثل تلك الاحتمالات. ففي يوم وفاة أبيهم "ناجي يعقوب"والذي توفي فيه أيضا "علوان دندي"، يوم ذلك الحدث الجلل، توفرت لدي الحجة العلنية بالدخول الى البيت، وصاحبتهم في كل تفصيل وكأني كنت من بين أكثر الباكين، والمتحسّرين على الفقيد، في حين كانت غايتي البحث حيث لم اترك مكانا ظاهرا وخفيا الا وبحثت فيه عن أثر طفل كان يعيش معهم ولم أجد مما جعلني اشعر بخيبة عارمة. حيث بحثت عن وهم ليس له أي وجود. فتّشتُ جيداً. ولم أجد أي أثر، كل زاوية فتّشتها، حتى تيقنت بأن بيتهم ليس فيه أثر طفل، كانت الفرصة الكافية، حسبما اعرف كم يتطلبن من "حسقيال" في اعداد قبر أبيه حتى يدفنه الى جوار أسلافه"باسم الله العظيم المقدس"، ويودّعه إلى "شيول" وبعدها لابد من تأدية صلاة "القديش"[66] على الميّت بعد تسوية التراب فوق قبره كما يؤكدهُ العهد القديم، وكنت أقدر كم يستغرق من الوقت لذلك.
ثم عدت سريعا بعد التفتيش الى غرفة الاستراحة في المرآب، دون إضاعة أي وقت كتبت رسالة مفصلة بالأمر كله.. مفادها "ليس هناك أي أثر للولد"، ثم استطعت تسليمها إلى أحد السائقين المأمونين الجانب والذي كان عمله نقل المسافرين الى "بغداد" بينه وبين "والد مسعودة" اتفاق. يستلم مني او يسلم لي وبدوره يسلمها الى أحد السائقين العاملين على خط النقل، بين بغداد و"قادش".
كان ذلك اليوم يوم عزاء مهيب، شارك فيه اغلب اهل المحلة.
***** ***** *****
طلب مني أن أبدل ملابسي بأحسن ما عندي وكأنه يريد ان يفاجئني، حيث لا يريد أن يفصح عن نيّة له. وكذلك لا يريد من ابن له مناقشة طلب منه. كما كان ابيه يحب ذلك منه.
- "أعلم عنك أنك بحاجة الى من يوضح لك درس الرياضيات"؟
لم يضف كلمة أخرى.. بقيت أمشي معه،يسبقني بخطوة، عبرنا الى الضفة الثانية من النهر.. ثم دخل الى اول زقاق طرق باب بيت كانت في الواجهة. ظهر لنا رجل أسمر البشرة، في عمره تقريبا، لكنه لم يكن غزير الشعر مثل "أبي". رحب بنا كثيراً، وجعلنا نمرّ عبر حديقة مظللة الأشجار ومن ثم الى غرفة الضيوف. كانت خطوات الرجل في تؤدة وغاية الهدوء. يرتدي بنطالاً وقميصاً، وثمة بشاشة معهودة في وجهه، ما ان وقعت عيني في عينه حتى سألني، مبتسماً، "أعلم بأنك تزورنا للمرة الأولى أيها الشاب الأنيق"، وكأنه يريد ان يبدد عني التوتر، وراح يسألني عن جدتي، وعمتي، وختمها بسؤال عن" أمي"، وطلب أن أوصل سلامه إليهم،لم أكن اعلم اين انا أول الامر، ولكن بعد دقائق فتح الباب الداخلي ودخل منه "عزيز شلومو" بدا عليه اثار النوم.جاء مرحبا، ونظيفاً كعادته، سلم على "أبي" بودّ دلَّ على معرفته من قبل، وردّ عليه مبتسماً يمازحه:
- " كيف حالك يا ابن سليمان"؟
أجاب باقتضاب "نحمد الله يا عم"
بقيت في دهشة بينما أُنقّل نظراتي في أرجاء الغرفة التي جمعتنا، فلم تكن أية صورة على جدرانها، ثمة منضدة خشبية عليها كراس، وبجانبها مقاعد دون مساند. وثمة ستارة بيضاء ظللت النافذة. جلسنا بعد ان تبادلنا الابتسام عهدت "عزيز" لم يرِد هدر الوقت، وتوجه مباشرة الى منضدة الدرس.. ثم سحب مجموعة أوراق، وباشر يشرح لي المحاضرة التي لم أفهمها. يعرف ما عليه ان يفعله ويعلم جيدا من أين يبدأ، وراح يبسط ما تعسر عليّ بوضوح من المادة.. تركنا أبوانا وراحا يكملان جلستهما في الحديقة. بقيت أصغي يعيد عليّ المحاضرات، بتسلسلٍ ودربة حتى نهاية الدرس. وقبل أن نودعهم، أخرج "عزيز" كاميرا قديمة، وقال برجاء ما رأيكم أن نلتقط بعض الصور، لم يمانع "أبي"، وبقي "عزيز" يلتقط صورة لي مع "أبي"، وأخرى ثلاثتنا، بعدها ناولني الكاميرا لالتقط لهم ثلاثتهم سوياً.. تصافح الآباء، وتصافحت لأول مرة معه، ثم خرجنا.. كنتُ أكنّ لهإعجاباً شديداً. وبقي لساني عاجزا عن شكره.
***** ***** *****
وبعد أسبوعٍ أو أكثر، عاد لي جواب الرسالة، محتواها سخط وملامة، تقريع ونعت بالغباء. صرتُ خائفا من كل قادم جديد إلى "بعقوبة". مخافة العقاب، والنيل مني كخائن. لكني آثرت الصمت والكتمان، فلم أفصح عما أربكني من ردة الفعل.سهمتُ مفكرا بمصير الولد، وأين استقر به المطاف؟كان من المفترض أن تصحبني امرأة في هذه المهمة، لتتغلغل بين النسوة وتأتي بالخبر اليقين. حسب علمي والد "مكابيوس" كان من النادر ان يغادر الى "بغداد" وإن غادر، لم تتجاوز سفرته الساعات المعدودة. ويعود إلى بيته سريعاً. وليس من المعقول ترك ابنه بين الايطاليين. وليس من المعقول أن يكون الولد قد مات، بعد موت أمه. بل كانوا قد اشتروا له كل المستلزمات، من أجل العودة به الى بلدهم.
وثانية قررت ان لا أعود الا باليقين البيّن.. كما لو كنت جنديا في جيش "طارق بن زياد" الذي خير جنوده في اختيار طريقة موتهم، "البحر من ورائكم والعدو أمامكم"، أما مواصلة الأيام بالأيام، والبحث عن الولد واما العودة الى البحر ومواجهة الغرق؛ اشرب العرق يوميا، ولميشغلني أمر سوى التقرّب من "سعدون الدلال". بعد أن تجاوزت الخامسة والخمسين سنه، ولم تَعدْ لي القابلية على العمل.. حيث لا مكان أستقر فيه، من حر الصيف القائظ. أو برد الشتاء القارص. لا مكان أذهب إليه، وصرت حائراً تائهاً، أنام هنا وهناك. وأغلب المرات يأتي إلينا الطعام من البيوت المجاورة. كل مرة من بيت. بقيت الأيام تمضي وبدأ قرار العودة الى مدينتي يتعقد أكثر، حيث توفي والد "مسعودة" وعلمت بان اغلب اهلي ومعارفي اخذوا يبيعون املاكهم بأثمان بخسة، او يتركوها راحلين عنها الى "إسرائيل"، بقيت خائفاً لا أحمل أي مستند يثبت هويتي. ولم يعد بإمكاني الجهر كوني يهودي ليحق لي السفر الى إسرائيل. سوف أجد هنا من يحكم عليّ بالارتداد عن دين الإسلام بعد ان عُرِّفْتْ بهِ. يكشف سري ويحل بي ما حلّ بمثلي. كما لم تعد لي موارد او مدخرات.. كان الفشل حليفي أيضا بعدما هاجرت في غفلة تلك العائلة التي بنيت حول ابنها آمالي، تركوا الجمل بما حمل تاركين بيتهم بما فيه للنهب. ضاع مني الأمل نهائياً وأين استقرت قدم "مكابيوس"..





ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[55]* بيت أهل يهودا المهدم
[56]* ابن المنجرة
[57]* ساكن الفندق الأزلي
[58]* العاشق الذي تركته حبيبته
[59]* التائه الذي بقي في المدينة ولا يعرف عنه شيئا
[60]* رجل يجول المدينة عاريا..
[61]* مطرود من قريته..
[62]* الشخصية المحورية لرواية البؤساء بقلم "فكتور هيجو".
[63]* السلام: شالوم
[64]* القول للناقد رولان بارت
[65]* مدينة كبيرة مشهورة.
[66]* صلاة وداع الميت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى