عبدالله البقالي - ورقات..

1-

لم أضع عنوانا لهذه الورقات بسبب ان الحكاية ام تصل
بعد الى نهايتها، وما يزال الغموض يلفها.
كل صور الأشعة أثبتت وجود ورم سرطاني بطول ست سنتمرات أسفل الكلية اليسرى حيث الاوعية الدموية الدقيقة والكثيفة.
البروفسور اوضح لي ذلك عبر رسم وأضاف: هذا وضع مؤسف يجرد من اي خيار بسبب الكلية اليمنى التي هي في وضع الميت. ولهذا فكل ما يمكن فعله هو واحد من امرين، عملية في منتهى الدقة من اجل استىصال الورم، وفي هذه الحال فمن الاشياء الواردة هو حدوث نزيف حاد قد لا نجد ما نفعله بصدده، وهنا ستكون نهايتك. والأمر الثاني هو اجتثاث الكلية وستنتقل فورا الى نظام تصفية الدم بالٱلات..
الخياران معا لم يعنيا لي الا شيئا واحدا في النهاية.لم اتخيل في كل العمر ان محطة بهذه القتامة تقع على خط سيري. صحيح ان نظام تصفية الدم يتيح لي الاستمرار في الحياة، لكن كميت موقوف التنفيذ بالنسبة لكائن من طينتي. فلم اكن في اي يوم من ايام عمري بالشخص الذي يلزم الأماكن ويستكين للسكون ويكتفي على الدوام برؤية نفس الوجوه، ويسمع نفس الكلام، ويرى نفس المشاهد. بل كنت الانسان الذي يسكن الرحيل، ويمني نفسه بالوصول الى اقصى بقاع المعمور..
غادرت المستشفى وقد مسح ذهني وذاكرتي من كل شئ. وبدت لي الأماكن متخلية عن معالمها. والاتجاهات بلا معنى, ولم يظل ماثلا امامي سوى ذلك المبهم الكامن في منعطف ما قريب. واكتشفت في ظل الورطة اني لا املك شيئا وليس هناك ما يخصني بما في ذلك حياتي التي كنت اجد نفسي سيد قرارها.
في ظل ذلك التزاحم للافكار لاحت لي صور الاحفاد وابنائي وبناتي وكل الذين احببتهم والذين لم اشك لحظة ان الوقع عليهم كان يفوق ما كنت اشعر به. فقد كنت الماضي او ورقة حملها سيل من مكان بعيد. الجزء الاهم من حياتها عاشته قبل ان تقع في المجرى. لكنني اجد الان اني بالنسبة لهم علما او بيرقا ينتظمون حوله من اجل مواصلة زحفهم في الحياة بإحساس الامان.
ذلك الوضع كان يفرض علي سماع ٱرائهم. أن أقامر في مغامرة يتساوى فيها الموت والحياة، او ان اواصل العيش بأطراف معطوبة.
لم التقط أي صوت، وفهمت الا احد غيري يستطيع حسم هذا الامر. الغيت وجودي ولم أستخضر غير وقعه على حياة الٱخرين. لكن ذلك كان يتطلب ثمنا، ومن أجلهم علي أن ادفع.
عدت للمستشفى بعد أسبوع، وابلغت الطبيب أني لست في العمر الذي يؤهلني لركوب المغامرات و أني اختار طواعية الاستمرار في الحياة ولو كتذكار لشخص مر من هنا ذات يوم..

***

الورقة الثانية

غادرت المستشفى وانا اشعر اني اني ازحت كفا غليظة كانت تطبق على انفاسي. او كاني نجوت من شراك كنت بصدد الوقوع فيه لكني كنت احمل وثيقة تتطلب مصادقة من السلطات. الا انها لم تكن وثيقة عادية. فقد تكون شبيهة بتذكرة سفر لا يعقبه عودة. وثيقة مكتوبة بخط جميل هي بمثابة شهادة على نفسي بكونها تقبل كل النتاىج التي ستترتب عن العملية الجراحية.
كنت اسير في الشارع وانا اشعر اني احرزت نصف انتصار حين تجنبت المواجهة الحاسمة حين اخترت الحل الذي يقضي بان ابقى حيا حتى وان كانت روح المغامرة تتطلب الحياة بشكل سوي، او الا اعيشها بالمرة.
حين صرت في البعيد، بدا تفكيري يشتغل بعيدا عن الصغوط. واحسست ساعتها اني في حاجة الى هدنة شبيهة بتلك التي يحتاجها مقاتلون انهكت قواهم الحروب. خصوصا بعد ذلك الوطيس الحامي الذي امتد لشهور طويلة في اروقة المصحات ومختبرات التحاليل. ذلك التراوح بين المنزلات المحبطة، وتلك المبشرة بالخير. ومن ثم كان لزاما من تغيير الاجواء استعدادا لفصل ملتهب.
سافرت. وحين اكون بعيدا عن المدينة، اشعر على الدوام اني امتلك قدرة استرجاع نفسي، وسحبها من دور المتفرح الذي لا يعرف كيف انه في كل مرة يجد نفسه محشورا ومتورطا داخل اجواء شريط عنيف تدمجه اطواره داخله حتى ليخيل اليه انه احد ابطاله. لهذا زرت قريتي. وبقدر البعد عن المدينة، كنت اشعر ان رئتي تتضخم وتتزايد شهيتها للهواء. لكن ذلك لم يدم طويلا. اذ سرعان ما اتصل بي احد افراد الفريق الطبي المتتبع لحالتي وطلب مني الحضور على الفور. وبعدها وجدت نفسي امام مجموعة من الاستفسارات المستنبطة من خلاصات التحاليل والصور التي كنت قد انجزتها من قبل. وادركت ان الفريق يشك في كون المرض قد يكون تسرب لباقي الجسم من العضو المصاب.ومن ثم كان لزاما من كشف بالاشعة يهم كل اعضاء جسمي. وفي انتظار نتائج الفحص، صارت نفسيتي ومعنوياتي مجالا مفتوحا للزوابع النفسية التي قد تهب في اي حين، ومن اي صوب. مدفوعة بالاستفسارات والاستنتاجات التي يتطوع بها اشخاص يحاولون الظهور بمظهر الحاذق المتمكن العارف بكل شئ. وحين استلمت نتيجة الفحص، لم الق عليها اي نظرة. وهذا امر دئبت عليه من البداية وتعاملت معه كقدر لا طاقة لي في تعديله او تغييره.
حدث تغيير في مكونات الفريق الطبي. وحل " البروفسور عثمان شامة" محل الدكتور "البخاري" لكن التغيير لم يمس فقط مكونات الفريق، بل اسلوب العمل ايضا. اذ استدعيت من جديد مرفوقا بلوازم الاقامة من اغطية وحاجيات. ولدى وصولي سالني البروفسور مان ان كان الامر واضحا لدي. فاجبت باني استدعيت لاجراء العملية، وها قد حضرت.
طلب مني البروفسور مرافقته الى المكتب، وهناك اوضح لي بانه تم عقد احتماع بخصوص حالتي، وانه تقرر اجراء عملية اجتثاث الورم عوض استئصال الكلية.

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى