د. أميرة الآدهم - كلب مميز ..

(أشرب الخمر حتى تجد له طعماً مميزاً على حافة ِ لسانك ، وأفرط في الطعام حتى تفقد القدرة على التمييز؛وكلاهما قليلٌ منه مبرحاً للتأمل والبحث عن أقصى طموحاتك في تنسيق محتويات المكتب و..........)

هكذا تحدّث صلاح عويس بدوره ناصحاً للشباب الأدباء بالوقوع في مهب ريح الحياة ، بقهوة ريش انعدل في جلسته مراعيا كمية المخدرات التي تعاطوها في شقته ، وكيمياء أدمغة الجميع في فهم ما يقول على هيئة الغاز دون حتى أن يكمل جملته في كل مرة ، ثم قال : خاصةً ؛أنا تركت زوجتي لأكتب ، عامةً أنا شخص بائس وحزين بدون حبيبتي وغالباً لا أكتب .

فبعد أن سافرت هويدا السعدي إلى انجلترا ، مطلقة ً حاملةً طموح انتقامي ورغبة مكتومة في البكاء، أذكر اليوم الذي تعاطت فيه هويدا دواء الأكتئاب بجرعة مضاعفة ،اختارت تحضير لمادة الدواء في شركة بريطانية تيمناً برحيلها إلى نفس الوجهة أو تغيير الانتماء ،لا أعرف مبررا أكثر من ذلك لشرائها البروزاك الانجليزي وهو نفس المادة العلمية للفلوكس المصري ،خالفت الطبيب مرتين ، مرة في الجرعة ومرة في شركة الدواء كما خالفت قلبها مرة في موافقة صلاح على الطلاق ومرة في قرارها لاتمام ماتبقى من عمرها في بلد لايعيش فيها صلاح قائلة : لا اتحمل التواجد معه تحت سقف زمني لسماء واحدة .

لم يجد صلاح في طريقه أى كاتبة تصلح للاكتشاف كأنسانة ، هكذا علّق راسماً بيده خطا طويلا على سيل البيرة المنسكبة على مفرش ترابيزة ريش قبل أن يتأفف النادل بمنشفة عصبية . (أكان لابد أن تكون كاتبة ؟) ؛هكذا تساءل محي شاعر العامية الذي انطلقت الفصحى من على لسانه إنكارا للذات التي تتنصل من تاريخه الطويل في احباط كاتبات صغيرات لم يتحملّن سوى الفشل مرة واحدة على يد محي ،أجاب صلاح في حكمة الأديب السوداني ، بقميص يشي بأنه أربعيني من خصلات بيضاء تتخلل شعر صدره الفاحم ، فارداً زراعه على كرسي محي المجاور له ، كمن يؤكد لمعة قميصه الملون وبقايا شباب طازج الوداع،صلاح عويس يتكلم بالفصحى ويستغل تراكيبه اللغوية بدافع أن: هذه الطريقة الوحيدة لتفهموني بعد غياب هويدا ،وضع ساقاً على ساق قائلا: بعد غياب هويدا مررت بعلاقات جمة ، جرّبت فيها دور الضحية الأنثى ؛كصديقة وزوجة وعشيقة، وجربت أن أنتشل قطة من على الطريق متخيلاً أن تستمر لي كما الحياة، في كل مرة وقع منا الهوس ... وعندما يقع الهوس من بين شخصين تصبح العلاقة ككلب يتزوج من قطة‘لم تنفذ الكلاب ولم يكن عليّ التحول لقطٍ ؛لا أستطيع ،غابت هويدا وهي كلبة من نفس الفصيلة بعدها حاولت تقييم ذاتي ككلب والاعتزاز تحديدا بأني (كلباً مميزا)، وسكب زجاجة البيرة على المفرش الأبيض مرة ثانية في نوبة انفعال الضحك الجماعي .

تضاحك الجميع بمافيهم سامي عبد الحميد المصاب بصدمة اعتراف عم صلاح عويس ،سامي عبد الحميد شاعر التفعيلة ،حافظ سامي على الموسيقى الخارجية في نصوصه كما حافظ على التخلص من رغداء ، الصحفية الفنية التي اشتهرت ب ما لم يفهمه صلاح (بتروح بقزازة بيرة )،التخلص من رغداء غنى موسيقى خارجية، عزف ضوضاء المجتمع في دقه برتمٍ خاص على قبعة الشاعر المشهور، سامي تحلى بالتماسك الكامل لأن يجمع حقائبه ويرحل من الشقة التي جمعته بحبيبته وزجاجات البيرة موقنا بأن : الاختيار بسيط بين: تقبل كوني كلباً مميزا وبين أن أدفع الثمن لكي أحصل على لقب المواطن البليد وبين أن أتزوج قطة ربتها أمي في المحلة الكبرى ، وهذا مايمكن أن يعزيه في وفاة أمه ، مشاركة زوجته في الأمور المادية وفوائدها الصحية الجنسية ، والأعراض الجانبية من أنثى مدمنة على قنوات الأغاني ، أعراض جانبية يمكن تحملها مقارنة بقوة عمل الدواء ، كفة الميزان الرابحة كفة الميزان الأثقل .

أصبح ظهر صلاح عويس ثقيلاً للغاية بعد أن تقيأ ذكرياته ، شرب ماتبقى من زجاجة الويسكي مباشرة ،وتخبّط في كراسي النادي اليوناني بالأزاريطة ،وقتها لم يكن هناك سامي ولا محي ، وقتها لم يكن هناك سوى الاحراج الذي يبثه النادل على الهواء مباشرة في لطف التعامل العتيق مع السكارى ، احراج مبتسم ، احراج معترض على تعرقل الكراسي في سيقان صلاح الطويلة . ولأن؛ لم تكن هويدا في انجلترا ، لم يكن مايحكيه عنها لمن أصغر منه احباطاً؛هويدا كانت تسهر في بحري مع صديق أمريكي تعرّفت عليه من غرف المحادثات على الانترنت ووصلا الاسكندرية في نفس الفندق في نفس الأسبوع الذي تناقل أخباره صديق قديم مشترك بين هويدا وصلا ح، صديق شهد على عقد الزواج ، وعهود التطليق.

في الطريق سكراناً يساءل صلاح نفسه حتى المنشية : ما الذي قايضته بهروبي منها، ويحتدم سكره عند: تباً لكل من يتمنى السعادة لحبيبه المهاجر .

ارتطم نظره بكلب أسود ينام خلف عمارة مع أنثى متهدلة الأثداء تشبهه كثيرا ، كلب أسود مميز ،لا تقيدهما سلسلة ولا مفاتيح ، كلب ينام في عمق متيقظا شاحذاً رأسه فوق أذنيها كمن يحمي شبيهته ، وقف صلاح أمام الكلب وظل يتحدى نفسه بمحادثة الحيوان في الرابعة صباحاً ،ناسياً الباب الحديدي للنادي اليوناني ، ناسياً النادل ، ناسياً هويدا .

استفاق الكلب بالطاقة الروحية للكاتب السوداني المتنقل بين عواصم جمهورية مصر العربية، وقتها فضّل صلاح أن يتكلم العامية المصرية تيمناً بهويدا : أنت عارف أنا مستعد أعمل أي حاجة بس ترجعلي حبيبتي وفي اللحظة دي أنا مابقتش مميز زي ماهي وصفتني زمان ؛ محستش بقيمتها غير لما راحت ، كنت زيك بس دلوقت أنا .....أنا(كلبٌ عادي جداً ).

بعدها بعامين أو أكثر لم يكتب فيهم شيئا ً كهويدا، يرتدي قميصه وأقلامه في ضجر (خالع العمر)، يتجنب ابتسامتها التي تبتسم نصفها للأمريكي، مؤكد أنها نصف ابتسامة ، أليس كذلك ،زاوية فمها مرتكزة على مفاتيحه، ربع ابتسامة للامريكي الابيض ، إيماءة بالضحك ستكفي، ضحك؟ هل وصلت للضحك؟

تم حذف هويدا من الذاكرة بفعل عوادم السيارات ، الكحول المصري بلا ك ليبول مغشوشاً،الحشيش المحشو بالكيمياء، او الكيمياء المحشوة بالحشيش، حوادث اعتقالات زملائه بالسودان ، اياً ما يكون تعود هويدا محمّلة بعلاقات ،علاقات تحاول أن تصبح فاشلة، فلا تحسبها على نفسها في طأطأة رأسها لصلاح، الذي تصاعد به الحال للرقابة الأدارية كمواطن مميز يأوي كلباً أسكندرانياً مريضا في بيته بعد أن فصله عن شبيهته .

تنحسر هويدا على مقعد أنتريه صلاح الأزرق الوثير، من ثقل ما تخيلت من سعادة غمرته في رحيلها، قالت له : قرأت ذات مرة في مجلة أن الجهاز العصبي الأنساني مختلف في تكوينه عن أي حيوان في مملكة الثدييات، ذلك ما جعل الامراض العصبية عصية على الفهم الطبي بسبب استحالة التجارب المعملية على الحيوانات التي لا تحمل نفس الجهاز ،بمعنى أن الفأر أو الخنزير أو القرد لن يسعفوا البشر في التوصل لأي نتيجة .

سألها: حتى الكلاب.

أجابت : الكلاب أبعد مايكون عنّا وفاءً .



رحلت هويدا بعد أن تعاملت مع ثلاجته وغسالته وضلفة بلكونة الشقة الكبيرة، شقة صلاح الجديدة، والملابس النسائية في بيت صلاح، كل ما له باب صفعته بقوة ، حتى أبواب الكتب التي قرأها مؤخراً، سخرت من ضياع كل ماتحاول أن تذّكره به، ونظرت نظرة حانقة كلها احتقار وقالت: كلبك سيموت قريباً وفاءً لحبيبته وتجربتك هذه لا تنطبق على عقلك البشري المتطور في تعقيد النسيان.

يومين وانتحرت هويدا من على برج القاهرة، كانت ممبتسمة من ظن الناس أن شقرتها أجنبية مجنونة تعاقرت جرعة زائدة من الكوكايين، تبتسم في غرق دمائها ، وتودع حياة لم يحسبها عليها أحد لغياب كل الأوراق التي تشي بهويتها كمنتحرة، إلى مشارط كلية الطب، إلى مهاوي نسيان الفورمالين، كوكايين بفورمالين، أحلى دماغ للكاتبة الثلاثينية، وجثة مبتسمة يشير عليها بالضحك طلبة الصف الأول الطبي.



كأنها لم تكن ،أما هو يكتب رواية(كلب عادي جداً) ويشير إلى اختلاف الجهاز العصبي المركزي والطرفي للكلاب عن الأنسان العاقل البالغ ، وأن ماتم في حياة ذلك الكلب من بؤس وانتحار،لايمكن أن ينطبق على البشر أو طب الامراض العصبية، التي استاقت تجاربها من البشر، ونسى من حكى له الحكاية، ربما كان سامي عبدالحميد في قهوة ريش،لأن سامي طبيب ،متزوج من طبيبة ، من أب وأم أطباء، وتذّكر أنه حكى لسامي عن هويدا ولم يتذّكر هويدا.

صلاح عويس تنجح روايته نقدياً وانتشارا، يتكلم بالعامية المصرية تتخللها بعض الألفاظ الانجليزية كما علمته مارسيل حبيبته الجديدة،يرفض نظرات العتاب من الشباب على مقهى ريش حينما يذكرون قصيدة هويدا السعدي : كلب مميز...ضحكة معلقة وقلبٌ كسيح ،مشقة الترقب في غياب الفراشات من الصحراء والمستنقعات والادوار المرتفعة، أدوار الكلب المميز في مصعدي الخاص يوم مقتلي الجديد.

يضحك صلاح قائلا: الله يرحمها كان عليها رقبة أحلى بكتير من كتابتها.

صلاح عويس يقتل الكلاب بالزرنيخ في أطباق السوسيس الطازجة ، ولا يطيق رؤية أي كلب أسود متزوج من شبيهته ،أي كلب مميز يفسد عليه المرأة الذي يستمتع بها ، كأس الخمر الأول، عثرته في الكراسي ، سكبه للبيرة في ريش ، أي كلب مميز لا يظهر سينام صلاح مطمئنا هانئا رافعا عن نفسه الصفة التي أحبها وقتلها، لأن التجريب في الحيوانات لايفيد البشر.
تسجيل الدخول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى