ذاتي الكاتبة


تجردت من كل لباس ونزعت كل الأقنعة، استغنت عن كل الأدوار، محت كل التواريخ ثم حلقت خارج كل المعاني القديمة والحديثة.
أضحت غريبة عن الديار والأمكنة، اختارت أن لا تحمل اسما ولا لقبا، تخلصت من عبء حكايتها الذاتية، تحررت من كل الأهواء والأهداف، لم يعد لها من مبتغى سوى الصفاء.
كانت الحضور ثم الغياب في دورتهما المستمرة، عسى أن تدرك البصيرة التي بها تبصر، فتصبح النور ومنبعه في نفس الآونة.
ليس لها صوت ولا تتقن الغناء ولا العزف تجهل حروف الموسيقى، إلا أنها تملك القدرة على سماع ما لا يسمع، سواء أثناء اليقظة أو في المنام أو عند التأمل أو ما شابهها.
ليس لحبيبها وجه معلوم تحن إليه أو تتذكره، لها إمكانية الحلول في أي مكان أو زمان بفعل ذلك الانبلاج المعروف لدى الأحبة.
هائمة دائما وأبدا ، مخمورة لا تنام ولا تصحو ، مفتونة، بكل ما لم يأسرها ، بكل ظاهرة تلوح وتختفي ، بكل إشارة أو علامة أو كلمة تبين المعنى كي تنفيه أو تلغيه أو تعيد النظر فيه.
لا تحمل من أساطير الروح شيئا ،لا ما قيل عنها ولا ما ذكر ، تدرك ما يتجاوز الأبعاد الثلاث بالحدس المحض ، تتطلع إلى الغيب بواسطة الرؤيا وتسكن تلك المنطقة السابقة لنشأة التاريخ واللغة .
ما تكتبه أو تقوله من باب الاستعارة ليس إلا، هو تشبيه لحقيقة أخرى، كل أوصافها ظلال لمعنى مغيب، كل حكاياتها نسج من الخيال قصد الإشارة إلى لغة أخرى.
إنها تعرف ما تقول، إلا أنها لا تدرك كيفية تفرع معانيه وتكاثرها.
جميع الحالات النفسية : الحزن الفرح، الغضب، الانكسار، الدهشة، التعجب، الحيرة، اليأس، الأمل، القلق، الخوف، التعلق، الانفصال، دوائر جمعتها بأزمنة وأحداث ما فتأت تغادرها.
سألتها : كم عمرك ذاتي الكاتبة يا ترى، متى نشأت ، أين ولدت ، ممن ؟
فكان جوابها على النحو الآتي :
- من الكتب القديمة وتاريخها البعيد، من أفكار تبعثرت، من تجارب متعددة، من الاعتزال الذي كان لابد منه، من آهات، من دروب تعددت، من بلدان لا اسم لها.
- هل خلقت للكتابة عن النسيان وللحديث عن العدم والموت، أ ليس كذلك ؟
فإذا بي أسمعها كأنها تقول :
- من كل ما لا يجدي ولا ينفع، مما يبعث على الرهبة والخوف، مما لا يرجى منه شيء، من كل ما يتجاوزني جسدا وكيانا وذاكرة وإحساسا.
أنا كوكب من الأقوال والأفعال لم تتشكل بعد، تحيط بي مدارات مجهولة الجهات، تزورني الأحلام في منفاي وكذلك بعض الأفكار الغريبة.
ولي طقوس أتبعها، وأجواء ترسم لي العالم في صور لا أحد يلمحها أو يعلم بوجودها.
أنا مهندسة الرؤى المتطلعة إلى الغيب، أحمل بلسم الجروح بأنواعها الطفيفة منها والعميقة، تنقله كلماتي فتنفذ إلى النفوس كي تضمدها وتشفيها.
أنا الذاكرة المتنكرة في ألف ديباجة وديباجة، أعيد تفكيك الرموز، أراود المعنى حتى بلوغ العبث دون خشية السقوط في الجحيم "السيزيفي".
أنا الصورة المتخيلة التي لم ترسم بعد، حلم الكلمات التي لم تعزف، الحب الذي يشدو دون أن يكون صوته مسموعا ولو حتى من الطيور.
أنا الغربة في أصلها وفصلها المنقطعة عن كل انتماء، سليلة بلد لم يوجد بعد .
أنا التيه الذي يرنو إلى معرفة نفسه، يدور حولها دون توقف، لا يصبو إلى الانصهار في ملجأ غير ذاته وقد أدرك تبدل الأزمان والأمكنة.
أمد يدي كي تمسك جذع النور الذهبي وبريقه وقد نثر من حوله تلاواتي وأشعاري.
زمني هو زمن الطفولة المرحة، ما انفك يرمي بشظايا الماضي من نوافذه، بحثا عن دهشة الصبا وبراءتها.
شريدة أنا ، متصلة إلى حد الفناء بالغربة ، لا وطن يزور أشجاني ، لا مرسى يحدثها عما تخفيه البحار من أقطار،شريدة أنا التشرد التام قد أقمت في عالم الهوامش جميع مدني ، ذلك الذي لم تطأه قدم ، ولم يسمع عنه أحد ، أغني لنفسي عن نفسي ،أوهمها أن التشرد قدر لا مفر منه ، أنا الهاربة من كل ضجة من ذلك الضوء الالكتروني الباهت وتلك النصوص المتكررة وذلك الفراغ الجمالي الرهيب ، شريدة ، أراقب هجرة الطيور إلى الأقاصي ، أرنو إلى السماء إلى الفضاء إلى الهواء إلى الريح إلى السحب إلى ذلك العلو المتجدد.
- ما تكتبينه ، يحكي الوقائع ولا يحكيها كما وقعت، بل يصفها من وجهة نظرك ، ما تكتبينه متصلا بالزمان لكنه يتجاوزه ، ما تكتبينه لا يقتصر على سرد حكايتك أو حكاية الآخرين بل يذهب أبعد منهما، ما تكتبينه خيالا مجازا استعارة، وصفا للممكن للأحداث للمشاعر، فمن تكوني ، من تكوني ؟ كأني بك، لا تحتكمين إلى سنن معينة ،فمن أين لك بكل هذا الإشعاع ؟
- لا أدري، ربما من الفجوة التي تفصلني عن الحياة وتجعلني في موقع الشاهدة، ربما لأنني لم أخلق من دم ولا من لحم بل من أفكار متواردة، ربما لانغماسي في التفكير في ما نقوله وما لا نقوله، في ما نأتيه من أفعال وما نمتنع عنه ، في ما نعيشه من أحداث وما نشعر به من أحاسيس.
- أراك الآن تمشين حذوي ترافقينني في رحلتي هذه، تختفين وراء الجمل والكلمات، تحملين عبء عيوبها وتكلسها، أسمع حديثك المسترسل الذي قد لا ينقطع حتى بعد انتهاء الرحلة،
فهل أنت صدى لروحي أم قبس لما يتأجج داخلي أم أفكار عابرة أم إرث قديم يتجدد، من أنت ؟
هل تكوني إنسانيتي التي تفكر في نفسها في غربة وعزلة ؟
كانت تلك بعض الأسئلة التي طرحتها على ذاتي الكاتبة، دون أن أتلق منها ردا.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى