محمد الغزي - إخوان الصفاء كتبوا 52 رسالة في الفكر التنويري.. بسطوا الفلسفة والعلوم وكانت غايتهم نشر أفكارهم لا ترويج أسمائهم

أخذوا هذه التسمية من التراث العربي، فقد ترددت في الشعر الجاهلي، كما ترددت في كتاب ابن المقفع "كليلة ودمنة" الذي تداوله الناس قبل قرنين تقريباً من ظهور الجماعة. وتشير هذه التسمية "إخوان الصفاء"، إلى معاني النقاء والوفاء التي ينبغي أن يتصف بها كل من ينتمي إليهم. اختاروا "التقية" والتكتم على أسماء حكمائهم وعلمائهم، لكن أبا حيان التوحيدي كشف عن أسماء بعضهم، وأشاد بعلمهم وقيمتهم الأدبية، فاستدرك عليه بعض المؤرخين، وشكك في حقيقة وجودهم.

كما اختلف الدارسون في فهم الأسباب التي دعتهم إلى التستر والتخفي، فبعضهم قال إن الاضطرابات السياسية التي استشرت في الإمبراطورية العباسية كانت السبب المباشر في اختيار التقية، لا سيما بعد انعدام الأمن وانتشار الفوضى.

البعض الآخر قال إن أفكار إخوان الصفاء كانت غريبة عن عصرهم، فآثروا التكتم عليها. أما الفريق الثالث فقد ذهب إلى أن إخوان الصفاء لم يكونوا مهتمين بنشر أسمائهم بقدر اهتمامهم بنشر أفكارهم فلم يتحدثوا عن أنفسهم، ولم يذكروا أسماءهم.

من هم إخوان الصفاء؟

ثمة إجماع بين المؤرخين على أنهم كانوا مجموعة من المفكرين والعلماء الذين التقوا في مدينة البصرة خلال القرن الرابع وعملوا متعاونين، على التوفيق بين الشريعة والفلسفة، معولين على ثقافتهم الموسوعية، مسترفدين كتب الفلاسفة القديمة، مؤمنين بأن "متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة المحمدية فقد حصل الكمال". فكانت حصيلة ذلك اللقاء كتابة اثنتين وخمسين رسالة استودعوها معارفهم، ومختلف أفكارهم وعلومهم، كاشفين، من خلالها، عما وصل إليه العرب من تطور كبير في مجال الفلسفة، ومن اطلاع عجيب على التراث اليوناني القديم، ومن إلمام غير مسبوق بالثقافتين الفارسية والهندية.

بسبب من هذا انتشرت هذه الرسائل في كل البلاد الإسلامية وغدت مصدراً من مصادر الفلسفة الإسلامية، إليها يعود المشتغلون بالحكمة، وعليها يحال الدارسون، وبها يحتج العلماء والباحثون. وإنه لأمر ذو دلالة أن تنشأ هذه الجماعة في البصرة.

فهذه المدينة كانت بعيدة من المركز، بغداد، مما سمح لمختلف الفرق أن تستقر فيها، فازدهرت حياتها الثقافية بعيداً من أعين السلطة.

كان لإخوان الصفاء غايتان من حركتهم الفكرية الفلسفية، أما الغاية الأولى فيوضحها التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة قائلاً "إن الغاية التي كان يتوق إليها هؤلاء الحكماء والعلماء على اختلاف آرائهم وتباين مواقفهم هي تطهير الشريعة من الضلالات عن طريق الفلسفة". يقتبس أبو حيان كلامهم فيقول "كانوا يرددون (إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة وذلك لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية)".

أما الغاية الثانية فتتمثل في "تأسيس مذهب إسلامي ذي أبعاد كونية يستوعب كل المذاهب الإسلامية والفلسفية ويوحد بينها، فكانوا "يأخذون من كل مذهب إسلامي ما يرونه صحيحاً في محاولة منهم لبلورة تيار فكري مستقل وجامع".

تكشف لنا الرسائل عن مصادر فلسفة إخوان الصفاء والينابيع الأولى التي نهلوا منها. وتعد مؤلفات المعلم الأول أهم مصادر الرسائل، وأولاها بالنظر والتأمل. ففي فضائها قد تردد اسم أرسطو تردداً لافتاً، كما تردد اسم فيثاغوروس ونظريته في العقل الكلي المكلف في تدبير الكون، كما أحال إخوان الصفاء على عدد آخر من الفلاسفة اليونانيين. ويذهب محمد عابد الجابري إلى أن الرسائل كلها ذات نزعة هرمسية لا تخطئها العين.

رسائل الإخوان

إن عبارة الرسالة، في هذا السياق، تعني المبحث والدراسة والفصل وهي بهذا المعنى قد انتشرت منذ القرن الثاني في الأدب العربي، إذ باتت قالباً فنياً لعدد من المؤلفات ذات الطابع الأدبي والعلمي.

أما رسائل إخوان الصفاء فكانت ذات طابع تربوي تعليمي الغاية منها تلقين "المبتدئين" أهم علوم العصر، من الرياضيات إلى العلوم الإلهية، إلى الهندسة، إلى علم الفلك إلى الجغرافيا، من دون أن يغفلوا قواعد الموسيقى وماهية العشق، أي إنهم ضمنوا هذه الرسائل كل معارف العصر حتى يكون المنتمي لإخوان الصفاء مستوعباً لكل العلوم، قادراً على مواجهة الخصوم. وقبل كل ذلك أن يكون قد بلغ سعادة النفس عن طريق المعارف التي تطهر النفس، على حد عبارتهم. فهم ما فتئوا يدعون أصحابهم "أن لا يعادوا علماً من العلوم أو يهجروا كتاباً من الكتب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها".

لكن الغاية البعيدة التي نجدها تتلامح في كل فصول الرسائل هي دفع الناشئة إلى تعاطي الفلسفة والإقبال عليها ومواجهة كل الذين يزدرونها جهلاً بحقيقتها.

وقد اختار كتاب الرسائل أسلوب الجاحظ في التأليف وهو الجمع بين الجد والهزل من أجل إقناع القارئ وإمتاعه في آن.

أثر الرسائل في الفلسفة الإسلامية

وبما أن هذه الرسائل كانت موجهة إلى المريدين من الناشئة، وإلى المنتمين الجدد وربما إلى عامة الناس، جنح إخوان الصفاء إلى استدعاء القصص والنوادر للشرح والتوضيح "فذلك أبلغ في المواعظ وأبين في الخطاب"، كما اختاروا من أساليب التعبير أوضحها، متجنبين المفاهيم الغامضة، والتراكيب الغريبة، والعبارات الحوشية.

يقول طه حسين "إن لرسائل إخوان الصفاء قيمتها الفنية الخالصة، فهي من حيث إنها تتجه إلى جمهرة الناس للتعليم والتثقيف قد عدل فيها عن العسر الفلسفي إلى اليسر الأدبي، وعني كتابها بألفاظها وأساليبها عناية أدبية خالصة ففيها خيال كثير، وفيها تشبيه متقن، وفيها ألفاظ متخيرة، ومعانٍ ميسرة، وليس من الغلو أن يقال إنها قربت المثل الأعلى في تذليل اللغة العربية وتيسيرها لقبول ألوان العلم واختلافها، وجملة القول إن هذه الرسائل كنز لم يقدر بعد، لأنه لم يعرف بعد".

يجمع الباحثون على أن رسائل إخوان الصفاء قد أثرت تأثيراً عميقاً في الفلسفة الإسلامية، فالمعتزلة قد استفادوا منها في ردهم على خصومهم، والغزالي اقتبس نظريتهم في التربية، أما ابن خلدون فقد استلهم العديد من أفكارهم في مقدمته، مما دفع بالدكتور محمود إسماعيل إلى اتهام العلامة بالسطو والسرقة في كتابه "نهاية أسطورة / نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفاء". فهذا الباحث ذهب إلى أن ابن خلدون قد نثر الأفكار التي اقتبسها من رسائل الإخوان في شتى أنحاء المقدمة، وذلك حتى يخفي آثار سرقاته الأدبية. وعلى الرغم من ذلك، فكثيراً ما اقتبس عناوين الفصول من تبويب إخوان الصفاء مع إجراء تعديلات طفيفة، كما أنه أخذ الكثير من المصطلحات مثل العمران والتوحش والبداوة والانحطاط ونسبها إلى نفسه.

لا شك في أن الباحث قد جانب الصواب حين جعل المقدمة استنساخاً للرسائل، لكن هذا لا يمنع من القول إن ابن خلدون قد أفاد، مثل بقية المفكرين، من رسائل إخوان الصفاء، وأفاد على وجه الخصوص من لغتهم المفهومية ومصطلحاتهم الاجتماعية.

بتحريض من عدد من أعداء الفلسفة أمر الخليفة "المستنجد" بإحراق رسائل إخوان الصفاء مع مؤلفات ابن سينا، وكان سلفه المتوكل قد أمر، قبل ذلك، بإحراق كتب المعتزلة. وبذلك تم القضاء على حركة فلسفية تعد من أهم الحركات الفلسفية التي عرفها الشرق القديم، وأعمقها فهماً لوظيفة الحكمة ووظيفة الحكيم في المدينة الإسلامية.
أعلى