نهى الرميسى - القصر..

كان يسير بجوار القصر المنيف، يسير بخطوات ثقيلة ممتلئة بالرمال والتلال والسنين، حتى أن قدمه حين تطأ ثرى الأرض يشعر وكأنه طائر الرخ يحط إلى مهبطه بعد السفر الطويل، وحين يرفعها ويدفعها للأمام تستغرق تلك الدفعة سنوات، تستطيل معها لحيته وأظافره، وتنهك قواه فيبدو كالقادم من الزمن البعيد .. لكنه يسير .
لاحَظَ أن سور القصر قطع منتظمة متراصة من البنايات الخرسانية، تفصلها أعمدة عملاقة، لكنها ليست بعيدة الارتفاع، وكذك كان السور يحمل زخارف ونقوشاً، وتعلوه حلية ملونة تبدو خلفها آفاق الأشجار الباسقة السامقة .
انتابته رغبة غريبة، لكنها قوية وملحة، رغبة في تسلق السور، رغم علمه التام بأن ذلك سوف يعرضه لمتاعب ومخاطر لاقبل له بها؛ فإذا كانت خطواته سنوات، فما بالك بقفزاته.
لكنه كان مدفوعاً بفعل شهوة ما من شهوات البشر الجامحة، ربما تكون شهوة اكتشاف المجهول لتغيير الواقع الأليم .
قطع عدة مسافات منتظمة من السور، ولاتزال تلح عليه أفكاره.
لم يفكر في شئ أبعد من ذلك، فلم يفكر مثلاً: ماذا عساه يفعل بعد تسلق السور؟ وماذا يمكن أن يلقاه خلفه؟ لم يشغل باله شئ من هذا .
وأخيراً استجاب لتلك الرغبة، وحاول تسلق السور، أمسك ببعض النقوش البارزة، ووضع قدمه على قاعدة السور التي تبرز قليلاً عن أعلاه، مجرد المحاولة كانت شيئاً صعباً، لكنه لم ييأس، فصعد خطوة أخرى بعد أن وضع قدمه على نقوش في مكان أعلى من السور بينما يده تتلمس حافته .
لم يكن يتوقع أبداً أن تكون الخطوات الأولى بهذه السهولة، وكانت دهشته أكبر عندما وجد يده تصل إلى الحِلية القائمة أعلى السور .
لم يشعر أنه لقى عناء كبيراً حتى وصل إلى أعلى، وحين رفع رأسه ليطل بها من أعلى السور؛ هالته المفاجأة :
فقد برزت بين فروع الأشجار المتدلية على السور عينان واسعتان مفتوحتان ثابتتان في محجريهما تقريبا، كانت العينان لجندي ذي وجه صارم وبارد أيضاً، خال من أي أمارات أو علامات، لكنها مفزعة!!
وكان الجندي رابضاً، يحمل بندقية آلية، يبرز منها نصل لامع حاد، يوشك أن ينغرس فيمن يرمقه.
شعر بألم في مقلتيه وكأن النصل مسهماً، فوثب إلى الأرض وثبة واحدة أوقعه بها الرعب والهلع، ثم جلس هنيهة على الأرض يلتقط أنفاسه اللاهثة، ويستجمع قواه التي ذهبت بها ضربات قلبه المتلاحقة .
ثم نهض واقفا وتابع المسير على نهجه السابق، وبعد أن قطع مسافة أخرى، عاودته الرغبة نفسها، على الرغم من أنه لم يسلم بعد من فزع المحاولة الأولى.
يدفعه شعور جارف لايملك منه فكاكا .
وبعد مجاهدة مع نفسه استجاب لرغبة تسلق السور للمرة الثانية، فوجد المحاولة هذه المرة أيسر من سابقتها، إلا أنه وجد جندياً آخر على هيئة السابق نفسها.
فزع أيضاً، لكنه لم يقفز بسرعة هذه المرة، بل نزل إلى الأرض في تمهل وتؤدة، وبعد أن قطع مسافة أخرى عاود الكرة، وتسلق السور ببساطة الحاذق المتمرس، وأيضاً وجد الجندي ذا العينين المفتوحتين والبندقية ذات النصل الحاد اللامع، لكنه انتظر قليلاً هذه المرة، ونظر محملقاً في الجندي، وبدا له أن الجندي لم يلمحه، فهو لم يلتفت نحوه، بل كان شاخصاً ببصره الحاد في جهة البندقية، لم يبد أي حراك ولم ينتبه لشئ.
تحركت قدمه التى يدسها بين النقوش البارزة في السور، وكادت تفلت في الهواء، فثبت عن حركة تلقائية إحدى يديه في الحلية أعلى السور، وطاشت يده الأخرى في الهواء تبحث عن شئ تمسك به، فتلمس حواف فروع الأشجار الباسقة، ثم ثبتها مرة ثانية في حلية السور، فتحرك فرع الشجرة في الهواء، ثم اصطدم بخفة شديدة بالجندي الشاخص.
يا إلهي، لقد سقط الجندي على الأرض، على أثر لمس فرع الشجرة له.
لا..لا يمكن أن تكون اللمسة الخفيفة هي التي أسقطته.
نظر إلى أرض الحديقة خلف السور، لقد سقط الجندي وكأنه دمية لاتتحرك، ولا تتأوه ولاتبالي بما حدث.
أغراه ما حدث بأن يقفز إلى داخل الحديقة خلف السور، لكن الظلام حالك والأشجار كثيفة، لم يتردد كثيراً ووثب إلى أرض الحديقة، وفي هذه المرة لم تسر الأمور على ما يرام، فقد ظهرت أضواء خافته مسلطة على الأشجار ووجد بجوار جذوعها الضخمة المخيفة كلاباً سوداء شرسة مفزعة، ذات أشكال مخيفة، إن لها أنياباً طويلة حادة، وآذانها ناتئة للأمام في عصبية وهياج، تقف بكل إصرار وعزيمة على أهبة الاستعداد للانطلاق كأمهر العدائين، تبرز أجسادها المتعضلة المنطلقة في الهواء في رشاقة كالسهام المنطلقة، لكن تجمعها صفة واحدة، لم يلحظها لأول وهلة، وبعد ما استبد به الفزع وأصيب بشئ من التبلد والثبات انتبه إلى صورتها الثابتة، إنها على حاتها تلك خالية من الحركة.
هل هي تماثيل؟ كلا، كلا، إنها كلاب متوحشة، ولكن يا للعجب!!
شجعه ما رأى على أن يتقدم خطوات أخرى للداخل، لكنها خطوات لم تفرغ من حذر شديد، وخوف مروع، خاصة عندما تصطدم قدماه بصنابير ري الحشائش في أرض الحديقة.
مد بصره بعيداً قليلاً، فلمح أنواراً تصدر عن القصر، كأنه كوكب دريٌّ مضئ.
ما أبدع عمارة القصر التي تحليها تماثيل لأفراد ولأسود ضخمة على المنافذ خاصة!!
وما أعظم نوافذه وشرفاته المطلة على الحديقة !!
تقدم نحو النور، وهو ما يزال على حذره، تفزعه وسط هذا الصمت العميق دقات قلبه المتسارعة .
وعندما اقترب من مبني القصر، وجد ببابه رجالاً ضخام الجثة، طوال القامة، مشرئبي الرؤوس، يتشابهون فيما بينهم، وكأنهم نسخ مكررة، كانوا يجولون ببصرهم هنا وهناك، ويمسك كل منهم بجهاز لاسلكي يتحرك مع يديه يتحدث فيه .
خشي أول الأمر أن يلمحوه، ولم يستطع أن يقاوم رغبته في التقدم، فلأي سبب، وبأي حال، لا يمكنه التقهقر أو الرجوع، تقدم خطوات أخرى حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وهم على نفس حالتهم.
تعجب من عدم انتباههم له، وشجعه ذلك على أن يمر حَذِراً من بينهم، إنها مغامرة، لكنه ظل مدفوعاً بشكل لامفر منه، وكانت دهشته أكبر عندما مر بينهم، ودخل القصر، دون أن ينتبه أحدهم، أو يلتفت إليه ولو بإشارة.
دخل القصر، وهو منتفخ الصدر، عالي الرأس، يشعر بزهو الانتصار، وبفرحة المفاجآت السعيدة، وكأنه الفاتح الغازي العظيم .
دخل بهو القصر مشدوهاً، متأملاً ما يرى من أعاجيب فنون العمارة والزخرفة، ألقى ببصره داخل القاعة الرئيسة بالبهو، إنها كبيرة جداً تسع عدداً هائلاً من المقاعد الفخمة، وعليها عدد كبير من الجلساء وكأنهم ضيوف حفل كبير .
رآه على رأسهم في صدر المجلس، هو ..هو .. بالتمام والكمال، كما يظهر في الصور، رآه يجلس على كرسيه الفخم العريض .
حدثته نفسه : يا له من رجل عظيم الهيئة، مهاب الطلعة، تبدو على بشرته آثار الترف والنعيم.
اندس وسط المقاعد بثقة وإقدام، وكأنه أحدهم، ثم تقدم بخطوات نحوه، حيث كان يبسط يده، وكأنه ينتظر صاحبنا لمصافحته، تقدم أكثر، مد يده ليضعها في يده، يا إلهي، لقد سقط كدمية من الخشب على الأرض!!
جلس صاحبنا في صدر المجلس، على الكرسي الفخم العريض، يداعبه أول ضوء للنهار يرفرف خلف زجاج النوافذ، فأطلق ضحكات عالية، ارتجت لها جنبات القصر العظيم .


نهى الرميسي / مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى