د. حاتم الصكر - أقاويل الجملة الشعرية وتأويلها

من بين منجزات الحداثة غير المنظورة، أو المحتسبة إيجابا لها، اعادتها هيبة علامات الترقيم داخل الملفوظ الشعري، واستثمارها لوصل الملفوظ ببعضه من جهة، وبالمغيب أو المسكوت عنه خارج النص، من جهة أخرى.
إذ لم يكن لهذه العلامات قبل التحديث الشعري الذي بدأ بشعر الرواد - النصف الثاني من أربعينيات قرننا تحديدا - أي وجود. فقد اختصت بالنثر، وهُمشت شعريا لصالح سياق القصيدة البيتي. أي المنبني على أساس وحدة البيت واستقلاله. فليس من مكان لوقف أو استفهام أو تفصيل أو فاصل صمت أو تعجب، إلا ضمن وقفة البيت العروضية والتقفوية التي جلبت معها - لتقوية كيانها البيتي المستقل - وقفة معنوية بمعنى أن جرس القافية إيذان بانتهاء وحدة شعرية مستقلة وزنا وإيقاعا ومعنى. وما يظل من تدوير أو ترابط هو في بعض التصنيفات الموسيقية التقليدية ليس إلا خطأ فادحا يدل على عجز الشاعر أو غفلته أو خروجه على المألوف، لما يمثله اعتداؤه على استقلالية بنية البيت الشعري من تجاوز للذائقة. وهي ذائقة تكونت في ظل حاضنة شفافية، كان مبررا تماما على وفق نظامها السمعي على مستوى التلقي والإلقائي على مستوى الإرسال والبث، أن تحتاج لما يسور وحدة البيت ويصونها كي يصبح استيعاب المعنى والألفاظ ممكنا، ومتفقا مع الوظيفة العضوية لعاملي الإرسال والاستقبال (اللسان - الأذن).
وبهبوب رياح التحديث، تغير موقع المتلفظ والمتلقي معا. وصار للعين مسرح ضاج حافل بالموجودات المكتوبة على سطح الورق. وكان الامتداد المعنوي، بسبب سعة الدلالة ولا نسقيتها ومفاجآت القصيدة النامية بلا نظام صارم، يفيض عن وحدة البيت، ليقترح بناء سطريا جديدا، يتطور لاحقا الى الجملة الشعرية بنوعيها: الكبرى ذات الهيمنة على البناء والدلالة والايقاع والتركيب، والصفري ذات الوجود الفرعي الخادم لوجود الجملة الكبرى، والمتنوع على وحدتها، والمتعدد على مركزيتها أو بؤرتها المولدة. بهذا التراتب التاريخي الذي هو حصيلة تطور نوعي لا زمني وناتج وعي لا تقليد أو وراثة، صار للشكل الشعري ثلاثة تشكلات رئيسية تتدرج كالأتي:
وصار لزاما على القاري؟ المتعين كتابة لا مشافهة، أن يجدد لا ذائقته فحسب، بل ذخيرته النصية. فيهجم على النصوص لاحتوائها واستيعابها بما يجهز به نفسه من عدة كتابية تناسب السطح الذي تطالعه عليه القصيدة. صار على هذا القاريء البصري أن يتأمل دلالات علامات الترقيم وأن يجدد نظرته الى التقفية والتكرار، والمطالع والخواتم وما بينها، ليتسع أفقا كي يلتهم أبعاد النص ويتمثلها قراءة وفحصا وإدراكا.
وإذا كانت هذه المقدمة ضرورية لتحديد نقطة النظر الى شعر البريكان ضمن سياق الحداثة التي ينتمي اليها في ذاكرة الشعر العراقي وخارطته، فإن شعر محمود البر يكان - وهذه مناسبة ثانية - هو شعر قراءة بصرية لا مشافهة وسماع. وعلى هذا الأساس سوف نتفحص عنايته بتوزيع الأسطر الشعرية لصالح الجملة الكبرى وتفريقاتها الصغري، ولكيلا نفترض التقاويل والتلفظات سنعمد الى مسودة إحدى قصائده (غياب الشاشة) 1990 - ونتأملها بخطه لنرى وعيه بالمكتوب ومادية الورقة وصلتها بالعبارة الشعرية.
ما يتيحه (غياب الشاشة) إذن هو اتصال بصري بنص حديث لنرى قصائده وحبائله وملاطفاته ونكته وحكمته ونزقه.. لنرى وجوده طه مختبئا وراء الصوغ الشعري المتقدم في جمل حية ذات فواصل ونهايات ومتن وبدايات واعتراضات واستطالات وقطع بالغ الحدة واستئناف غريب المبتدأ.. غريب المنتهى غريب المسار.
في قصيدة (غياب الشاشة) لمحمود البريكان، يطالعنا الوجه السطحي المقروء للنص، أو هيئته الخطية بثلاثة مقاطع تفصل بينها نقطتان سوداوان أرادهما الشاعر علامتين على الانتقال من المقطع الأول الى الثاني ومن الثاني الى الثالث. وهذا البناء المقطعي بعض أقاويل التحديث وفذلكاته سواء أجاء كما في هذه القصيدة من دون ترقيم، أم جاء مرقما بأرقام أو مسلسلا بأحرف وما شابه. وليس البناء المقطعي هنا عبثيا. إن النقطة السوداء تعلن نهاية حركة وموقف يشملها المقطع، وتمهد لحركة وموقف يليانه، ولابد أنهما متغايران على مستوى التركيب والدلالة، وهذا ما حققته قصيدة البريكان. فقد كان مقطعها الثاني تثبيتا يقدم مشهدا حاضرا. بينما كان الأول ينقض كذلة تصوير على كسرة مشهدية ليرينا المكان أو مسرح الأحداث بجملة صغري تمتد على خمسة أسطر، ثم يذهب الى الماضي مسترجعا ماضي القاعة كلها من خلال الشاشة (التي كانت.. وسط هذا الدار). أما المقطع الثالث فهو استعادة لفراغ الشاشة من المعروضات والخروج الى الدلالة الصريحة (انطوى مهرجان الحياة).
على هذا الأساس تنقسم القصيدة الى ثلاثة مقاطع ظاهريا. لكن تقنية جملها الشعرية التي لا تلتزم بحدود السطر الشعري ترينا وجود أربعة انتظامات مقطعية واضحة التباين هي:
1- مقطع المكان - مسرح الأحداث والاستلهامات الشعورية وتجليات البؤرة الأولية. ويبدأ من
(مخزن الأمتعة) الى (كغبار).
2 - مقطع الحضور الغيابي أي استحضار الشاشة الغائبة الآن، لتحول القاعة السينمائية الى مخزن عاديات قديمة. (هاهنا كانت الشاشة الساطعة) الى (والدموع).
3 - مقطع تثبيتي يهدف الى تكريس مقطع المكان، لكنه يتنوع على فراخ فلسفي أو وجودي (للمكان روحه الصامتة) الى (متعلقة بالدار).
4 - مقطع السؤال المصيري الذي يبدأ دلالة في السطر الخامس (من يرى يتذكر؟) الى (حين تضاء المصابيح ثانية). فالشاعر قدم اللحظة على السؤال بنائيا.
إن المقاطع الأربعة المستنبطة بالقراءة الثانية المدققة بالعلاقات والارتباطات وكذلك بالانقطاعات والفصل البنائي والدلالي تجسد كلها ثنائية (الماضي / الحاضر) التي هيمنت على النص كله. وسنرى أن الجملة الشعرية الكبرى وتفريعاتها موظفة هي الأخرى لتجسيد دلالات هذه الثنائية التي بهظت روح الشاعر ووجوده حتى جعلته يتخلى عن حيادية التصوير التي عرف بها وخروجه من المشهد الشعري وتغييب الأنا - أنا الشاعر - لصالح أنا النص ووجوده ؟ وهي أسلوبية خاصة بالبريكان لازمت تعبيراته الشعرية منذ البدء. فدوما هناك راو أو سارد أو مصور مختف وراء الروي والسرد والتصوير. إنه يعرض علينا ما يرده سينمائيا دون تعليق. وهذه الميزة جعلت البريكان متناسق الأداة والهدف في هذا النص، مجافيا - كعادته - أية غنائية من لوازمها هيمنة الذات وعائدية الضمائر والأفعال لها. لكنه في هذه القصيدة بالذات يتخل عن حياد يته في الأسطر الشعرية الثلاثة الأخيرة حين تساءل خارج سياق الشاشة ووجوهها المضيئة ومشاهديها عن الناس هل غادروا (أحلامهم) لا مكان العرض وحده.. وفسر ذلك بالسؤال أيضا عن تلاشي مهرجان الحياة كتلاشي الظلال على شاشة خالية. وكأنه جاء بالمعادل الرمزي المساوي لخلو الشاشة وفراغ القاعة فصار:
تلاشي ظلال الشاشة الخالية
انطواء مهرجان الحياة ومغادرة الناس
إن هذا البوح الدلالي ربما أضر بإيقاع النص المعتمد على حيادية إيهامية. فالشاعر لا يقف محايدا ازاء الحياة والموت، امتلاء الشاشة وفر اخ القاعة. لكنه اكتفى بالتستر وراء المويتفات الحزينة والجارحة، الحادة بفعل التذكر ويقظة الذاكرة. أما النهاية فقد جاءت اقتحامية اقحامية. هجم الشاعر على المشهد وسأل سؤاله الحاد فأقحم وعيه في صمت الأشياء وغبارها ورمادها.
تعرفنا حتى الآن على ثنائية وثلاثة مقاطع ظاهرية وأربعة مقاطع دلالية. ونصل عند هذه النقطة الى التعرف على الجمل الشعرية. لنجد أن العنوان (غياب الشاشة) هو من النوع المباشر المعبر عن المحتوى. إنه عنوان استباقي أي انه يحكي ما سيجري ويرشدنا الى بؤرة الحدث فكل ما سنقرأ هو عن (غياب الشاشة). وجمل النص الأخرى هي تفريعات تنويعية لهذا الغياب. إن الشاشة ذات وجود محير. فظلامها انتهاء وضوؤها إعلان عن بدئها وحياتها.لكنها لا تضيء إلا وسط ظلام القاعة. إن الظلام المطبق إشارة الى بدء توهج الشاشة. فهل أراد البريكان باستحضار هذه الثنائية أن يذكرنا بخروج الحياة من العدم أو لزوم العدم لوجود الحياة وانبثاقها؟
لقد تسبب هذا الازدواج بأزدواج دلالي محير. فالشاعر يعد الفراغ التالي لانتهاء العرض مساويا للإضاءة التي تعني النهاية. فخروج المشاهد مقترن بالضوء الذي ينتزعه من تماهيه بالمرئيات على الشاشة. فتحقق على مستوى الترميز شيء مزدوج هو:
■ إضاءة القاعة = فراغ الشاشة + غيابها
بمقابل: · عتمة القاعة = امتلاء الشاشة + حضورها
يترتب على ذلك سؤال يتصل بالتلقي: أيكون غياب الشاشة وفراغها بالضوء مساويا لغبار القاعة وتحولها الى رماد من الذكريات والأشياء العادية ؟
إن الجمل الشعرية التالية للعنوان كلها تجيب على هذا السؤال وتكرس الثنائية الكبرى أعني ثنائية الماضي /الحاضر أو الحياة / الموت أو الحضور /الغياب.
تعرفنا هنا على ثنائية كبرى إذن وتنويعاتها الداخلية الثانوية. كما تعرفنا على جملة كبرى يلخصها العنوان وتشتغل القصيدة كلها من أجل تكريسها منذ السطر الأول حتى علامة الاستفهام التي ختمت السطر الأخير من القصيدة وصار المخطط التجريدي للنص واضحا بتعيين الجمل الصغري وهي بالتتابع:
- جملة (مخزن الأمتعة..)
- جملة (للمكان روحه الصامتة..)
- جملة (هاهنا كانت الشاشة الساطعة)
- جملة (من ترى يتذكر؟ لحظة تتصاعد..)
- جملة الختام - السؤال الذاتي الإقحامي: وهل غادر الناس.. وانتهوا وانطوى مهرجان الحياة ؟ تتخللها كلها وتخترقها وتطوها جملة النص الكبرى (-جملة العنوان): غياب الشاشة. إن البناء الجملي الحقيقي (- النحوي/ مؤسس على الاسمية. فالجمل لدى البريكان اسمية أي أنه يتخذ هيئة المخبر عن الأشياء لا الفاعل وهذا يناسب مقام الدلالة، فالتلفظ بالاخبار يوافق تماما موضع الشاعر كسارد للنهاية: نهاية الشاشة والقاعة والحياة والماضي. هنا لن تقوم الأفعال إلا بدور ثانوي لذا نجدها مكملات لا أساسيات. أي أنها تستخدم لصوغ الخبر أو الحال أو الصفة لا لتترأس الصياغة وتتقدمها لبناء الحدث.
حتى البناء الجملي الفعلي يأتي ناقصا أي بالفعل (كان). أما البناء الفعلي التام فهو تابع للاسم مثل:
1- الشعاع الذي يتراقص...
يموج... [صلة الموصول + خبر]
2- السكون
وحده يتنفس [خبر]
أعلى