حيدر الناصري - موناد..

" أن نوجد، ليس شيئًا آخر غير أن نكون مُتناغمين" الفيلسوف الألمانيّ"
لايبنتز





رسا العطاء عليّ، بعد جدال طويل مع صفيّة، حول تحديد مكان السهرة؛ فدعوتها إلى حفل موسيقيّ،
اليوم أول عروضه، في دار الأوبرا الجديد، التي أقيم بناؤها على أطلال مسرح المدينة الصغير.
وضعتْ سبّابتها المطلي إظفرها باللون الجنزاريّ على (النَثْرَة)، وسرح بالها في شيء أجهله، ربّما
أدهشها اختياري دار الأوبرا، وربّما مسرح المدينة القديم أعاد لها ذكريات المسابقات الشعريّة أيام
المدرسة، فبقيتُ أتملّى وجهها الماسيّ الوديع لحظات، حتى اكتشفتْ أن روحها الشاردة، عادت إلى
المكان.
قلّبتُ صور هاتفي، فعثرتُ على صور لدار الأوبرا الجديدة، وقلت لها بلهفة:
- أنظري إلى القبّة مغطّاة بـالبلاط المزخرف، إلى الواجهة البيضاء المعمولة من الحجر، إلى أعمدة
الرخام اللامعة المهيبة، إلى ثريا الكريستال الضخمة وسط القاعة.
بأسف بالغ ردّت:
- لا تنسَ، المسرح القديم، كان مقرًّا للإرهابيّين، وعلى خشبة العرض، أقاموا المحاكمات والإعدامات،
لم يتركوه إلا بعد تفجيره.

- لو لم يفجّروه؛ لما كانت موجودة اليوم هذه الأيقونة!
نظرت إليّ نظرة الحانق المستخفّ، ومالت بوجهها عنّي غير راضية. معها حقّ، أعرف أني استعجلتُ
الإجابة، لم أدع الفكرة تختمر في عقلي، فتأخذ شكلا آخرا يناسب قناعتها؛ فردّتْ متسائلة:
- والناس التي ذُبحت؟
- سنجد اليوم، على كراسي الفرجة المنجّدة بالمخمل أناسا مسرورين، وعشّاقا يبرق من عيونهم
الشغف إلى الحياة، وعلى خشبة المسرح مغنّية ستذوّب أرواحنا بجمال صوتها الأسطوريّ، و(الكورال)
سيؤدّي مع الفرقة مقطوعة "الدخول إلى الجنّة"، ما كان ليحدث كلّ هذا؛ لولا ظروفا مهّدت له.
- دائما تفسيراتكَ متطرّفة، ولا أجد لها واقعيّة، لا غرابة أنها تصدر من رسّام مثلكَ!، ردّت متبرّمة.
- يا صفيّة، لا يحدث شيء صدفة، ومن دون هدف، الفرق بيننا أنتِ تدقّقين بالأثمان الباهظة، وأنا اتطلّع
إلى النتائج!
حاصرها جوابي، ولمست في صمتها وتعابير وجهها الإذعان، فتفارقنا على أن نلتقي أمام صالون
السيّدات الذي ترتاده، قبل موعد العرض بنصف ساعة، فقصدتُ محل البدلات؛ لأبتاع بدلة (سموكن)
تليق بالسهرة...
انتظرتُ قبالة صالون السيّدات قليلا، حتى انزاحت ضلفة باب الصالون، وأقبلت وهي تغطّي وجهها
بحقيبة يد دائريّة صغيرة، على جلدها طبعات أزهاير زنبق بِيض، وفي المنتصف مزلاج صغير على
شكل قلب ذهبيّ. اقتربت وأنزلت الحقيبة، فاتّضحت معالم وجهها، لم أعلم أين كانت تخبّأ عنّي كلّ هذه
الفتنة؛ شَعرها سرّحته بقَصّة (الويفي) العريض مع غرّة جانبيّة، وعليها ثوب منفوش طويل بلون

(الليلكي الناعم) مطوّق بحزام من الستان، بدت فيه كأنها ساعة رمليّة، وتركت قدميها لصندل كعب عالٍ
بشرائط على الكاحلين.
بلعتُ ريقي بعسر وقلتُ بصوت مرتبك:
ياصفيّة، هذا التناغم في الألوان والأشكال يخطف الأنفاس، واستحضرت عبارة الكاتب اليونانيّ
(ديمتري أڤييرينوس):
" ثمة حرارة واحدة، نَفَس واحد، الأشياء كلّها يعطف بعضها على بعض".
استقلينا سيّارة تكسيّ، وبلغنا بوّابة دار الأوبرا، فألفينا أمامها حشد من الناس... فهمنا من أحدهم، أن
القائمين على الحفل منعوهم من الدخول؛ لامتلاء القاعة.
أمسكتُ يد صفيّة، وهمستُ بأذنها:
لا تهتّمي، سأتّصل بمحسّد منشد الكورال، وهو سيسهّل علينا مسألة الدخول... اتّصلت به، وأدخلنا من
الباب الخلفيّ.
قال لى فتى الكورال:
خذْ هذا الممرّ، وسيلاقيكَ عازفو الفرقة.
دخلنا، فوجدنا في رواق عريض عازف الصنج، وزامن دخولنا مع ارتفاع قرع الصنج.
سدّتْ صفيّة أذنيها ولم تحتمل، وقالت متأففة:
- أصوات مزعجة بشعة!

أومأ أحد العازفين لعازف الصنج بيديه؛ فتوقّف، وأومأ لنا برأسه معتذرا.
تضجّرت صفيّة من الموقف، ولامتني على مكان السهرة، بعد أن كانت سعيدة بادئ الأمر، فحاولت
استرضاءها، وتخفيف الموقف؛ فرويت لها حكاية سمعتها عن لسان أحد الدراويش، كان يتردّد عليّ في
المرسم، أرعاه مقابل حكايات ومواقف يرويها لي، وفي بعض الجلسات أرسمه، فقلت لها، أن هناك
غرابا مسكينا، طرده الناس من البستان؛ بسبب نعيقه البشع، وفي ذاك اليوم غضب الخالق واستدعى
كبير معاونيه من الملائكة، وسأله:
"لِمَ نقص عازف من عازفي فرقتي!"
فهمت صفيّة مقصدي من الحكاية؛ فانفرجت أساريرها، ولانت ملامح وجهها.
وصلنا مدخل القاعة، فأشار لنا أحد المسؤولين إلى الصعود إلى الطابق الثاني؛ كونها ممتلئة، ارتقينا
السلّم، وجلسنا في آخر مقصورة، انتظرنا قليلا حتي بدأت الفرقة بالعزف والكورال شرع بالغناء،
فتسرّب دفء إلى أرواحنا، وحتى صوت ضربات الصنج، لمسنا فيها لذّة كانت خافية عنّا، لم نتصوّر
أنها مع ائتلافها مع باقي الآلات ستكون بهذا الجمال!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى