بهجت العبيدي - الحضارة بدأت من هنا ... لنا سهم في الحداثة

كان مما ذكره أديبنا العربي الفذ نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل أمام الأكاديمية السويدية في ستوكهولم:
أخبرنى مندوب جريدة أجنبية فى القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونا بالجائزة سادها الصمت، وتساءل كثيرون عمن أكون، فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية.. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقًا، أولهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهى الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهى الحضارة الإسلامية، ولعلى لست فى حاجة إلى التعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف.
ولعلنا نأخذ من هذه الفقرة من كلمة أديبنا العربي "النوبلي"، والذي مازال وحيدا في هذا النسب، طرف خيط لربط الحضارات المتعاقبة التي تسلم بعضها بعضا ما تنتجه القريحة الإنسانية وما يبتكره الفكر الإنساني وما تبدعه تلك الآلة التي أودعها الله في الإنسان وكان مناط تكليفه، ألا وهي العقل
فليس هناك حضارة نشأت هكذا دون الاعتماد على ما قبلها من حضارات، وما نحن فيه الآن من علم وحضارة حديثة، رغم القطيعة المعرفية التي تمت مع بعض المعارف السابقة، لم تكن لتتحقق ما لم تعتمد على معارف سابقة، أثبت العلم التجريبي، الذي هو أساس هذه الحضارة صحتها.
لا يعتريني الشك في أن الحداثة ستصبح هي ديدن كل شعوب العالم، إن عاجلا أو آجلا، فهذا أمر مسلم به، ولا يحتاج عندي نوعا من النقاش أو السجال، فالذي يمكن أن يأخذ وقتا في السجال أو المناقشة أو الأخذ والرد هو استجابة الشعوب والأمم لهذه الحضارة الحديثة، وكم من الوقت يحتاج هذا الشعب أو هذه الأمة لتنتظم في عقد هذه الحضارة التي هي الوحيدة القائمة في هذا العصر، والتي مازالت في بدايتها، فلم يمض على إنشائها سوى عدة قرون وهي آخذة في النمو، وتعالج يوما بعد يوم القصور الذي يظهر لديها في جانب من الجوانب أو ناحية من النواحي، وهنا يمكننا أن نرد على هؤلاء الذين يتعجلون في محاكمتها، بالقول بأن الحضارة الحديثة لم تبلغ كمالها بعد، ولن تبلغه في منظور قريب، بل هي ستظل متشابكة مع ما يواجهها من أزمات وما يمر عليها من معضلات تسعى للتخلص منها بحلها حلا علميا يتناسب مع أهم صفاتها وهي الأخذ بالعلم.
إن فجر العلم وبداياته الأولى البسيطة قد بدأ في منطقتي الهلال الخصيب ومصر اللتين شهدتا أقدم الحضارات الإنسانية ففي منطقة الهلال الخصيب ظهرت الحضارة السومرية ومن بعدها البابلية والفينيقية وفي مصر ظهرت أعظم الحضارات وهي الحضارة المصرية القديمة، هذه الحضارات التي كانت النواة الحقيقية والصلبة للعلم وهي حضارات كما نرى تنتمي لمنطقة الشرق الأوسط.
هذه الحضارات وعلومها كانت المدارس التي تتلمذ عليها اليونانيون فأرسطو الذي يظل حتى اليوم النموذج في العقل الفكري والعلمي قد كتب كتابه "السماء والعالم"، والذي فيه نظرة إلى الكون بعدما أرسل له الإسكندر الأكبر كل العلوم الفلكية التي توصل إليها البابليون، فتعرف على هذا العلم الذي كان نتاج ملاحظة دقيقة للفلكيين البابليين لما يقارب الثلاثة قرون، أما أفلاطون فلقد أشار غير مرة، كما يقول الدكتور حمادي بن جاء بالله التونسي، في كتابه "طيماوس" على لسان جده الرابع الذي هو مؤسس اليونان وباعث الأمة اليونانية، ومنشئها حيث وضع دساتيرها وقوانينها وجمع اليونانيين على كلمة واحدة ومن هنا بدأت اليونان في التواجد، يقول هذا الجد، الذي كان قد تعلم في مصر وتتلمذ على علمائها، مخاطبا أبناء أثينا: أيها اليونانيون ما أنتم إلا أقزام تحملكم أكتاف جبابرة هم المصريون. ولذا عليكم أن تنظروا وتحققوا أبعد ما نظر وحقق هؤلاء لأنهم حملوكم ومن ثم ترون أبعد مما رأوا هم.
ويرجع أفلاطون جميع المعارف في هذا الكتاب إلى الإله "توت". فهو الذي أبدع الكتابة والصناعة والرياضيات والعلوم على اختلافها، وأعطاها هدية للبشرية، وهنا يتضح بجلاء ماذا يعني التعبير الدارج "مصر أم الدنيا"؟. والذي لا يأتي على سبيل المجاز بل باعتباره حقيقة قاطعة، ويعني أن الحضارة في العالم هي ابنة شرعية للحضارة والعلم المصري القديم.
وكما أن اليونانيين القدماء قد حملوا راية الثقافة والفلسفة والعلوم ممن سبقهم وكانوا لها خير حافظا، وأبدعوا إبداعا ظل حتى اليوم نموذج ومثلا يضرب، وأصبحوا بذلك أمة عظيمة، ولا يمكن لأمة أن تصبح عظيمة ما لم تتلمذ على يد أبناء وعلماء أمة عظيمة، وهذا ما حدث في كافة الإنجازات البشرية، فلا يمكننا أن ننكر ما قدمته الحضارة الهندية وخاصة في الحساب في مسيرة تلك الرحلة العلمية للعقل البشري الذي ما يلبس أن يكمل بعضه بعضا، فهؤلاء العظماء من علماء وفلاسفة اليونان لم يكن ليعرفهم أحد لو لم يتتلمذ عليهم بكل تواضع وفخر العلماء العرب، الذين حملوا الأمانة من أسلافهم اليونانيين فكانوا أهلا لها، هؤلاء العلماء العرب الذين لم يجدوا أي بأس من الأخذ ممن سبقهم، بل تواضعوا كثيرا أمام هؤلاء العمالقة السابقين، فلم يستنكف الفارابي أن يصبح المعلم الثاني، ولم يخجل الكندي من الأخذ عن الآخر الذي هو "يوناني غربي"، ولم يتعال الرازي على التعلم مما سبقوه، وكلهم في المجالات العلمية والفلسفية والفكرية لم يكونوا عربا، والتأكيد لم يكونوا مسلمين.
لقد كان الغرب تلاميذ نجباء لليونانيين، هذا الذي لا يعني بكل تأكيد أنهم لم يضعوا هذا الإرث العلمي والثقافي والفلسفي تحت مبضع النقد ليرتقوا به درجات أخرى ويضيفوا إليه إضافات بالغة الأهمية كانت مرجعا، بل فلنقل كانت هي الملهمة للعقل الأوروبي حينما قرر أن يخرج من ظلام الدوغمائية إلى نور العقل.
لقد كان الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وغيرهم هم المراجع التي ينهل منها العقل الغربي الذي قاده فلاسفة ومفكرون عظام، رفضهم جميعا مجتمعهم، ليس هذا فحسب، بل سقوهم ألوان العذاب؛ فمنهم من تم إحراقه كبرونو " جوردانو برونو المعروف أيضاً بـ نولانو أو برونو دي نولا (1548 في نولا ـ 17 فبراير 1600 في روما) كـان دارس ديني وفيلسوف إيطالي حكم علية بالهرطقة من الكنيسة الكاثوليكية" وذلك لاعتناقه نظرية كوبرنيكس، ومنهم من تم سجنه حتى مماته مثل جاليليو جاليلي (15 فبراير 1564 - 8 يناير 1642)، عالِم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، لنفس السبب، ومنهم من عاش شريدا مثل الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت الذي لم تعترف به فرنسا إلا بعد قرن من وفاته بسبب نزلة برد شديدة أثناء إقامته بالسويد. بدعوة من ملكتها لتعليمها الفلسفة والتي كانت لا تجد وقتا إلا في ساعات الصباح الباكرة ذلك الذي كان يمثل عبئا ومعاناة شديدة للفيلسوف الذي كان يتعبه البرد كثيرا، فما بالنا ببرد البلاد الإسكندنافية؟.
لعله من المناسب هنا أن نذكر أن منظومة القيم والفكر الأوروبي كانت معادية كل العداء، كما هو الحال لكل منظومات القيم والفكر، لما يأتي به هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم إيقاظ العقل الأوروبي من سباته العميق، وإزاحة أطنان التراب التي تدفن هذا العقل تحتها، ومن ثم كان حراس تلك المنظومة القِيَمِيّة يناصبون العداء هؤلاء المفكرين والفلاسفة وحتى العلماء، بل والأحرى وقبلهم العلماء، حيث كانت الثورة في حقيقتها فلكية ثم فيزيائية ثم رياضية فعلمية ثم تكنولوجية وأخيرا معلوماتية، فهؤلاء حراس المنظومات القديمة في أوروبا قد حرّموا النظر في إنتاج العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين، الذين لم ينج منهم سوى الإمام الغزالي حيث كان مسموحا بدراسته وتدريسه، لا لشيء سوى لأنه ناصب الفلاسفة العداء، وهنا اتفق مع رجال الكهنوت، الذين كانوا يرون في التتلمذ على ما أنتجته القريحة العربية المتتلمذة على العقل اليوناني المستفيد من المصريين القدماء والبابليين والفينيقيين، كانوا يرون في التتلمذ على العلماء العرب نشرا لثقافة "المحمديين" نسبة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الذي يعتبر خيانة لمجتمعاتهم ولعل أبرز ما يوضح ذلك هو هذا التعنيف الذي قام به بابا روما لأسقف باريس في العام ١٢٧٧ حيث رآه متهاونا مع نشر الثقافة العربية في باريس.

يتبع ....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى