د. عبدالجبار العلمي - الاتِّجاهُ الرُّومانْسي في الشِّعْرُ المَغْرِبي الْحَديث وإرْهاصَاتُ الْقَصِيدة الْمُعاصِرَة

1 ـ المستوى الموضوعاتي
سنحاول في هذه الدراسة مقاربة الاتجاه الرومانسي في الشعر المغربي الحديث، وذلك من خلال نماذج شعرية لبعض الشعراء المغاربة الذين اتجهوا هذا الاتجاه الشعري في مرحلة من مراحل تجاربهم الشعرية.
1 ـ الظروف والملابسات التي أفرزتْ هذا الاتجاه قبل الاستقلال وبعده.
كانت الثورات التي قامت تناهض الاستعمار الغاشم الفرنسي والإسباني (1)، وتنافحُ عن البلادِ ، قد باءت ـ للأسف ـ بالفشل، وذلك لعدم تكافؤ قوتها مع قوة الاستعمار المدجج بالأسلحة الحديثة، بل والأسلحة المحرمة دولياً ، كما رأينا ذلك في حرب الريف، حيث استخدمت القوات الإسبانية الأسلحة الكيماوية التي مازالتْ آثارُها الخطيرة تتوارثها الأجيال إلى يوم الناس هذا في منطقة الريف ومدنها وقراها ، بل وحتى البعيدة عنها نسبياً مثل مدينة شفشاون. وإذا كان المجاهد عبدالكريم الخطابي ، قد صمد أمام قوى الاستعمار الإسباني خمسَ سنواتٍ بحكم ما كان يمتاز به من ثقافةِ عصرية، وقدرة نادرة على التخطيط الحربي ألذي أفاد منها أكبر المقاومين في العالم ، فإنه مع كل ذلك لم يتمكن من استمراره في الصمود، لاسيما حين تكاتفت قوى الاستعمارين الإسباني والفرنسي ضده. وهكذا غمر نفوسَ الشعراء المغاربة إحساسٌ بالخيبة المريرة، وانهارت الآمال التي كان يعلقها الشعب بأسره على الثورات التي كانت قد أعادت له بالفعل ثقته بشخصيته وقدراته وجذوره الحضارية العميقة. كان لكل هذا أثره السيئ، إذ خلقَ في نفوس الشعراء المغاربة إحساساً سلبياً زادت في تعميقه الحرب العالمية الثانية بأهوالها وفواجعها ومآسيها. والواقع أن مثل هذا الجو لا يمكن أن يُفرز إلا مثلَ هذا الشعر الرافض المتمرد على مواضعات المجتمع وقيوده ، الهارب منه بحثاً عن (يوتوبيا) في الطبيعة أو الحب أو التصوف , يقول الدكتور إبراهيم السُّولامي: " إن أبرز جو ظهر فيه هذا اللون الشعري كان بعد الحرب العالمية الثانية. " (2) وعندما زاد الضغط الاستعماري على الشعب، وزاد اليأسُ والقنوطُ في ظله الكئيب، ازداد ميلُ الشعراء الشباب إلى هذا المذهب الرومانسي كرد فعل لتجرعهم مرارة الخيبات المتكررة.
أما في عهد الاستقلال ، فقد كانت خيبة المثقفين أقسى وأمر ـ فقد تلاشى ذلك الحلم الذي حلمت بتحقيقه الجماهير التي ناضلت من أجله: الديموقرطية والحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم .. وكانَ لكل هذا بطبيعة الحال أثره البالغ في نفوس الشعراء المغاربة الذين كانوا في طليعة المثقفين، فانطووا على أنفسهم يجترون أحزانهم وآلامهم وإحباطهم. لاذ بعضهم إلى الطبيعة كزملائهم من الشعراء في المهجر الشمالي وفي جماعة أبولو ، يبثونها مكنونات نفوسهم، أو بالحب يركنون إلى حضنه الحنون أو بالتصوف يذوبون في أجوائه المغمورة بالسكينة والطمأنينة.

2 ـ نماذج شعرية لبعض شعراء الاتجاه الرومانسي:
كان الشعراء الرومانسيون لا ينشدون الحب بغية ملذات الحس، فما أكثر ما كانوا يكتفون من الحبيبة بالحديث أو بالرؤية أو بزيارة طيفها، فالحبيبة الملاذ الروحي الذي يجدون فيه سكينة أرواحهم وراحة أنفسهم. يقول الشاعر عبد الكريم بن ثابت معبراً عن ملاذه الروحي في الحب في قصيدة "طيف"، "ديوان الحرية" (3) :
طَوقتْني بِذِراعَيْهــــا فأنْسَتْني نـفْسِـــي
وَزَمَاني وَمَكَاني وخَيالاتي وحِسِّـــــي
كُلُّ ما أَذْكُرُ أَنِّي كانَ فَوْقَ الصَّدْرِ رَأْسِي
وأنــا أسْألُ خوْفاً
أتُرَى أَنْتِ ..أأَنْتِ ؟

ونجد أن الشاعر إبراهيم السُّولامي كذلك، يجد ملاذاً في الحب، وبلسماً لعذاب روحه وشقائه، وترياقاً لغربته ووحدته. يقول في قصيدة " حب " ، ص: 74 وما بعدها ) :
...وكما الوردة تلهث في رمل جديبْ
كنتُ في الأرض غريبْ
يا يداً تحملُ عن قلبي ضياعَهْ
ودموعَهْ
نجمة حطَّتْ على عينيَّ بسمَه
يا يداً تمسَحُ عن روحي العَياءْ
لك حبي .. لك حبي

كما يرى أن حبه حبيبتَه حب طاهر عفيف فريد، لم يسبق لأحد من البشر أن أحب حباً مثلهما، وأن الدنيا كلها تأتيهما إن أحبا، وتكون طوع بنانهما. يقول في هذه المقطوعة الجميلة العذبة الإيقاع (4) :
تُسائِلُني وَالْهوى بَيْنَنـــا = وَشَلالُ عِطْرٍ عَلَيَّ انْحَنَى
أَحَقَّاً هوى قَبْلَنَـــا أَحــــدٌ = أحَقَّاً حبيبي هَوَوا مِثْلَنــــا
أكانَ لَهمْ مثلُ هذا الجَمالِ = أَكانَ لَهُمْ مِثْلُ هَذا الْغِنَــى
.....................................................................
أَحَقّــاً حَبيبي هَوَوْا قبْلَنـا = أحَقّاً حَبيبي هَوَوْا مثلَنــا..
وَتَدْفِـنُ رَأْسَهـا في كَتِفــي = فَأصْمُتُ كَيْفَ أجيـبـُـ أَنَا؟ ( 5)

وإذا انتقلنا إلى الشاعر عبدالكريم الطبال الذي بدأ نشر قصائده سنة 1948 ، حيث كانتْ أول قصيدة نشرت له ، وهو ما زال تلميذاً بمدرسة الصفارين بفاس تحت عنوان " كيفَ أبتسم؟ "، وذلك في مجلة " الثريا"، وإذا تصفحنا ديوانه الثاني " الأشياء المنكسرة "( 1974 ) بحثاً عن تجربة الحب ، سنجد أنَّ حبه حب رومانسي حالم رقيق، لكنه يرتبط في مرحلة من مراحلها بما يسميه بـ"ـالرومانسية الاجتماعية" أو المتصلة بحب الوطن . والقصيدة التي نثبتُ بعض أبياتِها هنا بعنوان " أغنية حب " (الديوان ، ص:139 ) يتغنى فيها الشاعر بحب وطنه، وضمنه بلدته شفشاون، فهو يحبه حب العاشق المدنف الذي لا يستطيع فراقه والبعد عنه، نختار منها الأبيات التالية:
وَطني .. يَغْلبني الدَّمعُ إذا فَكَّرَ قَلْبي في الْبَيْن
ياعُمْري لا أَذْكُرُ يَوْماً في عُمْري مَرَّ بلا حُبّ
لمْ أعْشَقْ فيه الوَجْهَ الْمُتَجَدِّدَ في الْحُسْن
لَمْ أقْرأْ فيهِ الشِّعْرَ الَّذي في دِيوانِ قَلْبِـك
..............................................
وَطَني .. مَوِّجْني أَشعَاراً في قَلْبِــك
عَانِقْنِي أَحْلاماً في عَيْنَيْك
اغْزِلْنِي نَبْضَةَ شوْقٍ في رُحِكَ يا وَطَنِي
يا عُمْري : أَسْأَلُكَ الْوَحْدَةَ في الْحاضِرِ والْغَيْبِ

إذا كانَ الرومانسيون "ينظرون إلى الحب على أنه ليس مجرد فضيلةً فقط، بلْ هو على رأس الفضائل، وهو وسيلة تطهير النفوس وصفائها" (6) ، فإننا نجد الشاعر محمداً بن دفعة يراه سبب البلوى والشقاء ، والعذاب والألم ، يقول في قصيدة " اعْتَرفْ يا قَلْبِي "(7) :
كُنْتُ في دُنْيايَ كالْبُلبُلِ لا = أَعْرِفُ الدَّمْعَ وشَكْوَى الألمِ
كُنْتُ عِطراً كُنْـتُ في الْفَجْــرِ = نَسِيمــاً كنْــتُ روحَ النَّــغَمِ
صِرْتُ في حُبِّكَ لا أَمْلِكُ لا = قُدْرَةَ الْعَــافِي ولا الْمُنْتَقِــمِ

لذلك نجد الشاعر ناقماً عليهِ أشد النقمة، فنارُ الحب الذي غمر أيامه بالأحزان والآلام، خمدتْ وهمد أوارها، فلم يعد عبداً للحبيبة بعد أن بات الحب رماداً. راجعْ قصيدة " أنا منْسي " ( الديوان ، ص: 32 وما بعدها ). ويرى مصطفى القرقوري في دراسته المنشورة في مجلة " أقلام " بعنوان (الشعر المغربي الحديث إمكانياته وآفاقه ) ،" أن الطابع البارز الغالب على كل الأعمال الأصيلة التي أبدعها شعراؤنا الحديثون هو تلك النغمة الحزينة المفعمة بالأسى والأنين " (😎 . والحقيقة أن من يطلع على قصائد شعرائنا المعاصرين، سيجدها تطفح بالحزن والألم والشعور بالخيبة. ومن أهم ملامح الاتجاه الرومانسي في شعرنا المغربي الحديث، الثورة على قيود وتقاليد المجتمع ، و"محاربة السلطات الظالمة السالبة حريةَ الفرد " ( الرومانتيكية ، ص : 143 ) . ونلاحظ هذه الظاهرة في العديد من القصائد الرومانسية، وقد كان بروزها نتيجة ظروف الواقع السياسي والاجتماعي السائدة في تلك المرحلة. يقول الشاعر إبراهيم السُّولامي في قصيدة " الصِّراع "، يعبر عن ضيقه بقيود الحياة المتنوعة ( ديوان "حب" ، ص: 8):
حَنانَكَ يارَبِّ هَذا الْوُجودْ = أَنَاخَ عَلَيَّ بِشَتَّى الْقيُودْ
وَحَطَّمَ مِنِّي سِرَاجاً أضاءْ = وَأبْعَـدَ عَنِّيَ كُلَّ هَنــــاءْ

وهذا الشاعر محمد بن دفعة غير راضٍ عن وجوده وقدره وظروفه الحياتية، لأنه لم يذق من هذا الزمان ومن الناس، إلا كلَّ حَيفٍ وظلمٍ ورزايا, يقول في قصيدته "قصيدي ( الديوان ، ص: 8 و9 )
قَصيدي قِصَّةٌ عَنْ كُلِّ حُرٍّ = يُسامُ الذُّلَ مِنْ عَبْدٍ وَضيـــــعِ
قَصيدي أَنَّةُ الصدرِ الْمُعَنَّى = قَصِدي خَفْقَةُ الْقَلْبِ الصَّديـــعِ
قَصِيدي دَمْعُ مَحْرُومٍ وَحيدٍ = تَرَى عَيْناهُ أَفْرَاحَ الْجُمُـــــوعِ
يَضيعُ شَبَابُهُ في حِفْظِ عَهْدٍ = ويُخْلِصُ في هَوَى إِلْفٍ مُضيعِ

أما عبدالكريم بن ثابت ، فنجده يرفُض عالمَ الناس، لأنه مليء بالشرور والآلام والأتراح، في حين يَنشدُ الفنَّ الذي يراه ينطوي على قيم الخير الأصيلة الخالدة:
قَد مَلَلْنا الأرض والنَّاسَ ومـا = ثَمَّ فوقَ الأَرْضِ ما يُفْرِحُنَا
سِرْ إلى النُّورِ السماويِّ وَسِرْ = عَلَّ خُلـداً دائمــاً يَشْمَلُنَــا
فالْهَوى والنُّورُ والسِّحْرُ وَمـا = يَنْطَوِي الْفَنُّ عَلَيْهِ قَصْدُنـا (9)

وإذا كان الشاعر إبراهيم السُّولامي يضيقُ يقيودِ الحياة الخانقة باعتباره شاباً يتوق إلى الحرية الشخصية والقومية، وعبد الكريم بن ثابت يثورُ على عالم الأرض والناس لما فيه من سيادة الشقاء والشر وغياب السعادة وقيم الخير ، ومحمد بن دفعة يثور على قدره وواقعه لما قاسى من مصائب وأهوال لا قبل له بها ، وهو الشاعر الرقيق، البستاني المعطاء، فإننا نجد الشاعر عبد الكريم الطبال ، يرفض الواقع القاتم الذي تعاني منه بلاده وأمته برمتها ، ويتمرد على الحواجز التي توضعُ في طريقها لعرقلة مسيرتها نحو الانعتاق والتحرر. وبعد أن تنهكَه الأسئلة الملحة بحثاً عن طريق الخلاص، يتسلقُ أهدابَ الحلم ليستشرف آفاق المستقبل الذي سينتفي فيه الظلمُ والقهر والاستعمار والاستبداد. يقول في قصيدة " وَأَحْلُمُ "( ديوان "الأشياء المنكسرة"، ص: 90. ) :
وَأَحْلـمُ أنَّ الطَّريــقَ انْتَهَـــى = إلى قَلْعَةٍ في عُلُوِّ السَّحـــــــابْ
يُسَيِّجُها الحِصْنُ في مَنْعَـــةٍ = مِنَ الْعَصْفِ مِنْ غارةٍ للشَّبَــابْ
تَموجُ الحَمَائِمُ في أُفْقِهــــــا = وَقَدْ لَوّنَ الصُّبحُ مِنْهَا الإهــــابْ
وَفي السَّاحِ مِقْصَلَةٌ للظــلامِ = تكشرُ كَالْبُــومِ بَيْنَ الْخـَــــــرَابْ
ومن حولها الجيلُ في قدسهِ = يُزَغْرِدُ لِلدَّم يَكْســـــو التُّـــــرابْ
وَإِنِّي هُنَالِكَ بَيْنَ الرِّفَــــــاقِ = أَمُوجُ كَمَا الْقَلْبُ بيْنَ الرِّغَــــابْ
أَراهُ عَلَى الأرْضِ في دَمِــــهِ = يُحَمْلِقُ في الشَّمْسِ فَوْقَ الْهِضابْ
أَرَى اللَّيْلَ يَطْوي الْجَنَــــــاحَ = كَمَا تَنْطَوي صَفَحَــــاتُ الْكِتــابْ
***
وَفي يَقظَةِ العَقْلِ سَـــــاءَلتُهُ = عَنِ الْحُلْمِ ما سِرُّهُ ما المـــــرامْ
فَأَوْجَزَ ما الْحُلْمُ إلاَّ الْحَيَـــاةُ = وَمَا الصَّحْوُ إِلاَّ رُؤَى فِي الْمَنـامْ


3 ـ على سبيل الختام
ومن الجدير بالذكر في الختام، أن التجربة الرومانسية في شعرنا المغربي الحديث في آخر سنوات الأربعين وسنوات الخمسين، تمثل الإرهاصات الأولى لظهور القصيدة المعاصرة في أدبنا المغربي في سنوات الستين. ويمثل القصيدة المغربية المعاصرة الشعراء : أحمد المجاطي وأحمد الجوماري ومحمد الخمار الكَنوني ومحمد السرغيني وعبدالكريم الطبال ومحمد الميموني. وغني عن البيان أن هؤلاء الشعراء ، تأثروا بإنتاج حركة الشعر العربي المعاصر التي انطلقتْ سنة 1947 بالعراق ومصر والشام ، كما تأثروا بمدارس الشعر الغربي في فرنسا وإسبانيا وأمريكا اللاتينية عن طريق القراءة في نصوص أصيلة أو مترجمة.


الهوامش :
1 ـ انظر للتوسع في معرفة الثورات والحركات التي ناهضت الاستعمارين والظروف التي مهدت لظهور الشعر الرومانسي في المغرب ، في كتاب الشعر الوطني في عهد الحماية ( 1912 ـ 1956 ) للدكتور إبراهيم السولامي ، الفصول الثلاثة ( من ص: 27 ـ ص: 62 )، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1974.
2 ـ نفسه، ص: 133 .
3 ـ ديوان الحرية، كتاب العَلم، رقم 5 ، الرباط ، 1968، ص : 50 .
4 ـ أحمد المجاطي، مشكلة الحرية في ديوان حب " ، ديوان حب ، ص : 92 )
5 ـ قصيدة " تسائلني "، ديوان "حب " ، المطبعة المهدية ، تطوان ، 1967 ، ص : 80 .
6 ـ محمد غنيمي هلال ، الرومانتيكية ، دار الثقافة ودار العودة ، بيروت ، 1974، ص : 188.
7 ـ ديوان " أشواك بلا ورد " ، ط. 1 ، المطبعة الوطنية ، فاس ، 1967 ، ص: 51 .
8 ـ مجلة أقلام، السلسلة الجديدة ـ العدد السادس، سنة 1973 م. ، ص : 109 .
9 ـ ديوان الحرية، مصدر سابق الذكر، ص : 29 .




* عدد يوم السبت 17 فبراير 2024 من جريدة " الشمال 2000 ”


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى